أن نُراقِب أفكارنا
لقد توقَّف هذا الرجل الذي كان يتنزَّه، وتوقَّف حينها صوت الأوراق اليابسة التي كان يطؤها، الصوت الذي كان يُهدهِد سَيره. أخذ يُراقِب بركة الماء أمامه وهو يقول لنفسه: يبدو أنها أمطرَت كثيرًا في الآونة الأخيرة، فالأرض لم تعُد تستطيع استيعاب المزيد من الماء؛ لهذا تركَت ما تبقَّى منه ينتظر بعض الوقت على السطح. إنها كصاحب فندق مُزدحِم يطلُب من زبائنه الانتظار.
لقد توقَّف وأخذ يقول لنفسه … أو بالأحرى هو لا يقول شيئًا؛ إن ذهنه هو الذي يُثرثِر: «جميلةٌ هي كل هذه الألوان.» «يبدو أن بعضها بدأ يتعفن.» «هل سيتلَفُ حذائي إذا مشيتُ في بركة الماء؟» «كنت أفعل ذلك عندما كنتُ صغيرًا، لكنني كنت أنتعِل أحذية من المطاط.» «كم الساعة الآن يا تُرى؟» «في يوم من الأيام سأموت مثل هذه الأوراق.» «لقد أحسنتُ صنعًا أنني لبست المعطف الطويل؛ فالطقس بارد، ولقد جاء الشتاء مُبكِّرًا هذه السنة …» ثم بالتدرج سيهدأ داخله، وتهدأ هذه الأفكار المُتدافِعة، وينتبه إلى تنفُّسه ثم إلى جسده، ثم تَلفِتُ انتباهَه، من جديد، ورقةٌ آخذة بالتعفُّن. ينظر إليها، ثم إلى كل الأوراق اليابسة أمامه. ليس لدَيه أية رغبة في المُغادَرة. إنه يبقى ساكنًا كما هو. ومن وقتٍ لآخر تعبُر أفكارٌ ذهنه؛ إنه يسمعها في نفس الوقت الذي يُراقِب فيه الأوراق العديدة. إنه حاضر لكنه ينفصل بمسافة عن كل هذا. فِكرةٌ تهمس له: «أفكارك مثل هذه الأوراق، يوجد كثير منها، من كل الأنواع، دَعها تأتي وتذهب بسلاسة، هذا جيِّد. إن هذه اللحظة لَرائعة!»
ثم، يأتي صمت الأفكار، ونفَس اللحظة الأبدية.
هناك عمليتان لا يُمكِن للإنسان إيقافهما ما دام هو حيًّا؛ تنفُّسه، وتفكيره. في الحقيقة، إننا نستطيع إيقاف تنفُّسنا فترة زمنية أطول من قُدرتنا على إيقاف أفكارنا. ومن ثَم، فإن هذا العجز عن إيقاف أفكارنا هو قيدٌ مُخِيف.
ثرثرة روحنا
عقلنا أداةٌ مُذهِلة لإنتاج الأفكار؛ مُذهِلة لكن من الصعب إيقافها. حالما نستيقظ تبدأ أفكارنا بالظهور. يتكلم سينيك في عمله «راحة الروح» عن «عواصف الذهن التي لا تستطيع السكون على أيِّ شيء مُحدَّد …» منذ الصباح، أن نستيقظ يعني أن نبدأ بالتفكير، أو بالأحرى أن نتعرَّض لدفْقٍ من الأفكار التي تُحدِّثنا عن كل شيء؛ الماضي، والمستقبل، وبشكلٍ أقلَّ الحاضر.
وفي الحقيقة إن ما نُسمِّيه تفكيرًا ليس عملية «إنتاج» الأفكار (فهذه العملية موجودة أصلًا خارج إرادتِنا أو تدخُّلنا)، وإنما هو أن نقوم بتنظيم هذه الأفكار، وترتيبها حسب أهميَّتِها، ومحاولة التركيز على بعضها، والعمل على تطويرها، وفي نفس الوقت إبعاد بعضها. لهذا السبب فإنه من العبَث الاعتقادُ أن ممارسة التأمُّل ستقودنا سريعًا وبإرادتنا إلى حالة من صمتِ ثرثرة ذهننا، أو غياب الأفكار. قد يحدُث ذلك في بعض الأحيان، لكن للحظات، ثم تعود ثرثرة الروح.
يقول بول فاليري: «يُصبِح الوعي المَلِك، لكنه لا يحكم.» أُحِب هذه المقولة؛ لأنها تقول ما هو أساسي على ما أعتقد؛ إنه الفرق بين المَقدرة والمَقدرة المُطلَقة. يُقارِن ماتيو ريكار في التقاليد البوذية بين تدفُّق الأفكار وقطيع من القِرَدة في حالة اضطراب. إنها تصيح دون توقُّف. وتقفز من غصنٍ لآخر في حركةٍ دائمة. أيُّ شغبٍ هذا الذي يقود المرء إلى الخلط والارتباك! فما العمل؟! إذ لا يُمكِن إيقاف هذه الحركية أو التحكُّم بها. قد يقودنا كلُّ ذلك إلى السعي إلى التركيز على فكرة واحدة طوال الوقت، هذا ما نُسمِّيه بالوسواس. طبعًا لن تكون الحال أفضل. وهناك خطر آخر وهو محاولة إلهاء أنفسنا؛ لأنَّنا سنُحاوِل ملء ذهنِنا بأشياء أخرى خارجية، سهلة، ومُحدَّدة، وفعَّالة بما فيه الكفاية لتلفتَ انتباهنا؛ فنُوقِف هذه الثرثرة بثرثرةٍ أخرى. هذا مُمكِن، لكنَّنا نستطيع أن نُطوِّر سُبلًا أخرى.
سنُحاوِل في حالة الوعي الكامل أن نمتنع عن محاولة الهرَب من أفكارنا أو السعي لإيقافها. وسنختار مُراقبتها، وكأنَّنا نقوم بخطوة جانبًا؛ أن نُفكِّر ونُراقِب أنفسنا ونحن نُفكِّر. إن فلسفة الزن تقترح الصورة المجازية للشلال؛ إننا نقف بين الشلال (تدفُّق أفكارنا)، والحاجز الصخري للجرف. إننا نقف جانبًا، نُراقِب أنفسنا ونحن نُفكِّر. لسنا تحت تدفُّقها (انفصال)، لكننا لسنا بعيدين أيضًا (حضور). إننا نستطيع بهذه الطريقة أن نستخدم قدرة وعْيِنا المَرِن، الذي يستطيع أن يُراقِب ذاته. لكن هل من المُمكِن فعلًا أن نُراقِب أفكارنا؟ لفترة طويلة من الزمن قُلِّل من شأن علم النفس الذاتي أو الداخلي، أو ما يُمكِن أن نُسمِّيه علم نفس الظواهر. كانوا يقولون: «كيف يُمكِنك أن تعتبر نفسك طرفًا وحَكمًا في نفس الوقت؟» وكان يقول أوجست كونت: «لا نستطيع أن ننظُر من النافذة لنُشاهِد أنفسنا ونحن نعبُر الشارع.» عندما يتعلق الأمر بالوعي والإدراك، يكون هذا مُمكِنًا. لكن يتطلَّب ذلك كثيرًا من المِران.
مشاهدة أفكارنا وهي تعبُر
سنتخلى، كعادتنا في الوعي الكامل، عن كل فعلٍ صدامي أو عنيف. فمن غير المُجدي محاولة إلغاء أفكارنا؛ لأن ذلك سيُؤدِّي في معظم الوقت إلى رد فعلٍ عكسي. وفي نفس الوقت من الصعب القول: «إذن سأقوم بمراقبة أفكاري.» سيتملكنا حينها الانطباع بعدم وجود أفكار. ذلك لأننا صِرنا «داخلها»، في صميمها، لدرجة أنَّنا «تماهَينا» معها وبدت لنا وكأنها الواقع.
يقول لنا الوعي الكامل الحقيقةَ البسيطة الآتية: لا جدوى من محاولة إلغاء أفكارنا، ولا جدوى من المحاولة الحثيثة للحاق بها، بل الأفضل هو إعطاء مساحة أوسع لروحنا.
للقيام بذلك يجب أن نبدأ تمرين التأمل بشيءٍ آخر؛ أن نجلس بهدوء وراحة وأن نثبُت بهذه الوضعية ثم نقوم بالتركيز على اللحظة الحاضرة بمساعدة التنفُّس، والإنصات إلى الأصوات حولنا، وإدراك أحاسيسنا الجسدية. سنكون عندها في حالة تُتيح لنا مراقبةَ حركيةِ أفكارنا. وهكذا، في الوقت الذي يكون فيه موضوع اهتمامنا أمرًا آخر، كالتركيز على تنفُّسنا، سنُلاحِظ في لحظةٍ من اللحظات أننا ابتَعدْنا. كان التنفُّس موضوع تمريننا، وفجأةً بدأنا «نُفكِّر بشيءٍ آخر». لقد تتبَّعْنا، دون أن ننتبه، فكرةً عبَرَت ذهننا. ولم نُلاحِظ ذلك إلا بعد حدوثه.
مع الممارسة المُتواصِلة، سنستطيع تحديد الأفكار التي ستبدأ بإعطائنا أوامر حين نُحاوِل تجنُّبها. وهكذا بينما نقوم، أثناء تمرين الوعي الكامل، بالتركيز على حضورنا، على تنفُّسنا، أو على الأصوات حولنا، فجأةً تأتي فكرة مُلِحَّة: «توقَّف الآن، افتح عينَيك، قُم بهذا أو ذلك الأمر، إنه أكثر أهمية …» وإذا حاولنا المقاومة، ستُلِحُّ علينا أفكارنا: «قُم بذلك «الآن» وإلا ستنسى!» سنظنُّ أن ذلك هو ما نريده فعلًا وما نحتاجه فورًا في هذه اللحظة. لكنني لا أعتقد أن تكون تلك هي الحالة فعلًا. الدليل على ذلك هو أنَّنا حين نُقرِّر ألا نُطيع فورًا وبشكلٍ آلي هذه الأوامرَ المُتنكِّرة على شكل رغبات، أو تطفُّلات، أو ضرورات، سنُدرِك غالبًا أنها أمورٌ لا تمتلك هذه الأهمية فعلًا وأنَّنا نستطيع تجنُّبها.
في حالة الوعي الكامل، نستطيع أن نُقرِّر بأنفسنا إنْ كنَّا سنتَّبِع أفكارنا (إذا أردنا ذلك) أو سنختار أمرًا آخر.
من الأمثلة على هذه الأوامر: «قُم بحكِّ أنفك.» «افتح عينَيك لترى كم الساعة الآن.» «يجب أن تُسجِّل أن عليك مهاتفة أخيك.» إننا نستطيع عدم إطاعتها أو تأجيلها. لكن كي ننجح علينا أولًا أن نُدرِك أن هذه التطفُّلات ليست سوى أفكار.
في البداية سننتَبِه إلى هذه الأفكار في لحظة تدخُّلها واصطحابها ذهنَنا خارج موضوع التمرين. فلم نعُد في موضوع التنفُّس أو تركيزنا على جسدنا، ولكننا بصدد «التفكير بأمرٍ ما». هذا طبيعي، هذا ما يقوم به ذهننا طوال الوقت. عندها، ودون انزعاج سنعود إلى موضوع التمرين. لكن الأفكار ستأتينا من جديد، وسنُدرِك ذلك فنقوم بالعودة إلى التمرين، وهكذا. إن هذه الحركية هي القاعدة الأساسية في تمارين الوعي الكامل. أفكارنا ليست هي المشكلة، وإنما المشكلة هي ألا نكون مُدرِكين لبعثرة وهياج الذهن، وخاصةً هذا الخلط بين الأفكار والحقيقة، وهذا الاستعداد لاعتبار «كل» الأفكار مهمة. وليست المشكلة أيضًا في محتوى الأفكار، أو حركيِّتها بقدر ما هي علاقتنا بها. يجب عدم محاولة منعها أو طردها، ولكن أيضًا يجب عدم اتِّباعها، أو الخضوع لها أو إطاعتها. علينا أن نستقبلها ونُراقِبها في إطار إدراك أوسع (من هنا، أهمية الرسُو والثبات في اللحظة الحاضرة باستخدام النفَس، والجسد والأصوات). وبكل بساطة علينا التوقُّف عن تغذِيَتها.
وبالتدرُّج، مع المِران، سنرى بشكل أوضح أنها مجرد أفكار، وسنُحدِّد بشكل أفضل أنها ظواهر ذهنية عابرة، وليست ثوابت دائمة. سنراها وهي تظهر، وإذا لم نقُم باتباعها، سنراها وهي تختفي، ثم تظهر من جديد. إن «عيش هذه التجربة» هو أكثر أهمية من القراءة عنها والدراية بها؛ لأننا نعرف أن أفكارنا ليست سوى أفكار. لكنها حين تملأ ذهننا فإن هذه المعرفة لن تُساعِدنا بشيء. إن التمرين المُستمِرَّ والتجربة وحدهما يستطيعان أن يُساعِدانا على النأي عن التفكير والتعوُّد على ترك أفكارنا تختفي وحدها.
في حالة الوعي الكامل نستطيع أن نُقرِّر بأنفسنا إن كنا سنتبع أفكارنا (إذا أردنا ذلك) أو سنختار أمرًا آخر. يُمكِن أن نختار مثلًا البقاء جالسين، مُغمِضي العينَين، ونحن نتنفَّس هنا والآن في هذا الدفْق من الأفكار التي تقول لنا: «تحرَّك»، «افعَل»، «فكِّر»، «تعجَّل». والتي قد تنزعج وتصرخ قائلة: «ألا تظنُّ أن عليك أن تترك هذا التمرين لتقوم بجميع الأشياء المُهمة التي تنتظرك. إنك تستطيع العودة إلى التمرين لاحقًا …» ولكن لا، فقد قرَّرنا هذه المرة ألا نستجيب لأفكارنا. سننتظر قليلًا لنرى إن كان من الضروري المُضِي في هذه الاتجاهات. سنتنفَّس أيضًا بعض الوقت، وسنجد أنها ليست مهمة. كم هو حسنٌ ألا نكون عبيد أذهاننا؛ أن نحصل على القليل من الحرية.
أن نتحرَّر من أفكارنا
«أنا أُفكِّر، إذن أنا موجود.» هذا ما أعلنه ديكارت. لكن بول فاليري أضاف: «أنا أُفكِّر أحيانًا، وأحيانًا أنا موجود.» ويستنتج الوعي الكامل منهما ما يأتي: «لا يتعلق وجودي فقط بما أنا بصدَد التفكير فيه.» ولهذه الجملة مَعنيان؛ الأول أن وجودي ليس مرتبطًا بعملية التفكير، والثاني بمعنى التعلق واللحاق بالشيء؛ أي، أنني لا أتبع طوال الوقت ما أُفكِّر به. هذا ما نُسمِّيه «الفصل» في علم النفس المعرفي؛ إنه العمل على تخفيف هذا الخلط بين ما نُفكِّر به وبين إدراكنا. إنه يعني أن نفهم أنَّ أفكارنا ليست سوى أحد عناصر الإدراك وليس الإدراك كاملًا؛ وألا نعتمد كُليًّا على أفكارنا، دون أن نرفضها في نفس الوقت؛ ببساطةٍ علينا أن نُنشئ علاقة مختلفة معها.
وهكذا فإنَّ هناك فرقًا بين القول: «إنني أعيش حياة حزينة.» و«إنني بصدد التفكير أن حياتي حزينة.» حين نعتبر أفكارَنا ظواهرَ ذهنية، سنرى بشكلٍ أفضل أنه يسكنها كثيرٌ من الأحكام القِيَميَّة، والأفكار التلقائية، والانفعالات، التي لسْنا بالضرورة مُوافِقين عليها. إن هذه التجربة، الغريبة قليلًا، الخاصة بالافتراق عن حركية العملية الذهنية، وهذا الجهد للاستعانة بالعقل ذاته كي لا نقع في مصيدته، هي بالضبط ما يقترحه الوعي الكامل. إنه يُعلِّمنا كيف نُنشِئ مساحة تفكير خاصة بنا كي نصقل خبرتنا بوصفنا مُراقِبين خارجيِّين. إنه يُساعِد على الانتباه إلى الفرق بين الضجة المُحيطة بنا في سهرةٍ مسائية، وبين الحديث الذي نقوم به والذي يهمُّنا؛ أو اختيار الخروج وترك هذه الضجَّة والاستماع لهمسات الليل.
«الدرس الخامس»
لنُغمِض العينَين، واضعِين النفَس مركزًا لاهتمامنا. ثم لنقُم بتسجيل كيف تتحرك روحنا بسرعة، أو بالأحرى كيف تتدخَّل أفكارنا لتُصبِح مركز اهتمامنا، كالأطفال المزاجيِّين غريبي الأطوار. إنها الأفكار الخاصة بأشياء يجب القيام بها، أو بالصعوبة التي نُواجِهها للبقاء في تمريننا. وعلينا ممارسة تمرين حالة الوعي الكامل المُتعلِّق بالأفكار، والذي يتلخَّص في أن نكون واعِين لثرثرة رُوحنا التي لا يُمكِن كبحُها، وأن نعيَ طاقتها الجاذبة؛ ففي لحظةٍ ما لن نستطيع مراقبة أفكارنا وإنما سنصير داخلها، جزءًا منها، مَجبولين بها. من ثَم، يجب العودة بهدوء إلى التنفُّس، والبدء من جديد بمراقبتها. وبالتدرُّج سيبدو لنا جليًّا الفرق بين: «التفكير بشيءٍ ما»، و«إدراك أننا نُفكِّر بشيءٍ ما». هذا ما يُمكِن تسميته الوضوح، أو امتلاك قوانا العقلية. وهذا يتطلَّب المِران المُتكرِّر.