أن نعطي مساحة لمشاعرنا
إن هذه اللوحة عبارة عن خليطٍ غريب، وصعب التفسير من النظام والفوضى، والذي يضع المرء في حالةٍ مُبهَمة من الضيق. لا نفهم بالضبط ما يريد أن يقوله لنا الرسام. تمرُّ فترة وجيزة من الانتظار دون أن يُصبِح الفَهم أكثر وضوحًا، لكننا نبدأ بعد ذلك في إدراك منظومة اللوحة.
في الجهة اليُسرى اضطراب؛ بلبلة عجيبة في الأعلى حيث يهجم جيشٌ من الأرواح أو الأشباح محمول على سحابة. وهناك فوضى عادية في الأسفل حيث يدور عراك بين أطفال عُراة وكلب صيد؛ إنه مُتضايِق من إزعاجهم ويُحاوِل تهديدهم، مُظهِرًا لهم أسنانه، وأذناه للخلف وكأنه يقول لهم: «إذا لم تتوقَّفوا، فسأقوم بعَضِّكم.»
في الجهة اليُمنى هدوءٌ أكثر، لكن الحالة ليست أكثر وضوحًا؛ شجرة تفاح تَعرِض ثمارها الذهبية اللون. قصرٌ يعتلي صخرةً ذات مُنحدَر. امرأة وبعض الأدوات عند قدمَيها. إنها تقوم بتقليم عصًا من الخشب، وكأنها تريد إمضاء الوقت. وجهها بعيد، ضجِر، يزدري الفراغ، وهي تُراقِب بحذرٍ هذا الصراع بين الأطفال والكلب.
يوجد في تلك اللوحة ما هو حقيقي وما هو خيالي؛ قلقٌ وهدوء؛ فعلٌ وضجَر. هناك أمورٌ نفهمها قليلًا، وأخرى تتجاوز قُدرتنا على إدراكها ولدينا شعورٌ داخلنا أننا لن نستطيع فهمها أبدًا.
لكن أليس هذا بالضبط ما تُقدِّمه لنا تجربتنا الشعورية؟
كل شيء مُرتبِط ببعض الأفكار التي تُخِيفنا، والتي لا نستطيع أن نُواجِهها.
التجربة الشعورية
لا تتكلَّم مشاعرنا، لكنها تُعبِّر عن ذاتها عن طريق الأحاسيس الجسدية، والسلوك، والأفكار التلقائية الحدية والمُبسَّطة.
إننا نعرف الآن أن الكلمات لن تستطيع بالضرورة تهدئتها أو تخفيفها، وإنما يجب المرور عبر الجسد (التنفس) والسلوك (السَّير إذا كنا قلِقين أو حزانى، والاستلقاء إذا كنا غاضبين). إنَّ من أصعب الخطوات التي يُمكِن القيام بها في حياتنا النفسية أن نأخُذ مسافة عن الأفكار المليئة حتى الإشباع بالمشاعر التي لا نستطيع إلا بالكاد كبتَها أو إبعادها. يُعتقَد الآن، أننا نستطيع خلق هذه المسافة بسهولةٍ أكثر عندما نقوم بتلقِّي ومراقبة حالتِنا الشعورية، بدلًا من سعينا الحثيث لإلغائها أو، وهذا بديهي، إطاعتها الكاملة. إن اختبار تبدُّلاتنا الشعورية هو تجربة في التواضع والواقعية؛ فهو في أغلب الوقت أكثر قوةً منَّا، في البداية على الأقل. هذه التجربة في أشكالها الواضحة كما في المشاعر القوية، أو في أشكالها غير المباشرة كما في الحالات المزاجية والتبدُّلات النفسية تبقى صعبة الإدراك. كتبَ فرانسوا دي لا روشفوكو: «تمتلك حالاتنا المزاجية مَساراتٍ تُبدِّل من إرادتنا دون إدراك منَّا، إنها تأتي مُجتمِعة، وتُمارِس سيطرةً سرية على جزء مهم من تصرُّفاتنا، حتى دون معرفة منَّا.»
الفوضى العاطفية
قد لا تكون هذه التجربة التي نختبر فيها عواطفنا بالضرورة، تجربة إيجابية أو مفهومة لنا. من المُؤكَّد أن فوضى مشاعرنا قد تكون خلَّاقة أحيانًا، لكنها قد تقودنا أيضًا إلى المزيد من الارتباك.
نستطيع حينها محاولة الهرَب عن طريق القيام بنشاطٍ ما أو التلهِّي. وهناك أيضًا ذلك السعي للتحكم الكامل بها بأن نمنع المشاعر المُضنِية من الوجود، ونمنع أنفسنا من اختبارها. إنها محاولات منطقية، لكنها محفوفة بالمشكلات. ففي سعْيِنا هذا، في محاولة منَّا لقطع كلِّ صلة مع مشاعرنا وأحاسيسنا، سنُعرِّض أنفسنا إلى ما يُسمِّيه أطباء الأعصاب «إزالة التدفُّقات الواردة»؛ أي، القيام ببتر ذكائنا العاطفي. لقد التقيتُ بمرضى شديدي الحساسية قاموا بتجميد دفْق عواطفهم التي تُسبِّب لهم ألمًا. إن حالتهم تُذكِّرني ﺑ «الجليد السرمدي»، تلك الطبقة من القشرة الأرضية الواقعة تحت الجليد القُطبي والتي تبقى طوال الوقت في حالة تجمُّد مانعةً نموَّ النباتات. إن الحالة العاطفية تكون هنا في حالةٍ من الفقر الشديد بسبب الحماية الزائدة.
الوضوح العاطفي: قبول ما نشعُر به
يذهب تأمُّل الوعي الكامل، عكسَ ما اعتدْنا القيام به بأن نُحافِظ على ما هو مُبهِج وإلغاء ما هو مُضنٍ. لهذا السبب لن تكون جلسات التأمُّل وتمارينه لحظاتٍ مُريحةً بالضرورة (وهذا فرقٌ آخر عن جلسات الاسترخاء).
إنَّنا نلتقي في الوعي الكامل مع أحاسيسنا العاطفية السلبية أو المُؤلِمة، ونسمح لها بالوجود بكلِّ بساطة. وهكذا نستطيع، بدلًا من إبعاد الحزن أو محاولة إيجاد حلٍّ للقلق، أن نقبل بوجودهما أولًا. وهذا لا يعني قَبول الرسائل والأوامر التي تُريد أن تُلقِّنَنا إيَّاها. إن قبول الحزن هو أن نُدرِك أننا حزانى، لكن ليس بالضرورة أن نقبل ما يهمس لنا به الحزن («لا يستحقُّ عيش هذه الحياة، ولا شيء فيها يُجدي نفعًا»)، أو القلق («هناك خطرٌ ما، ويجب عليك التصرُّف بسرعةٍ وإيجاد حل»).
لا يُعجِب المرضى القلقِين أو المُكتئبين أن نقول لهم إن عليهم أن يبدءوا بقبول مشاعرهم كما هي. إن ذلك يَغيظهم بعض الشيء: «كنتُ أُحاوِل دائمًا أن أفعل العكس؛ ألَّا أُعانِي منها.» كما أنه يُخيفهم أيضًا: «إذا فتحتُ صنابير المياه، إن غضضتُ النظر، فستأكلني المُعاناة.»
إنَّنا نلتقي في الوعي الكامل مع أحاسيسنا العاطفية السلبية أو المُؤلِمة، ونسمح لها بالوجود بكلِّ بساطة.
ولكن ذلك ليس صحيحًا، اطمئنوا، لا تجري الأمور بهذه الطريقة؛ فعواطفنا السلبية هي كالحيوانات (أو البشر) التي نُريد تهدئتها، فنقوم بالركض وراءها كي نُبعِدها أو كي نُوثِقها ونحبسها. إنها كلما حاولنا الارتماء عليها واللحاق بها، دافعَتْ عن نفسها أكثر وحاولت إيذاءنا.
من الأفضل لنا أن نخلق حولنا مساحة أوسع للسماح لها بالعيش، وأيضًا كي نتمكن من مراقبتها: ما تأثيرها على جسدي؟ أي أفكار تُحاوِل فرضها عليَّ؟ أي سلوك هو الذي تدفعني للقيام به؟ … وهكذا لا نكون في صميم هذه المشاعر وإنما في تجربة عيشها؛ إننا نقبل بها مُخفِّفين بذلك من معاناتنا منها. قد يكفينا ذلك لنُصبِح أكثر راحة وهذا يسمح لنا باتخاذ القرار بالسلوك الذي سنتبنَّاه.
إن المشاعر المُضنية هي المصدر الذي يُفعِّل الأفكار السلبية؛ إنها تُعطي هذه الأفكار قوَّتها وتُساعِدها على أن تكون أكثر صلابة. إنَّ قبول مشاعري كما هي يسمح لي بتفكيك الطاقة التي تُمارِسها على الأفكار وتدفعها أمامها مُتخفِّية. وهكذا أستطيع بسهولة أكبر مراقبةَ وتحليلَ أفكاري الغاضبة لو أنا أدركتُ وقبلتُ أولًا حالة الغضب التي تنتابُني الآن، وأستطيع التفكير بالتداعيات المُقلِقة حين أعترف لنفسي وأقبَل حالة القلق. أما إذا بقيتُ أقول لنفسي: «لا، أنا لستُ غاضبًا، وما يحدُث ليس مقبولًا.» أو: «لا، أنا لستُ قلقًا، إنَّ ما يُهدِّدني حقيقي.» عندها لن أستطيع التعامل مع أفكاري. وما دام الذهن لا يعدها أفكارًا، وإنما هي الحقيقة، فمن سيعترض على ما هو حقيقي وبديهي؟!
إعطاء أنفسنا الوقتَ كي نشعُر
علينا إذن أن نُمرِّن أحاسيسنا؛ ليس من أجل إلغائها، وإنما مراقبتها. نستطيع، مثلًا، عندما ننتقِل كل يوم من نشاط إلى آخر ونحن مُتعجِّلون ومُنهَكون، أن نأخذ قليلًا من الوقت، عدة مرات كل يوم، كي نشعر بما يحدُث داخلنا؛ علينا أن نخلق حالة من التواصل مع حالتنا العاطفية. نستطيع أيضًا أن نستفيد من فترات الانتظار كي نُدرِك ذاتنا. قد يكون ذلك أفضل من قضاء هذا الوقت في حالةٍ من غياب إدراك الذات، غائبي الذهن، مُنفصِلين عن ذواتنا وأرواحنا، ونحن في مكانٍ آخر نتلهَّى بالقيام بالأعمال، أو بالاجترارات الذهنية.
الأولوية للهدوء والراحة ومن ثم علينا الاعتياد أولًا على حالةٍ هادئة وفضولية من الاستبطان الداخلي. ومن ثَمَّ عندما نكون في حالة مُعاناة؛ حزانى، أو غاضبِين، أو قلقين، أو تُعساء، يجب ألا نُحاوِل تغيير ما نشعُر به، وألَّا نُحاوِل مواساة أنفسنا أو تهدئتها. ليس فورًا، وإنما يكفي أن نكون مُدرِكين لما نشعر به. علينا أن نتنفَّس بشكلٍ جيد، وألا «نسعى» وراء شيءٍ آخر غير التمسُّك بتنفُّسنا، ومراقبة ما يحدُث. التنفُّس، الحضور، الوعي الكامل؛ إنها كضوء القنديل في العتمة. نستطيع أن نرى أين نحن ولو كان الوقت ليلًا. وأحيانًا، وهذا ما قد يُفاجِئنا، إننا بقبول أحاسيسنا المُؤلِمة، بالاكتفاء بقبولها وهي تعبُرنا، سنكتشف أن ما يحدُث يُشبِه عبورنا للغيمة؛ ففي النهاية، نجد أن لا شيء صلبٌ داخلها، وعندما نخرُج ستُنير الشمس من جديد.
الوعي الكامل للمشاعر
لن تكون مشاعرنا، حتى المُؤلِمة منها، تلك «النباتات الضارَّة» التي تُعرِّش في أذهاننا. إنها أيضًا جزء من النظام البيئي لحياتنا النفسية. لهذا لن يكون قبولها مُمكِنًا وحيويًّا إلا إذا قُمنا في نفس الوقت بإدراكها وفَهم آليات تأثيرها القوية والمُتخفِّية. إنها تسعى بشكل طبيعي إلى فرض نفسها علينا. إذن يجب التصرف حيال تأثيرها علينا، وليس حيال وجودها الطبيعي داخلنا. لهذا فإن هدف ما نُسمِّيه في علم النفس «التنظيم العاطفي» لا يُعتبَر الوصول إلى الفراغ، أو الهدوء، أو الزن. ليس فورًا على كل حال، وليس بشكلٍ مباشر. وإنما الهدف منه هو الإدراك والوضوح.
يُوجَد في الوعي الكامل «مهارتان» أساسيَّتان كي نستطيع السير نحو التوازن العاطفي؛ تقتضي الأولى أن نخلق مساحةً داخلية تسمح لنا أن نكون حاضرين في اللحظة الحاضرة. أما الثانية فهي أنَّ علينا تلقِّي واستقبال هذا الحضور كما هو؛ أن ندعه يُوجَد. كي نتجاوز ألمًا أو انزعاجًا ما، يجِب أولًا أن نقبل بوجودهما داخلنا. إنَّنا لا نستطيع ترك مكانٍ ما لم نقبل قَبْلًا أنَّنا وصلنا إليه. ولن نستطيع التخلص من مُعاناةٍ ما لم نعترِف بها أصلًا.
بهذه الطريقة فقط، نستطيع في لحظات المعاناة العاطفية أن نستمع وأن نُؤمِن بما نقوله لأنفسنا من كلامٍ يُريحنا. كأن نُخاطِب أنفسنا قائلين إن ذلك ليس بذي شأنٍ وإن هذه الفترة الصعبة ستمرُّ بخير … إلخ. وذلك لن «ينجح» إلا إذا قبِلنا المشكلة كما هي بشكلٍ كامل، فلا نبقى في حالة رفضٍ لوجودها («لا يمكن ذلك، هذا ليس عدلًا»).
لا تنمو بذور الطمأنينة إلا على أرض تجلِّي الوعي، وليس على الإنكار والكذب على الذات. ولكي يكون الكلام المُطَمئِن مُطَمئنًا فعلًا، يجب أن نُعطي الوقت الكافي لتلقِّيه، للإنصات إليه، والشعور به، وحتى عيشه. علينا أن ندعه يحيا داخلنا. بالضبط كما فعَلْنا قبلًا مع مشاعرنا المُؤلِمة، علينا، بالتأكيد، أن نُعطي مساحة أيضًا للمشاعر الإيجابية لأن ذلك ليس مستحيلًا.
«الدرس السادس»
عندما أكون في حالة اضطراب، ارتباك أو قلق، من المهم ألا أُحاوِل التفكير أو الانشغال بأمرٍ آخر ظانًّا أن ذلك سيُحرِّرني ويُريحني. بالعكس، فإذا كان لديَّ قليل من الوقت، يجب أن أُراقِب ما يحدُث داخلي. ما هي العاطفة التي تسكُنني؟ بأيِّ اتجاهٍ تدفعني؟ يبدو ذلك سهلًا، لكن في الحقيقة ليس الأمر بهذه السهولة؛ فكما في حالة أفكارنا، تسعى مشاعرنا أيضًا لفرض نفسها علينا. إنها لا تُقدِّم نفسها على أنها ظواهر نسبية، وإنما تريد فرْض ذاتها على أنها بديهيات، حقائق لا تقبل النقاش. إذن يجب ألَّا أُحاوِل تغيير ما أشعُر به أو أسعى جاهدًا أن أُهدِّئ من روعي أو أُواسي نفسي. وإنما يكفي أن أكون حاضرًا. ويجب أن أتنفَّس بشكلٍ جيِّد ومُريح؛ فلا «أسعى» وراء شيء آخر غير التمسُّك بتنفُّسي مُراقِبًا ما يحدُث داخلي.