أن نرى كلَّ ما هو عادي
أثناء مرورك، تُقرِّر التوقُّف؛ لأن شيئًا ما مُميَّزًا شدَّك. ربما هو الضوء في هذا الوقت من النهار، عندما تبدأ ظلال الليل بامتلاك المكان، لكنَّ وهَج مصابيح الإنارة يصنع ببطءٍ جُزُرًا من الضوء في هذا الظلام. أو ربما هو الهواء العليل. أو أنها هذه الغابة الكثيفة والداكنة المُحيطة بالمكان.
ستُلاحِظ تلك التفصيلة البسيطة؛ إنه الحصان المُجنَّح على لوحة الإعلان المُضيئة. ستُلاحِظ هذا الحصان المُجنَّح الأحمر الكبير هو وإخوته الثلاثة الصغار، وهم يُحاوِلون بنفاد صبْرٍ القفز خارج الإعلانات كي يُحلِّقوا في السماء، نحو الليل اللانهائي. وبدءًا من هذه الصورة للحصان المُجنَّح كمرساة لانتباهك، تُصبِح فجأةً حاضرًا في تلك اللحظة العادية العديمة الأهمية. ستُعِير انتباهك إلى رائحة البنزين، ثم إلى الموسيقى القديمة والمعروفة التي يُصدِرها الراديو من المنزل المُضاء. لم يكن لا الغرابة ولا الجمال ما استوقفك روحًا وجسدًا في هذه اللحظة. إنك لا تحتاجهما لتُوقِف للحظةٍ دفْقَ أفكارِك، وأفعالك ومشاريعك. لقد توقَّفتَ لأن هذه اللحظة لا مثيلَ لها. أنك لن ترى مُجدَّدًا هو بالضبط ما أنت بصدَد رؤيته الآن، ولن تعيش هذه اللحظة مرة ثانية أبدًا. نعم، هذا هو الأمر، لقد فهمتَ؛ توقفتَ لأنَّ ما هو أساسي تبدَّى لك؛ إنك بصدَد لمس قطعة من ثوب الحياة. كيف يُمكِننا أن ننسى ذلك معظم الوقت؟ ننسى أننا محظوظون بعيش هذه الحياة، وأن كل لحظة في حياتنا هي معجزة. لقد غلبت الليل، وغلبت الموت، وغلبت العدم. كيف يُمكِننا أن ننسى ذلك! لا تنسَ أبدًا أن تعيش. الآن مثلًا، ارفع رأسك، وانظر حولك بعينَي طفلٍ وُلِدَ للتو، وكأنك ترى كل شيءٍ لأول مرة!
لا تنسَ أن ذواتنا قد تشكَّلَت من خلال تجاربنا الأكثر بساطة. وقَول إن أمرًا ما مُبتذَل وبسيط، هو القولُ بأنه من ضمن الأمور التي ساهمت في خلق أفكارنا الأكثر أهمية.
إنارة ضوء وَعْيِنا فتراتٍ أطول
يستيقظ وعْينا في كل مرة نكون فيها على موعدٍ مع الجَمال، مع كل ما هو مُؤثِّر وغير مُتوقَّع. لكننا نظلُّ فيما تبقَّى من الوقت ليس أكثر من رجال آليِّين نعمل ونحن غائبو الحضور. ومن فترة لأخرى نستيقظ؛ فقد نظَّم هذا العصر حياتنا واضعًا كثيرًا من العلامات الإرشادية في كلِّ مكان لتدلَّنا على الطريق («تفضَّلوا مِن هنا … مِن هناك») والإعلانات («الآن … انظروا! اسمعوا! استمتعوا!») واللحظات المُحدَّدة بدقة التي «يجب» أن تُذهِلنا أو تُقلِقنا (سينما، مسرح، متحف). إنها لحظات حتمية، مُحدَّدة لنا … لكن حياتنا ليست زيارة يقودُنا فيها دليل! ومن كثرة ما سمحنا لأنفسنا أن نُقاد بهذه الطريقة صار ذِهنُنا فارغًا، وروحنا ميِّتة أو في حالة سُبات.
أحبِّوا ما هو عادي وبسيط. انتبهوا إلى هذه اللحظات. احترِموها. اشحذوا وعيَكم بها. افتحوا ذواتكم لكثافة البساطة؛ فلا يُوجَد جوٌّ خاص كي يُلائم الوعي الكامل. بالطبع هناك لحظات وأجواء تُسهِّل الوصول إليه، لكننا نستطيع عيشه في أي لحظة. يكفي أن نتمرَّن بقليلٍ من الجهد. يكفي أن نبقى كائنات يَقِظة وكاملة الحضور.
ألَّا نفعل، بل أن نكون حاضرين
إننا «نفعل» أشياء طوال الوقت؛ فنحن دائمو الحركة، نقوم بالقفز من نشاطٍ إلى آخر. وحتى في صميم الفعل نكون غائبين، وروحنا مُتخَمة بالرغبة بالقيام بنشاطٍ آخر أو بذكرى ما كنَّا نقوم بها.
هذه هي الحال في لوحة محطَّة الوقود؛ فكم من الزبائن لم ينتبه لما تُظهِره اللوحة؟ كم منهم لم يرَ شيئًا؟ «سأطلب تعبئة سيارتي بالوقود، وأدفع، ثم سأذهب مُتعجِّلًا وأنا أُفكِّر بالوصول إلى الفندق، كي لا أصل مُتأخِّرًا. سأحجز نفس الغرفة كالعادة، وسأُرتِّب أغراضي، وأُنظِّف أسناني، وأنا أُفكِّر بعملي الذي ينتظرني غدًا. سأضبط المُنبِّه على الوقت المُحدَّد صباح الغد، ثم سأُشاهِد التلفزيون وأنا أقول لنفسي: أتمنَّى أن أنام جيِّدًا؛ لأستيقظ نشطًا غدًا …» كثيرة هي الأيام التي كنت أقوم فيها بأنشطةٍ مُحدَّدة، وأنا أُفكِّر في نفس الوقت بشيءٍ آخر. لكنني أثناءها لم أعِش حقًّا، ولم أكُن حاضرًا، ولم أشعُر حتى بوجودي … لقد كنتُ رجلًا آليًّا!
لكن أن نكون حاضرين بدلًا من أن نكون فاعِلين، ليس بالأمر الجيِّد مُطلَقًا. إنَّنا نحتاج لكلتا الحالتَين. ولأنَّنا «نحتاجهما كلتَيهما»، علينا أن ننتبِهَ إلى أنَّ طريقة عيشنا تُنسينا أو تُبعِدنا دون قصدٍ عن حالة «أن نكون حاضرين». لهذا يهمس لنا الوعي الكامل بأن علينا الخروج من حالة «الفعل»، وأن ننتقل — ولو للحظاتٍ قليلة — إلى حالة «الحضور».
لنكُن حاضرين: لنعتَبِر الحياة كأنها تمرين تأمُّل وعي كامل
إنها مسألة بسيطة؛ أن نُكثِّف حضورنا في اللحظات العادية؛ أن ندع وعينا يسكُنها. علينا ألا نبقى أطيافًا، وأن نخرج من النسيان؛ هذا النسيان الذي لا يمتُّ للموت بصلة بالطبع، ولكنه نوع من غياب الحياة. يجب أن نكون حاضرين، وهذا يعني أن نكون حقيقةً على قيد الحياة.
علينا أن نُراقِب ذواتنا أثناء التجربة، حيث نحن، وليس فقط حين يُتاح لنا الأمر. يجب أن نُراقِب ذواتنا في اللحظات العادية، وأحيانًا في الأوقات الصعبة أيضًا. لنفعل ذلك مثلًا في الفترات المُؤقَّتة بين نشاطٍ وآخر، وفي فترات الانتظار؛ إذ نستطيع أن نستفيد منها بأن نُدرِك وجودنا وأن نُدرِك ما نحن فيه أثناءها. وهكذا لا نكون في حالة «انتظار» وإنما نكون حاضرين هنا! في أحد الأيام بينما كنتُ مسافرًا للمشاركة في مؤتمر، كنتُ أنتظر القطار على رصيف إحدى المحطات. كنت أنتظر القطار فعلًا، وأنظر إلى الساعة ثم إلى الأفق البعيد وأنا أتساءل إن كان القطار سيصل من الجهة اليُسرى أو اليُمنى. هذا رغم أنَّني كنتُ أعرف أنه لن يُغادِر قبل عشر دقائق. وصرتُ أتساءل إن كان سيأتي من محطةٍ أخرى أو أنه سينطلق في رحلته بدءًا من هذه المحطة؛ لأنني أستطيع عندها الصعود مباشرة. باختصار، كانت روحي مليئةً بأفكارٍ غير مُهمة وغير مُفيدة. لحُسن حظي أنني انتبهتُ إلى ذلك (طبعًا أنا لا أنتبه إلى هذه الحالة دائمًا). وللحظة وجدتُ نفسي وأنا أنتظر هذا القطار كمثلِ كلبٍ ينتظر طعامه. قلتُ لنفسي عندها: لا، لا يُمكِن أن أعيش حياتي بهذه الطريقة، ولا حتى جزءًا منها. لهذا بدأتُ أُفكِّر بمرضاي وبتمارين الحضور التي كنَّا نُمارِسها بشكلٍ مُتكرِّر، وقرَّرتُ أن أفعل مثلهم؛ أن أفعل بالضبط ما كنتُ أُعلِّمهم إيَّاه بنفسي. وهكذا تركتُ الفعل (وبالأحرى ابتعدتُ عن نفاد الصبر الذي كنت أشعر به وأنا أنتظر القطار مُراقِبًا وصوله في أي لحظة) وانتقلتُ إلى الحضور؛ فتوقفتُ عن النظر بإلحاح إلى الساعة ثم إلى الأفق في آخر السكة الحديدية، وأعرتُ انتباهي إلى تنفُّسي، ثم إلى وضعية جسدي، وبدأتُ أجعله مُستقيمًا بهدوء. رفعتُ كتفيَّ ثم رأسي وبدأتُ أُنصِت إلى أصوات المحطة، إلى أصوات الناس وضجيج العجلات على السكة الحديدية، وغناء الطيور. راقبتُ الضوء في هذا اليوم الربيعي، والانطلاقة البطيئة لقطار البضائع في الجهة الأخرى من المحطة. راقبتُ الغيوم، المحلات، العلامات الإرشادية، الأبنية البعيدة، وأخذتُ أشمُّ رائحة الحديد البارد. لقد كان ذلك مُذهِلًا. كان حضوري الكثيف لهذه اللحظة من حياتي مُثيرًا للاهتمام، وباعثًا على الراحة. وعندما صعدتُ إلى القطار كنت شديد الهدوء كما لم أشعُر من قبل. لم أكن «أنتظر» حينها، وإنما «عشتُ» لحظة كثيفة من حياتي، لحظة شديدة الغنى.
أعرتُ انتباهي إلى تنفُّسي، ثم إلى وضعية جسدي، وبدأتُ أجعله مُستقيمًا بهدوء. رفعتُ كتفيَّ ثم رأسي وبدأتُ أُنصِت.
كُن حاضرًا، بوعيك. انتبِه لحقيقة أنك كائن حي. أيعني هذا ألا تفعل شيئًا؟ لا، عِش اللحظة بوعي كامل. دع كلَّ ما هو بسيط وعادي يلمسك ويهزُّك. ودع كل ما هو طبيعي وغير ذي أهمية يُضيء لك الطريق، ودعِ الحياة تُبهِجك وتُسعِدك.
«الدرس التاسع»
علينا أن نكون حسَّاسين وحاضرين لكل ما لم نعُد نراه؛ لكل ما هو مألوف وعادي؛ لكل ما لم يعُد يُثير اهتمامنا. علينا أن ندَعَه يلمسنا بدلًا من استعباده أو وطئه بأقدامنا دون انتباه. يجب أن ندعو العالم لدخول ذواتنا كي نكتشف رقَّته وتنوُّعَه، بدلًا من التركيز في يومِنا على المُتطلَّبات الآنيَّة. هذا ليس صعبًا؛ يكفي أن نُحقِّق ثلاثة شروط؛ الإرادة (أن نقصد العيش في العالم الموجود وليس الافتراضي)، وإتاحة الفرصة (بتخفيف العبء عن أذهاننا، وتوسيع وعْيِنا)، والممارسة (أن نرفع رءوسنا، ونفتح عيوننا، وننظر بحق).