مملكة يهوذا الكنعانية
في أواخر القرن الثامن، إذن، تتقاطع الرواية التوراتية لأول مرة مع المصادر الخارجية فيما يتعلق بأخبار مملكة يهوذا. وفي تلك الفترة تدخل أورشليم لأول مرة أيضًا معترك الحياة السياسية في المنطقة. أما ما قبل ذلك، فإن كل الأخبار التوراتية حول أورشليم ويهوذا، هي بالنسبة للمؤرخ الموضوعي بمثابة «ما قبل تاريخ»، وتنتمي إلى جنس الأدب الديني لا إلى جنس الكتابة التاريخية. إن غياب الدلائل على قيام سلطة مركزية في المناطق الهضبية الفلسطينية خلال القرن العاشر، وكذلك على قيام مملكة يهوذا خلال القرن التاسع ومعظم القرن الثامن، لا يُعزى إلى عدم اكتمال معلوماتنا الأركيولوجية عن المنطقة، بل العكس تمامًا هو الصحيح. إن كل ما في حوزتنا الآن من معلومات يؤكد أن أول كيان سياسي موحد ومنظم في المناطق الهضبية، قد ظهر مع بناء مدينة السامرة في مطلع القرن التاسع، وأن هذا الكيان السياسي المعروف في السجلات التاريخية باسم مملكة السامرة، أو إسرائيل أو بلاد عمري، لم ينشأ عن مملكة موحدة سبقتْه وكانت عاصمتها أورشليم؛ لأنه من المستحيل التحدث عن مملكة بدون قاعدة سكانية وعن عاصمة بدون دليل على وجود مدينة. أما إلى الجنوب من أورشليم، فإن كل المعلومات تؤكد أن هذه الأراضي التي دُعيت فيما بعدُ بمملكة يهوذا، لم تشهد الوحدة السياسية إلا عشية دمار مملكة السامرة، وأن هذين الكيانين لم يتعاصرا إلا لفترة وجيزة، وذلك على عكس الرواية التوراتية التي ترسم صورة شعب واحد توزَّع في مملكتين عقب موت سليمان.
تعزو الرواية التوراتية تأسيس مملكة يهوذا إلى رحبعام بن الملك سليمان بعد وفاة أبيه (حوالي عام ٩٣١ق.م.)، مثلما تعزو تأسيس مملكة إسرائيل إلى والي سليمان عليها المدعو يربعام بن نباط، الذي أقام في شكيم واستقل عن أورشليم سياسيًّا وإداريًّا، كما استقل دينيًّا بعد أن بنى لشعبه معبدين للعجل المقدس، ومنعهم من التوجه إلى معبد أورشليم. وفي الحقيقة، فإن مثل هذه الأخبار لا تزيد مصداقية عن الأسطورة الرومانية التي تعزو بناء مدينة روما إلى الأخوين روموس وريمولوس، اللذين أرضعتهما ذئبة وربَّتْهما في الغابة قبل أن يشِبَّا على الطوق، وغيرها من الأساطير المشابهة المتعلقة بنشأة المدن وأصول الممالك. بعد وفاة رحبعام بن سليمان، وحتى ورود أول ذكر لملك على يهوذا في السجلات الآشورية، وهو الملك آحاز، تفيدنا الرواية التوراتية بأن أحد عشر ملكًا توالوا على عرش يهوذا في أورشليم. وبما أن الوقائع الأركيولوجية والتاريخية لا تفيدنا بأن مملكة يهوذا كانت قائمة قبل أواسط القرن الثامن، فإن أولئك الملوك المفترضين على يهوذا لم يكونوا سوى أمراء محليين في أورشليم الناشئة. ونحن لا نستطيع الابتداء، بسرد تاريخ يهوذا إلا اعتبارًا من تاريخ الإشارة إليها في المصادر الخارجية.
ارتقى آحاز العرش حوالي عام ٧٣٥ق.م.، واختطَّ منذ البداية سياسة العمالة لآشور في المنطقة، وهي السياسة التي سيستمر عليها ملوك يهوذا لأكثر من قرن، والتي ستضمن استقلال هذه المملكة بعد تدمير معظم الممالك الفلسطينية، أو إلحاقها بآشور. فآحاز لم يكتفِ بالدور الصغير المرسوم له من قِبَل آشور، وإنما تطوع مِن تلقاء ذاته لتأييدها عسكريًّا عندما سار بقواته لمساعدة تغلات فلاصر على حصار دمشق، وكان في طليعةِ مَن دخل المدينة، على ما نفهم من سفر الملوك الثاني (١٦: ١–١٠). في دمشق رأى آحاز المذبح الذي في معبدها فأعجبه، وطلب من أوريا كاهن معبد أورشليم أن يصنع له مثله، بعد أن زوده برسم مفصل له، فبنى له أوريا مذبحًا مشابهًا، راح آحاز يذبح عليه ويوقد لآلهة آرام ونسي إله آبائه (الملوك الثاني ١٦: ١٠–١٧ وأخبار الأيام الثاني ٢٨: ٢٣-٢٤).
عيَّن آحاز ابنه حزقيا وليًّا للعهد ومشاركًا له في الحكم، وهو ما زال غلامًا مراهقًا، فحكم إلى جانب أبيه مدة أربع عشرة سنة قبل انتقال السلطة إليه كاملة بوفاة أبيه، وبذلك امتدت سنوات حكمه من ٧٢٩ق.م. إلى ٦٨٦ق.م. وقد أفرد له محرر سفر الملوك الثاني ومحرر سفر أخبار الأيام الثاني حيزًا من الكتاب لم يُفرَد لملك آخر من ملوك يهوذا. فهو الملك التقي الصالح الذي أعاد عبادة يهوه إلى سابق عهدها في هيكل أورشليم وهدم مقامات ومراكز عبادة الآلهة الأخرى، وهو من وسَّع أراضي المملكة وضم إليها مناطق جديدة، وهو مَن حصَّن أورشليم وبقية مدن يهوذا، وهو من زاد غلة الزراعة وكثَّر المواشي وجعل طرق التجارة آمنة. ولكن حزقيا هذا قد قام بأول وآخِر محاولة تمرد على السلطة الآشورية، عندما منع الجزية عنها بتحريضٍ من فرعون مصر الذي وعده بالمساعدة العسكرية في حال تعرضه للانتقام.
كان صارغون الثاني قد أبقى على استقلال يهوذا ولم يمسَّ عاصمتها بسوء، رغم ما ألحقه من دمار بالسامرة والمدن الفلستية أشدود وغزة وعقرون، التي صُوِّرت مشاهد حصارها وافتتاحها على نحت بارز عُثر عليه في قصر صارغون. فلقد أفلح آحاز في كسب رِضا صارغون مثلما أفلح في كسب رضا سلفيه شلمنصر الخامس وتغلات فلاصر الثالث. ولكن طموحات حزقيا الإقليمية، وقيام كلٍّ من بابل ومصر بتحريضه على العصيان ووعده بالمساعدة، كانت وراء إحساس حزقيا بقوته وبقدرته على التمرد. وفي الحقيقة، فإن قرار حزقيا لم يأتِ نتيجة حسابات خاطئة، بل جاء نتيجة حسابات بدت له دقيقة. فمصر التي كانت تعِدُ سابقًا بالمساعدة ولا تفي بوعودها، قد وفت هذه المرة. وقبل أن تتحرك آشور لإخماد التمرد الجديد في فلسطين وفينيقيا، كانت القوات المصرية متواجدة في فلسطين بشكل مكثف، وجاهزة للتدخل إلى جانب حزقيا وغيره من الملوك الفلسطينيين الذين وعدتهم مصر بالمساعدة. ومن ناحية أخرى، جاء التشجيع من ملك بابل المنفي المدعو مردوخ أبال إيدينا، الذي كان قد قاد تمردًا فاشلًا ضد آشور، ثم هرب وراح يؤلب من منفاه الممالكَ السورية على العصيان. وربما كان يخطط من أجل العودة سرًّا إلى بابل وقيادة تمرد جديد يتوافق مع التمرد في فينيقيا وفلسطين، وبذلك يتم إشغال آشور على جبهتين، وتغدو فرص نجاح التمرد على إحدى هاتين الجبهتين كبيرة جدًّا. ولدينا خبر في سفر الملوك الثاني عن زيارة رُسُل ملك بابل، الذي يدعوه النص بردوخ بلادان، للملك حزقيا، وهي الزيارة التي تحمل من المعاني أكثر مما فهم محرر النص التوراتي: «في ذلك الزمان أرسل بردوخ بلادان ملك بابل رسائل وهدية إلى حزقيا؛ لأنه سمع أن حزقيا قد مرض. فسمع حزقيا لهم وأراهم كل بيت ذخائره، والفضة والذهب والأطياب، وكل بيت أسلحته.» الملوك الثاني (٢٠: ١٢-١٣).
وكان النبي إشعيا من أكثر معارضي سياسة حزقيا في الانحياز لمصر والاعتماد على عونها. وعندما لم يَلقَ من الملك أذنًا صاغية، راح يمشي في شوارع أورشليم حافي القدمين رافعًا عقيرته بالنبوءات: «ويلٌ للذين ينزلون إلى مصر للمعونة، ويستندون على الخيل، ويتوكلون على المركبات لأنها كثيرة، وعلى الفرسان لأنهم أقوياء، ولا ينظرون إلى قُدُّوس إسرائيل ولا يطلبون الرب، وهو أيضًا حكيم ويأتي بالشر ولا يرجع بكلامه … أما المصريون فهم أناس لا آلهة، وخيلهم جسد لا روح، والرب يمد يده فيسقط المعين ويسقط المعان، ويفنيان كلاهما» (٣١: ١–٣).
يتصف القسم الأخير من نص سنحاريب المتعلق بحملته على يهوذا بالغموض والاضطراب، فمن الواضح أن سنحاريب قد هزم التحالف المصري الأورشليمي، وأنه قد ضرب على أورشليم حصارًا شديدًا، ولكنه قد ارتد عنها وقَبِل جزية الملك حزقيا. وبالطبع فإن سنحاريب لم يكن لينهزم عند أسوار أورشليم، بعد أن فتح مدنًا أقوى منها وأكثر منعة، ولكن أخبارًا وصلته من بلاطه في نينوى عن مؤامرات ودسائس سياسية، فآثر الإسراع في العودة إلى الوطن لمعالجة الأمور.
ولكن النبي إشعيا يشدد من عزيمة حزقيا ويتنبأ له: «هكذا قال الرب: لا تخَفْ بسبب الكلام الذي سمعته، الذي جدف عليَّ به غلمان ملك آشور. ها أنا ذا أجعل فيه روحًا فيسمع خبرًا ويرجع إلى أرضه، وأُسقطه بالسيف في أرضه … هكذا قال الرب عن ملك آشور: لا يدخل هذه المدينة، ولا يرمي سهمًا، ولا يتقدم عليها بترس، ولا يقيم عليها مترسة، في الطريق الذي جاء فيه يرجع، وإلى هذه المدينة لا يدخل. يقول الرب: وأحامي عن هذه المدينة لأخلصها من أجل نفسي ومن أجل عبدي داود. وكان في تلك الليلة أن ملاك الرب خرج وضرب من جيش آشور مائة ألف وخمسة وثمانين ألفًا، ولما بكروا صباحًا إذ هم جميعًا جُثث ميتة، فانصرف سنحاريب ملك آشور وذهب راجعًا، وأقام في نينوى. وفيما هو ساجد في بيت إلهه نسروخ، ضربه ابناه أدر ملك وشر آصر بالسيف، ونجوا إلى أرض أراراط، وملك أسر حادون ابنه عوضًا عنه» (١٩: ٥–٧، و٣٢–٣٧).
تتفق رواية سفر الملوك الثاني مع الرواية الآشورية في خطوطها العامة، رغم اختلافهما في العديد من التفاصيل، فصعود القوات المصرية لمساعدة حزقيا بأعداد كبيرة غير مذكور في الخبر التوراتي، رغم وجود تلميح بالاتكاء على مصر، وكذلك الأمر بخصوص المعركة الكبيرة في سهل ألتقو بين القوات الآشورية وقوات مصر ويهوذا. أما تراجع سنحاريب عن أسوار أورشليم فيعزوه محرر السفر، وكما يمكن لنا أن نتوقع دومًا، إلى معجزة من الرب الذي تدخَّل وضرب الآشوريين ليلًا.
هذه هي الأخبار التاريخية المتوفرة لدينا بخصوص الفترة الأولى من نشوء يهوذا كمملكة فلسطينية قوية، وبروز أورشليم كعاصمة إقليمية مهمة خلال فترة حكم آحاز وابنه حزقيا، فماذا عن الوثائق الأركيولوجية؟ إن الدلائل الرئيسية يجب أن تأتي من أورشليم. فمنذ بدايات القرن التاسع قبل الميلاد تبدأ كسرات الفخار، وغيرها من اللُّقى الأثرية الصغيرة الدالة على وجود حياة نشطة في الموقع، بالظهور بغزارة، بعد أن كانت معدومة تقريبًا خلال عصر الحديد الأول ومطلع عصر الحديد الثاني في القرن العاشر قبل الميلاد. هذه الدلائل على عودة الحياة إلى المدينة والزيادة المستمرة في عدد سكانها، تتزامن مع ظهور أخبار أورشليم ومملكة يهوذا في المصادر الخارجية. وبما أن كل البُنى المعمارية السابقة على العصر البيزنطي قد زالت بسبب الاقتلاع الدائم للحجارة في كل طبقة آثارية واستخدامها في الطبقة التي تليها، فإن دليلنا المتبقي هو السور.
ولكن السؤال الذي يطرح نفسه بعد هذا الاكتشاف، هو لماذا بذل حزقيا مجهودًا جبارًا في جر مياه جيحون إلى بِركة تقع خارج السور الغربي، طالما أن السور الجديد كان كفيلًا بالدفاع عن النبع؟ وهنا يتابع أصحاب النظرية الدفاعية قولهم بأن بوابة السور الجديد وأبراجها المصممة خصوصًا للدفاع عن النبع؛ سوف تكون الهدف الأول للعدو، وأن بِركةً احتياطية في منطقة مموهة على السفح الغربي ضرورية في حال سقوط السور الأول، ولكن هذا الجواب غير مقنع من الناحية العسكرية؛ لأن الجيش الإمبراطوري المدرب على القتال، مدرب أيضًا على التجسس وجمْع المعلومات عن قوة الموقع المحاصر وموارده الغذائية والمائية. ولا أعتقد بأن الآشوريين الذين أمضوا قرونًا في حصار وفتح المدن الحصينة، كانوا عاجزين عن اكتشاف موقع بركة سلوان، حتى قبل إلقاء الحصار على أورشليم. من هنا، فإنني أرجح أن قناة السلوام لم يكن لها وظيفة دفاعية، وأن آحاز، أو ابنه حزقيا، قد حفرها لكي يؤمِّن لسكان الجهة الغربية من أورشليم مصدرًا مائيًّا قريبًا؛ أسوةً بسكان الجهة الشرقية، خصوصًا وأن الدراسات الجيولوجية الحديثة تُبرهن على أن حفر قناة السلوام لم يكن معجزة هندسية كما ظن الآثاريون حتى وقت قريب، ولم يكن بالمشروع الباهظ التكاليف.
نعود الآن لمتابعة تاريخ أورشليم ويهوذا، فرغم أن أورشليم استطاعت نحو أواخر القرن الثامن قبل الميلاد السيطرة على مرتفعات يهوذا ووضع أمراء حبرون (وهي المدينة الثانية في المرتفعات بعد أورشليم) تحت حمايتها، إلا أن لخيش، المدينة الكبرى في سهل شفلح والمنافس الرئيسي لأورشليم منذ بداية الانتعاش الاقتصادي، بقيت السوقَ الرئيسية للمحاصيل المتوسطية للمناطق الجنوبية، وخصوصًا زيت الزيتون. لقد كان الآشوريون يتحرقون للسيطرة على مراكز إنتاج الزيت وتنظيم تجارته بما يلائم مصالحهم، ولكن مدينة لخيش، بثروتها واتساع تجارتها وتأثيرها على مدن شفلح وفلستيا، كانت عقبة كأداء أمام مخططات آشور. من هنا، كانت لخيش أحد الأهداف الرئيسية لحملة سنحاريب المؤرخة بعام ٧٠١ق.م.، وكانت المدينة الوحيدة التي تم إحراقها وتدميرها تدميرًا كاملًا بحيث لم تقم لها قائمة بعد ذلك. ولعل في لوحات النحت البارز التي تمثل حصار وتدمير لخيش وسبْي أهلها، والتي تم العثور عليها في قاعة عرش سنحاريب، ما يبرهن على أهمية هذه المدينة الفلسطينية، وعلى أهمية النصر الذي حققه سنحاريب عليها.
بعد حادثة اقتياد منسي إلى نينوى، تعود النصوص الآشورية للصمت عن أورشليم، ولا تتعرض لذكر أحدٍ من ملوكها حتى نهاية الإمبراطورية الآشورية في العقد الأخير من القرن السابع قبل الميلاد. من هنا لا يوجد أمامنا سوى الاعتماد على النص التوراتي من أجل تغطية بقية أخبار القرن السابع في يهوذا. فلقد توفي منسي بعد أن حكم قرابة خمسين سنة (٦٩٦–٦٤١ق.م.)، وخلال فترة تعتبر بمثابة العصر الذهبي ليهوذا. ثم خلفه ابنه آمون الذي حكم مدة عامين فقط، ثم تعرض لفتنة في القصر أدت إلى مقتله على يد بعض ضباط الجيش، فخلفه ابنه يوشيا وله من العمر ثماني سنوات فقط. حكم يوشيا فترة طويلة جدًّا (٦٣٩–٦٠٨ق.م.) وعاصر الفترة العاصفة التي شهدت زوال آشور وصعود الأسرة الكلدانية في بابل، وما تلا ذلك من صراع مصري بابلي، شاركت فيه يهوذا بعد أن خرجت من طمأنينتها في حضن آشور؛ الأمر الذي قادها إلى حتفها السريع.
ورث آشور بانيبال (٦٦٨–٦٣٣ق.م.) عن أبيه أسر حادون عالمًا يموج بالفتن والاضطرابات، وظهرت في عهده عوامل تفسُّخ الإمبراطورية الآشورية، وهي العوامل التي كانت نشطة في الخفاء لمدة طويلة مضت. فقد اضطر لإخضاع مصر بعد أن ثارت عقب وفاة أسر حادون، ثم عاد إليها أكثر من مرة لتأديب الأمراء المحليين الذين عيَّنهم في المقاطعات المصرية وعقد معهم اتفاقيات التبعية. ولكن التجربة أقنعت آشور بانيبال بأن احتلال مصر بشكل دائم هو أمر على غاية من الصعوبة من الناحية العسكرية، فغض الطرف في آخر سنوات حكمه عن قيام الأمير نخو بتوحيد مصر وإعلان نفسه ملكًا عليها، وفضَّل التفرغ للإبقاء على ممتلكات آشور التقليدية، بدل هدر طاقته في الاحتفاظ بأراضي مصر البعيدة عن مركز السلطة في نينوى.
بعد وفاة آشور بانيبال عام ٦٣٣ق.م.، أعلن نابو بولاصر الكلداني نفسه ملكًا على بابل، واستقل عن آشور، مؤسسًا بذلك لما يدعوه المؤرخون بالمملكة البابلية الجديدة، ثم عقد ملك بابل حلفًا مع مملكة ميديا الإيرانية، وسارت جيوشهما من الجنوب ومن الشرق، فأوقعت آشور بين فكَّي كماشة، ووجد الآشوريون أنفسهم لأول مرة يدافعون عن عقر دارهم في مدن المثلث الآشوري. وبين عام ٦١٤ق.م. و٦١٢ق.م. سقطت مدينة آشور، ثم تبعتها نمرود فنينوى. وفيما تدعوه الاستراتيجية العسكرية الحديثة بالقتال التراجعي، كان آخر ملوك آشور المدعو آشور أوباليط، ينسحب إلى ما وراء نهر الدجلة، حيث أقام لنفسه مقر قيادة مؤقت في مدينة حران، محاولًا تأخير المذبحة الشاملة للشعب الآشوري. ومن هناك أرسل إلى الفرعون نخو طالبًا عونه، فاستجاب نخو وصعد بجيشه عبر فلسطين عام ٦٠٩ق.م. لنجدة آشور أوباليط، مفضلًا المحافظةَ على مملكة آشورية ضعيفة يتقاسم معها مناطق النفوذ في بلاد الشام.
وهنا يخبرنا نص سفر الملوك الثاني أن يوشيا ملك يهوذا تصدى له عند موقع مجدو، محاولًا ردَّ الحملة المصرية عن أهدافها. وعبثًا حاول نخو إقناع يوشيا بألا يؤخر تقدُّمه وأنه لا ينوي قتاله، فأرسل إليه يقول: «مالي ولك يا ملك يهوذا، لست عليك اليوم، بل على بيت حربي (أي المكان الذي أتوجه اليوم للحرب فيه)، والله أمر بإسراعي. فكُفَّ عن الله الذي معي فلا يهلكك. فلم يحول يوشيا وجهه عنه، بل تنكَّر لمقاتلته (أي غيَّر زيه الملكي) ولم يسمع لكلام نخو من فم الله، بل جاء ليحارب في بقعة مجدو، وأصاب الرماة الملك يوشيا، فنقله عبيده وساروا به إلى أورشليم فمات هناك» (الملوك الثاني ٣٥: ٢٠–٢٤). أما عن دوافع ملك يهوذا للوقوف في وجه الجيش المصري فغير مذكورة في هذا النص التوراتي، وأغلب الظن أن حساباته الخاطئة قد أقنعته أن بإمكانه الحصول على نصيب من تفليسة آشور في مناطق سورية الجنوبية.
كانت الأمور قد استقرت لبابل في مناطق الفرات بعد القضاء تمامًا على آشور أوباليط واستسلام قواته بالجملة، فتفرغ نبوخذ نصر (٦٠٥–٥٦٢ق.م.) لوضع حد لطموحات مصر، وشن حملة على نخو أبعدته عن سورية الوسطى، ثم طارده حتى حدود مصر؛ على ما نفهم من الحوليات البابلية. وفي طريقه ابتلع يهوذا بلقمة واحدة وساق ملكها أسيرًا إلى بابل، وعين بدلًا عنه ابنه. نقرأ في سفر أخبار الأيام الثاني: «كان يهوياقيم ابن خمس وعشرين سنة حين مَلَكَ، ومَلَكَ إحدى عشرة سنة في أورشليم، وعمل الشر في عينَي إلهه. فصعد عليه نبوخذ ناصر ملك بابل وقيده بسلاسل نحاس ليذهب به إلى بابل، ومَلك يهوياكين ابنه عوضًا عنه» (٣٦: ٥–٨).
ولكن الملك الجديد كان يتحين الفرص للتمرد على بابل. وقد واتته الفرصة التي ظنها ذهبية عندما شن نبوخذ نصر حملة على أراضي مصر؛ في محاولة نهائية للتخلص من شغب فراعنتها، ولكن حملته لم تُفلح وارتد دون تحقيق أهدافه. وقد قلل هذا التراجع من هيبة بابل وقاد عددًا من الممالك الفلسطينية، ومنها يهوذا، إلى إعلان التمرد. ولكن نبوخذ نصر ما لبث أن عاد إلى المنطقة بعد ثلاث سنوات وعسكر في منطقة ربلة، ومن هناك كان يبعث بقادة جيوشه لتأديب الملوك العصاة. نقرأ في سفر الملوك الثاني: «جاء نبوخذ نصر ملك بابل إلى المدينة، وكان عبيده يحاصرونها، فخرج يهوياكين إلى ملك بابل هو وأمه وعبيده ورؤساء خصيانه، وأخذه ملك بابل في السنة الثامنة من مُلكه، وأخرج من هناك جميع خزائن بيت الرب وخزائن بيت الملك، وكسر كل آنية الذهب التي عملها سليمان ملك إسرائيل في هيكل الرب، وسبى كلَّ أورشليم وكل الرؤساء وجميع جبابرة البأس، عشرة آلاف سبي، وجميع الصُّناع والأقيان، ولم يبقَ أحد إلا مساكين شعب الأرض، وسبى يهوياكين إلى بابل وأم الملك ونساء الملك وخصيانه وأقوياء الأرض، سباهم من أورشليم إلى بابل، وملَّك ملك بابل متنيا عمه عوضًا عنه وغيَّر اسمه إلى صدقيا» (٢٤: ١٠–١٧).
انقسم الرأي بين شيوخ أورشليم إلى فريقين؛ فريق يدعو إلى مقاومة بابل بالسيف، وفريق يدعو إلى قَبول عبودية بابل؛ دفعًا للكارثة الأخيرة المقبلة. وكان على رأس الفريق الثاني النبي إرميا، الذي اعتبر نبوخذ نصر منفذًا لمشيئة الرب. نقرأ في سفر إرميا (٢٧): «هكذا قال رب الجنود، إله إسرائيل، هكذا تقولون لسادتكم: إني أنا صنعت الأرض والإنسان والحيوان الذي على وجه الأرض، وأعطيتها لمن حَسُن في عيني. والآن قد دفعت كل هذه الأراضي ليد نبوخذ ناصر ملك بابل عبدي، فتخدمه كل الشعوب وكذلك ابنه وابن ابنه، حتى يأتي وقت أُسقطه فيه، فتستخدمه شعوب كثيرة وملوك عظام … أدخِلوا أعناقكم تحت نير ملك بابل واخدموه وشعبه وأحيوا … اخدموا ملك بابل واحيوا، لماذا تصير هذه المدينة خربة؟» (٢٧: ٤–١٧). ولكن كلمات إرميا لم تَلقَ أُذنًا صاغية من الملك صدقيا ومَن حوله مِن الصقور الداعية إلى الحرب.
جاء رد فعل نبوخذ نصر حاسمًا وسريعًا، وراحت الوعود المصرية أدراج الرياح أمام حملة بابلية صاعقة طالت عددًا من الممالك الفلسطينية، بينها يهوذا التي اجتاحها الجيش البابلي وضرب حصارًا حول عاصمتها دام سنتين؛ على ما تقوله الرواية التوراتية في سفر الملوك الثاني (٢٥). وعندما اشتد الجوع ونفَدت المؤن، حاول الملك صدقيا وعائلته الهرب بمعونة فرقة من خيرة جنده، من فتحة سرية أحدثوها في السور، ولكن الكلدانيين قبضوا عليه وساقوه إلى نبوخذ نصر الذي كان مقيمًا في ربلة، فأمر نبوخذ نصر بقتل عائلة صدقيا أمام ناظريه، ثم سمَل عينيه وأرسله أسيرًا إلى بابل. أما أورشليم التي لم تفتح أسوارها بعد هرَبِ ملكها، فقد اقتحمها نبوزردان قائد الجيش البابلي: «في السنة التاسعة عشرة للملك نبوخذ ناصر ملك بابل، جاء نبوزردان رئيس الشرط عبد ملك بابل إلى أورشليم، وأحرق بيت الرب وبيت الملك، وكل بيوت العظماء أحرقها بالنار، وجميع أسوار أورشليم مستديرًا هدمها. وبقية الشعب الذين بقوا في المدينة، والهاربون الذين هربوا إلى ملك بابل، وبقية الجمهور، سباهم نبوزردان ولكنه أبقى من مساكين الأرض كرامين وفلاحين.» وبذلك تم تدمير أورشليم وإلغاء يهوذا من الخارطة السياسية الفلسطينية إلى الأبد حوالي عام ٥٨٧ق.م. أما من تبقَّى من سكان يهوذا، فقد أقام عليهم نبوخذ نصر واحدًا من بينهم اسمه جدليا بن أخيقام؛ ليدير شئونهم ويجمع منهم الجزية السنوية للبلاط البابلي.
هذا، ورغم عدم توفر نص بابلي يصف الحملة الأخيرة على أورشليم وتدميرها، إلا أن تنقيبات كاثلين كينيون قد كشفت عن آثار دمار وحرائق في موقع أورشليم ترجع إلى بدايات القرن السادس، وانقطاع في السكن دام قرابة قرن من الزمان، كما كشفت عن آثار دمار في العديد من مواقع يهوذا الأخرى وانقطاع في السكن دام قرابة قرن ونصف. وخلال العقود القليلة التي سبقت انهيار الإمبراطورية البابلية، كانت يهوذا عبارة عن مقاطعة بابلية فقيرة اقتصاديًّا وسكانيًّا، تُحكم من قِبل والٍ محلي أو بابلي يقيم في بلدة المصفاة القريبة من أورشليم المهجورة، وربما ألحقت بمقر إداري آخر قريب بعد ذلك.
إن خلاصة ما تقودنا هذه المعلومات التي سردناها حول تاريخ مملكة يهوذا (وهي كل المعلومات التي يمكن للمؤرخ استخلاصها من المصادر الخارجية، ومن المادة التوراتية المتقاطعة معها) هي أن هذه المملكة قد قامت في المناطق الهضبية الفلسطينية بعد قرن ونصف من قيام مملكة السامرة، عندما بدأت أورشليم تتخذ وضع العاصمة الإقليمية القوية لأول مرة في تاريخها، وتبسط سلطانها على المناطق الزراعية الأخذة بالازدهار إلى جنوبها. أما سكانها فقد أتوا من ثلاثة مصادر محلية، ولا علاقة لهم بسِبط يهوذا التوراتي. المصدر الأول هو الزيادة المتسارعة في عدد السكان بعد انقضاء فترة الجفاف الميسيني، والمصدر الثاني هو سكان المناطق الفلسطينية المقتلعين من مواطنهم خلال الفترة الانتقالية، والمصدر الثالث هو الجماعات الرعوية التي جاءتها من المناطق الجنوبية والشرقية، بسبب وضع يهوذا الجغرافي المنفتح على مناطق البوادي. وقد أخذت هذه الجماعات الرعوية بالاستقرار وزراعة الأرض، أو أنها قد أُجبرت على الاستقرار من قِبل سلطات أورشليم، عندما صارت أورشليم سوقًا رئيسية لمنتجات الكرمة والزيتون والمحاصيل المتوسطية الأخرى، فمملكة يهوذا، في نشأتها ومسار حياتها ونهايتها، هي مملكة فلسطينية، كنعانية اللغة والثقافة والدين والتكوين الإثني. وقد عاشت قرابة قرنين من الزمان، واستطاعت في فترات قوتها بسْطَ سلطانها على مدن سهل شفلح، خصوصًا بعد دمار لخيش عام ٧٠١ق.م.، كما تجاوز نفوذها مناطق بئر السبع جنوبًا باتجاه قادش برنيع ومناطق سيناء الشمالية، ثم جاءت نهايتها عندما فشل ملوكها في لعبة الكبار التي لم يتقنوها.
والسؤال الذي يطرح نفسه الآن هو: هل كانت مملكتا السامرة ويهوذا يهوديتين؟ وهل دان أهلوهما بالديانة التوراتية؟ هذا ما سنتعرض له في الفصل المقبل.
Biblical Archaeology Review, March-April, 1999, p. 41.
من أجل التفصيلات الكاملة لهذه الحملة، راجع مؤلفي: الحدث التوراتي والشرق الأدنى.
W. F. Allbright, Palestinian Inscriptions, In: Ancient Near Eastern Texts, p. 321.