الفصل الحادي عشر
يهوه وآلهة كنعان
الثقافة والدين في المملكتين
يتجلى الانتماء الثقافي الكنعاني للمملكتين (كما أوضحنا عبر الفصول السابقة) في جميع
اللُّقى
الأثرية، والأوابد المعمارية المكتشفة التي تنتمي للمُتَّحَد الثقافي السوري، وتنسج في
مفاهيمها
المعمارية ومعظم تفاصيلها على منوال الأوابد المعمارية الفينيقية والشامية. كما يتجلى
هذا
الانتماء الثقافي في اللغة التي تكلَّمها أهل السامرة ويهوذا، وفي القلم الذي كتبوا به.
فاللغة التي
تكلموا بها هي لهجة كنعانية فلسطينية قريبة جدًّا من لهجة فينيقيا وأورغاريت، والقلم
الذي كتبوا
به لغتهم هو القلم الفينيقي الآرامي بعينه، وقد كان محررو التوراة مدركين لهذه الحقيقة
عندما
أطلقوا على لغتهم اسم لغة كنعان أو شفة كنعان، ولم يطلقوا عليها اسم اللغة العبرية أبدًا
(انظر
على سبيل المثال إشعيا ١٩: ١٨). فهل شذت الظاهرة الدينية على بقية مظاهر الثقافة في المملكتين؟
وهل كان للسامرة ويهوذا ديانتهما المتميزة عن الديانة الكنعانية؟
إن مؤرخ الأديان لا يستطيع قول شيء بخصوص المعتقَد الديني لثقافةٍ ما، منقطعة عنا
زمنيًّا، إذا
لم يترك لنا أهل تلك الثقافة مخلفات تدل على معتقداتهم وطقوسهم، مثل صور الآلهة، والمقامات
المقدسة، والأدوات الطقسية. وإذا تم تدعيم هذه المخلفات المادية بالوثائق المكتوبة التي
تنتمي إلى
نفس الفترة التي جاءت منها المخلفات المادية، تجمَّعت لدى مؤرخ الأديان كلُّ الشواهد
المباشرة التي
تعينه على رسم صورة عامة عن ذلك المعتقد. أما الشواهد غير المباشرة، مثل الكتابات المتأخرة
التي تصدت بعد قرون طويلة لوصف ذلك المعتقَد، فيجب عدم اعتمادها إلا بمقدار ما تتقاطع
مع الشواهد المباشرة وتلقي ضوءًا عليها، فهل
وصلتْنا مثلُ هذه الشواهد والبينات المباشرة من عصر مملكتي يهوذا والسامرة؟ وما الذي
يستطيع مؤرخ
الأديان قوله استنادًا إلى دراستها وتحليلها؟
حتى وقت قريب كان النص التوراتي المتأخر قرونًا عدة على دمار السامرة ويهوذا هو الوثيقة
الوحيدة المتوفرة لدينا. وهذه الوثيقة كانت تقول لنا بأن أهل المملكتين كانوا على المعتقد
الأرثوذوكسي التوراتي كما رسمته الأسفار التوراتية، وأنهم ما كانوا يَزيغون عن هذا المعتقد
إلا
ليعودوا إليه سريعًا. غير أن التنقيبات المكثفة التي جرت خلال العقدين الأخيرين من القرن
العشرين
في أراضي السامرة ويهوذا، وفي المناطق التي يُفترض أن نفوذهما امتد إليها أحيانًا، قد
أمدتنا بفيض
من الشواهد والبينات المباشرة، وهي تقول لنا بأن أهل المملكتين لم يكونوا على المعتقد
الأرثوذوكسي
التوراتي الذي تمت صياغته في الفترات المتأخرة خلال العصر الفارسي والهيلينستي، ولا يوجد
شاهد
أثري أو نصي واحد يشير إلى أي شكل، ولو جنيني من أشكاله. فديانة المملكتين كانت استمرارًا
طبيعيًّا لديانة كنعان في عصر الحديد الأول وما سبقه، والآلهة التي عُبدت هنا هي آلهة
كنعان
التقليدية، وكل ما تم الكشف عنه من معابد ومقامات دينية كان مكرسًا لعبادات الخصب المتأصلة
منذ
القِدم، أما الإله يهوه الذي اختاره التوراتيون المتأخرون ليعبدوه وحده من دون بقية آلهة
كنعان،
فلم يكن إلا واحدًا من آلهة فلسطين القديمة وعضوًا في مجمع آلهة موسع يضم العديد من الآلهة
والإلهات، وكان متزوجًا من الإلهة عشيرة، وهي الإلهة التي نعرفها جيدًا من الميثولوجيا
الكنعانية
منذ عصر أوغاريت الذهبي الذي أمدنا بالنصوص الأدبية والدينية الشهيرة.
في كتابه الصادر عام ٢٠٠١م تحت عنوان:
The Bible Unearthed،
يقول عالم الآثار الإسرائيلي إ. فنكلشتاين بخصوص ديانة يهوذا وأصل العبادة في هيكل أورشليم
ما
يلي:
«إن المؤسسات السياسية والدينية في أورشليم لم تمارس سلطتها على عامة السكان في المناطق
الريفية بالطريقة التي قدمها لنا النص التوراتي؛ ذلك أن الاستمرارية مع الماضي، لا المستحدثاتِ
السياسية والدينية المفاجئة، هي السمة التي ميزت مجتمع يهوذا خلال القرون المبكرة من
عصر الحديد.
وهذا ما نستطيع ملاحظته بشكل أكثر وضوحًا في الممارسات الدينية التي كانت الهاجس الرئيسي
للعاكفين
على تدبيج الأسفار التاريخية في يهوذا. لقد تحدث سفر الملوك الأول والثاني بكل صراحة
عن الردة
الدينية لشعب يهوذا، والتي كانت وراء سقوط المملكة، ووصف سفر الملوك الأول بوادر هذه
الردة منذ
عهد رحبعام أول ملوك يهوذا، وذلك في عبارات نمطية استخدمها محرر السفر بعد ذلك مرارًا
وتكرارًا في
فضح انحراف شعب وملوك يهوذا: وعمل يهوذا الشر في عيني الرب، وأغاروه أكثر مِن جميع ما
عمل آباؤهم
بخطاياهم التي أخطئوا بها. وبنوا هم لأنفسهم مرتفعات وأنصابًا وسواري على كل تل مرتفع
وتحت كل
شجرة خضراء. وكان أيضًا مأبونون في الأرض (عاهرون ذكور في محيط المعبد) فعلوا حسب كل
أرجاس الأمم (الملوك الأول ١٤: ٢٢–٢٤).
«لقد أوضح علماء التوراة منذ وقت مبكر أن مثل هذه الممارسات لم تكن شأنًا عرَضيًّا وممارسات
وثنية منعزلة، وإنما كانت جزءًا من طقوس متكاملة تهدف إلى طلب عون القوى السماوية من
أجل إحلال
الخصوبة في الأرض والرخاء بين الناس، وهي تتماثل مع طقوس الشعوب الأخرى المجاورة. وفي
الحقيقة فقد
أثبتت اللُّقى الأثرية المكتشَفة في منطقة يهوذا، مثل التماثيل الطينية الصغيرة، ومذابح
البخور،
وآنية التطهير الطقسي، ومناصب التقدمات، أن الممارسات الدينية هنا كانت متنوعة إلى حد
كبير، ولا
مركزيةً من الناحية الجغرافية، وبالتأكيد غير مقتصرة على عبادة الإله يهوه في معبد أورشليم.
«في يهوذا التي لم تكن تتمتع ببيروقراطية دولة متطورة، ولا بمؤسسات مدنية على المستوى
القومي،
كانت الطقوس الدينية موزعة على ساحتين، منسجمتين أحيانًا ومتجابهتين أحيانًا أخرى؛ الساحة
الأولى
كانت في معبد أورشليم الذي أعطتنا أسفار الكتاب أوصافًا غزيرة عنه عبر جميع المراحل،
ولكننا لا
نملك عنه شواهد أركيولوجية، أما الساحة الثانية فقد اشتملت على مناطق العشائر المتفرقة
في مناطقها
الريفية، حيث سادت طقوس تختلف في كثير من الأحيان عن طقوس المعبد. فهنا كانت الأضاحي
تُقدَّم في
المصلى الخاص بالمعسكر السكني للعائلة الموسعة، أو عند قبور الأسلاف، أو عند مذابح في
الهواء
الطلق، وهي التي يدعوها الكتاب بالمرتفعات … إن وجود هذه المرتفعات وغيرها من أشكال عبادة
الأسلاف
وعبادة الإله الخاص بالعائلة، لم تكن بمثابة ارتداد عن الإيمان القديم — كما يحاول محرر
سفر
الملوك أن يقوله لنا — وإنما كانت جزءًا من موروث مغرق في القدم لسكان مرتفعات يهوذا،
الذين عبدوا
الإله يهوه إلى جانب آلهة أخرى محلية أو مستوردة من المناطق المجاورة … هذه العبادات
المتأصلة لم
تكن وقفًا على المناطق الريفية، ولدينا شواهد من النص التوراتي، ومن المكتشفات الأثرية،
ما يؤكد بأن
عبادة آلهة أخرى إلى جانب يهوه كانت قائمة في أورشليم ذاتها حتى أواخر عصر المملكة.»
١
إن أول ما يطالعنا في المشهد الديني لفلسطين الكبرى، هو آلاف من التماثيل الأنثوية
الصغيرة
على هيئة جذع ورأس ونهدين عاريَين، وُجدت في كل موقع أثري تقريبًا، سواء في المعابد والمقامات
الدينية أم في بيوت الناس العاديين، ولم تكن أراضي المملكتين في المناطق الهضبية خالية
من هذه
التماثيل، بل العكس هو الصحيح؛ فلقد بلغ عدد القطع المكتشفة منها في أورشليم ومرتفعات
يهوذا، حتى
الآن، ثلاثة آلاف قطعة، وذلك في المستويات الآثارية العائدة للفترة ما بين القرن الثامن
والقرن
السادس قبل الميلاد؛ أي منذ نشوء المملكة حتى نهايتها (انظر الصور
٤ و
٩ و
١٠ في القسم
المصور).
عن هذه التماثيل ووظيفتها والشخصية الإلهية التي تمثلها، يقول الأركيولوجي الأمريكي
وليم ديفر
(الذي اقتبست منه مرارًا في معرض التعريف بالتوجهات التوراتية المحافظة) ما يلي:
«مع اكتشاف هذا الكم الهائل من التماثيل الصغيرة الجذعية، والتي تَجاوز عددها الثلاثة
آلاف في
منطقة يهوذا وحدها، فإن مهمتي كعالم آثار هي أن أفهمها في سياقها الزمني. وبما أننا لا
نصنفها في
زمرة الدمى العادية، فإني أعتقد بأنها تماثيل خصب أنثوية، وأنها تمثل الإلهة عشيرة التي
تعرف عنها
الكثير، سواء من التنقيبات الأثرية أو من النص التوراتي، ولكن هذه التمثيلات، مقارنةً
بأشباهها
التي وصلتنا من مواقع الثقافة الكنعانية، تبدو أكثر بساطة، كما أنها أكثر احتشامًا؛ بسبب
إظهارها
لمنطقة الصدر من دون المنطقة السفلى، وهي تعكس المفهوم الإسرائيلي عن الإلهة الأم … وبعد
أن أعمد
إلى تفسير هذه اللقى الأثرية من وجهة النظر الأركيولوجية والتاريخية، فإن الخطوة المنطقية
الثانية
هي إجراء المقارنة مع النص التوراتي … ولكن الأمر المحير هو أننا لا نعثر على أية عبارة
في النص
يمكن لها أن تدل على هذه التمثيلات الجذعية، فهل كان المحررون التوراتيون على علم بوجودها
أم لا؟
الأصوب لنا أن نقول بأنهم كانوا على علم بها، ولكن لماذا لم يذكروها بطريقة تسمح لنا
بالتعرف
عليها؟ الحقيقة هي أنني شخصيًّا لا أدري … إننا لا نعرف بالضبط ما الذي كان عليه معتقد
الإله يهوه
بالنسبة إلى الإسرائيلي العادي. ورغم أن النص التوراتي يقول لنا بأن معظم الإسرائيليين
كانوا
يعبدون يهوه وحده، إلا أننا نعرف الآن عدم صحة ذلك … إن مكتشفات الخمس عشرة سنة الأخيرة
قد أعطتنا
الكثير من المعلومات عن عبادات الإسرائيليين القدماء، ويبدو أننا يجب أن نأخذ عبادة الإلهة
عشيرة
الآن بجدية أكثر من الماضي.»
٢
تعطينا الوثائق الأركيولوجية والنصية مادة وافية عن هذه المعبودة الفلسطينية. فمن
ألواح مدينة
أوغاريت التي تعود إلى القرن الرابع عشر قبل الميلاد، نعرف أن عشيرة كانت أم الآلهة وإلهة
للحب،
وراعية لشئون الأسرة، ومعينة للأمهات في الحمل والولادة. كما كانت زوجة الإله الأعلى
إيل، وتدعى
أيضًا بالاسم إيلات، وهو الصيغة المؤنثة من الاسم إيل. تمثلها المنحوتات العاجية عارية
الصدر في
وضعية الوقوف وإلهان أقصر منها يرضعان من حليبها. كما تمثلها قطع زينة مصنوعة من صفائح
الذهب
المضغوط، بأسلوب نمطي مختصر لا يُظهر سوى الوجه والثديين، ومنطقة العانة التي تنبعث منها
سنبلة قمح
ترتفع حتى مفترق النهدين (انظر الشكل رقم
١١-١ أدناه والصورة رقم
٤-٢ في القسم المصور). وقد شاع هذا النوع من تمثيلات عشيرة حتى وصل
إلى يهوذا، ولدينا نماذج منه عُثر عليها بموقع تل العجول، خلال الألف الأول قبل الميلاد،
عُبدت
عشيرة في مدن الساحل الفينيقي، حيث صارت زوجة للإله بعل، ودُعيت بالاسم عشتارتا وبالاسم
تانيت
أيضًا. ويظهر الاسم تانيت بشكل خاص لدى فينيقيي المستعمرات المتوسطية في قرطاجة وغيرها،
والذين
استخدموا في الإشارة إليها رمزها الذي يشبه الصليب المصري الدال على رمز الحياة (الصورة
رقم
٥-١ في القسم المصور)، كما عُبدت لدى سكان مدن الساحل الفلستي الذين
دعوها عشيرة، ودعوها أيضًا ديركيتو وتانيت، واستخدموا في الإشارة إليها نفس الرمز الفينيقي.
أما في
يهوذا والسامرة فقد دعيت بالاسم «عشتروت» وبالاسم «عشيرة» الذي حولته الترجمات العربية
إلى
«سارية».
نفهم من كتاب التوراة أن سكان المملكتين قد عبدوا الإلهة عشيرة من خلال ثلاثة تجسيدات
كانت
ترمز إلى حضورها بينهم وفي معابدهم. في التجسيد الأول كانت عشيرة حاضرة من خلال صورها
وتماثيلها
المنصوبة في المعابد والمنازل، فقد صنعت أم الملك آسا ملك يهوذا تمثالًا لعشيرة ووضعته
في محرابها
المنزلي، على ما يورده نص سفر الملوك الأول (١٥: ١٣). أما الملك منسي فقد صنع تمثالًا
لعشيرة ونصبه
في هيكل أورشليم؛ على ما يورده نص سفر الملوك الثاني (٢١: ٧). وفي التجسيد الثاني كانت
حاضرة من
خلال شجرة خضراء تُزرع قرب المذبح، وخصوصًا في المقامات المقدسة المبنية في الهواء الطلق؛
على ما
يورده نص سفر التثنية (١٦: ٢١) ونص سفر القضاة (٦: ٢٥). هذه الشجرة المقدسة هي التي أشار
إليها
الأنبياء إشعيا وإرميا وحزقيال في معرض تنديدهم بطقوس أهل المملكتين التي كانت تجري تحت
كل شجرة
خضراء، على حد تعبيرهم (إشعيا ٥٧: ٥، وإرميا ٢: ٢٠، وحزقيا ٦: ١٣). أما في التجسيد الثالث،
فقد
كانت عشيرة حاضرة من خلال جذع شجرة مقتطع يُنصب في المعبد قرب المذبح. وقد استخدم النص
العبري
للتوراة الاسم «عشتروت» في الإشارة إلى شخصية الإلهة، بينما استخدم الاسم «عشيرة» في
الإشارة إلى
جذع الشجرة التي يرمز إليها، وجمعها على صيغة «عشيرتيم»، في الوقت الذي حولت فيه الترجمات
العربية
الاسم عشيرة إلى سارية وجمعتها على صيغة سواري.
على أن ما لم يقله لنا محررو التوراة، الذين كانوا يؤسسون لوحدانية عبادة الإله الفلسطيني
القديم يهوه، هو أن عشيرة لم تكن تُعبد وحدها في المملكتين، بل مع زوجها الذي هو يهوه
بالذات، قبل
أن تتبدل صورته المشرفة كإله للخصب، ويغدو أقرب إلى الكائنات الشيطانية الظلامية في أسفار
التوراة. ومصدرنا عن هذه المعلومة هو عدد من النصوص القصيرة التي وصلتنا من أراضي يهوذا،
وعرفنا
منها أن الإله يهوه كان معبودًا رئيسيًّا في كلٍّ من السامرة ويهوذا، إلى جانب عدد آخر
من الآلهة
الكنعانية، وربما كان رئيسًا للبانثيون في معتقدات الملكتين. هذه النصوص القصيرة لا تكفي
مؤرخ
الأديان لرسم صورة واضحة عن هذا الإله الفلسطيني القديم، ولكن قراءة ما وراء السطور،
مقرونةً
بتحليل الأعمال التشكيلية المرافقة للنصوص، تكفي للاستنتاج بأن يهوه يهوذا والسامرة،
لم يكن إلا
الصيغة المحلية من الإله الكنعاني الساحلي بعل، وأن الزوجين يهوه وعشيرة هما قطبا ديانة
الخصب في
مناطق فلسطين الهضبية الداخلية.
في موقع خربة الكوم على مسافة ثمانية أميال إلى الشرق من مدينة حبرون (الخليل)، تم
مؤخرًا
اكتشاف قبر على شكل غرفة مبنية بالحجر نُقش على جدارها الجملة التالية: «لتحل عليك بركة
الإله
يهوه وعشيرته.»
٣ وتحت الجملة، هناك كف ليد إنسانية محفور على الصخر (انظر الصورة رقم
٥ في القسم
المصور). وفي موقع عجرود بسيناء الشمالية تم اكتشاف محطة قوافل وبها معبد صغير عُثر فيه
على نقوش
متفرقة تذكر أسماء الآلهة إيل وبعل ويهوه. كما ورد اسم يهوه مقترنًا بزوجته عشيرة منقوشًا
على
جرار فخارية ضمن نصوص قصيرة نمطية، يقول أحدها: «لتحل عليك بركة يهوه، إله السامرة، وعشيرته.»
ويقول آخر: «لتحل عليك بركة يهوه إله تيمن، وعشيرته.» والاسم تيمن يرد في التوراة للدلالة
على
المناطق الصحراوية إلى الجنوب من يهوذا بشكل عام. ويقول ثالث: «قال أماريو لسيدي … فلتحل
عليك
بركة يهوه وعشيرته، ليباركك يهوه ويحفظك ويكون إلى جانبك.»
٤ وقد أرجع علماء الخط السامي القديم هذه النقوشَ إلى القرن الثامن قبل الميلاد.
تحت النقش الذي يذكر يهوه إله السامرة وزوجته عشيرة، هنالك رسم يصور ثلاث شخصيات،
رجلان في
المقدمة بقضيبين ذكريَّين ضخمين يشبكان ذراعيهما إلى بعضهما، وامرأة في خلفية اللوحة
تجلس على كرسي
وتعزف على آلة موسيقية، وعلى الجهة الخلفية من الجرة لدينا رسم آخر يصور شجرة الحياة،
رمز ألوهة
الخصب المشرقية، يحملها أسد، وعن يمين ويسار الشجرة تيسان يقصدانها ويأكلان من أوراقها
(انظر
الشكل رقم
١١-٢ أدناه). فيما يتعلق بالرسم الأول ذي الشخوص الثلاثة،
رأى بعض البحاثة أن الشخصية الواقفة على اليسار تمثل الإله يهوه، بينما تمثل المرأة العازفة
على
القيثارة الإلهة عشيرة، ولكنهم احتاروا في تفسير الشخصية الذكرية الواقفة إلى اليمين،
خصوصًا
وأنها تحمل إلى جانب القضيب الذكري الضخم صدرًا أنثويًّا أشار إليه الرسام بدائرتين صغيرتين
على
غرار الدائرتين الموجودتين على صدر الشخصية الأنثوية الخلفية،
٥ ولكن فريقًا آخر من الباحثين يعتقد أن الشخصية التي فُسرت على أنها يهوه هي في الحقيقة
الإله المصري بيس، أما الشخصية الجالسة فليست سوى عازفة قيثارة عادية. من هنا، فإن الرسم
الموجود
تحت النقش الذي يذكر يهوه وعشيرة لا علاقة له بالنص المكتوب.
على أن كلا الفريقين متفق بخصوص الرسم الآخر المرسوم على الجهة الخلفية للجرة الفخارية.
فالشجرة التي يحملها أسد ويقصدها تيسان؛ هي الإلهة عشيرة التي نراها في أعمال تشكيلية
كنعانية أخرى
عارية ومنتصبة فوق الأسد؛ حيوانها المقدس. وهذا التكوين التشكيلي الذي يرمز إلى ألوهة
الخصب معروف
في جميع حضارات الشرق القديم، ولدينا عنه مئات الأمثلة من سومر وبابل وسورية، ومِن عدد
لا بأس به
من المواقع الفلسطينية. فقد وصلتنا من لخيش جرة مشابهة لجرة موقع عجرود، تم العثور عليها
بين
أنقاض معبد ملاصق لسور المدينة. وقد صور الرسام على كتف الجرة شريط أشكال يكرر التكوين
التشكيلي
الذي يمثل شجرة الحياة، وعن يمينها ويسارها تيسان، وحُفر فوق الشريط كتابة بالقلم الفينيقي
نفسه
يقول فيها: «مِن المدعو متان، تقدمة إلى ربتي إيلات.» والاسم إيلات على ما قدمنا سابقًا
هو أحد
أسماء الإلهة عشيرة.
وفي الحقيقة، فإني أميل إلى الوقوف مع أصحاب الرأي الأول الذي يرى في الشخصية الذكرية
اليسارية تمثيلًا ليهوه، وفي الشخصية الأنثوية الخلفية تمثيلًا لعشيرة، فالرسام قد خط
بريشته هذه
الأشكال الثلاثة مباشرة تحت السطر المكتوب، كما نلاحظ من الشكل رقم
١١-١ سابقًا، حتى إن الكلمات الأخيرة من نصه قد تداخلت مع غطاء رأس
يهوه الذي يأخذ هيئة ريش ثلاث. وإني لا أرى مبررًا لأن يكتب صاحب الجرة شيئًا ثم يرسم
تحته
أشكالًا لا علاقة لها بما كتب، خصوصًا وأن الجرة هي من النوع النذري، وكل كلمة أو شكل
فيها يجب أن
يؤدي معنًى معينًا ومحددًا.
ولدينا عدد من النصوص المهمة بالنسبة لموضوعنا هنا، تم العثور عليها في جزيرة الفيَلة
Elephantine، وهي جزيرة يشكلها نهر النيل بمصر العليا، سكنتها
جالية من أهل يهوذا منذ مطلع القرن السادس قبل الميلاد، عمِل رجالها كمرتزقة عند الجيش
المصري.
والنصوص مكتوبة باللغة والقلم الآراميَّين على ورق البردي، وهي تحتوي على عدد من الموضوعات،
مثل صكوك
الزواج والعقود التجارية والرسائل الشخصية وما إليها. ونعرف من بعض برديات المراسلات
أن الجالية
كانت قد شيدت معبدًا للإله يهوه،
٦ ولكن المعبد قد تهدم وهناك حاجة ماسة لإعادة بنائه. ولكن يهوه هذه الجالية، التي
ارتحلت من يهوذا خلال الهزيع الأخير من حياة المملكة، لم يكن معبودًا وحيدًا، والبرديات
تذكر
أسماء آلهة كنعانية أخرى في معرض القسم، أو الإشهاد على العقود، أو استجلاب البركات.
ومن هذه
الآلهة هناك الإلهة عنات المعروفة لنا جيدًا من نصوص أوغاريت كزوجة للإله بعل، ولكنها
ترِدُ في
برديات جزيرة الفيلة بصيغة عنات ياهو، وهناك بيث إيل، وعنات بيث إيل، وإيشيم، وإيشيم
بيث إيل،
وحِرم بيث إيل. وكان في الجزيرة معبد كبير آخر يضاهي معبد ياهو، مكرس لإله اسمه خنوب.
ونفهم من
المراسلات التي جرت بين رئيس الجالية، المدعو جدانية وأورشليم، أن كاهن معبد خنوب وكاهن
معبد ياهو
كانا على خصام دائم، وأن كاهن معبد خنوب قد استعان بالمصريين وهدم معبد ياهو. ولكن رغم
هذا الخلاف
بين الكاهنَين فإن ما نقرؤه في برديات الفيلة يشير إلى أن الإلهين في الجزيرة كانا يُعبدان
ويُقدَّسان
على قَدم المساواة، ومنها الرسالة التالية: «إلى سيدي ميكا ياهو، من خادمك جيديل، أتمنى
لك السعادة
والهناء، وأدعو لك بركة الإلهين ياهو وخنوب.»
٧
وكما أننا لا نعثر في الوثائق الكتابية للمملكتين على أثر للمعتقد التوراتي، فإننا
لا نعثر
على أثر للمعتقدات والطقوس التوراتية في معابد المملكتين التي تم اكتشافها حتى الآن،
وجميعها مكرس
للآلهة الفلسطينية التقليدية. فإضافة إلى المركزين الدينيين في موقعي عجرود وخربة الكوم،
اللذين
قدما لنا النقوش الكتابية، لدينا مجموعة من المراكز الدينية التي اكتُشفت خلال العقود
القليلة
الأخيرة من القرن العشرين، ومعظمها ظهر في مناطق يهوذا إلى الجنوب من مدينة حبرون، فيما
بين موقع
عراد وموقع بئر السبع، وهي عبارة عن معابد كنعانية تقليدية لا علاقة لها بمعتقد وطقوس
التوراة.
ويبين الرسم التخطيطي الموضح في الشكل رقم
١١-٣ نموذجًا من هذه المعابد،
وهو من موقع عين حصيفة.
على أن أهم وأخطر مركز ديني كنعاني من فترة مملكة يهوذا قد تم اكتشافه في أورشليم
ذاتها خلال
حملة تنقيبات كاثلين كينيون (١٩٦٠–١٩٦٧م)، وأرجعت المنقِّبة تاريخه إلى أواخر القرن الثامن
قبل
الميلاد، أي إلى فترة ظهور أورشليم كعاصمة إقليمية قوية. يقع هذا المقام على مسافة ٣٠٠
م من
الجدار المفترض لهيكل سليمان، وهو يلاصق السور الشرقي اليبوسي من جهة الخارج. إن ما تبقى
من هذا
المعبد يجعل منه أكمل المعابد التي تم اكتشافها حتى الآن من عصر المملكتين. فهنالك سور
ضخم يحيط
بالمعبد، وهنالك قدس الأقداس الذي يتصدره عمودا الماصيبوث رمز ألوهة الخصب الكنعانية،
وهنالك
المذبح. وفي كهف صغير مخصص لحفظ التقدمات النذرية، تم التعرف على عدد كبير من التماثيل
الجذعية
العشتارية التي وصفناها آنفًا، إضافة إلى تماثيل حيوانية صغيرة، أكثرها يمثل خيولًا تحمل
على
رأسها قرص الشمس.
٨ ويعتقد بعض الباحثين أن هذه الخيول منذورة للإله يهوه الكنعاني الذي كان أهل يهوذا
يرون في قرص الشمس رمزًا له، شأنه في ذلك شأن الإله بعل وكثيرٍ من ألوهات الخصب المشرقية
التي
ارتبطت بالشمس.
٩
كل هذا يدعونا إلى القول بأن هيكل سليمان المدعو بالهيكل الأول، لم يكن بدوره إلا
معبدًا
كنعانيًّا مكرسًا لعبادة الإله الفلسطيني يهوه وزوجته عشيرة. فإلى جانب ما أوردناه سابقًا
من
انتماء الهيكل إلى النمط المعماري لمعابد الخصب السورية، فإن مقاطع حية من سفر حزقيال
تعطينا صورة
عن طقوس الخصب التي كانت تقام فيه خلال أواخر عصر المملكة. فهنالك تمثال ضخم لإله، لا
يذكر لنا
النص اسمه، منصوب عند الجهة الشمالية من باب المذبح (حزقيال ٨: ٥)، وعلى جدران قدس الأقداس
من
الداخل صور وتماثيل، وشيوخ بني إسرائيل يقدمون بخورهم أمامها (حزقيال ٨: ٩–١١)، وعند
باب الهيكل
الشمالي هنالك نسوة جالسات يبكين على موت إله الخصب (حزقيال ٨: ١٤- ١٥). وبين الرواق
الداخلي
والمذبح هنالك خمسة وعشرون كاهنًا يسجدون لشروق الشمس (حزقيال ٨: ١٦).
لقد قلت في بداية هذا الفصل بأن مؤرخ الأديان لا يستطيع قول شيء بخصوص المعتقد الديني
لثقافة
منقطعة عنا زمنيًّا، إذا لم يترك أهل تلك الثقافة مخلفات تدل على معتقداتهم وطقوسهم.
ولقد ترك لنا
أهل السامرة ويهوذا ما يكفي للتعرف على حياتهم الروحية، وما تركوه لنا عبر أربعة قرون
من حياة
المملكتين يدل على استمرارية ثقافية ودينية غير منقطعة مع الثقافة الفلسطينية الكنعانية
في عصر
الحديد الأول وما وراءه. أما ما يقوله لنا محررو الأسفار التوراتية بخصوص الحياة الدينية
في
المملكتين، فليس إلا إسقاطات لاحقة لا تفيدنا في التعرف على الماضي بقدر ما تفيدنا في
فَهم
التوجهات الفكرية والنفسية للقائمين على عملية صياغة الأيديولوجيا التوراتية وهي في طور
التشكل.
إن التاريخ الحقيقي للسامرة ويهوذا هو ملك للتاريخ الثقافي والسياسي السوري الفلسطيني،
أما
إسرائيل ويهوذا التوراتيتان فليستا إلا نوعًا من التهويمات الأدبية التي تحكم عملية السرد
التوراتي.
إلى هذه النقطة من دراستنا، نحن لم نستطع العثور على أثر ثقافي أو كيان سياسي لليهود
في
فلسطين. في الفصول القادمة، سوف ننتقل إلى ما يدعوه المؤرخون بفترة الهيكل الثاني، وهي
الفترة
التي شهدت ولادة وتشكُّل الدين اليهودي، واستكمال تحرير الأسفار المقدسة على يد عدد كبير
من كهنة
أورشليم. ولكننا سوف تتوقف أولًا عند ما يشبه خاتمةً للقسم الأول من دراستنا.