أزمة التاريخ التوراتي
تعتمد الهوية اليهودية بالدرجة الأولى على التاريخ، فإله التوراة إله فاعل في التاريخ، يعمل على توجيهه منذ بداية العالم إلى اليوم الأخير، وفق خطة محكمة هدفها النهائي نصر شعبه على بقية شعوب العالم، وتأسيس مملكته التي يحكمها بشكل مباشر على الأرض، ويكون فيها شعب إسرائيل أمة كهنة، أما شعوب الأرض قاطبة فتصير عبيدًا وإماءً في خدمة شعب يهوه. وهذا ما يوضحه على خير وجه النبيُّ إشعيا عندما يقول: «ويكون في ذلك اليوم أن السيد يعيد يده ثانية ليقتني بقية شعبه التي بقيت من آشور ومن مصر ومن … إلخ. ويرفع راية للأمم، ويجمع مَنْفيي إسرائيل، ويضم مُشتَّتي يهوذا من أربعة أطراف الأرض … لأن الرب سيرحم يعقوب، ويختار أيضًا إسرائيل ويريحهم في أرضهم، فتقترن بهم الغرباء وينضمون إلى بيت يعقوب، ويأخذهم شعوب ويأتون بهم إلى موضعهم، ويمتلكهم بيت إسرائيل في أرض الرب عبيدًا وإماءً، ويَسْبون الذين سبَوْهم ويتسلطون على ظالميهم» إشعيا: (١١: ١١-١٢، ١٤: ١-٢).
تكتسب كل مراحل الرواية التوراتية معناها من هذه الخطة التاريخية؛ ذلك أن كل معاناة شعب التوراة منذ الخروج من مصر، إلى دخول كنعان، فالعصرِ الذهبي لمملكة داود وسليمان، فالانقسام، ثم سقوط السامرة وسقوط أورشليم، والسبي والعودة؛ ليست إلا سلسلة مراحل تطهيرية، من شأنها إعداد شعب يهوه للمهمة المعهودة إليه، سواء رغب بها أم لم يرغب، من هنا يأتي الإصرار على المصداقية التاريخية للرواية التوراتية بجميع تفاصيلها؛ وذلك السعي الأركيولوجي المحموم لربط هذه الرواية بجغرافيتها المفترضة على أرض فلسطين؛ لأن الحدث التاريخي لا يجري في فراغ، بل على مسرح جغرافي محدد وواضح. ولكن من هنا أيضًا جاءت أزمة الهوية اليهودية التي ما إن تم الإحساس بها كاملة في القرن العشرين، من خلال المزاوجة بين امتلاك ناصية التاريخ وامتلاك الأرض التي جرى عليها ذلك التاريخ، حتى تعرضت للزعزعة، بعد أن أجهز علم التاريخ وعلم الآثار على تاريخية الحدث التوراتي، وفكَّ ارتباطه بالأرض المزعومة للرواية التوراتية. فإذا كان تاريخ إسرائيل التوراتية ليس إلا أخيولة أدبية، فأي معنًى إذن للأرض التي هامت فوقها تلك الأخيولة؟ وأين الهوية اليهودية أمام الإحساس المتزايد بفقدان التاريخ وما يترتب عليه من خسارة الجغرافيا؟
ولكن أحدًا من المشاركين في الندوة لم يجرؤ على تبنِّي أفكار أولبرايت وتلامذته بهذا الخصوص، في الوقت الذي تصدى فيه الجانب الراديكالي إلى دحضها. فما ورد في وثائق نوزي من قواعد وأعراف اجتماعية لم يكن وقفًا على عصر البرونز الوسيط، ولا على منطقة بعينها، بل نجد ما يشبهها في الألف الأول قبل الميلاد وفي مناطق متنوعة من بلاد المشرق القديم. أما بخصوص أسماء الآباء فهي أسماء سامية شائعة منذ عصر إيبلا في أواسط الألف الثالث قبل الميلاد، هبوطًا إلى الألف الأول قبل الميلاد. وقد اختتم الباحث بنيامين سومر المناقشة بقوله: «إن الصلة في الواقع مفقودة بين أحداث سفر التكوين والفترة التي من المفترض أن السِّفر يعمل على وصفها.» وبذلك تم تعليق عصر الآباء في فضاء تاريخي غير محدد.
عندما انتقل النقاش إلى موضوع بني إسرائيل في مصر، والخروج منها بقيادة موسى، لم يَدَّعِ أحد من المشاركين في الندوة بأن لديه أية بينات تاريخية أو أركيولوجية على وجود العبرانيين في مصر، ولم يجادل أحد في تاريخية أحداث الخروج أو يقدم أية شواهد على صحة أي عنصر من عناصر القصة التوراتية. وبذلك تم تجاوز هذه النقطة بسرعة ليتسع مجال النقاش بعد ذلك حول الفترة الانتقالية من عصر البرونز الأخير إلى عصر الحديد، وهي الفترة المفترضة لدخول كنعان واستقرار القبائل العبرانية فيها. وهنا تم الاتفاق بين الجميع على استبعاد نظرية الاقتحام العسكري بقيادة يشوع، بعد أن خيبت التنقيبات الأثرية أنصار هذه النظرية. ففيما عدا موقع حاصور الذي تظهر في الطبقة الأثرية العائدة إلى الفترة الانتقالية آثارُ دمار شامل، فإن بقية المواقع التي أعلن محرر سفر يشوع مسئولية الإسرائيليين عن تدميرها، إما أنها قد دُمرت قبل مطلع القرن الثاني عشر بوقت طويل، ولم تكن مسكونة خلال الفترة المفترضة لدخول يشوع، أو أنها كانت حية تُرزَق ولم تسمع بحملة يشوع الصاعقة. وقد ختم الباحث بنيامين سومر هذه الحلقة بقوله: «إن نظرية الاقتحام العسكري لأرض فلسطين من قِبَل القبائل الموحدة بقيادة يشوع بن نون، قد عانت الكثير من النقد العلمي الجدي، ولم يبقَ سوى قلة من الباحثين في موقع الدفاع عنها.»
وأخيرًا، اختتمت الندوة بأكثر الجدل حرارةً حول فتره تدوين الأسفار الخمسة والأسفار التاريخية، فهل كُتبت هذه الأسفار قبل السبْي البابلي وخلاله، على ما يقول به الاتجاه المحافظ، أم أنها نتاج الفترة الفارسية (٥٣٩–٣٣٣ق.م.)، والفترة الهيلينستية (٣٣٣-٦٤ق.م.)، كما يقول الاتجاه الراديكالي؟ ولكن رغم حرارة النقاش، فإن أحدًا من الباحثين المحافظين لم يدَّعِ أن الأسفار الخمسة، أو حتى يشوع والقضاة، قد كُتبت خلال وقت قريب من أحداثها ولا حتى بعد ذلك بقرنين من الزمان، وهذا ما ضيَّق شقة الخلاف إلى حد كبير، وجعل الفترة المتنازع حولها قصيرة مقارنةً مع ادعاءات المتطرفين من مدرسة أولبرايت، والذين جادلوا سابقًا في أن الأسفار التوراتية من التكوين وحتى سفر الملوك الأول، قد كُتبت في بلاط المملكة الموحدة.
على أن الباحثين الراديكاليين الذين عملوا على التفريق الواضح بين إسرائيل التوراتية وإسرائيل التاريخية، قد جعلوا الفرصة متاحة من أجل إعادة القيمة الدينية للنص التوراتي؛ وذلك من خلال إظهار وجهه الحقيقي كنص أدبي يُعبر عن الاهتمامات الأيديولوجية لمدوِّنيه الذين عاشوا بعد قرون عدة من الفترات التي تصدَّوا لرواية أحداثها. فالغاية الحقيقية للمرويات التوراتية، والحالة هذه، تكمن في شكلها الأدبي والفلسفي واللاهوتي، لا في مدى تطابقها أو تعارضها مع التاريخ.
ولقد شكلت تلك الجماعات في النهاية جزءًا من سكان مملكتَي إسرائيل ويهوذا، إلى جانب جماعات أخرى حضرية جاءت من خارج المناطق الهضبية، والنص التوراتي نفسه يذكر في أكثر من موضع من سِفر القضاة أن الإسرائيليين والكنعانيين قد تشاركوا أماكن السكن في جميع مناطقهم وتزاوجوا فيما بينهم. ولكن بينما ينظر المحرر التوراتي إلى الإسرائيليين والكنعانيين كشريحتين متمايزتين بشكل حاد، فإن علم الآثار لم يستطع تلمُّس مثل هذا التمايز.
إن الفجوة بين إسرائيل علم الآثار وإسرائيل التوراتية، هي من السَّعة بحيث تضعنا أمام مجتمعَين متباينَين كليًّا. وفيما عدا الاسم والمكان الجغرافي المفترض، فإن هذين المجتمعين لا يجمع بينهما جامع. إن إسرائيل التوراتية هي تصور أدبي خيالي، ولكنها مع ذلك تتمتع بإطار مكاني جغرافي واقعي، شأنها في ذلك شأن أي تصور أدبي خيالي آخر، وشأن العديد من الحكايا التوراتية التي صنفها النقد الحديث في زمرة الأدب الخيالي، فحكاية راموث تجري في مؤاب وبيت لحم، وحكاية يونس تجري في يافا ونينوى، وحكاية إستير تجري في بلاط الملك الفارسي. ولكن البحث الأكاديمي لا يأخذ هذه الحكايا مأخذ الجد رغم إطارها الجغرافي الواقعي، مثلما لا يأخذ حكايا ماري الإنكليزية والملك أرثر وفرسان المائدة المستديرة، التي تتخذ من إنكلترا مسرحًا لها، ولا يذهب حد البحث عن هؤلاء في التاريخ الإنكليزي؛ ذلك أن مجتمعًا يخلقه الخيال الأدبي غالبًا ما يتخذ مكانًا له في مكان جغرافي لمجتمع حقيقي.
إن الإسرائيليين في عصر الحديد، كما صرنا نعرفهم من علم الآثار، لن يستطيعوا التعرف على أنفسهم في الصورة التي رسمها لهم النص التوراتي. ونحن في الحقيقة لا نستطيع التعرف عليهم أيضًا، وعلى ذكرياتهم التاريخية وعباداتهم وعاداتهم الشعبية، من خلال المرويات التوراتية.
لقد اقتصرتُ حتى الآن على مناقشة إسرائيل التوراتية كما تبدو في الأسفار الخمسة وفي سِفرَي يشوع والقضاة، ولكن ماذا عن التاريخ الذي تسجله أسفار صموئيل والملوك؟ هل يعرض النص التوراتي هنا أحداثًا أكثر واقعية، خصوصًا وأنه يورد بعض الأحداث التي تتقاطع مع المصادر الخارجية، وبعضها مما لا يتقاطع؟
لنأخذ على سبيل المثال نقش تل دان الذي اكتُشف مؤخرًا مكتوبًا باللغة الآرامية، وأُرجع تاريخه إلى القرن الثامن قبل الميلاد. لقد قرأ البعض في هذا النص جملة (ب ي ت د و د)، وفسرها على أنها بيت داود، ورأوا فيها إشارة إلى أسرة داود الحاكمة في أورشليم، ثم قام من يجادل في هذه القراءة ويفسر الجملة بشكل آخر. ولكني شخصيًّا لا أعير أهمية لصحة تلك القراءة أو خطئها، فلربما يثبُت صِدقها أو خطؤها في المستقبل، ولكن دعونا نوافق جدلًا على صحتها، فما الذي يعنيه ذلك؟ هل يعني ذلك وجود شخص واقعي يشبه الشخصية التوراتية لداود الذي حكم من أورشليم على مملكة مترامية الأطراف؟ بالكاد. ثم ماذا عن أورشليم التي يُفترض أن داود قد أقام فيها وحكم منها؟ إن أي مراقب موضوعي للجدل الأكاديمي الدائر حول أورشليم القديمة، يدرك بأننا لا نملك أية بينة على وجود مركز مديني في موقع أورشليم القرن العاشر، يمكن أن يصلح مقرًّا لحكم ملك مثل داود الموصوف في التوراة. إن الحملة التي ما زال البعض يقودها اليوم من أجل الدفاع عن تاريخية المملكة الموحدة (وبالمناسبة، فإن النص التوراتي لا يذكر لنا اسم تلك المملكة)، لَتُذكِّرني من وجوه عدة بتلك الحملة التي قادها آخرون منذ سنوات ليست بالبعيدة من أجل الدفاع عن تاريخية إبراهيم وشخصيات عصر الآباء، فهل ستكون هذه الحملة أنجح من سابقتها؟ سوف نرى. ولكني أود أن أذكِّر بأن الإثباتات التي دفعت بإبراهيم إلى عالم الخيال الأدبي، هي نفسها التي تُستخدم اليوم ضد داود.
وباختصار، فإن نُقاد التوراة يتحققون الآن أكثر فأكثر من عدم إمكانية التوفيق على أي صعيد بين إسرائيل التوراتية وإسرائيل التاريخية. ولكن المسألة بالنسبة لأولئك الذين يعتقدون بأن قيمة الكتاب المقدس تكمن في تاريخيته، ليست علمية بقدر ما هي لاهوتية وسياسية، وعلماء التوراة ينتمون إلى منظومة بحثية تخضع فيها الآراء العلمية لضغوط جماعات تتبنَّى وجهات نظر ومواقف دينية وسياسية.
على أية حال، فإن علماء الآثار والنقوش القديمة، والأنتروبولوجيين، هم الآن أحرار في نشاطهم العلمي بعيدًا عن شبح التوراة الذي كان يَهيم فوق رءوسهم. ومن جهة أخرى، فإن علماء التوراة يستطيعون التعامل مع مسألة متى ولماذا تم اختلاق إسرائيل التوراتية وتاريخها، مع الإدراك التام بأن المرويات التوراتية، في جُلِّها، لم تدوَّن من أجل رواية التاريخ بالطريقة التي نفهم بها هذه العملية اليوم ونمارسها؛ أي إعادة بناء الماضي على أسس نقدية وموضوعية وبأدوات بحث علمية. إن مثل هذه العملية لم تكن تحمل فائدة تُرجى، أو معنًى مباشرًا بالنسبة لمجتمع زراعي قديم (كمجتمع أورشليم ومقاطعتها الصغيرة في فترة الهيكل الثاني). وهذا ما يدفعنا إلى التساؤل عن وظيفة تلك المرويات، وعمن أعطاها المشروعية، وعمن قرأها، ولمن تم توجيه فحواها، وأية مصالح واهتمامات خدمت.
إنني لا أدعو إلى قطع الصلة بين علم الآثار وعلم التوراة، فإسرائيل التوراتية هي، بعد كل شيء، نتاج أيديولوجي لمجتمع تاريخي (مقاطعة اليهودية في العصر الفارسي)، ونحن نحتاج إلى تاريخ موثق للمجتمع والدين الإسرائيلي واليهودي، من أجل فَهْم الأدبيات التوراتية. ومن ناحيتهم، فإن علماء التوراة يستطيعون من جانبهم المساهمة في توضيح السياق الذي تكونت فيه إسرائيل التوراتية؛ وذلك من خلال التحليل الأدبي والأيديولوجي للنص.»