أورشليم في العصر الفارسي
في حملته الأولى على أورشليم عام ٥٩٧ق.م.، أزاح نبوخذ نصر البابلي ملك يهوذا المدعو يهوياكين عن العرش، وأحل محله عمه صدقيا، وأخذ منه جزية كبيرة حملها إلى بابل. لا يذكر لنا نص نبوخذ نصر المتعلق بهذه الحملة شيئًا عن اقتياد مَسْبيين من يهوذا، ولكن النص التوراتي في سفر الملوك الثاني (٢٤: ١٤) يذكر أن عدد المسبيين في هذه الحملة قد بلغ عشرة آلاف، إضافة إلى الحرفيين المهرة والأقيان. في حملته الثانية عام ٥٨٧ق.م.، دمر نبوخذ نصر هيكل أورشليم وأسوارها، وأضرم النار في بيوتهم، ورغم أننا لا نملك نصًّا بابليًّا عن هذه الحملة، إلا أن التنقيبات الأثرية تؤكدها. أما النص التوراتي في سِفر الملوك الثاني فيتحدث مرة أخرى عن سبي واسع لأهل أورشليم، ولكن من غير إعطائنا رقمًا محددًا عن عدد المسببين، بل يكتفي بالقول بأن قائد الجيش البابلي قد: «أحرق بيت الرب وبيت الملك وكل بيوت أورشليم، وكل بيوت العظماء أحرقها بالنار، وجميع أسوار أورشليم مستديرًا هدمها. وبقية الشعب الذين بقوا في المدينة، والهاربون الذين هربوا إلى ملك بابل، وبقية الجمهور، سباهم نبوزردان، ولكنه أبقى من مساكين الأرض كرامين وفلاحين» (٢٥: ٨–١١).
ومما يزيد في غموض المعلومات التوراتية حول السبي وعدد المسبيين، عدم اتفاق محرر سفر إرميا ومحرر أخبار الأيام الثاني، مع ما أورده محرر سفر الملوك الثاني؛ فسفر إرميا يقول لنا إن عدد المسبيين في الحملة الأولى قد بلغ ثلاثة آلاف مسبي، وفي الحملة الثانية ثمانمائة، وهناك حوالي سبعمائة مسبي بعد القلاقل التي نجمت عن اغتيال الوالي جدليا، أي ما مجموعه أربعة آلاف وخمسمائة نفس (إرميا ٥٢: ٢٨–٣٠). أما سفر أخبار الأيام الثاني، فلا يذكر شيئًا عن سبيٍ جرى في الحملة الأولى، ثم لا ينص على رقم محدد في الحملة الثانية، بل يكتفي بالقول: «وسبى ملك الكلدانيين الذين بقوا من السيف إلى بابل، فكانوا له عبيدًا إلى أن ملكت مملكة فارس» (أخبار الأيام الثاني ٣٦: ٢٠).
أمام هذه المعلومات التوراتية المتضاربة، وعدم تقاطعها مع المصادر الخارجية، لا نستطيع سوى الخروج باستنتاجات مبنية على التوفيق بين الأخبار التوراتية التي ذكرت أرقامًا عن المسبيين، وإهمال الأخبار التي تفادت ذكر الأرقام، فسفر الملوك الثاني (٢٤: ١٤)، يقول بأن عدد المسبيين في الحملة البابلية الأولى بلغ عشرة آلاف مسبي، وسفر إرميا (٥٢: ٢٨–٣٠) يذكر رقمًا إجماليًّا مقداره أربعة آلاف وخمسمائة مسبي في الحملة الأولى والتالية، إضافة إلى الحملة الصغيرة التأديبية التي تلت مقتل الوالي جدليا. وهذا يعني، في رأينا، أن الحد الأدنى للمَسبيين لم يقل عن ٤٥٠٠، والحد الأعلى لم يتجاوز بكثيرٍ العشرة آلاف. وقد تم اختيار هؤلاء المسبيين من أفضل جنود وضباط القطعات العسكرية التي استسلمت للجيش البابلي، ومن بين أفضل الحرفيين والكتبة المتعلمين. أما الغالبية العظمى من أهل يهوذا، فقد تُركت لتتابع حياتها الاعتيادية، وعيَّن البابليون عليهم واليًا منهم يدعى جدليا، ليدير شئونهم ويعمل على تأدية الجزية إلى بابل بانتظام في كل سنة. وبذلك تحولت مملكة يهوذا إلى ولاية بابلية، لا نعرف بالضبط حدودها، فلربما اشتملت على جميع أراضي المرتفعات، ولربما أيضًا تم تقسيمها إلى ولايتين؛ واحدة في الشمال ومركزها بلدة المصفاة، وأخرى في الجنوب ومركزها مدينة حبرون.
اتخذ جدليا من بلدة المصفاة قرب أورشليم مقرًّا لإدارته، وراح يحثُّ السكان على متابعة حياتهم الطبيعية، فاطمأن الهاربون الذين لجئوا أيام الحرب مع أسرهم إلى مناطق عبر الأردن، وعادوا إلى أراضيهم، فزرعوا وحصدوا وجمعوا خمرًا وتينًا وزيتًا كثيرًا، كما التحق النبي إرميا بجدليا في المصفاة، بعد أن حرره البابليون من سجنه الذي ألقاه فيه الملك صدقيا بسبب معارضته العلنية له والدعوة إلى عدم مقاومة بابل (سفر إرميا ٤٠). وكان بعد فترة، أن عصابة من المعارضين المتحمسين ممن لجأ إلى شرقي الأردن، صعدت إلى المصفاة بقيادة رجل من النسل الملكي اسمه إسماعيل بن نثنيا، فقتلت جدليا في مقره ومزقت الحامية الكلدانية، ثم انسحبت إلى بيت عمون (إرميا: ٤١).
«فدعا إرميا يوحانان بن قاريح، وكل رؤساء الجيوش الذين معه، وكل الشعب من الصغير إلى الكبير، وقال لهم هكذا قال الرب إله إسرائيل الذي أرسلتموني إليه لكي أُلقي تضرعكم أمامه: إن كنتم تسكنون في هذه الأرض، فإني أبنيكم ولا أنقُضكم وأغرسكم ولا أقتلعكم؛ لأني ندمت على الشر الذي صنعته بكم. لا تخافوا ملك بابل؛ لأني أنا معكم لأخلصكم وأنقذكم من يده، وأعطيكم نعمة؛ فيرحمكم ويردكم إلى أرضكم … وإن كنتم تجعلون وجوهكم للدخول إلى مصر وتذهبون لتتغربوا هناك، فإن السيف الذي أنتم خائفون منه يدرككم في أرض مصر، والجوع الذي أنتم خائفون منه يلحقكم هناك في مصر فتموتون هناك» (إرميا ٤٢: ٨–١٦).
«إننا لا نسمع لك الكلمة التي كلمتنا باسم الرب، بل سنعمل كل أمر خرج من فمنا، فنبخِّر لملكة السماوات ونسكب لها السكائب، كما فعلنا نحن وآباؤنا وملوكنا ورؤساؤنا في أرض يهوذا وفي شوارع أورشليم، فشبعنا خبزًا وكنا بخير ولم نر شرًّا، ولكن من حين كففنا عن التبخير لمملكة السموات وسكْب السكائب لها، احتجنا وفنينا بالسيف والجوع … فكلَّم إرميا كل الشعب قائلًا: … من أجل أنكم قد بخرتم وأخطأتم إلى الرب ولم تسمعوا لصوته ولم تسلكوا في شريعته؛ قد أصابكم هذا الشر … لذلك اسمعوا يا جميع سكان يهوذا الساكنين في أرض مصر، ها أنا ذا قد حلفت باسمي العظيم، قال الرب. إن اسمي لن يُسمى بفم إنسانٍ ما من يهوذا في كل أرض مصر. ها أنا ذا أسهر عليهم للشر لا للخير، فيفنى كل رجال يهوذا الذين في أرض مصر بالسيف والجوع حتى يتلاشوا» (٤٤: ١٦–٢٧).
تحمل هذه المقاطع من سفر إرميا شيئًا من الحقيقة. فبعد اغتيال جدليا، وقبل اتخاذ السلطات البابلية إجراءات سريعة لمعالجة الموقف، حدثت حالة من الفوضى وفقدان الأمن، أدت إلى نزوح عدد كبير من أهل يهوذا باتجاه مصر، خصوصًا وأن فترة ولاية جدليا القصيرة لم تكن كافية لإنعاش المناطق الريفية التي تحولت إلى أرض محروقة عقب الحملات البابلية، وتعطلت فيها طرق التجارة، مثلما تعطلت طرق التجارة الدولية التي تمر في فلسطين بسبب الحروب البابلية المصرية، ولم يعد بإمكان المزارعين تسويق زيوتهم وخمورهم بما يكفي لأداء الجزية إلى بابل. ولكننا لا نستطيع أن نتصور أن يهوذا قد أُفرغت تمامًا من سكانها بسبب النزوح إلى مصر، ولا بد أن قسمًا لا بأس به قد بقي في أرضه وتابع حياته المعتادة. ولسوف نرى فيما بعدُ أن العائدين من السبي البابلي سوف ينظرون باحتقار إلى السكان الأصليين بسبب اختلاطهم بالأجانب وعدم محافظتهم على نقائهم العرقي.
بعد هذه الأحداث يصمت النص التوراتي عن أخبار يهوذا قرابة خمسين سنة. ولكن علم الآثار يقول لنا إن حياة المدن قد توقفت تمامًا خلال هذه الفترة، وإن القرى التي عبَرت القرن الأول لدمار أورشليم، كانت تعيش حياة فاقة وعوَز، ولا يبدو من مخلفاتها المادية أي أثر لحضارة متقدمة. أما عن أوضاع المسبيين في مناطق بابل، فإن مقطعًا من سفر إرميا يقدم لنا معلومات مختصرة عنها. فالمسبيون قد عاشوا عيشة الأحرار هناك، بعد أن أقطعتهم السلطات البابلية أراضٍ استصلحوها وزرعوها وأثْرَوا من غلالها: «هكذا قال رب الجنود إله إسرائيل لكل السبي الذي سبيته من أورشليم إلى بابل: ابنوا بيوتًا واسكنوا فيها، واغرسوا جنات وكلو ثمرها، خذوا نساءً وأنجبوا بنين وبنات، وخذوا لبنيكم نساءً، وأعطوا بناتكم لرجال فيَلِدْن بنين وبنات، وأكثروا هناك ولا تقِلُّوا، واطلبوا سلام المدينة التي سُبيتم إليها، وصلُّوا لأجلها؛ لأنه بسلامها يكون لكم سلام» (إرميا ٢٩: ٥–٧). ولدينا مقاطع من سفر عزرا نستدل منها على ثراء بعض المَسْبيين الذين تبرعوا بفضة وذهبٍ لإعادة بناء بيت الرب في أورشليم (عزرا ١: ٥–٦ و٢: ٦٨-٦٩)، ومقاطع أخرى تفيدنا بأن بعض المسبيين كان لديهم عبيد وإماء اشتروهم بمالهم (عزرا ٢: ٦٥).
تعود الرواية التوراتية لالتقاط الخيط مع مطلع سفر عزرا. فبعد استيلاء الملك كورش الفارسي على بابل يُصدر مرسومًا بعودة سبي يهوذا إلى ديارهم: «في السنة الأولى لكورش ملك فارس، نبه الرب روح كورش ملك فارس، فأطلق نداءً في كل مملكته، وبالكتابة أيضًا، قائلًا: جميع ممالك الأرض قد دفعها لي الرب إله السماء، وهو أوصاني أن أبني له بيتًا في أورشليم التي في يهوذا. مَن منكم من شعب الرب؟ ليكن إلهه معه ويصعد إلى أورشليم التي في يهوذا، فيبني بيت الرب إله إسرائيل. هو الإله الذي في إسرائيل، وكلُّ من بقي في أحد الأماكن، حيث هو متغرب، فلينجده أهل مكانه بفضة وبذهب وبأمتعة وببهائم، مع التبرع لبيت الرب الذي في أورشليم» (عزرا ١: ١–٤).
ورغم الطابع الإعلامي الواضح لبيان كورش السياسي الأول، فإن الإدارة السياسية في عهد كورش وخلفائه قد وفت بمعظم وعودها للشعوب المحكومة، فأعادت تنظيم مقاطعات الإمبراطورية بطريقة لا مركزية تسمح بأكبر قدر من الحرية للحكومات الإقليمية التي لم تكن تشعر بوطأة الحاكم وطغيانه. وفي بلاد الشام تم تقسيم المنطقة إلى عدد من المقاطعات الصغيرة، بعضها يخضع لحكام محليين معينين من قِبل البلاط الفارسي، كما هو الحال في مقاطعة السامرة ومقاطعة أورشليم، وبعضها الآخر يخضع لملوك محليين ذوي سلطة متوارثة يتمتعون بقسط غير قليل من الاستقلال الداخلي، كما هو الحال في مدن الساحل الفينيقي. ولا أدل على القسط الوافي من الاستقلال الذي كانت تتمتع به المقاطعات الفارسية في بلاد الشام، من السماح لها بصك عملتها الخاصة التي تحمل شعاراتها المحلية أو شعارات الأُسر القديمة الحاكمة فيها، وما دامت السلطات الإقليمية تحافظ على الأمن والاستقرار الداخلي وتدفع الضريبة بانتظام، فإن الحكومة المركزية لم تكن تتدخل في شئونها وفي كيفية إدارتها لمقاطعاتها.
إن النصوص القليلة التي وصلتنا من عصر أسرة كورش الأخمينية، لا تساعدنا على معرفة الكيفية التي تم بها تطبيق سياسة إعادة المهجَّرين إلى مواطنهم وإحياء المناطق المنكوبة، ولكن من المؤكد أن معظم تلك المناطق قد أفادت من ذلك، فاستقبلت من أراد العودة إلى أهلها، إضافة إلى خليط من عدة جماعات فقدت ارتباطها بمواطنها الأصلية، ولا تمانع من بدء حياة جديدة في أرض جديدة، منساقة وراء نعمة الإعلام الفارسي الجذابة والمقنعة، أو تحت ضغط أسلوب الترهيب والترغيب. وقد جاءت عودة سبي يهوذا في ظل هذه الأوضاع والتوجهات السائدة في مطلع عصر الإمبراطورية الأخمينية.
ولمساعدة شيشبصر على الإقلاع في مشروع إحياء أورشليم ومنطقتها، فقد أعاد كورش إليه كنوز معبد أورشليم التي نهبها البابليون، كما أن الأغنياء من مسبيي يهوذا، المتكاسلين عن المشاركة في مشروع العودة، قد تبرعوا لإخوانهم العائدين، فأعطوهم فضة وذهبًا وبهائم: «فقام رؤساء آباء يهوذا وبنيامين والكهنة … إلخ، وكل الذين حولهم أعانوهم بآنية فضة وبذهب وبأمتعة وببهائم وبتُحَف. والملك كورش أخرج آنية بيت الرب التي أخرجها نبوخذ ناصر من أورشليم وجعلها في بيت آلهته، وأخرجها كورش ملك فارس وعدها لشيشبصر رئيس يهوذا. وهذا عددُها … إلخ، جميع الآنية من الذهب والفضة خمسة آلاف وأربعمائة. والكل أصعده شيشبصر عند إصعاد السبي من بابل إلى أورشليم» (عزرا ١: ٧–١١). ويرجح المؤرخون أن هذه الموجة الأولى من العائدين قد توجهت إلى أورشليم خلال السنة الأولى لدخول كورش إلى بابل (٣٥٩ق.م.) أو بعدها بقليل.
رغم أن الهدف الأول لمشروع العودة كان إعادة بناء بيت الرب في أورشليم، إلا أن شيشبصر وجماعته، التي لم يذكر لنا النص التوراتي عددها، قد انشغلت على ما يبدو بالمهام الآنية والمباشرة المتعلقة بتجهيز بيوت لها في خرائب أورشليم وبتأمين لقمة العيش. لذلك ينتقل سفر عزرا بسرعة في إصحاحه الثاني إلى الحديث عن الموجة الثانية من العائدين، بعد مرور سبع عشرة سنة على انطلاق الموجة الأولى، ويختفي شيشبصر من مسرح الأحداث دون سبب واضح.
جاءت الموجة الثانية في عهد الملك داريوس بن قمبيز، حفيد كورش، والذي حكم من عام ٥٥٢ق.م. إلى عام ٤٨٦ق.م. قاد هذه الموجة الثانية رجل من النسل الملكي أيضًا يُدعى زرُبابل، وهو من الجيل الثاني المولود في بابل؛ على ما يدل عليه اسمه الذي يعني حرفيًّا المولود في بابل. ورافق زرُبابل الكاهن يشوع، كما مشي معه هذه المرة عدد كبير من الأسر بلغ عدد أفرادها وفق سفر عزرا حوالي اثنين وأربعين ألف نسمة. وقبل أن ينطلق زربابل عينه داريوس واليًا على مقاطعة يهود، وأعاد إليه ما تبقى من كنوز الهيكل، وزوده أيضًا بمعونة مالية، وكتب إلى واليه على مناطق غربي الفرات أن يسهل مهمته ويدفع له أيضًا من خراج تلك المناطق. وهذا يدل على مدى جدية الإدارة الفارسية في عهد خلفاء كورش في متابعة مشروع إحياء المناطق المنكوبة، لا في يهوذا فحسب، بل في جميع الممتلكات السابقة لبابل وآشور.
لم يذكر النص عدد المسبيين العائدين مع عزرا، أما عن مهمة عزرا فمن الواضح أنها تركزت حول مسائل التنظيم الديني والاجتماعي للمجتمع الجديد في أورشليم. فقد اهتم عزرا بتعزيز طقوس الهيكل وأدائها على الشكل الصحيح، وكان عليه أن ينظم أمور القضاء استنادًا إلى شريعةٍ حملها معه من البلاط الفارسي، ويدعوها النص بشريعة الملك وشريعة الرب. ورغم أننا لا نعرف الكثير عن بنود هذه الشريعة، إلا أن لهجة رسالة الملك الفارسي الموجهة إلى عزرا تدل على رغبته بتنظيم المجتمع الجديد في أورشليم، وفق خطة البلاط الفارسي الهادفة إلى توحيد القوانين والشرائع المعمول بها في ولايات الإمبراطورية الفارسية، وخصوصًا في المجتمعات الجديدة التي تم تشكيلها في المناطق المستفيدة من سياسة الإنعاش، والتي فقدت تواصلها مع عاداتها وتقاليدها القديمة، وسيق إليها جماعات إثنية مختلفة ذات أصول ثقافية متباينة. وليست تسمية هذه الشريعة بشريعة الرب، إضافة إلى تسميتها بشريعة الملك، إلا من قبيل إعطائها سلطة مزدوجة تساعد على تطبيقها والالتزام بها. ولكي يمارس عزرا مهامه على أفضل وجه، فقد تم تفويضه بصرف المعونة التي أعطيت إليه بالطريقة التي يراها مناسبة.
بعد ثلاثة أو أربعة عشر عامًا من وصول عزرا، يأتي إلى أورشليم واحد من أبرز أفراد الجالية المسبية، وهو نحميا بن حكليا. وكان نحميا هذا قد تدرج في مناصب البلاط الفارسي حتى وصل إلى منصب ساقي الملك الخاص، وهو منصب لا يقل عن منصب الوزير، ثم عينه الملك أرتحشستا حوالي عام ٤٤٥ق.م. واليًا على أورشليم، وأوكل إليه عددًا من المهام، على رأسها تحصين المدينة وإعادة بناء أسوارها. في اليوم الثالث لوصوله أعلن نحميا للشعب عن المهمة التي جاء من أجلها: «أنتم ترون الشر الذي نحن فيه، كيف أن أورشليم خربة وأبوابها قد أُحرقت بالنار. هلم فنبني سور أورشليم، ولا نكون بعدُ عارًا، وأخبرتهم عن يد إلهي الصالحة عليَّ، وأيضًا عن كلام الملك الذي قاله لي. فقالوا لنقم ولنَبْنِ، وشددوا أياديهم للخير» (نحميا ٢: ١٧-١٨).
كان السامريون يتوجسون خيفةً من نشوء دولة قوية إلى جوارهم تعيد سيرة يهوذا الأولى، خصوصًا بعد أن توضحت نوايا الشرائح العائدة من السبي في معاداة السامريين، منذ أن رفضوا عرضهم في المساعدة على بناء هيكل يهوه في أورشليم. وعندما شرع نحميا ببناء السور، خططوا لإيقاف العمل بالقوة، ووقف إلى جانبهم بنو عمون؛ الخصوم التقليديون ليهوذا القديمة، وأهل مقاطعة أشدود الملاصقة لمقاطعة يهود، وبعض القبائل العربية التي كانت تتجول بحرية في مرتفعات يهوذا الخالية، واجتمع الكل إلى والي السامرة المدعو سنبلط، من أجل مفاجأة نحميا وأخذه على حين غرة، ولكن أخبار المؤامرة وصلت إلى أورشليم، فشدد نحميا الحراسة واستنفر قواته للدفاع عن المدينة، فخاف سنبلط ومن معه وعدلوا عن الحرب (نحميا: ٤).
انتهى نحميا من بناء السور، ولكن المدينة كانت خالية من السكان ولا تحتوي إلا على قلة من البيوت المسكونة: «وكمل السور في الخامس والعشرين من شهر أيلول في اثنين وخمسين يومًا. ولما سمع أعداؤنا، ورأى جميع الأمم الذين حوالينا، سقطوا كثيرًا في عين أنفسهم، وعلموا أنه من قِبَل إلهنا عملنا هذا العمل … وكانت المدينة واسعة الجنبات وعظيمة، والشعب قليلًا في وسطها، ولم تكن البيوت قد بُنيت» (نحميا ٦: ١٥-١٦ و٧: ٤). من هنا كان على نحميا أن يملأ المدينة من سكان المناطق الريفية، وذلك بإجراء القرعة بينهم، وبهذه الطريقة تم اختيار واحد من كل عشرة للسكن في أورشليم: «وسكن رؤساء الشعب في أورشليم، وألقى سائر الشعب قُرعًا ليأتوا بواحد من عشرة للسكن في أورشليم، مدينة القدس، وتسعة الأقسام في المدن، وبارك الشعب جميع القوم الذين انتدبوا للسكنى في أورشليم.» (نحميا ١١: ١-٢).
من المرجح أن نحميا قد بقي واليًا على مقاطعة يهود حتى أواخر حكم الملك أرتحشستا الأول؛ لأن النص التوراتي يخبرنا عن قيامه برحلة إلى البلاط الفارسي في السنة الثانية والثلاثين لأرتحشستا، أي حوالي عام ٤٣٣ق.م.، وكان من نتائج هذه الزيارة على ما يبدو تعزيز سلطة نحميا وتجديد ولايته على المقاطعة حتى وفاة أرتحشستا الأول عام ٤٢٤ق.م. بعد ذلك تتوقف الرواية التوراتية تمامًا عن ذكر أخبار أورشليم ومقاطعة يهود حتى حوالي عام ٢٠٠ق.م.، أي إلى وقت متقدم من العصر الهيلينستي. وهذا يعني أن قرنين من الزمان قد انصرما دون أية وثيقة توراتية أو خارجية تصف لنا ما كان يجري في هذه المقاطعة وما حولها.
(١) الشواهد الأثرية
تقف رواية سفرَي عزرا ونحميا وحيدة دون أي سند من مصدر خارجي، فالوثائق الفارسية شبه معدومة فيما يتعلق بمنطقة فلسطين خلال القرنين الخامس والرابع قبل الميلاد، وكذلك الوثائق المصرية. أما الشواهد الأثرية بخصوص مقاطعة يهود الفارسية فتنحصر في طبعات الأختام على الجرار الفخارية لتسويق منتجات الزيت والخمور وما إليها، وكذلك في قطع العملة المعدنية.
أما فيما يتعلق بهيكل زربابل المدعو بالهيكل الثاني، فلا يوجد ما يدل عليه سوى البيئة الواهية التي قدمتها كاثلين كينيون بخصوص جدار المصطبة الشرقي. وقد عالجنا هذه المسألة بالتفصيل في الفصل الأول من هذا الكتاب. على أن مقطعًا من سفر عزرا، وآخر من سفر حجي، يقدمان لنا صورة عن ضآلة حجم هيكل زربابل وتواضعه، فعندما اكتمل بناء الهيكل وجاء الشعب لحضور حفل التدشين، بكى الكثيرون لما رأوه من ضآلة هذا الهيكل مقارنةً بما سمعوه عن هيكل عصر المملكة (عزرا ١٣: ١٢-١٣). ونقرأ في سفر حجي: «وكانت كلمة الرب عن يد حجي النبي قائلًا: كلم زربابل والي يهوذا، ويهوشع الكاهن العظيم وبقية الشعب قائلًا: مَن الباقي فيكم الذي رأى هذا البيت في مجده الأول؟ وكيف تنظرونه الآن؟ أما هو في أعينكم كل شيء؟» (حجي ١٢: ١–٣).
(٢) اليهود واليهودية
لقد كانت القرون الثلاثة الواقعة بين أواخر القرن السادس وأوائل القرن الثاني قبل الميلاد؛ هي الفترة التي تمت خلالها الصياغة التدريجية للمعتقد التوراتي والشريعة التوراتية. وقد سارت هذه العملية يدًا بيد مع تحرير أسفار التوراة واستكمال فصول الرواية التوراتية. كما شهدت هذه الفترة تشكُّل الإثنية اليهودية التي عبَّرت عن نفسها في تمرد أورشليم على الحكم السلوقي حوالي عام ١٧٠ق.م. ومع ذلك فإننا جاهلون بحقيقةِ ما جرى خلال هذه الفترة على كل صعيد سياسي واجتماعي ولاهوتي. فالظلام يلف تاريخ مقاطعة يهود خلال العصر الفارسي ومعظم العصر الهيلينستي؛ لأن النص التوراتي لا يغطي سوى مدة قرن من أخبار المقاطعة، أما المصادر الخارجية فصامتة تمامًا.
هذه الصورة لا تتغير كثيرًا مع استهلالنا للقرن الثاني قبل الميلاد؛ لأن مصادرنا تبقى محدودة، وهي تنحصر في أسفار المكابيين التوراتية وكتابات المؤرخ اليهودي يوسيفوس من القرن الأول الميلادي، وهذان المصدران يعانيان من إشكالات ومحددات ذاتية عديدة. فأسفار المكابيين ليست من الأسفار القانونية في التوراة العبرانية، ولا يوجد لدينا من الجانب السلوقي ما يتقاطع معها. أما كتابات يوسيفوس فتنقصها المنهجية والانضباط الفكري، وهي مليئة بالتناقضات، وهذا ما يجعل فترة الهيكل الثاني، كما تُدعى، بعيدةً عن متناوَل التقصي التاريخي العلمي. والمؤرخ لا يملك سوى الاعتماد على المنطق السليم في تقييم المصادر المحدودة لديه، وقراءة ما وراء السطور في النص التوراتي، وخصوصًا رواية سفرَي عزرا ونحميا المليئة بالثغرات، والتي كُتبت بعد قرنين على الأقل من الفترة التي تقص عن أحداثها.
لم توصف ديانة التوراة عبر كل أسفار الكتاب باليهودية، مثلما لم يوصف أتباعها باليهود. وفي الحقيقة، فإن هذه الديانة لم يكن لها اسم معين، أما أهلها فهم بنو إسرائيل. ورغم أن تعبير بني إسرائيل قد دل في سفر التكوين على أبناء يعقوب وسلالتهم، إلا أن هذا التعبير عبر بقية الأسفار يحمل مضمونًا لاهوتيًّا بالدرجة الأولى، وهو يشير إلى شعب يهوه المختار. أما صفة يهود ويهودي فلم تُستخدم إلا في مواضع قليلة من الكتاب للدلالة على جماعة أو شخص من منطقة يهوذا. ففي سفر الملوك الثاني (٦: ١٦)، استخدم المحرر تعبير يهود في إشارته إلى جماعة من أهل يهوذا، ثم تكرر هذا الاستخدام ثماني مرات في سفر إرميا، ومرة واحدة في سفر دانيال، ولكن محرر سفري عزرا ونحميا قد وجد نفسه حرًّا تمامًا في إطلاق الصفة على أهل مقاطعة يهود. من هنا، فإن تعبير يهود ويهودي لم يُستخدم قط للدلالة على أتباع دين معين، بل للدلالة على سكان أرض معينة، وذلك حتى دمار هيكل أورشليم وزوال الكيان الإثني لمقاطعة اليهودية الرومانية. ولكن ابتداءً من القرن الثاني الميلادي، الذي شهد صياغة الديانة اليهودية التلمودية على يد لاهوتيين عُرفوا باسم الربانيين (ومفردها ربان ورابي، أي معلم)، ابتدأت الديانة التوراتية تتخذ اسم الديانة اليهودية، وصار أتباعها يدعون يهودًا.
لا يوجد لدينا مبرر للشك في الخطوط العامة لرواية سفرَي عزرا ونحميا، فلقد قام البابليون بتهجير نخبة أهل أورشليم من تقنيين وكتبة وعسكريين، وأبقوا على جمهرة الفلاحين الذين نزح قسم كبير منهم بعد ذلك إلى مصر. وهذه الهجرة الاختيارية إلى مصر هي التي تفسر وجود عدد كبير من الجالية اليهودية هناك، خلال العصر الهيلينستي والروماني. وعندما شجع كورش الفارسي على عودة المهجَّرين إلى مناطقهم، عاد فريق من سبي يهوذا إلى مقاطعة أورشليم، واستفاد من معونة السلطات الفارسية المخصصة لإحياء المناطق المهجورة، بينما بقي في مناطق بابل فريق آخر فضَّل البقاء في موطنه الجديد على المغامرة في المجهول.
ولكننا في المقابل نشك في هوية هؤلاء العائدين، وفي كونهم جميعًا من سبي يهوذا حصرًا، فلقد أوضحنا سابقًا أن رقم المَسبيين لا يمكن أن يكون قد تجاوز العشرة آلاف وفق أعلى التقديرات، بينما بلغ عدد العائدين في الموجة الثانية بقيادة زربابل ٤٢٠٠٠ نسمة، إضافة إلى عدد غير محدد في الموجة الأولى والموجة الثالثة. فمن أين جاء هؤلاء، علمًا بأن المحرر في سفرَي عزرا ونحميا كان واضحًا في التأكيد على بقاء قسم كبير من المسبيين في بابل واكتفائهم بالتبرع للعائدين بمالهم؟
لعل دراسة بعض حالات السبي والعودة تساعدنا على تكوين فرضيات حول حقيقةِ ما جرى بخصوص سبي يهوذا وعودتهم. فلقد طالت سياسة السبي الآشوري حوالي مائة شعب، سواء في بلاد الشام أم في غيرها، ولدينا ما ينوف عن مائة وخمسين نصًّا آشوريًّا يتحدث عن الشعوب المسبية ومناطق سببها والشعوب التي حلت محلها. ورغم أن أباطرة المملكة البابلية الحديثة قد مارسوا سياسة السبي على نطاق أضيق بكثير، إلا أن هؤلاء هم الذين ابتدروا سياسة إعادة المهجَّرين السابقين إلى أراضيهم، وأسسوا لنظرية وممارسة التوطين وإحياء المناطق التي دمرها السبي الآشوري، مثلما ابتكروا الصيغة الإعلامية لهذه النظرية، وهي الصيغة التي تبنَّاها حكام الإمبراطورية الفارسية بعد ذلك.
في نص نابونيد هذا، نحن أمام ثلاث أفكار رئيسية؛ هي: (١) فكرة وحدانية عبادة إله تتجسد فيه القوى الإلهية الأخرى، (٢) فكرة بناء وإعادة تعمير هيكل هذا الإله. (٣) فكرة بناء مجتمع جديد يتمركز حول المعبد وإلهه. فالملك البابلي قد أعاد إلى حران المهدَّمة والمهجورة إلهها التقليدي القديم، ولكن في حلته الشمولية الجديدة كإله للإمبراطورية البابلية، ثم ساق إليها جماعات من مناطق متفرقة من أراضي الإمبراطورية، بعضهم، ولا شك، من مسببي حران وسكانها الأصليين، فأعطاهم وطنًا يعملون على بنائه، وإلهًا قديمًا جديدًا في آن معًا، يوحد بين الجماعات المختلفة ويؤلف بينها. هذه الأفكار الرئيسية الثلاث تعود إلى الظهور في النظرية والممارسة الفارسية؛ ففي بيان كورش الذي أعلنه من بابل، يتهم الحاكم الفارسي سلفه بالظلم والاستبداد، وتسخير الرعية وتهجيرهم، والإساءة إلى الآلهة والمعتقدات الدينية. ثم يتعهد بإعادة بناء المدن المقدسة وتعمير هياكلها المهدَّمة التي نُقلت منها صور آلهتها، وإعادة المسبيين مع آلهتهم إلى تلك المدن. وهنا تقف رواية سفر عزرا شاهدًا على تطبيق السياسة الفارسية التي تبنت النظرية والممارسة البابلية. فقد نبه الرب روح كورش ملك فارس، مثلما هبط سن من عليائه وكلم نابونيد في الحلم، وكلا الإلهين يحُثان الملك على اتخاذ قرار بإعادة بناء الهيكل وتعمير المدينة المهدمة، وكلاهما أيضًا يحُثانه على إعادة المسبيين إليها وتشكيل مجتمع جديد حول الهيكل.
إن من يتأمل قصة عودة سبي يهوذا وإعادة بنائهم للمدينة وهيكلها، يجد نفسه أمام نسخة مكررة من قصة إعادة بناء مدينة حران وهيكل الإله سن فيها. ولكن مع إصرار القصة التوراتية على أن العائدين كانوا حصرًا من سبي يهوذا، وإصرار شريعة عزرا الكاهن على حفظ نقاء الدم وتحريم الاختلاط بالسكان المحليين الذين تنجَّسوا بزواجهم من الأغراب، ولكن، أليس هذا الهوس بالنقاء العرقي، ورهاب الأجانب الذي يتجلى في كل التحريمات التي فرضها عزرا، دليلًا على عدم النقاء العرقي للجماعات الخليطة التي ساقها الفرس إلى مقاطعة يهود، مثلما ساق نابونيد جماعات خليطة إلى حران؟ ألَا تحمل هذه التشريعات في حد ذاتها رغبة في إقناع القادمين الجدد بأنهم فئة متميزة ومتماسكة عليها الحفاظ على نقائها! إن الفرضية التي نسوقها هنا تقول نعم.
إن الرقم العالي للمسبيين العائدين إلى أورشليم يقدم لنا دليلًا على أن الإدارة الفارسية قد دفعت، مع سبي يهوذا الراغب في العودة، شرائح أخرى من مناطق شتى من أملاك الإمبراطورية. ولكن الإدارة الفارسية قد جهزت في الوقت نفسه الخطة المثلى لصهر هذه الشرائح في بوتقة واحدة، عندما أعطت الأولوية لا لبناء المدينة المهدمة، بل لبناء هيكل الرب في أورشليم، بعد أن طابقت بين إله السماء الواحد للإمبراطورية الفارسية آهورامزدا، والإله الفلسطيني القديم يهوه، وبذلك أُعطيت الجماعات الموجهة إلى أورشليم أرضًا جديدة، ومعبدًا جديدًا، وإلها قديمًا جديدًا. هذه العناصر الثلاثة كانت كفيلة بتوحيد الجميع خلال فترة قصيرة، والسير بمجتمع مقاطعة أورشليم نحو التجانس وتشكيل إثنية متميزة، ثم اتبعت الإدارة الفارسية هذه العناصر الثلاثة بعنصر رابع، هو التشريع المدني الذي حمله معه عزرا من البلاط الفارسي، والذي يدعوه النص بشريعة الملك وشريعة الرب. ونستطيع أن نتصور بكل ثقة أن مثل هذا التشريع المدني كان في طور التطبيق في معظم المناطق التي كانت تشهد عملية إحياء وإنعاش مماثلة، وتفتقر، بسبب تنوع أصول الجماعات التي وُجهت إليها، إلى قاعدة مكينة للقوانين والأعراف المحلية المتجذرة.
لقد جاء عزرا إلى أورشليم كمتفقه في شريعة الرب، فكان عليه تنظيم القضاء وشئون المجتمع المدنية. وقبل أن يعمد إلى تطبيق هذه الشريعة، كان عليه أن يشرحها لجميع الناس في اجتماع عام ويفهمهم فقراتها. نقرأ في سفر نحميا: «اجتمع كل الشعب كرجل واحد إلى الساحة التي أمام باب الماء، وقالوا لعزرا الكاتب أن يأتي بسفر شريعة موسى التي أمر بها الرب إله إسرائيل، فأتى عزرا بالشريعة أمام الجماعة … وقرأ بها من الصباح إلى نصف النهار أمام الرجال والنساء والفاهمين، وكانت آذان الشعب نحو سفر الشريعة … وبارك الرب الإله العظيم عزرا، وأجاب جميع الشعب: آمين، آمين، رافعين أيديهم، وخروا وسجدوا للرب على وجوههم إلى الأرض. ثم قام يشوع وباني وشربيا ويامين، و… إلخ، بإفهام الشعبِ الشريعةَ والشعب في أماكنهم، وقرءوا في السفر ببيان وفسروا المعنى وأفهموهم القراءة … وفي اليوم الثاني اجتمع رءوس آباء الشعب والكهنة واللاويون إلى عزرا الكاتب ليُفهمهم كلام الشريعة» (نحميا ٨: ١–١٣).
إن ما تقوله لنا هذه الفقرات من سفر نحميا، هو أن عزرا قد جاء إلى أورشليم من البلاط الفارسي بشريعة مؤيدة بقوة السماء، وأفهم الجميع أن ما يقرؤه عليهم موحًى من إله السماء الكامل، الذي هو يهوه الجديد قرين أهورا مزدا. ومما يدل على جدة هذه الشريعة، أن المجتمعين كانوا يسمعون فقراتها لأول مرة، ولهذا كان على عزرا أن يشرح مضمونها ومعانيها للكهنة وللَّاويين الموكلين بشئون الخدمة الدينية في المعبد؛ ليعملوا بدورهم على إفهامها لبقية الشعب. وبالطبع فإن مثل هذا الشرح وإعادة الشرح، لا يمكن أن يكون موضوعه شريعة متوفرة بين أيدي الناس منذ القِدم، وترقى إلى أيام موسى. ثم إن عزرا لا يكتفي بإبلاغ الشريعة، بل يطلب ممن سمعها أن يقطع عهدًا أمام الرب بقبولها والعمل بها، ويبرم ميثاقًا مكتوبًا معهم يختمه الرؤساء واللاويون والكهنة. نقرأ في سفر نحميا: «والآن يا إلهنا العظيم حافظ العهد والرحمة … نحن أذنبنا، وملوكنا ورؤساؤنا وكهنتنا وآباؤنا لم يعملوا شريعتك ولا أصغوا إلى وصاياك … ها نحن اليوم عبيد، والأرض التي أعطيت لآبائنا ليأكلوا أثمارها وخبزها، ها نحن عبيد فيها، وغلاتك كثيرة للملوك الذين جعلتهم علينا … من أجل ذلك، نحن نقطع ميثاقًا ونكتبه، ورؤساؤنا ولاويونا وكهنتنا يختمون … والذين ختموا هم نحميا وعزرا وسرايا وبرميا … إلخ، وباقي الشعب وكل الذين انفصلوا من شعوب الأرض إلى شريعة الرب، ونساؤهم وبنوهم وبناتهم، كل أصحاب المعرفة والفهم لصقوا بإخوتهم وعظمائهم، ودخلوا في حَلِف وقسَمٍ أن يسيروا في شريعة الرب التي أعطيت عن يد موسى، وأن يعملوا ويحفظوا جميع وصايا الرب وأحكامه وفرائضه» (نحميا ٩: ٣٢–٣٨ و١٠: ١–٢٩).
إن في قول محرر سفر نحميا أعلاه، بأن «الذين ختموا هم باقي الشعب وكل الذين انفصلوا من شعوب الأرض إلى شريعة الرب» ليؤيد بقوةٍ فرضيتنا بتعدد الشرائح الإثنية التي رافقت مسبيي يهوذا إلى أورشليم. فلقد صار الميثاق بقبول شريعة عزرا هو الذي يوحد هذه الجماعات ذات الأصول المتنوعة في مجموعة واحدة، ويميزها عن بقية سكان الأرض. وهؤلاء هم بنو إسرائيل بالمفهوم اللاهوتي، أي شعب يهوه الخاص، الذين ورثوا إسرائيل القديمة العاصية، وأسسوا لإسرائيل الجديدة المؤمنة. وعلى هؤلاء جميعًا أن يحفظوا تماسكهم ووحدتهم ولا يختلطوا بغيرهم ممن بقي خارج العهد والميثاق.
من المفترض أن العهد الذي أبرمه أهل مقاطعة يهود مع إله الهيكل، هو آخر عهد في سلسلة العهود التي كانت تتجدد منذ أيام إبراهيم وإسحاق ويعقوب. ولكن واقع ما شرحناه من أمور يدل على أن عهدَ ما بعد السبي هو العهد الأول الذي يتم بين الرب وشعبه الجديد. فلقد أعطى الرب هذه الأرض الجديدة إلى جماعات جديدة تحل فيها، مقابل عبادته وحده من دون بقية الآلهة، والالتزام بتشريعه ووصاياه. وهذا العهد الذي وضعه محررو التوراة في نهاية قصتهم الطويلة التي تختم تاريخ بني إسرائيل، هو الذي تم إسقاطه على قصة الأصول التوراتية التي تبتدئ بعهد بين إبراهيم وإلهه. وهذا ما يقودني إلى القول بأن سفرَي عزرا ونحميا كانا أول الأسفار التوراتية تدوينًا، لا آخرها، ثم جاءت بقية القصة لكي تبتكر أصولًا لهذا المجتمع الجديد الذي ربطه عهد الرب بالأرض وببعضه بعضًا، وتعمل على تجذيره في المكان، والإيحاء للأجيال القادمة بأنها كانت دومًا هنا، وأنها عبدت دومًا إلهًا واحدًا غالبًا ما كانت تخطئ اليه، وأن خطيئة إسرائيل ويهوذا القديمتين هي السبب في زوالهما، وأن بقية سبي يهوذا هي الخلف الصالح للسلف الطالح.
ولكن ماذا عن الشريعة التي هي موضوع العهد والميثاق؟ إن بعض الباحثين يفترض أنها ليست سوى أسفار موسى الخمسة، أو بعض أجزائها. ولكن الفقرات التشريعية التي نجدها في سفرَي عزرا ونحميا لا تتفق مع أية فقرات تشريعية في الأسفار الخمسة. وبشكل خاص فإن التحريمات التي فرضها عزرا بخصوص الزواج ممن هم خارج الميثاق، هي أشد صرامة وأكثر وضوحًا وتحديدًا من أية فقرة تشريعية بهذا الخصوص في الأسفار الخمسة، ولا تتطابق معها من قريب أو بعيد. وهذا ما يدعونا إلى القول بأن سفر شريعة عزرا لا علاقة له بشريعة موسى التوراتية، وموسى نفسه لم يكن قد وُلد في الرواية التوراتية، أو أنه كان مجرد شخصية ذات قدسيةٍ ما، في الموروث الديني لإحدى الجماعات التي شكلت مجتمع أورشليم الجديد، قبل أن يعمل كهنوت أورشليم على التوليف بين المورثات الدينية والشعبية المختلفة، وصياغتها في رواية مطردة ترسم تاريخًا متخيلًا لماضي اليهودية.
ولكننا من جانب آخر، نستطيع القيام بتكهنات مشروعة حول مضمون السفر، فمما لا شك فيه أن التسمية المزدوجة التي أطلقها المحور على الشريعة، عندما دعاها بشريعة الرب وشريعة الملك، تدل على مضمونها المزدوج؛ فهي شريعة مدنية وشريعة دينية، فيما يتعلق بجانبها المدني، فقد احتوت شريعة عزرا، كما هو واضح من سياق النص، على أصول المعاملات التجارية والزراعية، وأصول الاحتكام وفض المنازعات، وتنظيم المحاكم وتعيين القضاة، وما إلى ذلك. وفيما يتعلق بجانبها الديني فقد احتوت الشريعة على عقائد وطقوس أساسية متصلة بإله السماء الفارسي ومطابقته مع إله يهوذا والسامرة القديم يهوه، وعلى تحريمات معينة تطال بعض أنوع المأكل والمشرب، وقواعد في النظافة والطهارة، مما كانت الديانة الفارسية حريصة عليه كلَّ الحرص، وإلى درجة الهوس المرَضي. ولكن هذه الشريعة بشقَّيها لم تكن سوى نواة صلحت في البداية لتنظيم شئون مجتمع بسيط، وعندما أخذت الحياة الاجتماعية بالتعقد كان لا بد من تطوير هذه النواة لمواكبة التوسع والتعقد في شتى مجالات الحياة الدينية والاقتصادية والاجتماعية. وقد عمل عزرا خلال حياته على تطوير الشريعة والإضافة إليها، ثم جاء خلفاؤه من بعده فتابعوا المهمة. ومع تشعُّب الشريعة، كانت القصة التوراتية التي تحملها تتشعب وتتوسع، وتضرب بعيدًا في الأصول وصولًا إلى البدايات.
لقد وُلدت الوحدات الأساسية للقصة التوراتية كلٌّ على حدة، وتم إنتاجها من قِبَل محررين مختلفين وعلى فترات متباعدة، واستخدم كل محرر، أو مجموعة محررين، مصادر وموروثات متباينة المنشأ. ثم جاءت عملية التنسيق الأخيرة لتجمع بينها في رواية مطردة، ومن خلال منظور أيديولوجي وكورنولوجي مفروض عليها من خارجها، ولكن وحدات الرواية، المستقلة من حيث الأصل، بقيت مع ذلك تسبح في أجوائها الأدبية واللاهوتية؛ فالإله الذي يتناول الطعام تحت الشجرة بدعوة من إبراهيم، والذي يلتحم في صراع جسدي مع يعقوب في الليل، في سفر التكوين، هو غير إله سفر الخروج الذي يسير أمام الشعب على هيئة عمود من نار أو سحاب في سيناء، وهذا الإله المتجول الذي يسكن في خيمة بين شعبه، هو غير الإله الذي سكن فيما بعدُ هيكل أورشليم. وإله الأسفار التاريخية لا يشبه إله أسفار الأنبياء … إلخ. ذلك أن تشعُّب الرواية التوراتية وتطورها كان يحمل في الوقت نفسه تغيرات لاهوتية، وهذه بدورها كانت تمارس تأثيرًا على منحى الرواية، وذلك في عملية جدلية مستمرة.
إن المراسلات التي جرت حوالي عام ٤١٠ق.م.، بين رئيس الجالية اليهودية في جزيرة الفيلة المدعو جدانية ووالي أورشليم المدعو باجوس (خليفة نحميا)، تُلقي ظلالًا من الشك على وحدانية عبادة يهوه في هيكل أورشليم. ذلك أن أهل جزيرة الفيلة كانوا على الديانة التقليدية ليهوذا القديمة بسبب نزوحهم إلى مصر في مطلع القرن السادس، ويعبدون عددًا من الآلهة الكنعانية إلى جانب الإله يهوه. ومع ذلك فقد شعروا بمطلق الحرية في مطابقة إلههم يهوه مع إله هيكل أورشليم، وكتبوا إلى والي أورشليم ووالي السامرة في نفس الوقت طالبين المساعدة على إعادة بناء هيكل يهوه المتهدم في الجزيرة. ومثل هذا الطلب إن دل على شيء، فعلى أن أهل أورشليم لم يكونوا بدورهم قد توصلوا إلى مبدأ وحدانية عبادة يهوه، وأن بقية الآلهة التي عبدها يهود الفيلة كانت تُعبد أيضًا في هيكل أورشليم.
من اللافت للنظر في هذين النصين أن أهل جزيرة الفيلة من ذوي الديانة الفلسطينية التقليدية، قد كتبوا إلى والي السامرة ووالي أورشليم في وقت واحد، ملتمسين عونهما على إعادة بناء هيكل يهوه في الجزيرة. وهذا يعني أن هذه المجتمعات الثلاثة في أواخر القرن الخامس كانت على عقيدة يهوه التقليدية القديمة، وأن عقيدة يهوه التوراتية لم تكن قد أخذت صيغتها التي نعرفها من أسفار التوراة. ومن جهة أخرى، فإن هذه المراسلات تنفي الخلاف الذي يؤكد عليه المحرر التوراتي، في سفرَي عزرا ونحميا، بين مجتمع أورشليم ومجتمع السامرة. ولكن السؤال الذي يطرح نفسه الآن، هو كيف ومتى تم الانتقال من عقيدة يهوه الفلسطينية التقليدية إلى عقيدة يهوه التوراتية؟
في الحقيقة، نحن جاهلون كلَّ الجهل بالكيفية التي تم بها هذا الانتقال؛ ويعود السبب في ذلك إلى أن الفترة التي دوِّنت خلالها أسفار التوراة، أي القرن الرابع والثالث قبل الميلاد، هي فترة ظلام مطبق في تاريخ فلسطين، والنصوص ليست نادرة فحسب، وإنما معدومة، بما في ذلك النص التوراتي الذي تتوقف روايته تمامًا مع سفر نحميا إلى البلاط الفارسي عام ٤٣٣ق.م. كل ما نستطيع قوله أن هذا الانتقال قد تم خلال القرنين المنصرمين بين نهاية القرن الخامس ومطلع القرن الثاني قبل الميلاد، وأن الأسفار التوراتية قد تم تحريرها خلال هذه الفترة، وصارت مصدر التلاحم الاجتماعي والإثني والديني في مقاطعة يهود (أو اليهودية كما صارت تُدعى في العصر الهيلينستي)، ومصدرًا للديانة اليهودية التي صارت ديانة هذه المقاطعة تحديدًا من دون السامرة والجليل وبقية البقاع الفلسطينية. ففي مطلع القرن الثاني كان اليهود يعتقدون بأنهم شعب واحد تسلسل من جد واحد، وأنهم كانوا في العبودية في مصر، ثم خرجوا منها بقيادة موسى؛ إلى آخر القصة التي تنتهي حلقاتها مع أحداث سِفرَي عزرا ونحميا، فهم الآن إسرائيل الجديدة التي قامت على أنقاض المملكتين الخاطئتين، وهم رغم قلة عددهم ما زالوا شعب يهوه المختار، وسوف يأتي يوم تتقوض فيه كل الممالك لتعود مملكة إسرائيل المقدسة التي يحكمها يهوه بشكل مباشر، وتزحف بقية الشعوب على بطنها ذليلة لتلحس التراب تحت أقدام إسرائيل وتُستعبد لها.
لقد صارت الحكاية التوراتية تاريخًا، بل وأكثر من ذلك صارت فلسفة في التاريخ، تفسر الغاية من صيرورة الزمن بين يوم البدء واليوم الأخير، فلقد خلق يهوه العالم من أجل هذه القلة التي اختارها لتكون شعبه الخاص، وليجعل منها أمة كهنة، ويحكم من خلالها ملكوته القادم على الأرض. بهذا يتقلص تاريخ الكون إلى تاريخ بني إسرائيل، وإلى هذه النتيجة يئول عناء البشرية وشقاؤها عبر صيرورة الزمن. إن هذه البارانويا الجماعية التي أصيبَ بها شعب مقاطعة منسية، ودخلت في جيناته وموروثاته، صارت في حقيقة الأمر عبئًا على التاريخ، وشوكة في خاصرة الحاضر والمستقبل.
H. L. Ginsberg, Aramic Letters, In: J. Pritchard, Ancient Near Eastern Texts, p. 491 ff.