الفصل الرابع
أورشليم القرن العاشر
(٢) البحث عن عفريت سليمان
بعد أن لفَظ داود الروح وهو يتدفَّأ من داء البرداء في حِضن الفتاة المراهقة المدعوة
أبيشج
الشمونية، يفتتح سفر الملوك الأول أخبار الملك سليمان الذي انتزعت له أمُّه وراثة العرش
من أخيه
أدونيا؛ أكبر أولاد داود الأحياء؛ مستغلةً مرض داود وضعفه وعدم قدرته على التمييز واتخاذ
القرارات.
كان أول عمل استهلَّ به سليمان عهده هو قتل أخيه أدونيا؛ ليتأكد من عدم منازعته له
على السلطة
في المستقبل، وقتل قائد جيش داود المدعو يوآب الذي كان يساند أدونيا. وبعد أن يقول لنا
محرر سفر
الملوك الأول بأن الملْك قد تثبَّت بيد سليمان، يطالعنا فجأةً وبدون مقدمات بقوله: إن
سليمان قد تزوج
من ابنة فرعون مصر: «وصاهر سليمان فرعون ملك مصر، وأخذ بنت فرعون وأتى بها إلى مدينة
داود، إلى أن
أكمل بناء بيته وبيت الرب وسور أورشليم حواليها» الملوك الأول ٣: ١. بعد ذلك تراءى الرب
لسليمان
في الحلم وقال له أن يسأله فيعطيه، فلم يسأل سليمان ربه سوى أن يعطيه قلبًا حكيمًا يميز
به الخير
من الشر، فأجابه ربه لمطلبه وزاد عليه بأن أعطاه غنًى في المال، وجاهًا بين ملوك الأرض
لم يكن لغيره
من قبل: «هو ذا أعطيتك قلبًا حكيمًا ومميزًا وكرامةً؛ حتى إنه لا يكون رجل مثلك في الملوك
كلَّ أيامك»
الملوك الأول ٣: ١٢–١٣.
«وفاقت حكمة سليمان حكمة جميع بني المشرق، وكل حكمة مصر، وكان أحكم مِن جميع الناس،
وكان صيته
في جميع الأمم حواليه … وكانوا يأتون من جميع الشعوب ليسمعوا حكمة سليمان، من جميع ملوك
الأرض
الذين سمعوا بحكمته» ٤: ٣٠–٣٤. ولكن محرر سفر الملوك الأول يقدم لنا إلا مثالًا واحدًا
عن حكمة
سليمان؛ وهو عبارة عن قصة ساذَجة يغلب عليها طابَع الأدب الشعبي؛ فقد احتكمت لديه امرأتان
زانيتان
بخصوص طفل رضيع تدَّعي كلٌّ منهما أمومته، فحكم سليمان بأن يُشطَر الطفل إلى شطرين، وتعطى
كل امرأة حصتها
منه؛ قبِلت إحدى المرأتين الحكم؛ بينما صاحت الأخرى بلهفة على الطفل وتنازلت عن حقها
فيه للأخرى،
فعرَف سليمان أنها أمه الحقيقة وأعطاها إياه (٣: ١٦–٢٧).
أما عن قوة سليمان وتسلُّطه على جميع الممالك من حوله، فإن محرر السِّفر يصفها لنا
بكلمات طنَّانة
وتعابير عامة: «وكان سليمان متسلطًا على جميع الممالك من النهر (أي: الفرات) إلى أرض
فلسطين وعلى
تخوم مصر. كانوا يقدمون الهدايا ويخدمون سليمان؛ لأنه كان متسلطًا على كل ما عبر النهر
من تفسح
١ إلى غزة، على كل ملوك عبر النهر … وكان لسليمان أربعون ألف مزود لخيل مركباته واثنا
عشر ألف فارس» ٤٠: ٢٠–٢٦. ولكن المحرر التوراتي يقع بعد ذلك في تناقض يُظهر الطابع الخيالي
لنفوذ سليمان الذي وصل الفرات، ولكنه كان عاجزًا عن ضم مدن الساحل الفلستي وبعض مدن سهل
شفلح؛ مما يلي مرتفعات يهوذا غربًا؛ فقد
صعِد فرعون مصر بجيش جرَّار على مناطق فلسطين الجنوبية فاستولى على مدينة جازر؛ إحدى
أهم مدن سهل
شفلح، وأحرقها بالنار، وقتل الكنعانيين الساكنين في المدينة، وأعطاها مهرًا لابنته امرأة
سليمان،
فأخذها سليمان وأعاد بناءها (٩: ١٦–١٧). وجازر هذه لا تبعد أكثر من ٧٠ كم عن أورشليم
(انظر
الخريطة في الشكل رقم
٦-١.
وعن ثروة سليمان وغِناه نقرأ: «وكان وزن الذهب الذي أتى سليمان في سنة واحدة ستمائة
وستًّا
وستين وزنة ذهب،
٢ ما عدا الذي أتاه من عند التجار وتجارة التجار وجميع ملوك العرب وولاة الأرض. وعمل
سليمان مئتي ترس من ذهب مطرَّق، وثلاثمائة مجنٍّ من ذهب مطرق، وجعلها سليمان في بيته
المعروف باسم
بيت وعر لبنان … وجميع آنية شرب الملك سليمان من ذهب، وجميع آنية بيت وعر لبنان من ذهب
خالص، لا
فضة؛ لأن الفضة لم تُحسب شيئًا في أيام سليمان. وكان للملك في البحر سفن تُدعى سفن ترشيش
(إسبانيا)،
وكانت تبحر مع سفن حيرام ملك صور، وتأتي مرةً في كل ثلاث سنوات، حاملةً ذهبًا وفضةً وعاجًا
وقرودًا
وطواويس. فتعاظم سليمان على كل ملوك الأرض في الغنى والحكمة، وكانت كل الأرض ملتمسةً
وجه سليمان،
وكانوا يأتون كلُّ واحد بهديته؛ بآنية فضة وآنية ذهب، وحُلل وسلاح وأطياب وخيل وبغال،
سنةً فسنةً، وجعل
الملك الفضة في أورشليم مثل الحجارة، وجعل الأرز مثل الجميز الذي في السهل في الكثرة»
الملوك
الأول ١٠: ١٤–٢٥. على أن كل هذه الأكداس المكدَّسة من الذهب تبدو متواضعة جدًّا إذا عرَفنا
أن سليمان
قد بنى بيتًا لابنة الفرعون مستخدمًا في أساساته وجدرانه الأحجارَ الكريمة التي كانت
تُنشر بمنشار
مثل أحجار البناء (٧: ١٠–١١).
من كل هؤلاء الملوك الذين كانوا يلتمسون وجه سليمان ويأتون إليه بهداياهم، لا يذكر
لنا محرر
السِّفر إلا ملكةً مجهولةً تاريخيًّا يدعوها النص ملكة سبأ، ومن دون أن يحدد موطنها ومقر
ملكها أو
يذكر اسمها. وبما أن مملكة سبأ المعروفة في جنوب شبه الجزيرة العربية لم تكن قائمةً في
القرن
العاشر قبل الميلاد؛ فإن المطابقة بين ملكة سبأ الواردة في سفر الملوك الأول وإحدى ملكات
مملكة
سبأ التاريخية، لا تقوم على سند علمي، والتفسير الوحيد لهذه المفارقة التاريخية هو أن
المحرر
التوراتي الذي كان يكتب قصته — في زمن ما من القرن الرابع قبل الميلاد، عن أحداث يُفترض
أنها جرت
في القرن العاشر قبل الميلاد — كان على دراية بمملكة سبأ التاريخية المعاصرة له، وكان
يرى قوافل
السبئيين تعبُر وهي محمَّلة بأغلى وأثمن البضائع، فاستخدم هذا الانطباع المؤثر لصياغة
قصته المعروفة
حول زيارة ملكة سبأ لسليمان وتقديمها له الهدايا. نقرأ في سفر الملوك الأول:
«وسمعت ملكة سبأ بخبر سليمان، فأتت إلى أورشليم بموكب عظيم جدًّا، بجِمال حاملةٍ أطيابًا
وذهبًا كبيرًا جدًّا وحجارةً كريمةً، وأتت إلى سليمان … فلما رأت ملكة سبأ كل حكمة سليمان
والبيت الذي بناه وطعام مائدته ومجلس عبيده وموقف خُدَّامه وملابسهم وسُقاته، لم يبق
فيها روح،
فقالت للملك: صحيح كان الخبر الذي سمعته في أرضي عن أمورك وعن حكمتك، ولم أصدق الأخبار
حتى
جئت وأبصرت عيناي … وأعطت الملك مائة وعشرين وزنة ذهب وأطيابًا كثيرة جدًّا وحجارة كريمة
…
وأعطى سليمان لملكة سبأ كل مُشتهاها الذي طلبت، عدا ما أعطاها إياه حسَب كرم الملك، فانصرفت
وذهبت إلى أرضها هي وعبيدها.» (١٠: ١–١٣).
وكان سليمان محبًّا للبناء والعمران، فقد بنى قصرًا له في أورشليم، وقصرًا آخر لاستراحته
يُدعى
بيت وعر لبنان، وبنى بيتًا لزوجته ابنة الفرعون، وحصَّن مدينته وبنى أسوارها، كما أعاد
بناء ثلاث
مدن؛ هي: حاصور في الجليل، ومَجِدُّو في وادي يزرعيل، وجازر في سهل شفلح. كما أعاد بناء
مدن يدعوها
النص بمدن المخازن، ومدن أخرى يدعوها بمدن المركبات، ومدن يدعوها بمدن الفرسان. ولكن
أهم إنجازاته
المعمارية كانت بناءه لبيت الرب في أورشليم. وبما أن رعاياه كانوا يفتقرون إلى الخبرة
المعمارية
والصنعة الفنية، فقد لجأ إلى حيرام ملك مدينة صور الفينيقية؛ ليسعفه بمواد البناء والمعماريين
الفينيقيين المشهود لهم بالخبرة والمهارة. نقرأ في الإصحاح الخامس من سفر الملوك الأول:
«وأرسل حيرام ملك صور عبيده إلى سليمان؛ لأنه قد سمع أنهم مسحوه ملكًا مكان أبيه؛ لأن
حيرام
كان محبًّا لداود كلَّ الأيام، فأرسل سليمان إلى حيرام يقول: أنت تعلم أن داود أبي لم
يستطع أن يبني
بيتًا لاسم الرب إلهه؛ بسبب الحروب التي أحاطت به، حتى جعلهم الرب تحت بطن قدمه، أما
الآن فقد
أراحني الرب إلهي من كل الجهات، فلا يوجد خصم ولا حادثة شر، وها أنا ذا قائل على بناء
بيت لاسم الرب
إلهي … والآن فأْمُر أن يقطعوا لي أَرْزًا من لبنان، ويكون عبيدي مع عبيدك، وأجرة عبيدك
أعطيك إياها
حسب كل ما تقول؛ لأنك تعلم أنه ليس أحد بيننا يعرف قطع الخشب مثل الصيدونيين … وأرسل
حيرام إلى
سليمان قائلًا: «قد سمعت كل ما أرسلت به إليَّ، أنا أفعل كل مسرتك في خشب الأرز وخشب
السرو.» (٥: ١–٨)
شرع سليمان ببناء الهيكل، وسخَّر لذلك آلافًا مؤلفةً من الشعب؛ فثلاثون ألفًا يروحون
ويجيئون إلى
لبنان بالتناوب، وسبعون ألفًا يحملون أحمالًا، وثمانون ألفًا يقطعون في الجبل، وذلك عدا
المشرفين
الذين بلغ عددهم ثلاثة آلاف. وعندما اكتمل البناء الخارجي، شرع يزينه بالذهب الخالص من
الداخل
والخارج:
«وغشَّى سليمان البيت مِن داخل بذهب خالص، وسدَّ بسلاسل ذهب قُدَّام المحراب وغشَّاه
بذهب، وجميع
البيت غشَّاه بذهب إلى تمام كل البيت، وكل المذبح الذي للمحراب غشَّاه بذهب … وغشَّى
أرض البيت بذهب من
داخل ومن خارج.» (٦: ١٤–٣٠) «وعمِل سليمان جميع آنية بيت الرب من ذهب، والمائدة التي
عليها خبز
الوجوه من ذهب، والمنائر — خمسًا عن اليمين وخمسًا عن اليسار أمام المحراب — من ذهب خالص،
والأزهار
والسُّرج والملاقط من ذهب، والطسوس والمقاص والمناضح والصحون والمجامر من ذهب خالص، والوصل
لمصاريع
البيت الداخلي (أي: لقدس الأقداس) ولأبواب البيت (أي: الهيكل) من ذهب» (٧: ٤٨–٥١).
أما عن أحوال أهل المملكة في عهده، فكانت أشبهَ ما يكون بأحوال أهل الجنة؛ فقد: «كانت
الفضة في
أورشليم مثل الحجارة، والأَرْز مثل الجميز الذي في السهل لكثرته» (١٠: ٢٧). «وكان يهوذا
وإسرائيل
كثيرين كالرمل الذي على البحر في الكثرة» (٤: ٢٠). «وسكن يهوذا وإسرائيل آمنين، كل واحد
تحت كرمته،
وكل واحد تحت تينته، من دان إلى بئر السبع» (٤: ٢٥).
رغم بنائه لبيت الرب في أورشليم؛ فقد كان سليمان منذ البداية يمارس طقوس الخصب الكنعانية،
ويذبح ويوقد على المرتفعات على عادة الكنعانيين (٣: ٢)، وعندما تزوج من سبعمائة سيدةٍ
وتسرَّى
بثلاثمائة، ومعظمهن من الشعوب الأجنبية، ازداد ميله إلى دين هؤلاء وترك عبادة الرب: «وأحبَّ
الملك
سليمان نساءً غريبات كثيراتٍ مع بنت فرعون، نساءً مؤابيات وعمونيات وإدوميات وصيدونيات
وحثيَّات …
وكانت له سبعمائة من النساء السيدات وثلاثمائة من السَّراري، فأمالت نساؤه قلبه وراء
آلهة أخرى، ولم
يكن قلبه كاملًا مع الرب إلهه كقلب داود أبيه، فذهب سليمان وراء عشتورت إلهة الصيدونيين،
وملكوم إله
العمونيين، وعمِل الشر في عينَي الرب … فغضب الرب على سليمان؛ لأن قلبه مال عن الرب إله
إسرائيل …
فقال الرب لسليمان: من أجل أنك لم تحفظ عهدي وفرائضي التي أوصيتُك بها؛ فإني أمزق المملكة
عنك
تمزيقًا وأعطيها لعبدك، إلا أني لا أفعل ذلك في أيامك؛ من أجل داود أبيك، بل من يد ابنك
أمزقها.»
(١١: ١–١٢).
وكان هناك رجل جبار ذو بأس اسمه يربعام بن ناباط، أقامه سليمان واليًا على القبائل
الشمالية
التي يدعوها النصُّ التوراتي بيت يوسف، أو بيت إسرائيل، أو منسي وأفرايم؛ نسبةً إلى ولدَي
يوسف اللذين
تناسلت منهما أكبر قبيلتين شماليتين. وفيما كان يربعام خارجًا من أورشليم لاقاه النبي
أخيا
الشيلوني، وهما وحدهما في الحقل، فأمسك به ونزع عنه رداءه الجديد ومزَّقه اثنتي عشرةَ
قطعةً، وقال
ليربعام: «خذ لنفسك عشر قطع؛ لأنه هكذا قال الرب إله إسرائيل، ها أنا ذا أمزق المملكة
من يد سليمان
وأعطيك عشرة أسباط، ويكون له سِبطٌ واحد؛ لأنهم تركوني ولم يسلكوا في طرقي. وآخُذ المملكة
من يد ابنه
وأعطيك إياها — أي: الأسباط العشرة — وأعطي ابنه سبطًا واحدًا؛ ليكون سراجًا لداود عبدي
كلَّ الأيام.»
(١١: ٢٦–٣٦).
مات سليمان حوالي عام ٩٣١ق.م.؛ فاستقل يربعام بمناطق القبائل الإسرائيلية العشر في
الهضاب
المركزية، واتخذ من مدينة شكيم (نابلس) عاصمةً له، أما ابن سليمان المدعو رجعام، فقد
حكم في
أورشليم على يهوذا وبنيامين، ولكي يكرِّس يربعام الاستقلال الديني عن أورشليم مثلما كرَّس
الاستقلال
السياسي، فقد بنى لأسباط إسرائيل معبدين؛ لينافس بهما معبد أورشليم، واحد في دان والآخر
في بيت
إيل، ووضع في كل معبد تمثالًا للعجل الذي يمثل أُلوهة الخصب الكنعانية، وجعل عليهما كهنةً
لا ينتمون
إلى اللاويين من كهنوت أورشليم التقليديين؛ كما جعل للعبادة والطقوس أعيادًا مستقلة في
مواعيدها
عن أعياد هيكل أورشليم. وبذلك تمت ولادة دولتي إسرائيل الشمالية ويهوذا الجنوبية، ودخلت
هاتان
الدولتان في صراعات وحروب دائمة حتى نهاية مملكة إسرائيل ٧٢١ق.م. على يد الآشوريين الذين
دمروا
عاصمتها وسَبَوا أهلها.
هذه هي الخطوط العامة لقصة سليمان في سفر الملوك الأول، ولعصر سليمان الذي يُعتبر
بمثابة العصر
الذهبي في الرواية التوراتية، ومنه يبتدئ احتساب الزمن رجوعًا نحو الخلق والتكوين، ونزولًا
نحو
السقوط والانهيار الأخير للمملكتين العاصيتين اللتين نشأتا عن المملكة الموحدة.
تفتقر هذه القصة
إلى أي مقوِّم من مقومات الكتابة التاريخية؛ فهي مجموعة من الأخبار المتناثرة في الموروث
الشعبي تم
جمعها والإضافة إليها؛ من أجل رسم سيرة حياة شخصية ضائعة في ضباب الأيام السالفة، لا
يملك المحرر
التوراتي أية معلومات موثقة بخصوصها، أو بخصوص الفترة التاريخية التي عاشت فيها. ويتجلى
جهل
المحرر التوراتي، وافتقادُه للوثائق الكتابية، أو حتى الأخبار المتداولة الموثوقة؛ في
عدم ذكره اسم
أي ملك معروف لدينا من القرن العاشر قبل الميلاد، أو اسم أية مملكة من الممالك التي كانت
خاضعة
لسليمان. ومن الغريب ألا يذكر لنا المحرر اسم فرعون مصر صهرِ الملك سليمان، أو يذكر لنا
اسم
الشخصية الوحيدة التي حكى عن قصة زيارتها لسليمان وتقديمها له الهدايا؛ وهي ملكة سبأ.
كما ويعلن أسلوب القص الشعبي عن نفسه في كل تلك المبالغات حول ثراء سليمان، وأطنان
الذهب التي
تم استخدامها في طلاء جدران الهيكل، وصنع معظم آنيته وديكوراته الداخلية، وكُتل الحجارة
الكريمة
الضخمة التي كانت تُنشر بمنشار لتُستخدم بدل الأحجار الصخرية في بناء الأساسات والجدران.
فكل شيء
مباح للقاصِّ عندما يأتي لوصف العصر الذهبي؛ لأنه عصر بعيد زمنيًّا ولا يمكن لنا محاكمتُه
بمعايير
عصرنا الراهن، وهو لا يتردد في إيراد أكثر الأخبار بُعدًا عن التصديق؛ مثل قوله: إن الفضة
كانت في
أورشليم مثل الحجارة؛ لكثرتها وانعدام قيمتها، أو إن فرعون مصر — أقوى ملوك الأرض — قد
أعطى ابنته
زوجة لسليمان.
لقد قال لنا الباحثون التوراتيون بأن كَتَبة القصر الملكي هم من سجَّل أخبار المملكة
الموحدة في
عصر داود وسليمان، ولكننا نعجب من جهل أولئك الكتبة — المتخصصين والمطلعين على الشئون
العالمية في
زمنهم — بعادات وتقاليد القصور الملكية في الدول المجاورة؛ وخصوصًا البلاط المصري وبروتوكلاته
المشهورة في العالم القديم. فعندما زوَّج محرر سفر الملوك الأول ملكة سليمان من ابنة
فرعون مصر، كان
يجهل التقاليد الفرعونية التي تمنع زواج الأميرات المصريات من ملوك الدول الأجنبية؛ فمن
المعروف
والمؤكد تاريخيًّا أن الأسر الملكية المصرية، وعبر جميع عصورها، لم تزوِّج واحدةً من
أميراتها إلى أي
ملك أجنبي بالغًا ما بلغت قوتُه وعظمته واتساع ملكه، ولدينا عن ذلك بضعة أخبار موثقة
نسوق منها
اثنين؛ فعندما بلغت العلاقات الديبلوماسية أحسن أحوالها بين فراعنة الأسرة الثامنة عشرة
وملوك
بابل الكاشيين، أرسل أحدهم يطلب يد أميرة مصرية، ولكن البلاط المصري تعلَّل بحُجج كثيرة
لم تُثن
الملك البابلي عن تكرار الطلب. وأخيرًا أُرسلت إليه فتاة جميلة من الحاشية الملكية على
أنها ابنة الفرعون.
٣ وحدث الشيء نفسه بين البلاط المصري وقمبيز بن كورش الفارسي الذي كان ملك العالم في
زمنه، وأُرسلت له أميرة زائفة على أنها ابنة الفرعون، وعندما اكتشف قمبيز الخدعة، اتخذها
ذريعةً
لغزو مصر؛ على ما يرويه لنا المؤرخ الإغريقي هيرودوتس.
٤
إن محرر سفر الملوك الأول لم يكن موظفًا في بلاط سليمان خلال أواسط القرن العاشر،
وإنما كان
من كهنة أورشليم في القرن الثالث قبل الميلاد؛ أي: في عصر الأسرة البطلمية التي حكمت
مصر، بعد أن
سقطت آخر أسرة حاكمة مصرية عقب فتوح الإسكندر، وضاعت تقاليد البلاط العريقة؛ وهذا هو
سبب جهله
بالأحوال الماضية.
على أن المؤرخين التوراتيين — في قناعتهم الراسخة، أو بالأحرى إيمانهم الراسخ، بصدق
الرواية
التوراتية وتاريخيتها — راحوا يبحثون وراء تلك المعجزات والخوارق والتهويلات عن العناصر
التاريخية
الهاجعة تحت ركام الأخيلة والتهويمات، واعتقدوا أن بإمكانهم عزل الميثولوجي والخرافي
من أجل الكشف
عن الحقيقي في سيرة سليمان، وهم في ذلك لا يعون مسألة على غاية من الأهمية في فهم النص
التوراتي؛
سواءٌ في هذه السيرة أم في غيرها؛ وهي أن العناصر الميثولوجية والخرافية هي جزء لا يتجزأ
من القصة؛
بل إنها هي المقصودة بالدرجة الأولى، وبدونها لم يكن لقصص داود وسليمان أن تستمر حيةً
في الخيال
الشعبي، لا في ذهن اليهود فقط؛ وإنما في ذهن بقية الثقافات التي احتكت بالأدب التوراتي
وتأثرت به،
ولا أدل على ذلك من امتلاء حكايات ألف ليلة وليلة العربية بأخبار لا تُحصى عن كنوز سليمان،
وخاتم
سليمان، وعفاريت سليمان التي كان يحبسها في قماقم ويرميها إلى البحر لخروجها عن طاعته.
ومن ناحية
أخرى، فإن هؤلاء المؤرخين لا يقدمون لنا معيارًا موضوعيًّا واضحًا استخدموه في عملية
فصل الخرافي
عن الواقعي، فلماذا نستطيع صرف النظر عن أن الفضة كانت في أورشليم مثل الحجارة، ونصدِّق
أن سليمان
قد تزوج من ابنة فرعون مصر؟ أو لماذا نصدِّق أن سليمان قد بنى ذلك الهيكل الضخم، ونصرف
النظر عن
أطنان الذهب التي استُخدمت في تزيينه، وعن الحجارة الكريمة التي نُشرت لصنع أساساته؟
أو لماذا نصرف
النظر عن أن «طعام سليمان لليوم الواحد كان ثلاثين كيسًا من السميد، وستين كيسًا من الدقيق،
وعشرة
ثيران مسمَّنة، وعشرين ثورًا من المراعي، ومئة خروف، ما عدا الأيائل والظباء واليحامير
والإوز
المسمَّن»، ونصدِّق أنه كان متسلطًا على جميع الممالك من النهر إلى أرض فلسطين وإلى تخوم
مصر؟ ألا تقف
هذه الأخبار على قدم المساواة شكلًا ومضمونًا؛ باعتبارها عناصر أدبية روائية لا غنَى
عنها في
الملاحم والقصص البطولية لدى الشعوب؟
إن ما تحتاجه من أجل فرز الحقيقة عن الخيال في أية رواية عن أحداث الماضي؛ هو نوعان
من
البينات؛ الأول: وثائق نصية معاصِرة للحدث أو قريبة منه زمنيًّا، والثاني: وثائق أثرية
مادية تدل
عليه، وكلا النوعين مفقود تمامًا بخصوص أحداث سفر الملوك الأول. من هنا، فإن موضوع النقاش
حول
المملكة الموحدة ليس دقةَ الرواية التوراتية، أو مبالغاتِها؛ بل عدمُ تاريخيتها من حيث
الأساس.
فالنصوص الآرامية، وسجلات مصر وآشور، خلال القرن العاشر — الذي يعتبر من العصور الموثقة
جيدًا — لم
تلحظ قيام «إمبراطورية» كبرى بين ظهرانيها، ولم تعبأ بذكر واحد من ملوكها الذين حطَّت
جيوشهم على
شواطئ الفرات وأطراف النيل، عند نقاط التَّماس مع مناطق نفوذ القوى العظمى، وفي عقر دار
الممالك
الآرامية القوية على الفرات والخابور. وبشكل خاص، فإن سجلات الفرعون سيامون (آخر ملوك
الأسرة
الحادية والعشرين)، الذي يفترض المؤرخون التوراتيون أنه الفرعون الذي زوَّج ابنته لسليمان؛
تخلو من
أية إشارة إلى الأحوال السائدة في فلسطين، أو إلى قيام أي نوع من العلاقات الديبلوماسية
بين
البلاط المصري والممالك الفلسطينية. أما سجلات الفرعون شوشانق (أول ملوك الأسرة الثانية
والعشرين) فتحتوي على خبر حملة عسكرية واحدة شنَّها شوشانق على فلسطين وسورية الجنوبية،
ولكن
الجداول الطبوغرافية لهذه الحملة لا تذكر أورشليم، ولا نستشفُّ منها بأن الفرعون المصري
كان يواجه
مملكة موحدة تحت سلطان «إمبراطور» واحد.
وفي مقابل صمت الوثائق الكتابية للثقافات المجاورة عن سليمان ومملكته، فإن النص التوراتي
في
سفر الملوك الأول يصمت عن ذكر الممالك المعاصرة لمملكة سليمان، ولا يعطينا صورةً عما
كان يجري في
المنطقة خلال عصر المملكة الموحدة؛ فمحرر سفر الملوك الأول — مثله مثل محرر سفر صموئيل
الثاني — لم
يسمع بمملكة آشور التي كانت سيدة المشرق في ذلك الوقت، ولا بالممالك الآرامية القوية
في حوض الفرات
والخابور ومناطق الشمال السوري، ولا بمملكة سيميرا أقوى مملكة في مناطق سورية الوسطى؛
كما أنه لم
يكن يعرف شيئًا عن مدى النفوذ المصري في فلسطين وسورية الجنوبية، والعلاقات بين مصر والدويلات
الفلسطينية. إننا لا نناقش المؤرخين التوراتيين في مدى دقة رواية سفر الملوك الأول، أو
في
مبالغاتها؛ بل في عدم تاريخيتها من حيث الأساس. ونحن لا نشك في قيام المملكة الموحدة
لكل إسرائيل
خلال القرن العاشر، بل نقول: إنه من المستحيل أن تكون قد قامت، وقولنا هذا يستند إلى
نتائج
التنقيبات الأثرية منذ أوائل الستينيات وحتى أواخر التسعينيات من القرن العشرين.
عندما رسمت كاثلين كينيون حدود مدينة أورشليم على ذروة هضبة أوفيل، في القرن العاشر
قبل
الميلاد، قسمتها إلى قسمين؛ الأول: هو المدينة اليبوسية الداودية (انظر المخطط في الشكل
رقم
١-٤)،
والثاني: هو التوسعات السُّليمانية المحصورة بين السور الشمالي للمدينة اليبوسية والجدار
الجنوبي
لمصطبة الحرم الشريف. فقد تبين لها — من دراسة المستويات الستراتيغرافية للردم الترابي
حول السور —
أن سور التوسعات الشمالية يرجع إلى القرن الثامن قبل الميلاد، بينما يرجع سور بقية المدينة
إلى ما
قبل الألف الأول قبل الميلاد. أما كيف تكون هذه التوسعات سليمانيةً رغم أن سورها يرجع
إلى ما بعد
عصر سليمان بقرنين، فإليك تفسير المُنقِّبة كما ورد بحرفيته في كتابها حفريات أورشليم:
«إن تاريخ هذا السور — اعتمادًا على دراسة محتويات الردم الترابي المحيط به، وعلى التقدير
الميداني لعمر الكسرات الفخارية — يرجع إلى القرن الثامن قبل الميلاد، أو أبكر قليلًا.
على أن
المسألة المثيرة للانتباه هي أن بُناة السور قد استخدموا حجارةً مستخدمة سابقًا، وهي
من النمط
الفينيقي الذي بُنيت به قصور مدينة السامرة في مطلع القرن التاسع قبل الميلاد. وبما أن
استعانة
الملك سليمان بمعماريين فينيقيين هي أمر مؤكد، فإن من المنطقي أن نستنتج بأن بُناة سور
القرن
الثامن كان لديهم سور يعود إلى عصر الملك سليمان استمدوا منه حجارتهم». وبما أن الشك
لا يخامر
كينيون بأن هيكل سليمان كان قائمًا في أواسط القرن العاشر قبل الميلاد، فإنها تتابع القول:
«إن
الدلائل المستمَدة من نقاط التنقيب (على هذا الخط)؛ تشير إلى أن سليمان قد وصل المدينة
القديمة
بجدار مصطبة الهيكل الجنوبية من خلال سور يصعد بمحاذاة الذروة الشرقية لسلسلة هضاب القدس
الشرقية».
٥
لا يوجد في هذا المقطع الذي اقتبسته عن كينيون أيُّ تحريف للوثائق الأثرية؛ فالسيدة
كينيون
مشهود لها بالدقة العلمية وطول الباع في تقنيات التنقيب الحديث؛ ناهيك عن أن التحريف
والمغالطة في
الوقائع الأثرية ليس مستبعَدًا بل مستحيل في علم الآثار الحديث؛ إن المشكلة تكمن في التفسير
القائم على الأفكار المسبَّقة؛ ففي أواسط الستينيات لم يكن أحد من المؤرخين أو الآثاريين
يشكِّك في
تاريخية سليمان وتاريخية المملكة الموحدة، ومثل هذه المملكة وهذا الملك يحتاجان إلى عاصمة
تتفق
إلى حد ما مع الوصف التوراتي، وهذا ما قاد كينيون إلى إرجاع حجارة السور الفينيقي الأسبق
لمنطقة
التوسعات إلى عصر سليمان، ومن دون أن يخطر لها بأن السور ربما بُني في زمن ما خلال القرن
التاسع
قبل الميلاد، من قِبَل أحد أمراء أورشليم. إن الأقرب إلى الصواب — واستنادًا إلى نتائج
كينيون
الستراتيغرافية — هو الاستنتاج بأن القرية اليبوسية المسورة التي يقولون بأن داود لم
يتفرغ
لتوسيعها؛ قد بقيت على حالها خلال الفترة المفترضة لحكم سليمان؛ أي: إلى أواخر القرن
العاشر، وأن
التوسعات قد جرت عليها في زمن ما خلال القرن التاسع قبل الميلاد؛ لأن قصور مدينة السامرة
— التي
أُخذت كمعيار للتعرف على نمط الحجارة الفينيقية — قد بُنيت خلال العقود الأولى من القرن
التاسع.
على أننا إذا سلَّمنا جدلًا مع كينيون بأن هذه التوسعات الشمالية للمدينة القديمة
هي من الفترة
السليمانية، فهل تكفي هذه المساحة الإضافية لرفع أورشليم القرن العاشر قبل الميلاد إلى
مَصافِّ عواصم
الشرق الكبرى؟ إن نظرةً سريعة إلى مخطط كينيون في الشكل رقم
٢-١؛ تُبين لنا أن مساحة التوسعات
الشمالية لا تزيد عن الهكتارين، وأن مساحة المدينة بقِسمَيها لا تزيد عن ستة هكتارات
ونصف الهكتار؛
وهذا يعني أن مساحة بعض المدن الفلسطينية الكبرى، مثل حاصور في الجليل، ومجدُّو في وادي
يزرعيل؛ قد
فاقت أورشليم السليمانية عشرة أضعاف، وأن مساحة بعض المدن السورية الكبرى، مثل قطنة،
قد فاقتها عشرين
ضعفًا. ونحن هنا نستبعد المقارنة مع العواصم الإمبراطورية الحقيقية، مثل بابل ونينوى؛
لأن مثل هذه
المقارنة ستكون ظالمةً إلى حد بعيد.
لقد رأينا في الفصل السابق كيف أن السيدة كينيون لم توفَّق في المطابقة بين نشاطات
داود
العمرانية وأركيولوجيا المدينة اليبوسية؛ فالبيِّناتُ الأركيولوجية على إعادة بناء أو
ترميم السور؛
معدومة تقريبًا، يضاف إلى ذلك أن ضيق المدينة لا يسمح ببناء قصر كبير للملك على ذروة
الهضبة، غير
أن منطقة التوسعات الجديدة التي عزَتْها لسليمان قد سمحت لها ببعض المرونة في المطابقة
بين نشاطات
سليمان العمرانية وأركيولوجيا المدينة السليمانية، فهذه المنطقة كانت قطاعًا ملكيًّا
ضمَّ قصور
سليمان وأبنيته الإدارية. تقول كينيون في كتابها حفريات أورشليم: «يبدو لي أن من المنطقي
الافتراض
بأن المنطقة المستحدثة بين السور الشمالي للمدينة اليبوسية ومصطبة هيكل سليمان؛ كانت
قطاعًا
ملكيًّا، احتوى على الأبنية الإدارية التي تتطلبها العناية بشئون المملكة، مثلما احتوى
أيضًا على
قصر لسليمان وآخر لابنة الفرعون، وعلى مساكن لزوجاته السبعمائة وجواريه الثلاثمائة …
وإني أعتقد
بأنه قد بنى قصره في المنطقة الملاصقة لجدار الهيكل، أما قصر ابنة الفرعون فقد كان بالتأكيد
متصلًا بقصره، يليهما أبنية موظفي الإدارة الملكية ومساكن الحريم».
٦ هذه الاستنتاجات، التي لا تقوم على أية بينة أركيولوجية، تسوقها كينيون بعد أن أخبرتنا
بأن «أي محاولة لتحديد التوسعات السليمانية الشمالية تتضمن الكثير من الافتراضات … وذلك
بسبب
عمليات اقتلاع الحجارة المتوالية واستخدامها في المستويات اللاحقة، وخصوصًا خلال العصر
الروماني …
إن كل المستويات السابقة على العصر البيزنطي قد مُحيت وأُعيد استخدام حجارتها».
٧
وهنا يحق لأي طالب جامعي في قسم التاريخ أو الآثار درَس الحواضر السورية ومخططات أبنيتها
وقصورها؛ أن يتساءل: كيف يمكن لهكتارين من الأرض أن يتسعا لقطاع ملكي وإداري يحتوي على
قصرين
ملكيين، وأبنية للبيروقراطية، ومساكنَ لإيواء حريم سليمان؛ إضافة إلى الوجائب والطرقات
والباحات
الداخلية؟ لقد بلغت مساحة قصر الملك زمري ليم في مدينة ماري القرن الثامن عشر هكتارين
ونصفًا، ومع
ذلك لم يحتو إلا على ثلاثمائة غرفة لا تكفي لإسكان حريم سليمان اللواتي بلغ عددهن الألف.
ثم تتابع كينيون افتراضاتها، في ظل غياب الشواهد الأثرية، وتربط العمائر السليمانية
بأنماط
العمارة السورية المعروفة خارج فلسطين؛ وخصوصًا في المنطقة الفينيقية؛ لأن الفينيقيين
هم الذين
بنوا الروائع المعمارية في أورشليم: «إن ما يستطيع علم الآثار القيامَ به هو ربط النشاطات
العمرانية السليمانية بما نعرفه عن حضارة آسيا الغربية المعاصرة لها. ومفتاحنا هنا هو
ما ورد في
سفر الملوك الأول عن استعانة سليمان بحيرام ملك صور الفينيقي؛ ليمده بخشب أرز وبنَّائين
مهَرة
لتعمير بيت الرب وغيره من المنشآت الضخمة في أورشليم. وكذلك ما ورد في سفر صموئيل الثاني
عن
استعانة داود بحيرام؛ ليمده بنجَّارين وبنَّائين. هذان المقطعان في النص التوراتي هما
الأساس الذي يقوم
عليه أي تصور لما كانت عليه الأبنية العامة السليمانية، بما فيها القصور وهيكل الرب.
فالقبائل
الإسرائيلية لم تكن تملك خبرة ومهارة في البناء، والشواهد الأثرية تدل على أنهم لم يكتسبوا
قط مثل
هذه المهارات، من هنا، لم يكن أمام سليمان، الذي كان يطمح لبناء عاصمة لا تقل عن عواصم
معاصريه،
إلا الاستعانة بالمهارات الخارجية، متوسلًا إلى ذلك بثروته وغناه.»
٨
المسألة غير المفهومة لدينا هنا، هي لماذا كان على سليمان أن يذهب بعيدًا إلى فينيقيا
من أجل
استيراد المهارات الخارجية في البناء، رغم توفر هذه المهارات لدى أهل المدن الفلسطينية
القديمة
الكبرى، مثل مجدو وبيت شان في وادي يزرعيل، وحاصور في الجليل، ولخيش وجازر في سهل شفلح؟
وإذا كان
نفوذ سليمان قد تجاوز المناطق التقليدية للتواجد الإسرائيلي في منطقة الهضاب، وصارت هذه
المدن ضمن
ممتلكاته، لماذا لم يلجأ للاستعانة برعاياه في هذه المدن؟ ثم لماذا لم يكن لدى الإسرائيليين
مهارة
في أعمال البناء رغم مُضي ثلاثة قرون تقريبًا على تواجدهم في فلسطين واحتكاكهم بسكانها
المتحضرين؟
الجواب على هذا السؤال، هو أنه لم يكن هناك قط قبائل إسرائيلية وفدت إلى فلسطين من خارجها،
وهذه
القبائل لم تتنادَ إلى تشكيل مملكة موحدة تحت قيادة شاؤل وخلفائه، بعد أن عاشت حياة بدائية
في
المناطق الهضبية طيلة قرنين خلال عصر القضاة. سوف نستمع إلى شهادات علم الآثار الإسرائيلية
الحديث
وهو يعترف بهذه الحقائق في الفصول القادمة. أما الآن فسوف نتابع افتراضات كاثلين كينيون،
التي
تعاود الانتقال من الواقعة الأركيولوجية إلى تفسيرها القائم على الأفكار المسيطرة:
«إذا كان على المرء أن يعتمد على البينات الأثرية في موقع أورشليم، من المستحيل عليه
أن يخرج
بنتيجة عن نشاطات سليمان العمرانية.»
٩ بعد هذا الطرح العلمي، تنتقل كينيون إلى القول مباشرة: «ولكن موقع الهيكل ليس موضع
شك، فلقد تم تدمير هيكل سليمان خلال الحملة البابلية على أورشليم عام ٥٨٧ق.م. في عام
٥٣٨ق.م.،
سمح الفرس بعد دخولهم بابل بعودة طلائع يهوذا إلى أورشليم، وكان همُّ العائدين بالدرجة
الأولى هو
إعادة بناء الهيكل، فأتموا عملهم حوالي عام ٥١٥ق.م. ومنذ ذلك الوقت، وإلى قيام هيرود
الكبير
بإعادة بناء المعبد، لا يوجد لدينا فجوة في تاريخ هذا البناء.»
١٠ ونحن أمام توكيدات كينيون هنا وعدم شكِّها بالمراحل التي مر بها هيكل سليمان، لا نملك
إلا أن نحيلها إلى ما قالته بخصوص هيكل سليمان الذي ضاع إلى الأبد ولا يوجد في حوزتنا
حجر واحد من
حجارته، وأن نحيلها أيضًا إلى بيِّنتها الواهية عن الهيكل الثاني، وهي ملاحظتها لوجود
قسم في الجدار
الشرقي لمصطبة الحرم الشريف، مبني بحجارة تنتمي إلى النمط الفينيقي المعروف من مواقع
ترجع إلى
القرن السادس قبل الميلاد. إن الاستمرارية التي تتحدث عنها في مراحل تاريخ الهيكل لا
سند لها خارج
النص التوراتي. فالهيكل الأول غير موثق تاريخيًّا وأركيولوجيًّا، ودمار هذا الهيكل غير
مذكور في
السجلات البابلية، والهيكل الثاني غير موثق تاريخيًّا وأركيولوجيًّا. إن كل ما نعرفه
عن هيكل
أورشليم هو المصطبة الباقية من عصر هيرود الكبير ولا شيء آخر. هذه الحقائق لا تمنع من
طرح
الافتراضات، شريطة أن نبقى في حيز التكهنات، ولا نقدم افتراضاتنا في حلة الوقائع
التاريخية.
وعندما راحت كاثلين كينيون تبحث عن آثار المملكة الموحدة خارج أورشليم، وبشكل خاص
في منطقة
مرتفعات يهوذا التي كانت بمثابة القاعدة الرئيسية للملكة، لم تعثر إلا على بنية تحتية
لمجتمع
متواضع وفقير إلى أبعد الحدود. ولكن هذه الحقيقة لا تُدخل الشك إلى نفسها بغنى المملكة
وثرائها
عندما تقول: «لم تقدم لنا البيِّنات الأثرية سوى معلومات غير مباشرة وقليلة عن عظمة بلاط
سليمان.
فخارج العاصمة لا يبدو أن المنطقة كانت على جانب من التقدم والازدهار، بل يسودها الطابع
الفلاحي
المتواضع، رغم السمة الحضارية الكوزموبوليتانية للبلاط الملكي.»
١١ أما تفسير هذه الواقعة الأركيولوجية، فحاضر لدى كينيون، وعلى طريقتها في صياغة
الافتراضات: «لقد تم تسخير موارد سليمان، ولا شك، في تجميل وإعادة بناء أورشليم، الأمر
الذي قاد
إلى إفقار بقية البلاد التي تم تحويل مواردها لخدمة رفاهية العاصمة.»
١٢ وأيضًا: «من الواضح أن عظمة سليمان المادية كانت متمركزة في أورشليم، حيث من المستبعد
أن نجد أية آثار من تلك الفترة تدل عليها. أما في بقية المناطق فقد استمرت البساطة القديمة
على حالها.»
١٣ وهنا نلاحظ كيف اضطرت كينيون لأن تدير ظهرها لوصف أحوال رعايا مملكة سليمان في سفر
الملوك الأول، حيث قرأنا سابقًا: «وكان يهوذا وإسرائيل كثيرين كالرمل الذي على البحر
في الكثرة،
يأكلون ويشربون ويفرحون … وسكن كل واحد تحت كرمته وتحت تينته، من دان إلى بئر السبع.»
إن تقييمي الأخير لمجهود السيدة كاثلين كينيون، الذي تلخصه مؤلفاتها الرئيسية الأربعة
في
أركيولوجيا أورشليم وفلسطين الكبرى؛ هو أن هذه العالمة الجليلة كانت ضحية الأفكار المسيطرة
على
البحث الأثري والتاريخي حتى أواسط الستينيات. ولو قُيِّض لمنقِّبة لامعة مثلها أن تعيد
كتابة مؤلفاتها
على ضوء المعلومات الجديدة، لأسقطت كل فرضياتها وتفسيراتها التي لا تقوم على أساس، وتحررت
من عبء
محاولات التوفيق الفاشلة بين ما يتكشف أمام العين في البحث الميداني، وبين الرواية التوراتية.
لم يوفَّق البحث الأثري بعد الستينيات إلى إضافة الكثير على ما خرجت به كينيون بخصوص
القرن العاشر؛ سواءٌ في أورشيلم أم في بقية مناطق الهضاب المركزية ومرتفعات يهوذا، وهي
المناطق
التقليدية للتواجد الإسرائيلي في فلسطين، والقاعدة الأساسية للملكة الموحدة. من هنا،
فقد تحولت
أنظار الباحثين إلى المناطق الأخرى في وادي يزرعيل ومرتفعات الجليل وسهل شفلح، التي يفترضون
اعتمادًا، على النص التوراتي، أن نفوذ داود وسليمان قد امتد إليها، وكان لمدن حاصور في
الجليل،
ومجدو في وادي يزرعيل، وجازر في سهل شفلح، أهميةٌ خاصة في البحث عن آثار المملكة الموحدة،
فهذه
المدن قد لقيت عناية خاصة من الملك سليمان، على ما أورده سفر الملوك الأول ٩: ١٥ حيث
نقرأ: «وهذا
هو سبب التسخير الذي جعله الملك سليمان لبناء بيت الرب وبيته والقلعة وسور أورشليم، وحاصور
ومجدو
وجازر … إلخ»، وهذا المقطع يفيد بأن سليمان قد أنفق على هذه المدن الثلاث من نفس المصادر
المالية
وسخرة اليد العاملة المفرزة لنشاطاته في العاصمة أورشليم (انظر مواقع هذه المدن في الخريطة
الموضحة في الشكل
٦-١).
قبل الدخول في مسألة آثار المملكة الموحدة في هذه المدن الثلاث، سوف نعطي فكرة عن
كلٍّ منها.
فقد كانت مجدو أكبر مدن وادي يزرعيل، وهي تسيطر على مدخل خط المواصلات الدولي الذي يصل
منطقة
الساحل بسورية الداخلية. وقد كانت على الدوام مقرًّا لقيادة القوات المصرية المتواجدة
في الوادي
لحماية خط القوافل التجارية، وتربطها مع فراعنة مصر معاهدات تبعية وتعاون، أما جازر فقد
كانت، إلى
جانب لخيش، أهم مدن سهل شفلح (التلال المنخفضة) ومركزًا مهمًّا لتسويق منتجات شفلح الزراعية
والسهل الساحلي. وأما حاصور فقد كانت أكبر وأقوى وأمنع المدن الفلسطينية طرًّا، وكانت
علاقاتها
التجارية منذ مطلع الألف الثاني قبل الميلاد ذات طابع كوزموبوليتاني، وورد ذكرها في السجلات
المصرية لفراعنة المملكة المتوسطة والحديثة، كما ذكرتها وثائق مدينة ماري كإحدى أهم المراكز
التجارية في بلاد الشام. ونعرف من بعض هذه الوثائق، التي تعود إلى القرن الثامن عشر قبل
الميلاد،
أن بابل قد عيَّنت قنصلَين تجاريَّين لها في مدينة حاصور. وقد جاءت التنقيبات الأثرية
في موقع حاصور،
منذ أواسط الخمسينيات، لتؤيد هذه الصورة التاريخية لها، فقد بلغت مساحتها ٧٥ هكتارًا،
وأحاط بها
سور يُعَد من أمنع أسوار مدن الوسط والجنوب السوري. من هنا فنحن نَعجَب، ابتداءً، من
خضوع هذه المدينة
لأورشليم التي لم تزِدْ مساحتها خلال القرنين العاشر والتاسع قبل الميلاد عن ستة هكتارات
ونصف،
والتي لم يَرِد ذكرها في الوثائق السورية الرافدينية حتى أواخر القرن الثامن قبل الميلاد.
كان عالم الآثار الإسرائيلي إيجال يادين
Yigal Yadin أول من
اعتقد بوجود صلة تجمع هذه المدن الثلاث، المدعوة بالمدن الملكية. فخلال إشرافه على أول
حملة
تنقيبية شاملة في موقع حاصور، اكتشف يادين بوابة رئيسية في سور المدينة المزدوج
(
casemate wall)، ذات نمط خاص، فهي عبارة عن ممر عريض تحفُّ به ست غرف،
ثلاث عن اليمين وثلاث عن اليسار (انظر مخطط البوابة في الشكل رقم
٤-١)، وقد أرجع المنقِّب السور
والبوابة إلى القرن العاشر قبل الميلاد، وعزا بناءهما للملك سليمان. وبما أن بوابتين
مشابهتين
كانتا قد اكتُشفتا بشكل جزئي في كلٍّ من مجدو وجازر، فقد انتقل يادين مباشرة إلى مجدو
وأعاد التنقيب
في موقعها، فكشف عن بقية أجزاء البوابة، التي تَبين له تطابُقها من حيث التصميم مع بوابة
حاصور.
وبما أن الظروف لم تسمح له بإعادة التنقيب في جازر، فقد عمَد إلى وضْع رسم تخطيطي للجزء
غير المكتشف
من بوابتها، وجاء التصميم هنا أيضًا مشابهًا لتصميم البوابتين الأخريين، وقد أرجع يادين
تاريخ
بوابتي مجدو وجازر إلى القرن العاشر أيضًا واعتبرهما من بناء سليمان. وبذلك وُلد لأول
مرة مفهوم
«أركيولوجيا المملكة الموحدة» (انظر المخططات في الشكل رقم
٤-١).
على أن الجيل الثاني من المنقِّبين الإسرائيليين، الذي يتميز بمواقفَ أكثر نقدية
من الرواية
التوراتية، قد تحدَّى تأريخ يادين. يقول المنقِّب أمنون بن تور، الذي يشرف منذ أواخر
التسعينيات على
حملة تنقيبية شاملة في موقع حاصور، في دارسة مطولة نُشرت على حلقتين في مجلة علم الآثار
التوراتي
خلال عام ١٩٩٩م ما يلي:
«لسنوات طويلة كان تأريخ يادين للبوابات الثلاث موضع جدل وأخْذ ورد. ولكن تأريخ يادين
يواجه
اليوم نقدًا قويًّا؛ وذلك لعدد متنوع من الأسباب، وخصوصًا من قِبَل المنقبين العاملين
في موقع مجدو
الذين يقفون على رأس معارضي أساليب يادين في التأريخ. ومعظم هؤلاء يرجعون تاريخ البوابات
إلى
القرن التاسع قبل الميلاد. تتخذ هذه المعارضة الآن أهمية خاصة؛ لأنها تأتي في سياق الجدل
الدائر
في الحلقات الأكاديمية (في إسرائيل وخارجها) حول تاريخية عصر المملكة الموحدة. ذلك أن
فريقًا من
الباحثين اليوم لا يكتفي بوصف إنجازات داود وسليمان على أنها نوع من المبالغات النصية
في كتاب
التوراة، بل يذهب إلى القول بأن أولئك الملوك كانوا شخصيات خيالية، أو على أحسن تقديرٍ
مشايخَ
قبليين محليين.» وبعد أن ينتهي المنقِّب من تلخيص نتائج حفرياته في موقع حاصور، يقول
بخصوص البوابة
الشهيرة ما يلي: «ولكن هل نستطيع أن نعزو البوابة والسور المزدوج إلى الملك سليمان؟ لسوء
الحظ، فإن
البيِّنة الآثارية لا تسمح لنا بتقرير تاريخ على هذه الدرجة من الدقة. هذا كل ما أستطيع
الإدلاء به
كعالم آثار، من غير أن أدَّعي طول الباع في التاريخ أو في الدراسات التوراتية. من الممكن
أن يكون
سليمان مسئولًا عن بناء البوابة والتحصينات، ولكن هذا القول ليس بالنسبة لي نتيجة مبنية
على علم
الآثار. فمن الممكن من الناحية الآثارية أن نعزو هذه النشاطات العمرانية إلى عهد الملك
يربعام
الذي استقل بحكم المملكة الشمالية بعد موت سليمان.»
١٤
ولكن ما لم يقله لنا أمنون بن تور هنا، هو أن حملات تنقيبية إسرائيلية أخرى قد بدأت
تكتشف
بوابات مشابهة خارج المدن الثلاث المدعوة بالملكية، وأن تأريخ هذه البوابات أظهر أنها
قد بُنيت بعد
قرن أو أكثر من البوابات الملكية. وهذا يعني أن نمطًا معماريًّا للبوابات كان شائعًا
في فلسطين،
وهذا النمط لا علاقة له باركيولوجيا المملكة الموحدة، يقول توماس ل. تومبسون، الذي شارك
في عمليات
التنقيب بموقع جازر في أواخر الستينيات، عندما كان في طور التدريب الميداني ما يلي:
«إن الخبر المقتضب الوارد في سفر الملوك الأول ٩: ١٥، عن بناء سليمان لتحصينات أورشليم
وحاصور
ومجدو، قد تم ربطه بتحصينات وطراز بوابة اكتُشفت في موقع حاصور، وهناك بوابة معاصرة لبوابة
حاصور
تم التعرف عليها في موقع مجدو القريب، وأظهرت شبهًا مدهشًا بها لا من حيث الطراز المعماري،
بل من
حيث قطع الحجارة المستخدمة في بنائها، والتي نُحتت بالأسلوب نفسه. وفي الوقت الذي لم
يتم العثور فيه
على شيء مشابه في أورشليم، فإن البعثة البريطانية التي نقَّبت في موقع جازر في مطلع القرن
العشرين،
قد أزاحت التراب عن نصف بوابتها التي تم بناؤها بنفس الأبعاد والنمط المعماري، ولكن هذا
الاكتشاف
قد مر دون أن يلاحظه أحد، خطأ في تاريخ البوابة أرجعها إلى الفترة الهيلينستية. وفي عام
١٩٦٦م تقرر
الكشف عن النصف الثاني المطمور من البوابة (بعد أن أظهر يادين صلتها ببوابتَي حاصور ومجدو)،
وقد
كنت وقتها مساعدًا ثانويًّا في فريق التنقيب. رغم أن همَّ البعثة كان الكشف عن البوابة
ومقارنتها
ببوابتَي حاصور ومجدو، إلا أنه كان من الواضح للجميع والمقرر سلفًا بأنها بوابة سليمانية،
ومعاصرة
لمثيلاتها، حتى قبل أن نضرب مِعولًا واحدًا في الأرض، ثم جاءت أبعاد البوابة وعمارتها
لتؤيد ذلك.
وهكذا تم وضع هذه المدن المتعالقة، والتأريخ الستراتيغرافي للمواقع الثلاثة، بسرعة وبطريقة
كارثية
في خدمة مصداقية الخبر التوراتي.
«إن هذا الإثبات المفترض لتاريخية أخبار نشاطات سليمان العمرانية، لم يؤثر فقط على
فهمنا
وتأريخنا لهذه المواقع، وإنما سمح لكثير من المؤرخين والآثاريين بالاستمرار في توكيد
العظمة
الثقافية والمادية والسياسية للمملكة الموحدة. غير أن هذه الفبركة قد بدأت تتهاوى عندما
أخذت
حملات تنقيبية إسرائيلية تكتشف بوابات مشابهة في مواقع غير إسرائيلية، مثل موقع أشدود
في السهل
الفلستي، وموقع لخيش في سهل شفلح، وتبين أنها قد بُنيت بعد قرن من بوابات المدن الثلاث،
وأنها
تنتمي إلى فترة أركيولوجية مختلفة تمامًا عن تلك. وهكذا، وخلال سنوات قليلة، صارت «البوابات
السليمانية» تُدعى في الكتابات الأكاديمية ﺑ «البوابات المدعوة بالسليمانية.»
١٥
إضافة إلى بوابات المدن الثلاث هذه، فقد وجد الباحثون عن آثار المملكة الموحدة، خارج
مناطق
إسرائيل ويهوذا في الهضاب الفلسطينية، ضالَّتَهم الثانية في بُنًى معمارية غير مألوفة
الشكل، تم العثور
عليها في موقع مدينة مجدو. فالبنية الواحدة تتألف من قاعة مستطيلة يقسمها طولانيًّا صفان
من
الأعمدة إلى ثلاثة أقسام. ويتم الدخول إليها من باب في مقدمة القسم الأوسط (انظر المخطط
في الشكل
رقم
٤-٢). وقد فسرت الحملات التنقيبية الأولى هذه البنى المعمارية على
أنها إسطبلات الملك سليمان، وأن مجدو كانت إحدى مدن الفرسان والمركبات التي يشير إليها
نص سفر
الملوك الأول ٩: ١٩، حيث قرأنا سابقًا: «وبنى سليمان … إلخ، وجميع مدن المخازن ومدن المركبات
ومدن الفرسان.» ولكن هذا التفسير قد تم تحديه من قِبَل العديد من علماء الآثار لاحقًا،
فقد قام فريق
التنقيب في موقع مدينة السامرة، بربط هذه البنى (التي صارت تُدعى بالبنى الثلاثية) من
الناحية
المعمارية بأبنية مدينة السامرة التي ترجع إلى القرن التاسع قبل الميلاد. كما أن الدراسات
الستراتيغرافية الجديدة لموقع مجدو قد أشارت بدقة إلى انتماء البنى الثلاثية إلى النصف
الثاني من
القرن التاسع قبل الميلاد.
١٦ وهذا ما يجعلها خارج مجال أركيولوجيا المملكة الموحدة.
ولكن ماذا عن وظيفة هذه المباني؟ إن حجمها الضخم وسماكة جدرانها يدل على أنها كانت
أبنية
عامة، ولكن لأي شأن عام أُحدثت؟ لقد بقي المنقِّب الإسرائيلي إيجاد يادين مُصرًّا، حتى
أواسط
السبعينيات، على أن البنى الثلاثية في مجدو كانت إسطبلات. ولكن زملاء يادين الذين اكتشفوا
بُنًى
مماثلة في حاصور وبئر السبع فسَّروها على أنها مستودعات، ووافق على هذا التفسير عالم
الآثار
الأمريكي التوراتي اللامع جيمس بريتشارد في مقالة له عام ١٩٧٦م. وبعد ذلك تم اكتشاف مثل
هذه البُنى
الثلاثية في اثني عشر موقعًا ضمن فلسطين الكبرى، بعضها يرجع بتاريخه إلى القرن الحادي
عشر،
وجميعها تقريبًا يقع قرب البوابات الرئيسية للمدن. وهذا ما قاد أخيرًا إلى الاتفاق السائد
اليوم
على أنها ليست سوى مراكز للتبادل التجاري.
١٧
وهكذا يقودنا صمت الوثائق التاريخية وانعدام الشواهد الآثارية إلى نتيجة واحدة، هي
أننا لن
نعثر على الملك سليمان إلا في القَصص الشعبي الذي يعيد، على طريقته الخاصة، صياغةَ القصص
الشعبي
التوراتي المؤيد بسطوة الأفكار الدينية واللاهوتية. إن سليمان وعفاريته التي كان يحبسها
في
القماقم هما من طينة واحدة.
يقول المؤرخ توماس ل. تومبسون في كتابه
The Bible in History
الصادر عام ١٩٩٩م:
«خلال القرن العاشر، لم تكن مرتفعات يهوذا لتحتوي إلا على عدد ضئيل من السكان لا يتجاوز
الألفي
نسمة، موزعة على بضع عشرات من التجمعات القروية الصغيرة التي تعيش على زراعات الكفاف،
إضافة إلى
فعاليات ضعيفة في مجال الاحتطاب والرعي. أما أورشليم، فإنها إذا كانت مدينة حية ومسكونة
في القرن
العاشر (وهذا ما لم تستطع الشواهد الأثرية إثباته)، فقد كان عليها أن تنتظر قرونًا عدة
قادمة قبل
أن تمتلك المقدرة على تحدي عشرات المدن القوية والمستقلة الأخرى في فلسطين، فهي لم تكتسب
وضْع
المدينة الحقيقية إلا في سياق القرن السابع قبل الميلاد، ولم تكن قبل ذلك سوى بلدة صغيرة
تتصل
مصالحها بوادي أيالون الذي يصلها بسهل شفلح غربًا، من دون مرتفعات يهوذا. وفيما يتعلق
بمنطقة
الهضاب المركزية (إسرائيل)، فإنها لم تطور هيكلية الدويلة القادرة على التحكم بأفضل مناطق
إقليمها
إلا بعد قرنين على الأقل من التاريخ المعزوِّ للمملكة الموحدة. كل هذا يعني أنه لم يكن
هناك مملكة
لشاؤل وداود وسليمان؛ لأنه لم يكن هناك ما يكفي من السكان. وكل الدلائل تشير إلى عدم
وجود سلطة
مركزية سياسية قوية في القرن العاشر، كانت قادرة على توحيد عدد من الأقاليم تحت قيادتها.»
١٨
ويقول الباحث البريطاني كيث وايتلام، في كتابه الجديد الصادر عام ١٩٩٩م ما يلي:
«إن التغير في عدد من العناصر ذات الصلة بموضوعنا هنا (مثل التغير في مقاربات دراسة كتاب
التوراة) وفقدان البينة الأركيولوجية، وتوضح ضعف البني التحتية للمجتمعات الفلسطينية
مقارنة ببقية
مجتمعات الشرق القديم؛ من شأنه تقويض ادعاءات الدراسات التوراتية بخصوص إمبراطورية لداود
وسليمان
كانت قوةً عظمى في القرن العاشر … ومع ذلك فإن هذه الدراسات تُظهر تحفُّظًا غريبًا عندما
تأتي إلى
تفسير صمت الشواهد الأثرية عن هذه الإمبراطورية المجيدة، في الوقت الذي تلجأ فيه إلى
استغلال
الصمت نفسه من أجل بناء تصوُّر عن الماضي لا يؤيده سوى الرواية التوراتية.»
١٩
وعلى هامش دراسته لمدارس المكتبة في يهوذا، يقول الباحث
D.
Jamieson، بأن تقصِّيَه لأصول مملكة يهوذا قد أوصله إلى حقيقة في غاية من الأهمية،
وهي أن البينات شبه معدومة على قيام هيكلية دولة في المناطق الهضبية خلال القرن العاشر،
وأن
الدولة في مرتفعات يهوذا لم تنشأ قبل القرن الثامن قبل الميلاد، عندما أخذت الدلائل الأركيولوجية
تشير إلى زيادة ملحوظة في عدد السكان، وتوسُّع في النشاطات العمرانية، وزيادة في الإنتاج،
وميل نحو
المركزية السياسية، وحتى في ذلك الوقت، فإن الشواهد الأركيولوجية ترسم لنا صورة دويلة
متواضعة.
٢٠
وقد قام الجيل الجديد من علماء الآثار في إسرائيل بالإجهاز على مفهوم أركيولوجيا
المملكة
الموحدة، إجهازًا تامًّا، وبكل علمية وموضوعية. فقد خرج عالِم الآثار اللامع فنكلشتاين
Israel
Finkelstein وزميله
D. Ussishkin (وكلاهما من
الجامعة العبرية في تل أبيب) من دراستهما الميدانية للبُنى المعمارية المعزوة لعصر المملكة
الموحدة، بنتيجة مفادها أن جميع هذه المنشآت تعود إلى القرن التاسع، ولا علاقة لها بسليمان
أو
المملكة الموحدة.
٢١ وفي مداخلة له أمام الندوة الدولية لعلماء الآثار في الولايات المتحدة، أعلن زميلهما
الآخر
Nadav Na’aman (وهو من جامعة تل أبيب أيضًا) أن قصة الملك سليمان في سفر الملوك الأول قصة
غير تاريخية في معظم تفاصيلها، وهو رغم عدم إنكاره لتاريخية شخصية سليمان، إلا أنه يوجه
نقده
للمبالغات الواضحة في النص التوراتي، ولا يرى في مملكة سليمان أكثر من مشيخة صغيرة، أما
هيكل
أورشليم فلم يكن سوى معبد متواضع تم توسيعه فيما بعدُ من قِبل ملوك يهوذا إبان فترة ازدهارها
لاحقًا.
٢٢
ولكن هل كانت هذه المشيخة الصغيرة في أورشليم يهودية؟ وهل كان لليهودية أثر في الهضاب
الفلسطينية خلال القرن العاشر قبل الميلاد؟ هذا ما سنجيب عليه في الفصل المقبل.