عودة إلى الوراء
(١) عصر البرونز المبكر
تشير الشواهد الأركيولوجية واللغوية اليوم إلى أن المنطقة السورية والواقعة بين الفرات شرقًا والبحر المتوسط غربًا، وبين جبال طوروس شمالًا وأطراف الصحراء العربية جنوبًا، كانت مسكونة بشعوب تتكلم اللغة السامية منذ أواخر الألف الرابع قبل الميلاد. إن أقدم المدن التي تعود مستوياتها الأركيولوجية الأولى إلى هذه الفترة، تحمل أسماء سامية موثقة في نصوص تعود إلى مطالع الألف الثاني قبل الميلاد، مثل أريحا وبيت شان وبيت يارح ومجدو وعكا وصيدون وسيميرا وأوغاريت وغيرها. وبما أن التاريخ قد علَّمنا أن أسماء المدن تنحو إلى الثبات والاستقرار عبر عشرات القرون، فإننا نعتقد شبه جازمين بأن مدن بلاد الشام التي حملت أسماء سامية في مطالع الألف الثاني قبل الميلاد، كانت تحمل الأسماء ذاتها في الألف الرابع قبل الميلاد، على أقل تقدير، وأن من أسَّسها وأطلق عليها أسماءها هم أقوام تتكلم لهجات سامية متقاربة. فسكان هذه المنطقة، والحالة هذه، هم أصيلون في مواطنهم الشامية ولم يَفِدوا إليها من خارجها، على ما تقول به نظرية الهجرات السامية من جزيرة العرب، كما أن لغتهم التي ندعوها اليوم بالسامية الغربية قد تطورت في المنطقة السورية ولم يَجرِ استيرادها من الخارج.
أطلق المؤرخون المحدثون اسم الكنعانيين على سكان بلاد الشام خلال الألف الثالث قبل الميلاد، واقتصرت التسمية لديهم على سكان المناطق الساحلية مما يلي أوغاريت جنوبًا، مع بعض الامتدادات الداخلية، كما هو الحال في فلسطين خلال الألف الثاني قبل الميلاد. أما في الألف الأول فقد اقتصرت التسمية على سكان الساحل اللبناني، من أرواد إلى رأس الناقوة، واستُخدمت تبادليًّا مع اسم الفينيقيين، وفي الحقيقة فإن الاسم كنعان غير موثق لدينا في نصوص الألف الثالث قبل الميلاد للدلالة على سكان بلاد الشام، ولكن اعتبارًا من أواسط الألف الثاني قبل الميلاد تبدأ النصوص المصرية بإطلاق الاسم على مناطق فلسطين والساحل السوري الجنوبي مستخدمة صيغة بي–كنعان. ولدينا نصوص قليلة سورية تشير إلى بعض مناطق الساحل السوري بالاسم كنعان، مثل نص إدريمي ملك ألالاخ في القرن الخامس عشر قبل الميلاد، وفي كتاب التوراة أطلق المحررون الاسم على سكان فلسطين تمييزًا لهم عن العبرانيين الذين حلُّوا بين ظهرانيهم. وفي العصر الهيلينستي ترد التسمية على النقود المصكوكة في بعض مدن الساحل الفينيقي، وفي إنجيل متى يُطلق المؤلف صفة كنعاني على سكان مناطق فينيقيا التقليدية في صيدا وصور (متى ١٥: ٢١–٢٢).
شهدت الفترة الانتقالية من الألف الرابع إلى الألف الثالث قبل الميلاد، في كل من سورية ومصر وبلاد الرافدين الجنوبي، نشوءَ ثقافة المدينة التي قامت على الخلفية العامة للعصر الحجري الحديث (النيوليتي) وظهرت أولى المدن الحقيقية في تاريخ الحضارة الإنسانية. كما تشكلت في هذه المناطق كيانات سياسية مركبة ومتطورة، تراوحت في التعقيد من دولة المدينة في كلٍّ من سورية ووادي الرافدين الجنوبي، إلى المملكة الكبرى التي تشتمل على بيئة طبيعية بأكملها كما هو الحال في مصر.
لقد ساعد المناخ الرطب والمطير، الذي ميَّز الألف الرابع قبل الميلاد، المنطقة السورية على تطوير اقتصاد زراعي متقدم يتجاوز الاقتصاد البدائي للعصر النيوليتي، وأدى فيض المحاصيل إلى نشوء حاجة إلى الإدارة المركزية التي تنظم وترشِّد عمليات تسويق المنتجات الوفيرة في السهول الداخلية الواسعة، مثل سهول حلب والجزيرة؛ الأمر الذي قاد إلى نشوء سلسلة من المدن الأولى في منطقة الجزيرة وحوض الخابور، بدأت التنقيبات الحديثة بالكشف عن طلائعها منذ وقت قريب. ففي عام ١٩٩٩م أعلنت البعثة الأوربية المشتركة العاملة في الموقع تل حموكار بمنطقة الحسكة، عن اكتشاف مدينة تعود إلى أواسط الألف الرابع قبل الميلاد، تبلغ مساحتها ٢٥ هكتارًا، ويحيط بها سور متراسي هائل، وقد أحدث هذا الاكتشاف ثورة في معلوماتنا الأركيولوجية، وأرجع تاريخ الثورة المدينية إلى الألف الرابع قبل الميلاد، بعد أن اعتقدنا لفترة من الزمن بأن المدن الأولى قد ظهرت لأول مرة في تاريخ الحضارة الإنسانية في وادي الرافدين الجنوبي (منطقة سومر) مع مطلع الألف الثالث قبل الميلاد. وبما أن هذه المدينة لا يمكن أن تكون قد نشأت منفردة، وإنما في سياق نهضة مدينية شاملة في المنطقة السورية، فإني أعتقد جازمًا بأن سلسلة من المدن المعاصرة لها سوف تخرج من تحت مئات التلال الأثرية التي ما زالت تنتظر معاول التنقيب في منطقة الجزيرة وحوض الفرات.
لم يعطنا موقع تل حموكار رُقمًا طينية، ولكن مثل هذه الرُّقم قد بدأت بالظهور منذ مطلع الألف الثالث في كلٍّ من وادي الرافدين ووادي النيل، وصار بإمكان علم التاريخ الاعتمادُ على هذه الوثائق الخطية في عملية استقصاء أحداث ماضي هذه المنطقة، ثم ما لبثت الوثائق الخطية حتى ظهرت في موقع مدينة إيبلا في الشمال السوري، عندما تم في أواسط سبعينيات القرن العشرين اكتشاف مكتبة في القصر الملكي تحتوي على ٧٠٠٠٠ رقيم فخاري، نُقشت عليها بالمسمارية، المعروفة في وادي الرافدين، موضوعاتٌ تجارية وسياسية ودينية وطقسية شتى.
أما في فلسطين التي كانت منطقة رائدة من مناطق ثقافة العصر الحجري الحديث، فقد تأخر ظهور المدن حتى الفترة الانتقالية بين الألف الثالث والألف الثاني قبل الميلاد، ولكن هذه المدن قد بقيت طيلة الألف الثاني أقرب إلى القرى المسوَّرة منها إلى المدن الحقيقية، ولم تبلغ في أي وقت من الأوقات مستوى المدن السورية؛ إضافةً إلى بقائها في وضع متلقي التأثيرات الحضارية لا في وضع المشعِّ لها. ولعل السبب راجع بالدرجة الأولى إلى تنوع البيئات الطبيعية هنا، وانعزال بعضها عن بعض، وهذا ما لا يشجع ظهور مراكز حضرية كبيرة تعمل على تنظيم الشئون الاقتصادية والاجتماعية لبيئة واحدة متجانسة تضم أعدادًا كبيرة من القرى والبلدات الصغيرة التي تشعر بالحاجة إلى التقارب والتعاون. ففي الوقت الذي شهد فيه الألف الثالث قيام ممالك كبرى في المناطق المجاورة، بقيت فلسطين مؤلفةً من قرًى صغيرة يتراوح عدد سكانها من بضع عشرات إلى بضع مئات، وربما تطور بعض هذه القرى لتصبح بلداتٍ مسوَّرةً تضم الواحدة منها ألفين أو أكثر. ورغم أن هذه المواقع الأولى قد طورت ما ندعوه الآن بالاقتصاد المتوسطي، الذي يقوم على زراعة الكرمة والزيتون والأشجار المثمرة، إلا أن وسائل تحصيل المعاش لديها كان متنوعًا بتنوع بيئاتها ومناطقها الجغرافية، وقربها من مصادر المياه، والمعدلات السنوية لهطول المطر فيها. بلغت كثافة السكان أعلى نسبة لها في وادي يزرعيل الخصيب، يليه مناطق السهل الساحلي (سهل شارون وسهل فلستيا)، فمنطقة الهضاب الحساسة للجفاف بسبب انخفاض معدلاتها المطرية، فصحراء النقب.
ورغم أن الكتابة قد ظهرت في كلٍّ من سومر ومصر منذ مطلع الألف الثالث قبل الميلاد، وفي سورية الشمالية (إيبلا) منذ أواسط الألف الثالث، إلا أن ظهورها في فلسطين قد تأخر، على ما يبدو، حتى أواسط الألف الثاني، ولم يُكتشف منها إلا وثائقُ قليلة ومبعثَرة إلى درجة يُرثى لها. من هنا، فإننا مضطرون في كتابة تاريخ فلسطين إلى الاعتماد على علم الآثار ونتائجه الصامتة، وعلى دراسة الوثائق المكتوبة للحضارات المجاورة. فقد بدأ اهتمام مصر جديًّا بمنطقة فلسطين منذ عصر الأسرة الحديثة، عندما بسط فراعنة الأسرة الثامنة عشرة سلطتهم على طرق التجارة في فلسطين وسورية الجنوبية، منذ عهد تحوتمس الثالث (١٤٩٠–١٤٣٦ق.م.)، وأخذوا بتوثيق حملاتهم العسكرية في نصوص مفصلة وطويلة. كما بدأ الآشوريون من جانبهم بالتوثيق الدقيق لحملاتهم على مناطق غربي الفرات منذ مطلع الألف الأول قبل الميلاد، وأعطتنا السجلات الآشورية معلومات تفصيلية عن فلسطين وأوضاعها السياسية.
انعكست حياة الاستقرار التي عاشها سكان فلسطين في بيئاتهم المنعزلة على التكوين السياسي للمنطقة. فقد كانت فلسطين خلال عصر البرونز المبكر (الألف الثالث قبل الميلاد) تتألف من قرًى صغيرة وبلدات مسوَّرة ذات تنظيم مدني بسيط، وكانت كل بلدة تبسط حمايتها على عدد صغير من القرى المحيطة بها. أما السلطة في هذه البلدات فكانت بيد حكام محليين هم بمثابة مشايخ يتوارثون الحكم بسبب ثرواتهم العائلية ومِلكياتهم للأراضي وقطعان الماشية، في ظل مثل هذا النظام السياسي البدائي، الذي يفتقر إلى مراكز حضرية كبرى ذات تنظيم مدني وسياسي متطور، وإلى بيروقراطية متعلمة ومتفرغة لشئون الحكم والإدارة، كان من الصعب على أية مدينة فلسطينية فرْض سلطتها على مدن أخرى، وخلْق أي شكل من أشكال الوحدة المحلية أو الإقليمية، وذلك رغم وجود مراتبية معترف بها ضمن شبكة المشيخات الحاكمة، لم تترجم أبدًا إلى واقع سياسي على الأرض.
على أن تنوع البيئات وعزلتها عن بعضها لم يكن يعني الاكتفاء الذاتي لكل بيئة، بل لقد عملت التجارة المحلية على ربط البيئات وتواصلها، ففي الوقت الذي يدعو التنوع البيئي إلى تنوع في الإنتاج الزراعي والحرفي، فإنه يدعو أيضًا إلى طلب التكامل الاقتصادي عبر التبادل التجاري. فلقد بادل مربو الماشية منتجاتهم مع مزارعي الحبوب، وبادل مزارعو الحبوب منتجاتهم مع أهل البستنة، وبادل حِرفيُّو المدن بضائعهم مع البقية. وهكذا راجت بضائع التبادل النقدي، وعلى رأسها الصوف ومنتجات الحليب والزيت والخمور.
-
(١)
الطريق الساحلي: ويدعوه المصريون بطريق حوروس. وهو ينطلق من منطقة الدلتا الشرقية، فيقطع الزاوية الشمالية الغربية من سيناء إلى غزة على البحر المتوسط، ثم يصعد بمحاذاة الساحل ليمر بأشقلون (عسقلان) وأشدود. وعند يافا يتجه غربًا نحو أفيق، ثم يتابع مسيرته الساحلية شمالًا نحو مجدو عند مدخل وادي يزرعيل، ليتفرع بعد ذلك إلى ثلاثة فروع؛ ففرع يتابع مسيرته الساحلية شمالًا نحو مدن فينيقيا، ومنها إلى سيميرا فأوغاريت فالمناطق الساحلية لآسيا الصغرى، وفرع يعبر وادي يزرعيل بين هضاب السامرة ومرتفعات الجليل نحو الضفة الشرقية للأردن؛ حيث يتصل بطريق الملوك، وصولًا إلى دمشق، وفرع يصعد مرتفعات الجليل نحو حاصور، ومن هناك ينقسم إلى فرعين: واحد يتجه شرقًا ليصل دمشق، والثاني يتابع طريقه شمالًا عبر وادي البقاع باتجاه حلب وما وراءها.
-
(٢)
طريق الملوك: ينطلق من وادي النيل قبل تفرع النهر متجهًا شرقًا عبر صحراء سيناء، فيمر من وادي فيران إلى منطقة دير القديسة كاترينا، ومنه إلى خليج العقبة. بعد العقبة يتجه شمالًا فيعبر إدوم ومؤاب وعمون، فالجولان وصولًا إلى دمشق التي كانت عقدة مواصلات المنطقة السورية، وبذلك يؤمِّن هذا الطريق لمصر صلتها مع مناجم النحاس في سيناء، ومع تجارة شبه الجزيرة التي تأتي في طريق يصعد من اليمن ويمر بمكة ويثرب قبل أن يلتقي بطريق الملوك.
-
(٣)
الطريق الصحراوي: ينطلق من الدلتا الشرقية لينقطع شمال سيناء ليصل إلى واحة قادش برنيع، ومنها إلى أرد، ثم يأخذ مسيرته شمالًا في وادي الأردن نحو بيت شان؛ حيث يتصل بالشبكة الرئيسية.
إن المناخ الرطب والمطير الذي ساد منطقة شرقي المتوسط خلال الألف الرابع ومطلع الثالث؛ قد ساعد على تطوير اقتصاد تميَّز بوفرة المحاصيل الزراعية التي راحت تُدفع على طرق التجارة المحلية والدولية. وقد وصلت حركة التبادل التجاري أوْجَها في منتصف الألف الثالث، فارتبطت الشبكة التجارية المحلية الفلسطينية بالشبكة الدولية، وصارت زيوت وخمور فلسطين تصل بانتظام إلى مصر ووادي الرافدين. خلال هذه الفترة المزدهرة ظهرت معظم المدن الفلسطينية المعروفة لنا من الفترات اللاحقة، وانتقلت من مستوى القرية إلى مستوى البلدة المسورة، من هذه المدن التي نشأت في عصر البرونز المبكر والوسيط:
-
(١)
على الساحل والسهل الساحلي: غزة، وأشقلون، وأشدود، وجت، وعقرون، ويافا، ودور، وعكا.
-
(٢)
في سهل شفلح (التلال المنخفضة): جرار، ولخيش، وبيت شميش، وجازر، وأفيق، وعجلون.
-
(٣)
الهضاب المركزية: شكيم، وشلوة، وترصة.
-
(٤)
مرتفعات يهوذا: أورشليم، وبيت لحم، وجبعون، وحبرون، وبئر السبع.
-
(٥)
مرتفعات الكرمل: حاصور.
-
(٦)
غور الأردن: أريحا، وعين جدي، وعاي.
-
(٧)
وادي يزرعيل: مجدو، ويزرعيل، وتعنك، وبيت شان.
(١-١) الفترة الانتقالية وظهور الأموريين
منذ أواسط الألف الثالث قبل الميلاد، أخذ المناخ في منطقة شرقي المتوسط يميل تدريجيًّا نحو الجفاف، وبدأت الأوضاع المزدهرة للبيئات السورية بالتدهور، وخصوصًا في فلسطين التي تقل معدلات أمطارها، من حيث الأصل، عن بقية معدلات البيئات السورية. وقد بلغ الجفاف أوْجَه خلال القرنين الأخيرين من الألف الثالث، وأدى إلى انهيار الحياة الاقتصادية، وزعزعة البنى الاجتماعية والسياسية، وذلك من وادي النيل إلى وادي الرافدين. ففي مصر انخفض منسوب مياه نهر النيل بشكل حاد؛ مما أدى إلى تدمير الحياة الزراعية، وفوضى اجتماعية، وثورات، وانقسامات سياسية، قادت في النهاية إلى سقوط الأسرة السادسة وانهيار المملكة القديمة، وحلول الفترة التي يدْعوها المؤرخون بالفترة المعترضة الأولى في التاريخ المصري. وقد تزامن انهيار المملكة القديمة في مصر مع انهيار المملكة الأكادية في بلاد الرافدين، فسقطت بابل بيد البرابرة الغوتيين المنحدرين من الجبال الشرقية. وفي بلاد الشام انهارت الحاضرة السورية الكبرى إيبلا، ثم تبعتها بقية حواضر الألف الثالث التي وقعت تحت سلطة القبائل السامية الأمورية التي أسست لأسر حاكمة قوية في ماري وحلب وقطنة، وغيرها.
أما في فلسطين، فإن الشواهد الأثرية من الفترة الانتقالية تشير إلى حصول نقص متسارع في عدد السكان بلغ حده الأدنى حوالي عام ٢٠٠٠ق.م. فقد تم هجر المناطق الحساسة للجفاف أولًا، مثل الهضاب المركزية والجليل ومرتفعات يهوذا، ثم طالت الكارثة المناطق الخصبة المطيرة مثل وادي يزرعيل والسهول الساحلية، وتحول القسم الأعظم من سكان المناطق الزراعية إلى حياة الرعي المتنقل. كما تَرافَق هذا الفراغ السكاني مع دمار للمدن الرئيسية وانقطاع في السكن دام أكثر من قرن. وفي نفس الوقت كانت وثائق وادي الرافدين تعطينا معلومات عن تواجد مكثف للقبائل الرعوية الجائعة على ضفاف الفرات، أشير إليها باسم الأموريين، أي أهل الغرب.
وقد قامت السيدة كاثلين كينيون بدراسة آثار الدمار في عدد كبير من المدن الفلسطينية خلال هذه الفترة الانتقالية، ولاحظت وجود آثار مادية على أطراف المدن المدمرة، لجماعات رعوية لا تنتمي إلى ثقافة عصر البرونز المبكر على ما تدل عليه مخلفاتهم المادية، مثل الأدوات الفخارية والأسلحة وبقايا المدافن وغيرها. فجميع هذه المخلفات تشير إلى نمط حياة رعوي وتنظيم سياسي بسيط يقوم على الزعامات القبلية. وقد عاش هؤلاء في مخيمات على محيط المدن المهجورة والمهدمة، مدة طويلة قبل أن يبدءوا ببناء بيوت بسيطة تختلف جذريًّا عن عمارة عصر البرونز المبكر، كما بقيت مواقعهم المبنية تلك بدون أسوار أو تحصينات، خلال كامل الفترة الانتقالية، وصولًا إلى مطالع عصر البرونز الوسيط، ثم ما لبث هؤلاء حتى ذابوا في ثقافة عصر البرونز الوسيط دون أن يتركوا أثرًا يُذكر. وقد استنتجت كينيون (اعتمادًا على نظرية الهجرة الأمورية من شبه الجزيرة العربية، التي تعزو نهاية ثقافة عصر البرونز إلى غزوات الأموريين) بأن هذه الجماعات هي شرائح أمورية دمرت المدن الفلسطينية ثم عاشت على أطرافها زمنًا طويلًا وَفق نمط حياتها القديم، قبل أن تتحول إلى الزراعة وبناء البيوت وإعادة إحياء المدن.
«في محاولة للتلاؤم مع حالة الجفاف المتزايدة، وما أدت إليه من مجاعات عبر السنوات العجاف المتوالية إلى ما لا نهاية، تحولت شرائح واسعة من سكان فلسطين مجبرة، إلى حياة الرعي التي كانت أقل عُرضةً للآثار المباشِرة للجفاف من حياة الزراعة المستقرة. وأخذ هؤلاء ينتشرون في جماعات صغيرة عبر سهول أوسع فأوسع، حتى غدت الحياة الرعوية وزراعة الرقع الصغيرة المتناثرة من الأرض، طريقةً دائمة في تحصيل المعاش خلال الهزيع الأخير من الألف الثالث. كما أُجبرت شرائح واسعة من العائلات المقتلعة من مواطنها على مغادرة فلسطين، والنزوح على شكل جماعات متجهة أبعد فأبعد، وصولًا إلى جبل بشري على الطرق الأقصى من البادية السورية (وهو المكان الذي نعرف من وثائق تلك الفترة عن التواجد المكثف للجماعات الأمورية فيه). كما توجهت جماعات مهاجِرة أخرى جنوبًا حتى دخلت الصحراء العربية واستقرت في واحاتها. وهؤلاء هم الذين ورد ذكرهم بعد ألف عام في السجلات الآشورية باعتبارهم قبائل عربية.
(٢) عصر البرونز الوسيط (١٩٥٠–١٥٥٠ق.م.)
في مطالع الألفية الثانية قبل الميلاد، تراجعت موجة الجفاف وعاد المناخ الرطب والمطير إلى شرقي المتوسط، وهذا ما شجع السكان الذين اقتُلعوا من أراضيهم الزراعية على العودة إلى حياة الزراعة والاستقرار، فظهرت القرى في كل مكان من السهول الخصيبة، وحتى في المناطق شبه الجافة التي أخذت تتلقى معدلاتٍ عالية من الأمطار جعلت الزراعة فيها مُجدية. كما انتعشت الحياة في المراكز الحضرية الكبيرة على يد العناصر الأمورية، وأُعيدَ بناء المدن المهدَّمة أو المهجورة. وسواء كان هؤلاء الأموريون من أصل محلي أم من أصل خارجي، فإنهم قد استقروا في الأرض وبسطوا سلطانهم السياسي على معظم المدن السورية، كما أفلحت العناصر الأمورية، التي اجتازت الفرات خلال الفترة الانتقالية، في تأسيس مملكة قوية لها في بابل، وقام ملوك الأسرة البابلية-الأمورية الأولى في عهد حمورابي بتوحيد كاملِ مناطقِ وادي الرافدين تحت سلطة مركزية قوية. وفي مصر ارتفع منسوب فيضان النيل، وعادت الحياة الزراعية سيرتَها الأولى تحت إدارة فراعنة الأسرة الثانية عشرة، وابتدأت الفترة التي يدعوها المؤرخون بعصر المملكة المتوسطة (١٩٩٠–١٧٣٠ق.م.).
لم يكن الأموريون هم الجماعة الوحيدة التي استقبلتها بلاد الشام خلال الفترة الانتقالية من البرونز المبكر إلى البرونز الوسيط. فخلال الفترة نفسها بدأت جماعات الحوريين بالتسرب تدريجيًّا من مناطق الشمال والشمال الشرقي، والاستقرار في أراضي الجزيرة العليا. وقد زرع هؤلاء الأرض وسكنوا القرى وأسسوا عددًا من المدن التي أخذ علم الآثار بالكشف عنها حديثًا، وأهمها مدينة أوركيش. ثم وقع هؤلاء الحوريون تحت سيطرة موجة بشرية آرية انتشرت في أراضيهم نفسها، وشكَّلت عدة ممالك أهمها مملكة ميتاني التي ارتقت إلى مَصافِّ القوى العظمى في عصر البرونز الوسيط، إلى جانب كلٍّ من مملكة بابل، ومملكة حاتي في الأناضول.
كما شهد عصر البرونز الوسيط تحركات لجماعات معروفة باسم الخابيرو. وعلى عكس الحوريين والآريين، فإن هؤلاء الخابيرو لم يكونوا جماعة عرقية متميزة، بل كانوا أخلاطًا من أجناس شتى لم تجد لها مكانًا في الهيكل الاجتماعي والسياسي لدويلات وممالك عصر البرونز الوسيط، تجمعت تحت زعامات مؤقتة ومتبدلة، وراحت تعيش في حالة اضطراب وحركة دائمة. بعض هؤلاء قد وفَدَ إلى المنطقة من خارجها، وبعضهم قد جاء من البوادي الداخلية، وبعضهم مِن شذاذ الآفاق والمغامرين الذين يبحثون عن حظوظ جديدة وفرص للثراء. في أوقات انعدام الأمن، كان الخابيرو يلجئون إلى السلب والنهب وقطع طرق القوافل التجارية، وفي أوقات استتباب الأمن كانوا يؤجرون خدماتهم في حقول الزراعة أو نقل البضائع، وفي أوقات الحرب كانوا يشكلون جماعات محاربة مرتزقة تؤجر خدماتها لمن يدفع أكثر.
وكما هو الحال في بقية بلاد الشام، فقد شهدت بدايات الألف الثاني في فلسطين ظهور القرى الزراعية الجديدة في المناطق الخصيبة أولًا، مثل وادي يزرعيل والسهول الساحلية، ثم في المناطق الهضبية، فالبوادي الجنوبية، ومع ازدياد غلة الزارعة ارتفع عدد السكان إلى معدلات غير مألوفة سابقًا، ونشطت طرق التجارة المحلية والدولية التي هُجرت خلال الفترة الانتقالية، وانتعشت المدن القليلة التي عبرت المحنة بصعوبة، كما أُعيدَ بناء المدن المهدَّمة والمهجورة، وظهرت مدن جديدة غير معروفة مثل أورشليم. ورغم أن المؤرخين التقليديين يتحدثون عن هذه المدن باعتبارها دويلاتِ مدنٍ بالمفهوم الرافديني والسوري، إلا أن الوقائع الأركيولوجية تشير إلى أنها لم تكن سوى بلدات صغيرة مسوَّرة، وذلك باستثناء حاصور في الجليل الأعلى التي كانت على الدوام أكثر انتماءً إلى العالم السوري المديني منها إلى فلسطين الريفية.
لم يتم العثور في جميع المواقع الفلسطينية المهمة على وثائق كتابية ذات شأن، يمكن الاعتماد عليها في إلقاء الضوء على الوثائق الأركيولوجية. أما الوثائق الكتابية للحضارات المجاورة التي يمكن أن نستشف منها بعض المعلومات عن فلسطين؛ فقليلة ولا تعطي صورة متكاملة عن تاريخ عصر البرونز الوسيط فيها، فقد وصلتنا من ذروة عصر البرونز الوسيط، حوالي عام ١٨٠٠ق.م.، ثلاث مجموعات من النصوص المصرية معروفة باسم نصوص اللعنات (وقد أشرنا إليها وإلى وظيفتها سابقًا)، وفيها تظهر أسماء عدد من المدن الفلسطينية وأسماء حكامها. ومن اللافت للنظر في هذه النصوص أنها تذكر اسم حاكم للمدينة أو حاكمَين أو أكثر، وربما أشارت إلى شعب المدينة بشكل عام، كقولها: «قبيلة جبيل.» أو «قبيلة عرفاتا.» وهذا يدل على أن النظام الملكي الوراثي لم يكن قد ترسَّخ بعدُ، وأننا ما زلنا نواجه في فلسطين نظام زعامات قبلية وأسر حاكمة متنفذة غير مستقرة السلطة، وأحيانًا نظام تمثيل بدائي مما تشير إليه النصوص بقولها: قبيلة كذا أو قبيلة كذا، ويشذُّ عن هذه القاعدة مدينة حاصورة في الجليل، التي كانت في ذلك الوقت قد حققت درجة متقدمة من التنظيم السياسي والمدني المتطور. فقد ورد اسم حاصور في أكثر من عشرين رقيمًا اكتُشفت ضمن أرشيف مدينة ماري العريقة على الفرات الأوسط (قرب دير الزور الحالية). ونعرف من هذه الرُّقم عن القناصل والسفراء الأجانب الذين كانوا يفِدون إلى حاصور من الممالك الكبرى، وعن شحنات البضائع التي كانت ترسل إليها من ماري بأنواعها المفصلة وكمياتها الدقيقة، كما نعرف عن اسم أشهر ملوكها المدعو ابني هدو أي ابن هدد، وعن الدور الذي لعبه في السياسة السورية.
ولدينا من الشواهد ما يشير إلى أن مثل هذا التنظيم السياسي القائم على استقلال الزعامات المحلية ببلداتها الصغيرة، كان سائدًا أيضًا في منطقة الدلتا المصرية خلال الفترة الانتقالية ومطلع عصر البرونز الوسيط، ويبدو أن فراعنة المملكة المتوسطة (١٩٩٠–١٧٣٠ق.م.) لم يتمكنوا من إحكام سيطرتهم هنا، وأن الآسيويين الذين وطَّدوا أنفسهم في الدلتا خلال الفترة الانتقالية، وبنوا مدنهم الصغيرة على غرار المدن الفلسطينية، قد حافظوا على استقلال وحداتهم السياسية خلال كامل عصر المملكة المتوسطة. فقد كانت مدن الدلتا تُحكم مِن قِبل قضاة محليين، ومعظم أسماء هؤلاء الحكام — القضاة — من أرومة لغوية سامية، وتتشابه مع أسماء حكام المدن الفلسطينية ومدن الساحل الكنعاني. كما شاع في تحصين بلدات الدلتا خلال عصر البرونز الوسيط نمط السور المتراسي المعروف في فلسطين من العصر نفسه.
(٣) عصر البرونز الأخير (١٥٥٠–١٢٠٠ق.م.)
ترافقت بدايات عصر البرونز الأخير مع صعود ثلاث قوًى إمبراطورية في المنطقة المشرقية هي: (١) الإمبراطورية الحثية في آسيا الصغرى (وتدعى حاتي). (٢) الإمبراطورية الميتانية التي ضمت إمارات تحكمها أسر حورية وأمورية في وادي الرافدين الشمالي ومنطقة الجزيرة. ورغم أن الشرائح الشعبية لمملكة ميتاني كانت حورية في غالبيتها، إلا أن الطبقة العسكرية الحاكمة كانت من العناصر الهندو-أوروبية التي اتخذت من موقع واشوكاني عاصمة لها. (٣) الإمبراطورية المصرية.
بعد القضاء على القوة الرئيسية للهيكسوس عام ١٥٧٠ق.م.، وتدمير عاصمتهم أفاريس في منطقة الدلتا، قام أول فراعنة الأسرة الثامنة عشرة، المدعو أحموس، بمطاردة الآسيويين المنسحبين إلى فلسطين وسورية الجنوبية، وهاجم المواطن الأصلية التي كانت تزود الدلتا بالسكان. وتدل المعلومات الأركيولوجية من المواقع الفلسطينية، في المستويات الأركيولوجية العائدة لتلك الفترة، على حدوث دمار واسع للعديد من المدن، وانقطاع سكني دام في بعضها قرابة قرن من الزمان، كما هو الحال في موقع بيت مرسيم وموقع أريحا. بعد ذلك جاء تحوتمس الأول واستعرض قوته عند المناطق القريبة من نفوذ الميتانيين ونفوذ الحثيين، وبذلك أعلنت مصر عن دخولها حلبة السياسة الدولية، وأعطت رسالة واضحة للقوتين الأخريين بأنها مستعدة للدفاع عن مصالحها في آسيا الغربية.
توقف اهتمام مصر بالسياسة الدولية إبان حكم الملكة حتشبسوت (١٤٩٠–١٤٦٩ق.م.) التي انشغلت بالمسائل الداخلية. وعندما خلَّفها زوجها وشريكها في الحكم تحوتمس الثالث (١٤٩٠–١٤٣٦ق.م.)، بدأ سلسلة حملات عسكرية متوالية، جنوبًا نحو أفريقيا، وشمالًا نحو آسيا الغربية، بلغت اثنتي عشرة حملة خلال فترة حكمه الطويل الذي دام قرابة خمسين عامًا. وكانت معركة مجدو فاتحة لتأسيس النفوذ الدائم للإمبراطورية المصرية في آسيا الغربية. فقد التقت كلمة الممالك السورية على مقاومة المد العسكري المصري، وكان قطبَا هذا التحالف مملكة قادش في سورية الوسطى (قرب حمص الحالية)، ومملكة ميتاني الشمالية، إضافة إلى الدويلات الفلسطينية التي سارت على ما يبدو تحت لواء مجدو، التي اجتمعت إليها الجيوش المتحالفة، في انتظار وصول تحوتمس الثالث، ولكن تحوتمس كسب المعركة؛ على ما يصفه لنا في نص طويل محفور على جدار معبد الكرنك.
وفي الحقيقة، فإن عازيراس هذا قد ورِث تبعية حاتي عن أبيه من قبله المدعو عبدي عشيرته، ولعب الاثنان دورًا مهمًّا في أحداث أواسط القرن الرابع عشر، التي أدت إلى فقدان مصر لسيطرتها على مناطق فلسطين وسورية الجنوبية، إبان فترة حكم الفرعون إخناتون، الذي انشغل بمشاكله الداخلية وإصلاحه الديني عن هموم الإمبراطورية، وترك الدويلات الفلسطينية والكنعانية الساحلية للحروب والمنازعات، وتدخل الحثيين عن طريق عملائهم في المنطقة، حتى آلت الأمور إلى فوضى تامة، فانقطع حبل الأمن، وتعطلت طرق التجارة، وراحت عصابات العابيرو المأجورة تَعيث فسادًا في كل مكان. على أن تدهور الأوضاع السياسية والاقتصادية في فلسطين خلال هذه الفترة، يجد أسبابه البعيدة في عوامل كانت تفعل ببطء منذ مطلع عصر البرونز الأخير.
لقد لاحظ علماء الآثار منذ وقت مبكر، حدوث تدهور تدريجي في الحضارة الكنعانية على الساحل السوري وفي فلسطين وسورية الجنوبية، ابتداءً من ذروة حضارة عصر البرونز في القرن السادس عشر. وقد استمر هذا التدهور بخطًا متسارعة حتى وصلت حضارة عصر البرونز إلى نقطة الحضيض في القرن الثالث عشر. فقد أخذ عدد السكان بالتناقص، وتراجعت الثقافة في كل مجال تقريبًا، على ما تبديه المخلفات المادية من فخاريات وفنون تشكيلية وعمارة وتحصينات وما إليها. ولكن أسباب هذا التدهور بقيت خافية على المؤرخين حتى وقت قريب، ولم نستطع فهمها إلا من خلال المعلومات التي قدمها علم تحول المناخ العالمي، الذي نشأ في الستينيات من القرن العشرين، ونضج في الثمانينيات. وهذه المعلومات تشير إلى حدوث موجة جفاف بطيئة وطويلة مشابهة للموجة التي قضت على ثقافة عصر البرونز المبكر، وابتدأت آثارها غير الملحوظة منذ مطلع عصر البرونز الأخير، ثم أخذت تتزايد تدريجيًّا عبر ثلاثة قرون متوالية. وكانت منطقة فلسطين وسورية الجنوبية أول من تلقَّى هذه الموجة؛ بسبب حساسية معظم مناطقها للجفاف، وقلة معدلاتها المطرية مقارنةً ببقية مناطق بلاد الشام، فانهارت الزراعة أولًا في المناطق الهضبية الأكثر حساسيةً للجفاف، وأخذ المزارعون ينزحون عن أراضيهم منذ مطلع القرن الرابع عشر، ولم يصمد طويلًا أمام نُذُر الكارثة إلا قرى الأودية الخصيبة. وفي بحثهم عن استراتيجيات جديدة في تحصيل المعاش، لجأ فريق من النازحين إلى المدن الرئيسية التي كان الوجود المصري فيها يؤمِّن الاستقرار والأمن، ويؤجل آثار الكارثة عليها، وتحول فريق ثانٍ إلى حياة الرعي المتنقل، بينما وقعت أفقر الشرائح في حياة التشرد، حيث تجمَّع بعضهم في جماعات تعيش في الكهوف على طول طرق التجارة والمواصلات الرئيسية، مشكلين عصابات سلب ونهب، أو فصائل مرتزقة تؤجر خدماتها الحربية لحكام المدن التي ثارت بينها المنازعات والحروب، في ظل ضعف السلطة المصرية ولا مبالاةِ البلاط الفرعوني. وهكذا ظهرت مجددًا جماعات الخابيرو التي واجهناها خلال الفترة الانتقالية بين البرونز المبكر والوسيط، ولكن تحت اسم العابيرو الذي يتكرر في رسائل تل العمارنة.
ويكتب أمير مدينة جبيل المدعو رب عدي، من منفاه في مدينة بيريتو (بيروت) التي لجأ إليها بعد انقلاب داخلي، يشكو تعديات عازيرو (عازيراس النص الحثي) وإخوته الذين يدعوهم بأبناء عبدي عشيرته «من رب عدي إلى مولاه الملك الشمس. عند قدمَي الملك أسجُد سبع مرات، وسبعًا أُخر. لقد كتبت مرارًا في طلب المساعدة ولم أحصل عليها، فالملك لا يُصغي لكلمات خادمه، ورسولي قد عاد من عند المقام السامي خالي الوفاض وبلا قوات دعم، وعندما رأى أهل بيتي وإخوتي أن الفضة التي طلبتها لم تصل إليَّ، هزئوا بي واحتقروني، لقد كان أخي يؤلِّب المدينة ضدي لتصبح تحت سيطرة أبناء عبدي عشيرته، وعندما تأكد أن رسولي قد عاد بدون فضة وقوات دعم، ازدراني وطردوني من مدينتي، فلجأت إلى هامونيري (أمير بيروت)، أتمنى على الملك ألا يقف مكتوف الأيدي أمام أفعال ذلك الكلب … إن المتمردين لَقلة، ومعظم أهل المدينة يقف إلى جانبي، وعندما يسمعون بوصول القوات ستعود جبيل إلى مولاي … إن في مدينتنا ثروات كبيرة للملك مولاي، جاءت من أسلافنا، فإذا لم يتدخل الملك من أجل المدينة، فإنه سيفقد كل مدن كنعان.»
ويقول ملك صور المحاصَر في رسالته: «إنني أحمي صور المدينة العظيمة لحساب مولاي الملك، إلى أن تصلني قواته فتهبني حطبًا للدفء وماءً للشرب. وإني أحيطكم علمًا بأن زيميريدا ملك صيدون، قد كتب مرارًا إلى المجرم عازيرو ابن عبدي عشيرته بخصوص كلِّ ما سمعه من لدُنْكم في مصر، وها أنا قد كتبت إليكم بكل ما يتوجب عليكم معرفتُه.»
على أن الأوضاع الاقتصادية المتردية في المنطقة كانت تدفع كلتا القوتين العظميين إلى الانسحاب من بلاد الشام وترك المنطقة لمصيرها، خصوصًا وأن الكارثة المناخية الجديدة قد طرقت أبواب مملكة حاتي وعصفت باقتصادها وحياتها السياسية والاجتماعية، وما لبثت حتى ظهرت في الأفق طلائعُ جموع جائعة يدفعها القحط والجفاف الذي ضرب مناطق اليونان وبحر إيجة، تبحث في المشرق عن لقمة يفتقد إليها أهله.
(٣-١) الجفاف الميسيني والانهيار العام لثقافة عصر البرونز
بلغت موجة الجفاف التي كانت تتصاعد خلال عصر البرونز الأخير أوْجَها في القرن الثالث عشر، وتحولت إلى كارثة مناخية امتدت من اليونان وجزر بحر إيجة غربًا إلى بلاد الشام شرقًا، فيما يُعرف بفترة الجفاف الميسيني، نسبة إلى منطقة ميسينا في جنوب اليونان، التي كانت بؤرة الكارثة وأكثر المناطق تضررًا بسببها. فمع مطلع القرن الثالث عشر امتدت آثار الجفاف إلى كل مكان من المناطق الشرقية لحوض المتوسط (عدا مصر التي نجت منها بسبب انتظام فيضان النيل)، فارتفعت الحرارة بمعدلات عالية مترافقة مع هبوط حاد في معدلات الأمطار. وقد ضربت الكارثة المناخية أولًا مناطق آسيا الصغرى، وبدأت عوامل التحلل في الإمبراطورية الحثية تبدو واضحة منذ عام ١٢٥٠ق.م.، فانتشرت المجاعة، وتراخت قبضة السلطة المركزية، وسادت الفوضى في كل مكان، وراح الملك الحثي يستجدي القمح من مدينة أوغاريت التي لبَّت طلبه بعد توسط البلاط المصري، رغم أن مناطق بلاد الشام لم تكن أحسن حالًا بكثير. كما بدأت آسيا الصغرى تستقبل أعدادًا من المهاجرين الذين دفعهم الجفاف الميسيني شرقًا، وما لبث هؤلاء حتى أخذوا يتجمعون في وحدات أكبر فأكبر تحت قيادات عسكرية، ويتحركون مع أطفالهم ونسائهم ومتاعهم الخفيف عبر مناطق مملكة حاتي المنكوبة والممزقة، بعد انهيار السلطة تمامًا في العاصمة حاتوسس، وسقوط آخر أسرة مالكة حثية في الأناضول، ثم انحدرت هذه الجماعات نحو بلاد الشام وأطلقت رصاصة الرحمة على مدنها التي كانت تحتضر، ثم شقت طريقها جنوبًا حيث تجمعت في فلسطين استعدادًا للانقضاض على مصر، أسمن الطرائد في ذلك العصر.
دعا المؤرخون هذه الجماعات التي ظهرت في أواخر القرن الثالث عشر بشعوب البحر؛ نسبةً إلى مواطنها الرئيسية في كريت وجزر بحر إيجة، وعزَوا إليها تدمير ثقافة عصر البرونز الأخير في مناطق حاتي وبلاد الشام، مثلما عزَوْا سابقًا تدمير ثقافة عصر البرونز المبكر إلى القبائل الأمورية في أواخر الألف الثاني قبل الميلاد، ولكن النظرية المرجحة اليوم؛ هي أن هذه الجماعات كانت تتحرك عبر أرض محروقة خلت من سكانها تقريبًا، وأن المدن التي مرت بها كانت شبه مهجورة في معظمها، ولكن هذا لا يمنع أنهم كانوا مسئولين عن تدمير بعضها وإحراقه.
في الوقت الذي كان فيه فريق من شعوب البحر يشق طريقه برًّا باتجاه مصر، كان فريق آخر قد ركب البحر، وحطَّت مراكبه القادمة من بحر إيجة على سواحل أفريقيا الشمالية القريبة من الحدود المصرية، ثم تحرك هؤلاء مع فريق من الليبيين باتجاه منطقة الدلتا؛ في محاولة للاستقرار إيجاد سبل للعيش فيها، ولكن الفرعون مرنفتاح تصدى لهم وهزمهم في معركة فاصلة حوالي عام ١٢٢٠ق.م. ثم قام خليفته رمسيس الثالث بالتصدي للجماعات الأخرى التي كانت تحاول الانطلاق من فلسطين للاستقرار في الدلتا الشرقية، فهزمها وقضى عليها كمجموعة عسكرية موحدة، إلا أن فريقًا منهم ويُدعى البيليست أو الفلست قد توطَّن في السهل الساحلي الجنوبي من فلسطين بموافقة السلطات المصرية، وهي المنطقة التي صارت تُدعى فلستيا في نصوص الشرق القديم، ويُدعى أهلها فلسطينيون في الرواية التوراتية. ورغم أن هذه المنطقة قد حافظت على اسمها عندما صارت ولاية فارسية ثم هيلينستية فرومانية، إلا أن الاسم فلستيا (أو فلسطين) صار يستخدم تدريجيًّا للدلالة على كامل المنطقة الواقعة إلى الجنوب من لبنان، بين ساحل المتوسط ونهر الأردن.
لم يحافظ الفلستيون على تكوينهم الإثني والثقافي مدة طويلة، وما لبثوا طويلًا حتى ذابوا في محيطهم الكنعاني، على ما تدل عليه مخلفاته المادية. فمع مطلع القرن الثاني عشر تظهر في منطقة فلستيا، وبعض الاستطالات الجغرافية لها داخل فلسطين الكبرى، خزفيات تنتمي إلى الأنماط الفنية لبحر إيجة مصنوعة محليًّا، ثم تبدأ هذه الخزفيات بالاختفاء خلال قرن من الزمان لتحل محلها خزفيات كنعانية. وخلال الفترة نفسها تظهر على الأختام كتابات كريتية تأخذ بالاختفاء تدريجيًّا لتحل محلها كتابات كنعانية. وعلى مستوى الثقافة غير المادية، يبدو أن القادمين الجدد قد طابقوا آلهتهم القديمة مع آلهة كنعان وأعطَوها أسماء محلية مثل داجان وعشتروت. ثم قادتهم هذه المطابقة بعد ذلك إلى نسيان ديانتهم التقليدية وتبنِّي ديانة الأقوام الكنعانية التي حلوا بين ظهرانيها. وعندما بدأت المدن الفِلستية الخمس تظهر في النصوص الآشورية (وهي غزة وجت وأشدود وأشقلون وعقرون) اعتبارًا من القرن الثامن قبل الميلاد، لم تكن عندها إلا مدنًا كنعانية قلبًا وقالبًا.
تلقت فلسطين النصيب الأوفر من فواجع الجفاف الميسيني. فبعد أن هُجرت معظم مناطقها الزراعية خلال القرنين الرابع عشر والثالث عشر، جاءت ذروة موجة الجفاف، خلال الفترة الانتقالية إلى عصر الحديد، لتطال المدن التي قاومت الموت، وراحت تعيش في حالة فقر مدقع ونقص في السكان، فهُجر بعضها وتهدَّم البعض الآخر، واستمرت قلة منها مستفيدة من وجود الحاميات المصرية فيها. ولقد حاولت السلطات المصرية من ناحيتها مواجهة الأوضاع المتردية للمجتمعات الفلسطينية بوسائل شتى. فلقد كانت مسئولية حفظ الأمن والنظام تقع على عاتق القوات المصرية وحدها تقريبًا، وهي مسئولية لم تكن قادرة على القيام بها على الوجه الأمثل. كما حاول المصريون إعادة توطين المزارعين النازحين في مناطق جديدة، وأرسلوا إليها شحنات قمح تعينهم على استصلاح الأراضي وزراعتها، كما عملوا لفترة طويلة على حماية طرق التجارة وإبقائها مفتوحة، من خلال التواجد المكثف للحاميات المصرية على طول هذه الطرق. ولكن مصر اضطرت أخيرًا إلى سحب معظم حامياتها وترك الطبيعة لتسترد عافيتها بأساليبها الخاصة.
هذه الفترة الانتقالية من عصر البرونز الأخير إلى عصر الحديد، بين أواخر القرن الثالث عشر وأوائل القرن الثاني عشر، هي الفترة التي يفترض المؤرخون أنها شهدت ظهور القبائل العبرانية في فلسطين واستقرارهم فيها. فالخروج من مصر، كما هو متفَق عليه، قد جرى في زمنٍ ما بين عام ١٢٦٠ق.م. و١٢٤٠ق.م.، خلال حكم الفرعون رمسيس الثاني، وفي زمنٍ ما بين عام ١٢٢٠ق.م. و١٢٠٠ق.م. اجتاز يشوع بن نون نهر الأردن، واستولى على الأرض الموعودة في فترة قصيرة. وتبع ذلك فترة طويلة غطت كامل عصر الحديد الأول، كان العبرانيون خلالها يوطدون أنفسهم في المناطق الهضبية الفلسطينية، قبل أن يتداعوا لتشكيل مملكة لهم في أواخر القرن الحادي عشر، أي بعد مرور حوالي قرنين على دخولهم كنعان.
Amon Ben Tor, Excavating Hazor, In: Biblical Archaeology Review, May-June, 1999.
W. F. Allbright, Accadian Letters, In: J. Pritchard, Ancient Near Eastern Texts, p. 483 ff.
وإني إذ أعتذر لقارئي عن أخذي بقراءة أولبرايت دون تمحيص، فإني أرجو منه إغفال ما أوردته في كتابي الحدث التوراتي والشرق الأدنى القديم بخصوص بيت لحم، وذلك في فصل سجلات مصر الفرعونية.