حياة وعصر مواطن من جنيف
كان لروسو — وكذا لمونتسكيو وهيوم وسميث وكانط من بين معاصريه — أكبر الأثر في التاريخ الفكري الأوروبي المعاصر، ربما بما يتجاوز أثرَ جميعِ معاصريه. فلم يُساهِم مفكِّر مثلُه من مفكري القرن الثامن عشر بكمٍّ أكبرَ من الكتابات المهمة في نطاق كبير جدًّا من الموضوعات وبأشكال مختلفة من أشكال الكتابة، ولم يُضارِعه أحد في كتابته من حيث الحماس المتَّقد والفصاحة البليغة. ولم يتمكن أحد غيره — من خلال أعماله وحياته — من أن يثير الخيال العام أو يُربِكه بهذا القدْر من العمق. ويكاد يكون روسو وحده بين أبرز رموز التنوير الذي عرَّضَ التيارات الأساسية للعالم الذي عاش في جنباته إلى أكثر الانتقادات إلهامًا، حتى حين كانت غايته الطعن في مسارها، وعندما اغتنم قادة الثورة الفرنسية لاحقًا الفرصة لمحاولة وضع النظريات السياسية محل التطبيق العملي، فقد كانت بوصلتهم في المقام الأول موجهة تجاه أفكار روسو.
وشأنه شأن غيره من أبرز كتاب عصره، كان لروسو بطبيعة الحال العديد من الاهتمامات بخلاف السياسة. فقد كان مؤلفًا موسيقيًّا محبوبًا جدًّا، ومؤلفًا لقاموس كبير ومهمٍّ للموسيقى، وهو الموضوع الذي ربما استرعى انتباهه أكثر من غيره طيلة حياته. ورغم أن عددًا من أبرز كتاباته المبكرة المهمة تعاطت مع الفنون والعلوم وفلسفة التاريخ، فمن الواضح أن شغفه الأساسي خلال سنواته الأخيرة انصبَّ على علم النبات الذي خصص له مجموعة من الرسائل أمستْ بعدَ ترجمتها للإنجليزية مرجعًا شهيرًا في هذا العِلْم في إنجلترا. ولقد أشعل مؤلَّفُه «أحلام يقظة جوال منفرد» ثورة من الطبيعية الرومانسية في شتَّى أرجاء أوروبا في أواخر القرن الثامن عشر، بينما حظِيَتْ روايتُه «إلواز الجديدة» بأوسع انتشار بين القُرَّاء في زمانه. علاوة على ذلك، يُعَدُّ مؤلَّفه «اعترافات» أهم عمل للسيرة الذاتية منذ السيرة الذاتية للقديس أوغسطين، وكذا مؤلَّفه «إميل» عُدَّ أهم عمل عن التربية بعد كتاب «الجمهورية» لأفلاطون. ومع ذلك، فقد حقق روسو أوسع شهرة له كفيلسوف أخلاقي ومفكر سياسي.
لقد قُدِّر لمحل ميلاده وطفولته المبكرة أن يتركا انطباعات عميقة على حياته ونموه الفكري. وُلد روسو عام ١٧١٢ في جنيف، وكانتْ مدينة صغيرة يعتنق أهلُها الكالفينية وتُحيط بها مجتمعات كبيرة كاثوليكية في الأغلب الأعم؛ فكانت دولة جبلية تحميها من أيِّ غزو حدودُها الطبيعية والثقافةُ السياسية لمواطنيها، والأهم من ذلك أنها كانت جمهورية في وسط دوقيات وممالك. وعندما وصف روسو لاحقًا كاهن سافوي في روايته «إميل» وهو يَدِين بالإيمان لربٍّ تصل إليه من خلال الفطرة لا الوحي المُنزل من السماء، على تلٍّ يُطِلُّ على إحدى المُدُنِ، تخيل صورة لتواصُل مباشر بين رجل وخالِقِه كذلك الذي يمكن أن يشاركه إياه قليل من سكان المدن الأخرى التي يعرفها. وفي معارضتهم للحكم الاستبدادي والامتيازات التي تُمنَح للمنتمين للطبقة الأرستقراطية والتي تقوم على الفساد والرشوة، اعتبر كثير من مفكري القرن الثامن عشر الملوكَ التقدميين حلفاءَ لهم في قضية الإصلاح. لكن روسو لم يُبدِ أيًّا من الثقة التي تحلى بها معاصروه في احتمال وجود حكم مطلق مستنير. وبينما دفع وجود التزام راديكالي، وهو الذي قلَّل منه الخوف من الرقابة، لدى ديدرو وفولتير وغيرهما لنشر مؤلفاتهم دون وضع أسمائهم عليها، استغلَّ روسو كل فرصة سانحة له لينشر أعماله بتوقيع «مواطن من جنيف»، ولم يكفَّ عن ذلك إلَّا بعدَ أنِ اقتنع بأنَّ بني وطنه فقدوا بُوصلتَهُم بشكلٍ كامل. ولم يَكُنْ أيٌّ من رموز التنوير أكثر من روسو عداءً للمسار الذي اتخذتْه الحضارة السياسية، ولم يكن أيٌّ منهم في الوقت نفسه فخورًا بهويته السياسية شأنه.
توفيت أم روسو بعد أن أنجبتْه مباشرة، فتعهده أبوه بالرعاية وتحمل مسئولية تربيته. وكان يعمل في إصلاح الساعات، وكان صاحب مزاج رومانسي متقلب وسريع الغضب. وقد ألهم روسو حبَّ الطبيعة وعِشْقَ الكتب، ولا سيما الأعمال الكلاسيكية والتاريخ. لم يحصل روسو على تعليم رسمي قط، وبدا بين الفينة والأخرى أنه يُعوِّض هذا القصورَ بتذييل كتاباته بحواشٍ مطوَّلة أقرَّ فيها مصادر لم يُجشِّم أقرانه المتعلِّمون تعليمًا جيدًا أنفسهم عناءَ الاستشهاد بها. لكن أمَّ روسو ورثتْ مكتبة كبيرة، وقد شجَّع انبهارَ روسو الصغير بالأدب أبوه المثقف بطريقة تثقيفية وصفها لاحقًا روسو في مؤلَّفه «اعترافات» بأنها مميزة لحرفِيِّي جنيف بالمقارنة بحرفيِّي غيرها من البلدان. وورث من أبيه أيضًا جلَّ إخلاصه الشديد لمحل ميلاده؛ حيث «كل الناس إخوة» و«مقر السعادة والفردوس»، كما قال لاحقًا. ولقد خصص روسو على الأقل اثنين من مؤلَّفاته الرئيسية — «رسالة إلى السيد دالمبير عن المسرح» (١٧٥٨) و«رسائل من الجبل» (١٧٦٤) — في المقام الأول لتناول ثقافة بلده الأم أو نظامه السياسي، وألمح إلى أن عَقْده الاجتماعي المشار إليه في كتابه «العقد الاجتماعي» وُضع بحيث يُصوِّر المبادئ النبيلة لهذا البلد. ولم يصور روسو في أيٍّ من مؤلفاته مفهومَه للإخاء السياسي بقدْر أكثر ثراءً مما فعل في «رسالة إلى السيد دالمبير عن المسرح» حيث استرجع الاحتفالات البهيجة التي كانت تُقام في الخلاء لكتيبة عسكرية جنيفية والتي ألهبتْ خياله وهو صبيٌّ (الأعمال الكاملة، المجلد الخامس؛ السياسة والفنون: رسالة إلى السيد دالمبير عن المسرح).
لكن تعلقه بأبيه وبمحل ميلاده لم يساعده على تجاوز فقدانه لأمه. فعندما بلغ الخامسة عشرة من عمره، تعرَّف على بارونة سويسرية تُسمَّى السيدة دي وارين، كانت تعيش في آنسي بدوقية سافوي التي توجد غرب جنيف تمامًا. ولقد اشتُهرت هذه السيدة وهي لم تَزَلْ في التاسعة والعشرين من عمرها ببراعتها في إقناع اللاجئين البروتستانتيين باعتناق الكاثوليكية، وقد استقبلتْ روسو في بيتها وقرَّبتْه منها بحفاوة ضيافتها التي التقتْ مع حماسه الشديد. وعلى مدار السنوات العشر التالية، أولًا في آنسي ومن بعدها في شامبري وأخيرًا في المختلى المثالي بوادي لي شارميت، أمسى روسو عشيقَهَا وتلميذَها. وبتوجيهها وببعض الدعم من تابعيها والمتحولين للكاثوليكية على يدها، أكمل روسو تعليمه، خاصة في الفلسفة والأدب الحديث اللذين لم يكن يعرف عنهما إلا القليل من قبلُ، وبدأ يفكر في امتهان مهنة الكتابة. وجزئيًّا أيضًا بإلهام من الحماس الديني للسيدة دي وارين، ارتبط روسو بالرب ومعجزات خلقه، الأمر الذي ميَّز معتقداته الدينية عن معتقدات معظم معاصريه من المفكرين الذين كانوا إما ملاحدة وإما متشككين، ومرتابين في حماسه المفرط؛ حيث بدا لهم أشبه بالخرافات الصوفية للكنيسة الإكليريكية التي كان غايتَهم هدمُها. وطيلةَ فترةِ عشقِهِما، ولبقية حياته كان روسو يُنادِي السيدة دي وارين بلقب «أمي»، نسبةً إلى خصال العذوبة والبهاء والجمال التي تاقَ، وهو طفل يتيم الأم، للعثور عليها في جميع النساء اللائي وقع أسيرًا لسحرهن لاحقًا.
كانتْ تيريز لوفاسور التي عاش معها روسو منذ عام ١٧٤٥ تقريبًا وحتى وفاته، وانتهى الأمر به إلى الزواج منها، أقل جاذبية وفتنة بعض الشيء وأدنى تعليمًا بكثير من السيدة دي وارين. ورغم عذوبتها الفاتنة الغضَّة أصلًا، لم تستطع أن تملك عواطفه كما فعلتِ السيدة دي وارين. ورغم أنه كان بحاجة إلى حنان الأم وكذا إلى الإشباع الجنسي من المرأتين الأبرز في حياته، لم يكن روسو يحتمل فكرة تكوين عائلة خاصة به حتى إنه هجر أبناءه الخمسة الذين أنجبتْهم له تيريز، تاركًا مصيرهم المجهول في أيدي إحدى دور الأيتام العامة. وزعم روسو لاحقًا أنه كان مُدقع الفقْر لدرجة تَحُول دون إعالته أطفالَه على النحو الملائم، لكن سلوكَه نحوَهم جعله يشعر بالأسى والخزي الشديدين. ولا شك أن ذلك جعل القُرَّاء يتساءلون كيف أمكنه أن يَخُطَّ أطروحته الرائعة عن تربية الأطفال؛ «إميل»، التي يمكن أن يراها القراء في بعض جوانبها على أنها محاولة للتكفير عن أخطائه تجاه أطفاله؟! وحتى يومنا هذا، وَصَمَ هجْرُ روسو لأطفاله الصورةَ العامة لشخصيته أكثر مما فعلتْ أيٌّ من خصاله الأخرى.
اتضح أيضًا أنه كانَ أقلَّ اكتراثًا من المفترض باحتياجات السيدة دي وارين؛ إذْ ألمَّتْ بها أزمة مالية طاحنة في خمسينيات القرن الثامن عشر حتى إنها اضطرت إلى تسجيل اسمها ضمن قوائم الفقراء الذين هم بحاجة لإعانة من الحكومة. ووافتْها المنية دون أن تَفِرَّ من مستنقع الفقر الذي سقطتْ فيه، ودون أيِّ اتصال من روسو، في صيف عام ١٧٦٢ بينما كان منشغلًا بقلقه حِيَالَ تأمين نفسه إثر استنكار السلطات الدينية أو العلمانية لكتاباته في فرنسا وسويسرا. وفي أحد الشعانين، أو الثاني عشر من أبريل عام ١٧٧٨، وقد دنا أجله ولم يفصله عنه سوى أسابيع قلائل، خط روسو واحدة من أفصح صفحاته على الإطلاق، ألَا وهي الجولة العاشرة في كتابه «أحلام يقظة جوال منفرد»؛ حيث تأمل مرور ٥٠ عامًا على اليوم الذي التَقَى فيه السيدة دي وارين التي ارتبط مصيره بمصيرها، واستمتع بين ذراعيها بفترة قصيرة وعذبة من حياته كان فيها على سجيته تمامًا «دون قيود أو مشاعر مختلطة، واستطاع فيها الجزم حقًّا بأنه عاش أفضل أيام حياته» (الأعمال الكاملة، المجلد الأول؛ أحلام يقظة جوال منفرد).
عندما شرع روسو في أواخر العشرينيات من عمره في الاستقلال بحياته، كان يحصل على أجر متواضع من اشتغاله بالتدريس الخاص في المقام الأول، وكذلك من تدوينه للموسيقى، وعزم على أنْ يغزو باريس بمسرحية كوميدية، بعنوان «نرسيسس»، وبشكل جديد للنوت الموسيقية. وبعدَ وصوله إلى باريس عام ١٧٤٢ بفترة وجيزة، اتخذ روسو من ديدرو صديقًا له. كان ديدرو في مثل عُمْر روسو، ويتمتع بنفس الخلفية والطموح. ودامتْ رفقتُهما ١٦ عامًا. لكن لم يكن لهما نفس المزاج في واقع الأمر؛ حيث كان ديدرو لبقًا ولطيفًا أكثر، بينما روسو أكثر حساسية ودأبًا. لكنهما تقاسما اهتمامات مشتركة في المسرح والعلوم، ولا سيما الموسيقى. وعندما تعاون ديدرو ودالمبير معًا وقاما بتحرير «الموسوعة»، كُلِّف روسو بكتابة أغلب المقالات المتعلقة بالموضوعات الموسيقية، ومقالة عن الاقتصاد السياسي. وفي عام ١٧٤٩، إثر نشر مقالته المعنونة ﺑ «رسالة عن الأكفاء»، كابد ديدرو مأساة الاعتقال لفترة وجيزة في سجن فانسين، وكان يزوره روسو بصفة يومية تقريبًا، وسعى لدى السلطات للإفراج عنه. وذات يوم وهو في طريقه إلى زيارة صديقه من مسكنه في باريس، صادف روسو إعلانًا عن مسابقة لكتابة مقالة عن الفنون والعلوم وأثرهما الأخلاقي على البشرية. وكان من المقدَّر أن تغيِّر هذه المسابقة مسارَ حياته. شارك ديدرو روسو في بداية الأمر حماسَه بالأفكار المعارضة للحضارة التي تشكِّل «الخطاب» الأول، لكن حماسه كان مرجعه وحسبُ أنه أُعجِب بالفكرة المستفزة أن أحد المساهمين البارزين في موسوعته للفنون والعلوم ينبغي أيضًا أن يتولى مهمة التشكيك فيها. وكان منه أن تبنَّى لاحقًا بعض الأفكار الأخلاقية الراديكالية، ومنها ما كان قريب الشبه جدًّا بأفكار روسو نفسه، ولو أنه ظل دومًا على قناعة بما أنكره روسو؛ ألَا وهو أن تطور المعرفة والثقافة يفضي إلى الارتقاء بالسلوك البشري كلما نبعَ من الفضول الحقيقي الذي يتسق مع طبيعة الإنسان.
تخللت فترة إقامة روسو في باريس انتقالَه لفترة وجيزة للبندقية وتعيينه في ١٧٤٣-١٧٤٤ سكرتيرًا للسفير الفرنسي هناك. في شبابه، قام روسو بزيارة مدينة تورينو، وتعلَّم الإيطالية هناك حيث استمتع بالموسيقى الإيطالية التي سمعها كثيرًا بحماس متقد لمَا تتسِمُ به من انسيابية ووضوح لا يشوشهما أي زيادات في التنقيح كتلك التي تتسم بها الأنماط الموسيقية الفرنسية. في تورينو، وجَدَ روسو الأداء الأوركستراليَّ الممتع المصاحب للطقوس الدينية أكثر جاذبية من الترانيم الجامدة التي عُدَّت، تجاوزًا، ضربًا من الموسيقى في كنائس جنيف. وفي البندقية، تحمَّس روسو أيضًا للموسيقى العلمانية والدارجة التي غمرت حواسه بالأنغام الشعبية المستخلصة من الشوارع والحانات بالقدْر الذي غمرتْها الموسيقى المسرحية. ولاحقًا، بعد عودته إلى باريس، قارنَ بين الأوبرا الإيطالية والفرنسية، مرجحًا الأولى على الأخيرة، على أساس أن اللغة الفرنسية أقل انصياعًا وطواعية للتعبير الموسيقي، والأسلوب الفرنسي للموسيقى الغنائية يفتقر أصلًا إلى التتابع النغمي الواضح، وتُثقل كاهله بشدة الجماليات الموسيقية والإضافات المتآلفة السطحية.
أدَّى الخلاف الذي نشب في منتصف القرن الثامن عشر بين روسو ورامو، أبرز المؤلفين الموسيقيين بفرنسا والمُنَظِّر الموسيقيِّ الأشهر في عصره، إلى الهجوم بعنف على أفكار روسو هذه الخاصة بالموسيقى. وكانت مقالة روسو المعنونة ﺑ «رسالة عن الموسيقى الفرنسية» عام ١٧٥٣ — التي شَنَقَ العامةُ على إثرها تمثالًا لروسو تعبيرًا عن كراهيتهم له؛ وذلك لأن التأملات الواردة فيها عن الموسيقى الفرنسية عُدَّت مثيرة للفتن — أحد أكثر مؤلفات روسو إشعالًا للشقاق، والمُؤَلَّف الوحيد، بحسب زعم روسو نفسه في كتابه «اعترافات» (الأعمال الكاملة، المجلد الأول؛ اعترافات)، الذي عرقل اندلاع ثورة سياسية في فرنسا. كان طردُ المَلِك لقُضاة برلمان باريس في نوفمبر من ذلك العام في أزمة وطنية اندلعتْ إثر الصراع بين الينسينيين واليسوعيين؛ قد أحدث اضطرابات عنيفة، لكنها لم تَرْقَ، بحسب زعم روسو، إلى الاضطرابات التي أشعلها مؤلَّفه عن الموسيقى الذي صرف انتباه العامة عن القيام بثورة ضد الدولة وتحولت إلى ثورة ضد شخص روسو. ومن المفارقة أن الأيام أثبتتْ أن «رسالة عن الموسيقى الفرنسية» هو المُؤَلَّف الوحيد لروسو الذي حَظِيَ بالتأييد الكامل تقريبًا للمفكرين الذين انشغلوا بقضية الموسيقى الإيطالية بحماس لا يقل عن حماس روسو نفسه. في عام ١٧٥٢، ألَّفَ روسو أوبرا بعنوان «عرَّاف القرية» أنتجها بأسلوب إيطالي، ولاقت إعجابًا شديدًا من الناس حتى إن كلًّا من جلوك وموتسارت قلَّداها وتفوَّقا على روسو في جودة عملهما. وعندما نشر روسو «قاموس الموسيقى» عام ١٧٦٧ الذي استقاه إلى حدٍّ كبير من مقالاته المخصصة ﻟ «الموسوعة»، كان عليه أن يستعرض أفكاره المبكرة حول الموسيقى والأوبرا بتفصيل أكبر مما سبق، بينما في عمله «مقالة عن أصل اللغات»، الذي يرجع إلى أوائل ستينيات القرن الثامن عشر، استطاع أن يربط بين تلك الأفكار وفلسفته التاريخية، ناسبًا حيوية موسيقية أكبر للغة اللاتينية القديمة مقارنةً بالفرنسية المعاصرة، وعازيًا فضائل وحرية أكثر لمواطني الجمهوريات القديمة الذين عَبَّروا، بحسب رأي روسو، عن مشاعر الإخاء في جمل موسيقية فضفاضة من النوع الذي لم يَعُدْ شائعًا بين رعايا الحكم الملكي المعاصرين.
في كتابه «اعترافات»، علق روسو على اكتشافه أيضًا، في البندقية، أن «كل شيء يعول بالكامل على السياسة»؛ ولذلك فإن «الشعوب في كل مكان هي نتاج ما يُريده مَن يحكمونهم منهم» (الأعمال الكاملة، المجلد الأول؛ اعترافات). وكان روسو مقتنعًا بأن البشر ليسوا أشرارًا بطبيعتهم، لكنهم باتوا كذلك بشكل متكرر جدًّا تحتَ وطأةِ الحكومات العقيمة التي أنتجتِ الرذائل. وإذا كان كل شيء يعول على السياسة، فمِن الممكن عزْوُ الشخصية السوية لبني وطنه الجنيفيين من ناحية، والفساد الأخلاقي لجمهورية البندقية التي كانت لها مكانة مرموقة في فترة من الفترات من ناحية أخرى، لنفس السبب. إثر إقامته في البندقية وعودته إلى باريس، عاصمة أعظم الممالك آنذاك، كان روسو في موقف يَسمَح له بالمقارنة بين أعمال ثلاثة أنظمة سياسية مختلفة جدًّا، يتحمل كلٌّ منها مسئولية تشكيل شخصية شعبها. ولاحتْ أول فرصة له للربط بين أفكاره عن اضمحلال الثقافة والجذور السياسية للرذيلة في عام ١٧٤٩ عندما كتب مقالته «خطاب حول الفنون والعلوم». قال روسو في مقالته إنه بينما كان أسلافنا أقوياء، نجد أن الغلو في الفخامة والرخاء استنفد حيويتنا وجعلنا عبيدًا للمظاهر الخارجية للحضارة. لقد أنتجتْ أسبرطة أمة قوية؛ لأنها لم تكن مهتمة بالفنون والعلوم، بينما عجزت أثينا الدولة العتيقة الأكثر تحضرًا عن الحيلولة دون تحولها لدولة استبدادية، ولازمتِ الأبهةُ المتزايدة لروما وغيرها من الإمبراطوريات تراجعًا في قوتها العسكرية والسياسية. في كل مكان، كان روسو يرى أن «الفنون والآداب والعلوم تنتشر انتشار أكاليل الزهور حول القيود الحديدية التي تثقل كاهل الرجال وتكبِّلهم» (الأعمال الكاملة، المجلد الثالث؛ الخطابات والكتابات السياسية المبكرة الأخرى). وبقدْر غيره من الأفكار الأخرى الواردة في مؤلفاته اللاحقة، ظل هذا المبدأ — ألَا وهو تحديدًا أن «المعرفة» تنبع من «القوة» — بعدَ ذلك ركنًا أصيلًا في فلسفته. كان روسو قد استلهم هذا المبدأ من السفسطائيين القدماء ثم أعاد كل من ماركس ونيتشه صياغته بعد روسو، ومن ثم صار مبدأً محوريًّا للنقد ما بعد الحداثي لعصر التنوير بصفة عامة.
حصل روسو من خلال مقالته «خطاب حول الفنون والعلوم» على الجائزة الأدبية التي ألَّف المقالة لأجل الحصول عليها، وبين ليلة وضحاها تقريبًا حوَّلتْه الجَلَبَة التي أحدثتْها تلك المقالة من أديب مغمور شارَفَ على منتصف العمر إلى أشهر سَوْط موجَّهٍ للحضارة الحديثة. ومِن بين العوامل الأساسية وراء سمعة تلك المقالة السيئة الطريقةُ التي قلب بها الرؤية السائدة في القرن الثامن عشر للصراع الملحمي بين الفضيلة والرذيلة. تحدث فولتير نيابةً عن كثير من الرجال ذوي الآراء المستنيرة في عصره عندما ربط، في مؤلَّفه «رسائل فلسفية» وفي أعمال أخرى، ما بين الفضيلة وتقدُّم العلم والتعلم، وصور التحسن التدريجيِّ للسلوك البشري في ضوء الصحوة البطيئة لأوروبا الحديثة من مستنقع عصور الظلام التي اتسمت بالخرافات والجهل. ولقد وَضَعَ ديدرو ودالمبير مؤلَّفهما «الموسوعة» على نفس هذا المنوال تقريبًا. وفي المقابل، نجد أن روسو أشاد بمزايا العصر الذهبي القديم الهمجي الذي حُرِمَ منه البشر وضيَّعوه بسبب شهوتهم العمياء للتعلم. وبذلك لم يُعطِ روسو الانطباع وحسب بميله إلى الهمجية وتفضيلها على الحضارة، بل بدا أيضًا لمعاصريه المستنيرين وكأنه نسيَ أن المصدر الأساسي للشقاء والقنوط في العالَم المعاصر، ألَا وهو الكنيسة المسيحية، استقى قوَّته من الصوفية نفسِها تقريبًا التي عزَّزها الجهل الذي أثنى عليه روسو في العالم القديم. شجب فولتير وأتباعُه هذه الرؤية الخاصة ببراءتنا القحة، واتهموا روسو بالتخلي عن قضايا الإصلاح السياسي والديني التي كان حريًّا به أن يُسانِدها لينتكس إلى حالة من الغباء الفج. لقد كان هذا التقييم لنظريته عن طبيعة الإنسان من عِدَّة أوجه بعيدًا كل البعد عن الصواب، لكنه ركَّز على أحد المبادئ المحورية لفلسفته، الذي أقرَّ كثيرًا بكونه المشكاة التي تستنير بها أعماله، ألَا وهو أنه بينما يفعل الخالق كل ما هو خير، فإن البشر يفعلون كل ما هو شر وخسيس. لقد كان روسو يؤمن أن الشر هو التبعة الأساسية لأعمال البشر، إن لم يكن دومًا غاية النيات البشرية.
في أوائل خمسينيات القرن الثامن عشر، انشغل روسو بشكل أساسي بكتاباته عن الموسيقى، ومواجهة اعتراضات بعض نُقَّاد مقالته «خطاب حول الفنون والعلوم». ولقد كان يَدِين على نحو ما لهؤلاء الذين صرفوا انتباهه عن انحدار الثقافة ووجَّهوه بدلًا من ذلك إلى الأثر الوخيم للعوامل السياسية والاقتصادية على الأخلاق، ما دام أنهم ردَّدوا، بحسب ما تراءى له، حقيقة اكتشافه المتعلق بالفساد الأخلاقي لجمهورية البندقية. بحلول خريف عام ١٧٥٣، شرع روسو في صياغة نسخة جديدة وأكثر إحكامًا من فلسفته التاريخية والتي فيها حَمَّلَ مسئولية فسادنا الأخلاقي للسعي وراء اللامساواة لا الرفاهية، وفي هذه النسخة الجديدة أيضًا تعاطى روسو مع علاقات السلطة التي تعمل على تأسيس المِلْكية الخاصة باعتبارها السبب الرئيسي للاضمحلال الأخلاقي للبشرية. فلا بد أن التخصيص المرخَّص به حكوميًّا للأراضي من قِبَل البعض على حساب الآخرين أفضى لا محالة إلى تأسيس المجتمع المدني بالمكر والإجحاف، هكذا زعم روسو في مقالته «خطاب عن اللامساواة» عام ١٧٥٥ حيث استعرض هذا الطرح في سياق تاريخ افتراضي للجنس البشري حاول فيه أيضًا تفسير الأصل الاجتماعي للعائلة وللزراعة، وصَوَّرَ أصول الأنواع المختلفة للحكم فيما يتعلق بالتوزيعات المجحفة للملكية الخاصة التي لا بد أنها كانت لها داعمًا.
في عملية الاستعراض الافتراضي للماضي هذه، طرح روسو العديد من الملاحظات المهمة لنظريته السياسية والاجتماعية التي لم يكن قد أفصح عنها من قبل. كانت الغاية من تأكيده الجديد على اعتبار تأسيس الملكية الخاصة، بدلًا من السعي وراء الثقافة والتعلم، المصدر الرئيسي لفسادنا الأخلاقي؛ الطعن على ما اعتبره روسو أسس التشريع القانوني الحديث بدءًا من جروشيوس وهوبز وحتى بوفندورف ولوك. لم يُعارِض أيُّ مفكر قط من عصر التنوير هذا التقليد بشكل مباشر كما فعل روسو في «الخطاب» الثاني، ولم يُطرَح أيُّ نقْد خلال القرن الثامن عشر للآراء السابقة عن الطبيعة البشرية مثل هذا المفهوم الدرامي للتحول التطوري في سماتنا المجتمعية. علاوةً على ذلك، فتفرقة روسو بين الإنسان البدائي والمتحضر في هذا العمل أمستْ تَدُور في فلك فكرة التمييز ما بين خصالنا الطبيعية والأخلاقية التي لم يتناولها من قبلُ. أصرَّ روسو الآن على أن الأخلاق لا تنبع من الطبيعة البشرية، بل من تغيُّر طبيعة الإنسان في المجتمع في ظل حالات اللامساواة الصارخة التي شكلت حياتنا على نحو مختلف تمامًا نوعيًّا عن التفاوتات الطبيعية البسيطة بيننا. يقول روسو في «خطاب عن اللامساواة» إن تأسيس الملكية الخاصة، أبعدُ ما يكون عن التعبير عن أفضل ما هو دفين في الطبيعة البشرية؛ شوَّه هذه الطبيعةَ وحوَّل السعيَ وراء الشرف وتقدير الناس إلى ضرب خسيس ومحبط من المنافسة. إن التصوير الافتراضي لخصالنا الأساسية التي طرحها هنا لأول مرة جعلتِ الهمجيَّ حقًّا يدنو من الحيوانات الأخرى بدلًا من أن يقترب إلى الإنسان المتحضر، الأمر الذي أعطى روسو مجالًا لتأمل الاختلافات بيننا وبين القِرَدَة العُلْيا وغيرها من الرئيسيات. وصار روسو مؤمنًا بأن البشر هم النوع الوحيد في العالم الطبيعي الذي يستطيع أن يصنع تاريخه الخاص، وأن سوء استغلال قدراتنا جعلنا بلا شك نحيَا في المجتمع حياة أكثر توترًا وبؤسًا من غيرنا من المخلوقات.
لقد صادف «الخطاب» الثاني الوقت المناسب لممارسة أثر عميق على تطور الفكر الأوروبي في مجموعة متنوعة من المجالات، لكنه كان له في البداية أثر أقل عمقًا على قرائه من عمله «خطاب حول الفنون والعلوم» أو «رسالة عن الموسيقى الفرنسية». ولكن، بالنسبة إلى المفكرين الذين كان متوافقًا معهم في الرؤية قبل ذلك، فقد أكدتْ مقالته هذه وضاعفتْ مخاوفهم من أن خطابه الأول كان تعبيرًا عن إيمان حقيقي من جانبه، وأنه لم يَعُد من الممكن النظر إليه كعضو في معسكر حلفاء التنوير أو التطور. ولا شك أن ضرورة تخلِّي روسو عن رفقة بعض أصدقائه القدماء أصبحتْ واضحة له، وهو الشخص الذي كان يشعر دومًا بعدم الراحة وسط الملحدين والمتشككين. ولا مِرَاء أن حماسه غير المألوف الذي كان يُخفِيه فقط بعضُ الاستحياء الذي كان يُبدِيه وسط الناس مستَلْهَمٌ إلى حدٍّ ما من السيدة دي وارين، واعتبره بعض أصدقائه الباريسيين، وكذلك ديدرو نفسه في نهاية المطاف، دليلًا على تظاهُره بالورع وتكبُّره الشديد.
عندما بدأتِ الصراعات تشتعل بينَه وبين رفاقه في أواسط خمسينيات القرن الثامن عشر، زعم أنه لم يعُد يحتمل لامبالاتهم الأخلاقية. في البداية، أراد العودة إلى جنيف، لكن قرار فولتير بالاستقرار فيها أثناه عن هذه الخطوة. فبعدَ أن سُجِنَ مرتين في سجن الباستيل، كان فولتير يبحث فقط عن ملجأٍ يستطيع فيه متابعة اهتماماته دون أن يُعرِّض نفسه لخطر كبير، وفي بيئة أكثر ملاءمة من عالَم المَلِك فريدريش العظيم، ملك بروسيا، حيث الحِراب لها الأفضلية على الكتب. لكن روسو أحس بأن ثمة دوافع خبيثة في هذا التعدي على مدينته الأم. وخشي روسو أن يُحدِث فولتير تحولًا في الأخلاق الحميدة لبني وطنه، فيُمسُوا فاسدين شأنهم شأن الباريسيين، وأنه إذا عاد لمحل ميلاده فكان سيتعين عليه مواجهة الرذائل نفسها التي جعلتْه يفر من فرنسا. ولذا، فقد استقر رأيُه على القبول بمعتزل ريفي اسمه ليرميتاج، يقع شمال باريس مباشرةً في غابة مونتمورنسي، عرضتْه عليه السيدة ديبيني صديقة ديدرو التي كانت لفترة وجيزة راعيته وأقرب أصدقائه، رغم أنها تحولت لاحقًا إلى واحدة من أشرس خصومه الذين عرفوه حق المعرفة. وبالتزامن مع وصوله إلى ليرميتاج في التاسع من أبريل عام ١٧٥٦، بدأ روسو في الانفصال عن جميع المفكرين تقريبًا الذين كانوا رفاقًا له منذ أوائل أربعينيات القرن الثامن عشر. وسرعان ما حدث خلاف بينه وبين ديدرو الذي ألَّفَ مسرحية خلال تلك الفترة بعنوان «الابن غير الشرعي»، وكانت تتناول في جزء منها شرور العزلة، فاعتبرها روسو بادرة ازدراء شخصي من جانب ديدرو له. وعندما ألَّف فولتير في عام ١٧٥٦ أشعاره عن القانون الطبيعي وزلزال لشبونة الذي حدث في العام المنصرم والتي سخر فيها من سذاجة الإيمان الأعمى بالعناية الإلهية وبأن كل شيء على الحال التي ينبغي أن يكون عليها، ردَّ عليه روسو في مقالته «رسالة حول العناية الإلهية» بأن الرب ليس مسئولًا عن الشر، وأن عالم المعاناة البشرية الذي يتذمر منه فولتير صنيعة البشر وحدهم. واتخذ الرد الساخر لفولتير على روسو (وكذلك على لايبنتس وبوب) شكل رواية أخلاقية ساخرة أطلق عليها اسم «كانديد».
بحلول عام ١٧٥٨، كان روسو قد قطع كل علاقاته بشكل كامل برفاقه السابقين. وقبْلَها بعام واحد، خط دالمبير مقالة مهمة عن جنيف في المجلد السابع من «الموسوعة» دافع فيها عن تأسيس مسرح في تلك المدينة، ذكر فيها أن المسرح من شأنه الارتقاء بثقافتها، ومِن ثَمَّ تعزيز التطور الأخلاقي لأهلها. واعتقد روسو بأن فولتير تآمر مع دالمبير في كتابة هذه المقالة، فوضع مقالته «رسالة إلى السيد دالمبير عن المسرح» لمواجهة محاولة إفساد أخلاق أهل مدينته، وفي نفس الوقت لمواجهة دالمبير نفسه. وهاجم روسو فن المسرح باعتباره يتنافى مع روح الحب الأخوي التي كانت شائعة، ويتعين استرجاعها الآن في مدينته الأم. وكما قرر أفلاطون استبعاد الجماليات الفاتنة ولكن المتكلفة في الوقت نفسه لملحمتي هوميروس من جمهوريته الفاضلة، كذلك فعل روسو في مقالته «رسالة إلى السيد دالمبير عن المسرح» حيث حاول الحفاظ على جنيف من السخرية الماكرة جدًّا لموليير الذي كان باستطاعته ببراعة أن يُحِيل استقامة أهلها وورعهم إلى شيطنة ونفاق عبر عروض ترفيهية ذات حيل خبيثة جاعلًا أبناء المدينة فريسة لنواياه المراوغة، ومِن ثَمَّ يستنفد حماس الأمة المندفع القح الذي تقوم عليه قوتها.
وحدث أنه في الفترة التالية مباشرة لرحيله من باريس كتب روسو روايته «جولي أو إلواز الجديدة»، وهي الرواية الأشهر على الإطلاق في فرنسا خلال أواخر القرن الثامن عشر. لقد استلهم جزئيًّا هذه الرواية المكتوبة على هيئة رسائل عن آلام الحب المحبط في صراعه مع الواجب من روايات ريتشاردسون وبريفو، وتحتوي على بعض أرق المقاطع الغنائية عن الحب الرومانسي والرغبة العذبة، والبساطة الريفية. وإذا كانت مسرحية «كانديد»، إلى حد ما، استجابة فولتير الروائية لمقالة روسو «رسالة حول العناية الإلهية»، يجوز اعتبار مقدمة رواية «إلواز الجديدة» ملحقًا لمقالة «رسالة إلى السيد دالمبير عن المسرح» التي أراد روسو في واقع الأمر توجيهها إلى فولتير. كتب روسو: إن «المسرح مهم في المدن الكبيرة، والشعب الفاسد بحاجة إلى مسرحياته. لقد كنت شاهدًا على الأخلاق في زمني، ونشرت هذه الرسائل. ليتني أستطيع العيش في قرن يتسنَّى لي فيه أن أتخلص من تلك الرسائل!» (الأعمال الكاملة، المجلد الثاني؛ جولي أو إلواز الجديدة).
في الفترة ذاتها، أنهى روسو روايته «إميل» التي تضارع في الحجم تقريبًا روايته «إلواز الجديدة»، وترتبط بها إلى حد ما، ولا سيما أنها تنتهي كرواية، رغم أنها بدأت كأطروحة عن التربية. يبدأ الكتاب الأول من النص ببيان مبدأ عَدَّه روسو في أواسط خمسينيات القرن الثامن عشر عماد فلسفته بصفة عامة: «كل شيء يصنعه الخالق حسن، وكل شيء يفسد بين يدي الإنسان» (الأعمال الكاملة، المجلد الرابع؛ إميل، أو عن التربية). لقد كانت الفكرة الرئيسية لرواية «إميل» هي وضع خطة تربوية استنادًا إلى الطبيعة لا الفن، يُسمح فيها لميول ورغبات الطفل بالنمو، كلٌّ في الوقت المناسب لها، بدلًا من أن تُجبَر على أن تتشكل قبل أوانها أو تُعَرَّض لسيطرة خارجية، بالتوجيه أو بالتلقين. رسم روسو هنا سردًا وراثيًّا للنمو الروحي للفرد عبر خطوط تعكس منظوره الثوري، الذي عرضه في «الخطاب» الثاني، الخاص بانتقالنا من حالة الهمجية إلى حالة التحضر، رغم أنه صور هذا النمو في روايته «إميل» عبر صور للعاطفة والرغبة الجنسية بدلًا من المنطق والسلطة. ولكن أثناء تشكل قدرات الطفل، فإن القاعدة التي تشير إلى أنه لا بد أن يعول أولًا على الأشياء لا البشر تفتح أمامه إمكانية وجود نوع من التربية مختلف تمامًا عن ذلك الذي أفضى لا محالة إلى فساد الجنس البشري في الماضي. كانت رواية «إميل» أول أعمال روسو التي تشير إلى شكل من الاستقلال ما زال بالإمكان أن يحصل عليه الأفراد حتى داخل المجتمع الفاسد الذي هكذا يمكن الفكاك من قبضته عن طريق غرس الاعتماد على الذات. بالتالي، يقدم هذا العمل رؤية متفائلة حذرة، وإن كانت غير متحققة، حيال احتمال حدوث النمو المُتَصَوَّر، الأمر الذي لم يكن متجلِّيًا في كتاباته السابقة. لا شك أن هذا التغير الكبير في نبرته كان نابعًا جزئيًّا من نجاح روسو في تحرير نفسه من بهرجة المجتمع الباريسي.
ولكن، وفقًا لمؤلَّفه «اعترافات»، كان أول عمل يؤلفه روسو في بيته الجديد هو «العقد الاجتماعي»، وهو مؤلَّف شرع في وضع خطة له بالفعل بينما كان في البندقية، وأمسى في ذلك الوقت عازمًا على جمع مادته في أفضل ما ألفه على الإطلاق. ولعلَّ من الأفضل فهم مبادئ العقد الاجتماعي الحقيقي في مقابل صيغة الاتفاق المشئومة الواردة في «الخطاب» الثاني. فهذا العقد، إذا فُهم الفهم الصحيح، سنراه يحقق للمواطنين حريتهم الحقيقية بدلًا من أن يدمرها؛ وذلك بالمساواة بينهم تحت مظلة القانون بدلًا من إخضاعهم لحكامهم السياسيين المُعينين. فهو يَرَى في هذا الكتاب أن الحرية والمساواة معًا هما المبدآن الجديران بأن يكونا أهم مكونات أي نظام تشريعي، وجزء كبير من هذا الكتاب مخصص لتفسير علة ذلك. وبعد أن ميَّز روسو بالفعل ما بين النطاقين الأخلاقي والسياسي من ناحية والطبيعي والمادي من ناحية أخرى لحياتنا، زعم أن الأشكال المميزة للحرية أو التحرر ملائمة لكل من الجانبين. وقال روسو إنه من دون الحكومة، يمكن للناس أن يكونوا أحرارًا بشكل طبيعي بمعنى عدم الخضوع لإرادة الآخرين، لكن حريتهم سترتبط وحسب بإشباع رغباتهم الأساسية. وفي المجتمع السياسي الذي يقتضي إقامته التخلي عن حريتنا الطبيعية — في هذا المجتمع وحده — يمكننا إدراك الحرية المدنية أو الأخلاقية. والأُولَى تجعلنا معتمدين على المجتمع بأسره، بينما تُخضعنا الثانية إلى القوانين المعبِّرة عن إرادتنا الجَمْعِية. في «العقد الاجتماعي»، زعم روسو أن الدولة يمكن أن تكون أداة للحرية إذا كانت لرعاياها جميعًا السيادة في الوقت نفسه؛ لأنه حينئذٍ وحسب يمكن القول بأن الناس يحكمون أنفسهم حقًّا. ولاحظ روسو أنه فقط عندما يشارك كل المواطنين بالدولة في العملية التشريعية، يستطيعون معًا منع إساءة استخدام السلطة التي قد يسعى بعضهم إلى استغلالها. ورغم أن بعض معاصريه، مثل مونتسكيو وفولتير، أثنَوْا على المبادئ الليبرالية المنصوص عليها في الدستور الإنجليزي، حكم روسو، استنادًا إلى هذه الأسس، على نظام الحكم البرلماني الإنجليزي بأنه لا يتوافق مع حرية الناخبين فيما يتعلق بتفويض السيادة من جانب الشعب لنوابه.
بعد أن نشر روسو «العقد الاجتماعي»، كتب «دستور كورسيكا» عام ١٧٦٥، ومقالة «حكومة بولندا» حوالي عام ١٧٧١، بدعوة في المرَّتَيْن من مواطنين بارزين في هذين النظامين الناشئَيْن ليكون روسو مُشَرِّعًا لهما. لو كانت كورسيكا نجَتْ من الغزو، وبولندا من انقسامها، لكان من الممكن، في أواخر القرن الثامن عشر، أن نشهد كيف يمكن تطبيق مبادئ «العقد الاجتماعي» على دساتير دول حقيقية. لقد كان قصده دومًا أن هذا ما ينبغي أن يكون عليه الحال، هكذا زعم روسو، فيما يتعلق بالسعي للجمع ما بين النظرية والممارسة السياسية، وهكذا كانت نية معجبيه ممن قاموا بالثورة الفرنسية لاحقًا، ولو بطريقة مختلفة. وبمقابلة فلسفته بفلسفة أفلاطون ومور أيضًا، أكد روسو أنه لم يطرح رؤية مثالية لا يمكن تحقيقها على أرض الواقع. على العكس من ذلك، فالغاية من «العقد الاجتماعي» بيان الأسس النظرية لشيء أقرب ما يكون إلى المُراد، ويظهر هذا تحديدًا في دستور جنيف، واعتقد روسو أنه لأن ذلك الدستور لم يتم تطبيقه، فقد استثار غضب السلطات الحالية لدولته الأم (الأعمال الكاملة، المجلد الثالث). لقد كانت هذه واحدة من بين الحجج الرئيسية لعمله الثالث المُكَرَّس إلى حد بعيد للسياسة، ألا وهو «رسائل من الجبل» عام ١٧٦٤.
لكن الجزء الذي أثار، في حياته، غضب العامة الشديد نحو مؤلَّفه «العقد الاجتماعي» كان الفصل قبل الأخير الذي يتناول الدِّين المدني. أكد روسو هنا على أهمية الأساس الديني وكذا السياسي لمسئولياتنا المدنية الذي بناءً عليه يؤدي المواطنون ويحبون واجبهم باعتباره مسألة تتعلق بالإيمان الوطني مع ضمهما معًا في إيمان بإله قدير وخيِّر وغفور. إن هذا الجانب من فكره، الذي استلهمه جزئيًّا من مكيافيللي الذي كان معجبًا بأفكاره، زجَّ بروسو في صراع مع كلا المؤسستين الدينية والسياسية المعاصرتين له وكثير من نقادهما البارزين. بالنسبة إلى المفكرين المهتمين بإصلاح نظام الحكم القديم، بدا حماسه الديني مرة أخرى خيانة للتنوير واستنهاضًا خبيثًا للإيمان الأعمى في فجْر عصر العقل. من ناحية أخرى، فإن إدانته السريعة للمسيحية التي وصفها بأنها تُناسِب الحكومة المستبدة أكثر من غيرها أثار ثائرة الكنيسة والسلطات السياسية على حد سواء. علاوة على ذلك، فقد كان قسم «عقيدة كاهن سافوي» في روايته «إميل» التي نشرها روسو تقريبًا في الوقت نفسه الذي نشر فيه مؤلفه «العقد الاجتماعي»، بمثابة التعبير الأكمل والأكثر بلاغة عن فلسفته الخاصة بالدين الطبيعي بالمقارنة بالدين المُنزل من السماء، الأمر الذي أثار استياء تلك السلطات بقدر أكبر.
ولم يَسْلَمْ روسو قط في واقع الأمر من الاستهجان؛ فقد حُظِر مؤلَّفاه «إميل» و«العقد الاجتماعي» أو صودرا في باريس، وأُحرقا في جنيف. وجد روسو نفسه مضطرًّا للفرار من إحدى المدينتين وعرضة للاعتقال في الأخرى، وبذا كان في عام ١٧٦٢ مطاردًا وهاربًا من العدالة، وقد اندهش من سرعة ردة الفعل الرسمية لآرائه التي كان يراها مجرد رؤًى مختلفة متعلقة بالمسيحية مقارنةً بالرؤى الإلحادية للكثير من المفكرين، وكذلك من الإخفاق المبدئي لأبناء وطنه في إغاثته. في مايو ١٧٦٣، وهو في قمة القنوط، وبعد أن وجد ملاذًا مؤقتًا في موتييه، على مقربة من نوشاتيل، الخاضعة للولاية الاسمية لفريدريش العظيم، ملك بروسيا، تخلَّى روسو عن جنسيته الجنيفية. بعدها ظل مشردًا، واضطر أن يسافر عادة متخفيًا وتحت اسم مستعار، وأصبح تحت رحمة الذين عَرَضوا عليه حمايته الذين كان هدفهم الأساسي، كما كان روسو يظن أحيانًا، نصْبَ فِخَاخ له وتشويه سمعته. كان ديفيد هيوم من بين هؤلاء، حيث صحب روسو في يناير ١٧٦٦ شخصيًّا إلى إنجلترا، واستقر فيها حوالي ١٨ شهرًا، وتحديدًا في ووتون في ستافوردشير. وغلبت عليه في تلك الفترة شكوك في وجود مؤامرة دولية لتشويه سمعته، ألقتْ به في بحر من الأسى، وتسببت لهيوم في إزعاج شديد. وفاقم الاضطهاد الحقيقي من جنون الاضطهاد الذي أُصيب به روسو لا محالة على الأقل بداية من أواسط ستينيات القرن الثامن عشر، ولبقية حياته ظل مقتنعًا بأن رفاقه القدماء في طليعة عصر التنوير — ديدرو ودالمبير ودولباك وجريم — بمساعدة فولتير وأصدقائه النبلاء الذين طالما مَقَتُوه، اتحدوا مع أعدائه السياسيين في شبكة ضخمة من أجل التآمر ضده. وبعد أن عاد إلى فرنسا بعدَ تعهُّده بالامتناع عن نشر كتاباته، وجد راحته في الانعزال، ودراسة علم النبات، وتوحُّده الغنائي الرومانسي مع الطبيعة، بحسب ما ورد في آخر أعماله البارزة، وأفضلها على الإطلاق لدى بعض القراء «أحلام يقظة جوال منفرد»، الذي ظهر بعد وفاته بالتزامن مع ظهور الجزء الأول من مؤلفه «اعترافات». في عام ١٧٧٨، وبعد أن انتقل مرة أخرى إلى ملتجأ في شمال باريس تمامًا بفترة وجيزة، في إيرمنوفيل، الذي وفَّره له الماركيز دي جيراردان، توفِّي متأثرًا بسكتة دماغية «دون أن ينطق بكلمة واحدة»، بحسب ما جاء على لسان أرملته (المراسلات الكاملة، الرسالة رقم ٨٣٤٤)، مما يُناقِض الادعاءات الواهية بأنه مات منتحرًا.
ولكن، رغم أن روسو أمسى منعزلًا عن مفكري عصر التنوير الكبار، فقد كان له الكثير من المريدين الشغوفين به أيضًا في شتَّى أرجاء فرنسا وبين الدوائر الراديكالية في جنيف، والأهم من ذلك ربما في الدول المستنيرة الموجودة على أطراف أوروبا، ألا وهي: إيطاليا واسكتلندا وألمانيا؛ حيث كان كانط وجوته أبرز المعجبين به من الجيل أو الجيلين التاليين. وأثناء الثورة الفرنسية، عندما عُرضت مخطوطة كتاب روسو «اعترافات» على المؤتمر الوطني، ونُقل جثمانه رسميًّا إلى باريس، كان أثره على الحياة والفكر في القرن الثامن عشر في ذروته. ولا توجد أية شخصية بارزة في عصره مثل روسو عبَّرَت بقدْر أكبر من الوضوح عن التزام الثوريين بمبادئ الحرية والمساواة والإخاء، ولا يوجد مَن أبدى إخلاصًا أعمق لنموذج السيادة الشعبية الذي بشَّرَ تبنِّيه في فرنسا بنهاية نظام الحكم القديم. ويُعَدُّ المسار المهني السياسي لروبسبيير الملقب بالنزيه — بالتحديد معارضته للمحسوبية واللاهوت الكهنوتي ووطنيته وترويجه لعبادة الكائن الأسمى، وكذا الكثير من الممارسات خلاف ذلك — أعظم تجلٍّ عمليٍّ على الإطلاق لمبادئ روسو. لم يَدعُ روسو نفسُه قطُّ إلى الثورة، وكان حكمه على الثورات السياسية بأنها أسوأ من الداء الذي تعتزم علاجه، ولم يعقد آمالًا كبيرة على الخلاص السياسي للبشرية. لكنه تنبَّأ بأزمة وشيكة ستحلُّ بأوروبا، وحلول عصر ثوري، وتمنَّى تفاديَ هذا التحول الثوري. وعندما اندلعتِ الثورة الفرنسية بعدَ عَقْدٍ من وفاته، خَطَّ كثير من قادتها رغم ذلك برامجهم ودساتيرهم في ظل الضوء الساطع لفلسفته. وبسبب هذا، لقي روسو نقدًا لاذعًا واعتبروه أحقر مفكري القرن الثامن عشر بأسره عندما انهارت الثورة وتمخض عنها في بداية الأمر إرهاب اليعاقبة، ومن بعده البونابرتية، وبحسب النُّقَّاد، أفضتْ في نهاية المطاف إلى شمولية حديثة بصفة عامة.