الثقافة والموسيقى وفساد الأخلاق
قال روسو في مؤلَّفه «اعترافات» إنه ذُهل عندما قرأ إعلان أكاديمية ديجون بمجلة ميركور دي فرانس في عددها الصادر في أكتوبر ١٧٤٩ عن مسابقة أفضل مقالة تُجيب عن السؤال التالي: «هل يساهم إحياء الفنون والعلوم في تهذيب الأخلاق؟» كتب روسو يقول: «فورَ أنْ قرأتُ هذا الإعلان، تجلَّى لي عالَمٌ آخر وأمسيتُ رجلًا مختلفًا» (الأعمال الكاملة، المجلد الأول؛ اعترافات). توقف روسو عند شجرة ليلتقط أنفاسه، وانفعل إلى حد الهذيان تقريبًا بفعل رؤية متحمسة للخيرية الطبيعية للبشر والتناقضات الخبيثة للنظام الاجتماعي؛ مما أشعل في عقله معظم الأفكار الأساسية للأعمال التي ستصبح بعد ذلك أعماله الرئيسية، ولو أنه لم يستَعِدْ منها قطُّ سوى خيال باهت لها. ورغم ذلك، بينما يشكِّل «خطاب حول الفنون والعلوم» التعبير الفوري الأول عن تلك الرؤية، صار روسو في نهاية المطاف يعتبره واحدًا ضمن أسوأ كتاباته الرئيسية. فالنص الذي استهل به مشواره الأدبي لم يكن يتمتع بنظام ولا بترتيب منطقي ولا بهيكل محدد، على حد وصف روسو له متحسرًا. ورغم أنه كان حافلًا بالدفء والقوة، فإنه كان، بشهادة روسو نفسه، أوهن أعماله المُحتفَى بها وأدناها اتساقًا (الأعمال الكاملة، المجلد الأول؛ اعترافات). ولقد كان هذا المُؤَلَّف أيضًا، وهو ما لاحظه القادحون فيه سريعًا، أقل أعماله أصالةً.
الفكرة الرئيسية لهذه المقالة هي أن الحضارة مَفْسَدة للبشرية، وأن كمال فنوننا وعلومنا صاحبه فساد أخلاقنا. وقبل أن نكتسب مهارات المتحضرين وخصالَهم، وقبل أن تُشَكِّل أنماط حياتنا القيم الزائفة والاحتياجات المصطنعة، كانت أخلاقنا «بدائية لكنها طبيعية». ولكن مع ميلاد المعرفة وانتشارها، فسد نقاؤنا الفطري تدريجيًّا بفعل الذوق والعادات المخادعة، وبسبب «القناع الغادر للدماثة»، وكذلك «كل البهرجة الخبيثة» للموضة، حتى ذَوَتْ فضيلتُنا الغضة تمامًا وكأن المدَّ أطاح بها (الأعمال الكاملة، المجلد الثالث؛ الخطابات والكتابات السياسية المبكرة الأخرى). اعتقد روسو أننا ليس بوسعنا إلَّا أن نندم على فقدان بساطة هذه الحقبة البدائية، عندما كان أسلافنا يعيشون معًا في أكواخ، ولم يَرجوا أكثر مِن رضا أربابهم. في البداية، كانت الجماليات الوحيدة الموجودة في العالَم هي تلك التي تشكلها الطبيعة نفسها، وبعدها كانت الحضارات التي ظلت الأقرب للطبيعة، والتي كانت الأقل حملًا لأعباء بهرجة الثقافة والتعلم، هي الأقوى والأكثر حيوية. ولاحظ روسو أن فنوننا وعلومنا لا تُلهِم الأفراد الشجاعة أو روح الوطنية، بل على العكس فهي تسلب الرجال إخلاصهم للدولة وقدرتهم على حمايتها من الغزو. ومنذ أن أخفقت الاختراعات الصينية المذهلة في حمايتهم من التتار الهمج الجاهلين، عُدَّت سعة اطلاع حكمائهم غير ذات جدوى. ومن ناحية أخرى، نجد أن الفُرس الذين دربوا على الفضيلة لا العلم استطاعوا بسهولة غزو آسيا، بينما كانت عظمة الألمان والسكوثيين قائمة بشكل كبير على بساطتهم وبراءتهم وروحهم الوطنية (الأعمال الكاملة، المجلد الثالث؛ الخطابات والكتابات السياسية المبكرة الأخرى).
والأهم من ذلك، يدلل تاريخ أسبرطة، عند مقارنته بتاريخ أثينا، كيف أن المجتمعات التي جنَّبتْ نفسها الآثار العقيمة للثقافة كانت أكثر قوة وقدرة بكثير على مقاومة رذائل الاستبداد. ولقد حذر سقراط، أحكمُ حكماءِ أثينا، أبناءَ وطنه من التبعات الخطيرة لجهلهم، ولاحقًا، سار على دربه كيتو في روما، وهاجم بعنف المُتَع المُغرية بشكل عابر للفن والبهرجة التي قوضت من حيوية أبناء وطنه. لكن أحدًا لم ينتبه إلى تحذيراتهما، وتدريجيًّا ساد شكل زائف بالكامل من التعلم في كل من أثينا وروما؛ مما أضر بالانضباط العسكري والإنتاج الزراعي واليقظة السياسية. وأضحت الجمهورية الرومانية، على وجه الخصوص، التي كانت في فترة من الفترات منارة الفضيلة مرتعًا للجريمة حيث رزحت رويدًا رويدًا تحت نِيرِ الاستعباد الذي أخضعت له من قبل أسراها من البرابرة. وأضاف روسو أن معظم نمط الاضمحلال نفسه أيضًا ميَّزَ انهيار الإمبراطوريات القديمة في مصر واليونان والقسطنطينية، مؤكدًا أن هناك قاعدة عامة مفادها أن الحضارات العظيمة تضمحل تحت وطأة تقدمها العلمي والفني (الأعمال الكاملة، الجزء الثالث؛ الخطابات والكتابات السياسية المبكرة الأخرى).
لكن «الخطاب» الأول يقدِّم تفسيرًا مقتضبًا لهذه التطورات؛ حيث رسم بالكاد الخطوط العريضة التي تبين كيف للفنون والعلوم أن تكون مسئولة بشكل شامل هكذا عن الاضمحلال الأخلاقي للإنسان. من ناحية، رأى روسو أن كل العلوم تشكلت بسبب التكاسل، حيث انبثق كل تخصص من الرذائل التي يتسبب فيها التكاسل؛ فعلى سبيل المثال، علم الفلك منشؤه الخرافات، والهندسة منشؤها البُخل والتقتير، والفيزياء الفضول المفرط. ومن ناحية أخرى، ففنوننا في كل مكان تعززها الرفاهية الناجمة بدورها عن كسل البشر وخيلائهم. وتطرح الرفاهية باعتبارها سمة أساسية حيث أكد روسو أنها نادرًا ما تستطيع الازدهار في غياب الفنون والعلوم، بينما الفنون والعلوم لا مكان لهما من دونها. وفقًا لحجة روسو، من الواضح أن انحلال الأخلاق كان تبعة ضرورية لا محالة للرفاهية التي نبعت بدورها من التبطل والتكاسل، مع كون فساد واستعباد البشر اللذين كانا سمتين لتاريخ جميع الحضارات عقوبة مناسبة لسعينا المبالغ فيه للتقدم بما يتجاوز مرحلة نعمة الجهل التي كنا سننعم بالبقاء فيها إلى الأبد (الأعمال الكاملة، المجلد الثالث؛ الخطابات والكتابات السياسية المبكرة الأخرى).
من كل هذه الجوانب، يشمل «خطاب حول الفنون والعلوم» الفكرة الأساسية الأولى لفلسفة التاريخ عند روسو — ومفادها أن تقدمنا الثقافي والاجتماعي الظاهر أفضى فقط إلى انحلالنا الأخلاقي الحقيقي — والتي ستصبح بعد ذلك واحدة من أبرز الأفكار المحورية لأعماله. ولكن في «الخطاب» الأول، تظهر فلسفة التاريخ هذه رغم ذلك بدائية وغامضة، وتتكون على الأقل من ثلاث أطروحات متمايزة عن مسار فسادنا وظروفه؛ الأولى: مفادها أن البشرية انحدرت تدريجيًّا من براءة حالتها البدائية الأولى، أما الثانية: فتشمل الزعم بأن الأمم المتخلفة فنيًّا وعلميًّا متفوقة أخلاقيًّا على نظيراتها المتحضرة، أما الأخيرة: فتحوي الادعاء بأن الحضارات العظيمة أمست منحلة بسبب تقدمها الثقافي. بالنسبة إلى قرائه، بدا أن هذه الافتراضات لا تتسق بسهولة بعضها مع بعض، خاصة أن الإشادة التي يُبديها روسو لأسلوب حياة الإنسان البدائي من ناحية، وللحضارة القوية التي تخلف المجتمع الهمجي من ناحية أخرى اجتمع معها افتراضه — الذي كان رائجًا جدًّا في عصر التنوير — بأن التاريخ البشري قاطعتْه انتكاسة، في ظل عدة قرون من بربرية العصور الوسطى وخرافاتها، انحدرت به إلى حالة أدنى من حالة الجهل الأولى التي كنا عليها. في نهاية خطابه، أطلق روسو أطروحة جديدة كليًّا مفادها أنه ليست العلوم والفنون بحد ذاتها هي المصدر الحقيقي لمصائبنا، بل استغلال أصحاب المواهب العادية لها استغلالًا سيئًا، واختتم روسو مؤلفه بملاحظة أن العلماء والفنانين العظماء ينبغي أن تكون مهمتهم بناء آثار للاحتفاء بمجد الروح البشرية. وقال روسو إن على بقيتنا نحن البشر العاديين ألَّا نطمح إلى أكثر من جهالتنا وقدراتنا المتوسطة التي كتبتْها لنا الأقدار. من الصعب فهم علة اعتقاد روسو بأن مثل هذه الأفكار مناسبة لنقد الفنون والعلوم، والدفاع عن فضائل الجهل والبراءة والإنسانية العامة (الأعمال الكاملة، المجلد الثالث؛ الخطابات والكتابات السياسية المبكرة الأخرى).
ولم يكن روسو واضحًا فيما يتعلق بالطبيعة المحددة للإسهام الذي يعتقد أن تطور الثقافة قدمه لاضمحلالنا الأخلاقي. فقد أبدت أطروحته ببساطة شديدة أن تَقَدُّم الفنون والعلوم مسئول عن اضمحلال الأخلاق، لكنه أيضًا افترض أن الفنون والعلوم عززها التراخي والخيلاء والرفاهية التي يطمح إليها الناس ويستمتع بها البعض. فهل كان تطور الثقافة السبب وراء فساد أخلاقنا إذن؟ أم نتيجة له؟ من الواضح أن روسو الذي كان همه الأساسي في مؤلفه هذا تصوير الشرور النابعة دومًا من السعي وراء الثقافة والمعرفة، لكنه في الوقت نفسه زعم أن فنوننا وعلومنا تَدِين لآثامنا بأصلها (الأعمال الكاملة، المجلد الثالث؛ الخطابات والكتابات السياسية المبكرة الأخرى)؛ يبدو عاجزًا عن اتخاذ قراره في هذا الشأن.
ولعل من بين أسباب تردده حقيقة أن الكثير من سمات رؤيته مستعار من مفكرين سابقين، مثل مونتسكيو وفينلون ومونتين وسينيكا وأفلاطون، والأهم منهم جميعًا بلوتارك، الذين اطلع روسو على كتاباتهم اطلاعًا وافيًا، وأيد أو لخص ملاحظاتهم حول سمو الفطرة على المهارة المكتسبة، أو وطأة اللامساواة أو اضمحلال الحضارة في مؤلفه. وفي «مقالة عن حكمَيْ كلودياس ونيرون»، لاحظ ديدرو لاحقًا أن «ثمة مائة تأسٍّ على عصر الجهل قام بها آخرون قبل روسو في مواجهة تقدم الفنون والعلوم»، ولا شك أنه كان على حق. لكن «الخطاب» الأول لروسو يفتقر إلى الأصالة؛ ليس فقط لأنه يحمل في طياته الأثر العام لأعمال أخرى في سياق مثيل للذي استرشد به روسو، أو لأن معرفة روسو مستقاة من مصادر ثانوية بشكل واضح — فروايته عن السكوثيين مثلًا مستخلصة أصلًا من هوراس، ووصفه للألمان من تاسيتس، ورسمه الخطوط العريضة للفرس من مونتين، ومقارنته بين أسبرطة وأثينا مستخلصة من عدة كُتَّاب، ولا سيما القس بوسويه والمؤرخ تشارلز رولين — بل أيضًا لأن سمة المقالة الاشتقاقية مرجعها بادئ ذي بدء حقيقة أن الكلمات نفسها التي يوظفها روسو للتعبير عن أفكاره الأساسية كانت مستعارة غالبًا من مراجعه.
وبخلاف الإشارات المرجعية المتعددة الواضحة مصادرها بشكل جلي، هناك على الأقل فقرة واحدة في «خطاب حول الفنون والعلوم» مستعارة، دون إقرار، من مؤلَّف مونتسكيو «روح القوانين» وأخرى من مُؤَلَّف القس بوسويه «خطاب حول التاريخ العالمي»، وهناك العديد من المقتطفات من عمل بلوتارك المعنون «سير»، وقرابة ١٥ مقتطفًا من مؤلَّف «مقالات» لمونتين، قليل منها وحسب لمح إلى مصدرها؛ بينما السطر الأخير من نص روسو مستخلص بتصرف من بلوتارك ومونتين معًا. ولعل مُؤَلَّف دوم جوزيف كاجو «انتحالات روسو» المنشور عام ١٧٦٦، كان قاسيًا بشكل مفرط — وغير صحيح في أغلب المواضع — في اتهاماته، لكنه يظل شاهدًا على أن «خطاب حول الفنون والعلوم» هو المؤلف الوحيد لروسو الذي تحيط به مثل هذه الشكوك. ورغم النبرة والسمة الجدليتين لحجة المقالة، فهي ليست موجهة ضد أي عمل آخر بعينه، ويبدو أن روسو لجأ إلى مصادره بغية تلخيصها أكثر من إضفاء ثقل على أفكاره الخاصة. والفارق بين خطابيه الأول والثاني فيما يتعلق بهذه النقطة واضح أشد الوضوح؛ إذ إنه في «خطاب عن اللامساواة» بادَرَ بدحْض أفكار أغلب الشخصيات الواردة فيه، بينما في «خطاب حول الفنون والعلوم» تمكَّن بقدر أكبر بعض الشيء أن يعكس، وإن كان بلغة أقوى خاصة به، وجهات النظر المتباينة التي طرحها بالفعل أسلافه. أعلن عمله الرئيسي الأول عن فلسفة تاريخية التزم بها روسو لبقية حياته، وأدرك معاصروه، على الأقل، تدريجيًّا أنها رؤيته الأكثر محورية على الإطلاق. لقد كان هذا العمل هو باكورة أعماله الموقَّعة باسم «مواطن من جنيف»، معلنًا بذلك عن فخره بهويته الشخصية والأدبية. ولكن، في تدشينه لمشواره الأدبي، ثبت أنه إنجازه الأدنى تمييزًا له وبيانًا لشخصه.
رغم ذلك، دان روسو في تطوره ككاتب بالفضل الكثير إلى الجدل الذي أُثير حول «خطاب حول الفنون والعلوم» إثر نشره مباشرة، والذي استمر لثلاث سنوات تالية. أثناء ذلك الجدل، وإذ حاول أن يُبَرِّئ عمله من انتقادات الناقدين، شرع روسو في جمع مزاعمه الأصلية وبيانها وتهذيبها بطريقة كانت عادة مختلفة عن طريقة صياغتها الأولى. لم يبذُل روسو جهدًا للرد على كل الذين حاولوا الانتقاص من قدْر عمله، لكنه حاول تفنيد ستة أعمال على الأقل استرعتِ انتباهه. زعم العديد من نقاده أنه أخفق في تحديد النقطة الزمنية المحددة لاضمحلالنا الأخلاقي، فأعطى بذلك الانطباع بأنه يفضل عصور البربرية في أوروبا على نهضة العلوم التي تبعتْها. واستنكر قليلون افتقاره العام للاطِّلاع والمعرفة، وتحديدًا فيما يتعلق بسوء فهمه للطبيعة القاسية للسكوثيين القدماء، أو إهماله لحقيقة أن بعض الرموز الذين أثنى عليهم، مثل سينيكا، اعتقدوا أن الآداب تعزز الفضيلة لا تحطُّ من قدرها. قال روسو ردًّا على هذه المزاعم، وخاصة في «رسالة إلى الأب رينال»، بأن غايته كانت عرض أطروحة عامة عن العلاقة بين التقدم الفني والعلمي، من ناحية، والاضمحلال الأخلاقي، من ناحية أخرى، لا أن يقتفي أثر أي مجموعة محددة من الأحداث، وبالتالي فقد أساء هؤلاء النقاد فهم الغرض من مؤلفه (الأعمال الكاملة، المجلد الثالث؛ الخطابات والكتابات السياسية المبكرة الأخرى).
كان مقدَّرًا لروسو الاستمرار بقدْر أكبر في هذه العمومية في «خطاب عن اللامساواة»؛ حيث حوَّل انتباهه من الحضارات البكر للعالم القديم إلى طبيعة الرجل البدائي، ومنها إلى حالة البشرية العَصِيَّة جدًّا على الكشف، حتى إن الأبحاث التاريخية لم تستطع قط أن تميط اللثام عن سماتها الحقيقية. بعد نشر «الخطاب» الأول، أصبح روسو تدريجيًّا أكثر اعتناءً بالمصادر المطلقة لاضمحلالنا، وأقل عناية بالتجليات المحددة لهذا الاضمحلال في الثقافات المختلفة. ولكن، من المفارقة أنه بينما وضع نصب عينيه تدريجيًّا ماضينا السحيق، بدا أن دليله مستقًى من عالَم معاصر بشكل متزايد، مأهول فعليًّا بالهمج الذين تملَّصوا من تعاسات التاريخ البشري وليس من أبطال وحكماء من الماضي البعيد. بحلول أواسط خمسينيات القرن الثامن عشر، وازن إخلاصه لمُؤَلَّف بلوتارك الجليل «سِيَر» على الأقل حماسه الجديد لكتاب «التاريخ العام للرحلات» الذي حرره الأب بريفو، مؤلف رواية «مانون ليسكو». وبينما زادت الانقسامات بين طبيعة الإنسان وثقافته التي أحس روسو أنها تزداد حِدَّة ووضوحًا، ينطبق الأمر على الحجج التي ساقها لتصوير تلك الانقسامات، وخلال مسار تطور نظريته الاجتماعية المبكرة، سرعان ما غلب امتداد نطاق أفكاره المتعمقة التأملية في المأساة العامة لجنسنا ككل ومداها على أوجه القصور التي شابت معرفته التاريخية.
اتهمه أيضًا العديد من نقاد «الخطاب» الأول بإحياء أوهام الحنين إلى عصر ذهبي قديم كان له وجود فقط في الأساطير والأشعار، لكنه لم يكن يَمُتُّ للواقع بصلة قط. وردَّ روسو على هذا الاعتراض، ولا سيما في سياق رده على «خطاب حول مزايا الفنون والعلوم» الذي ألفه بورد عام ١٧٥١، بأن فكرة العصر الذهبي القديم لم تكن وهمًا تاريخيًّا، بل تجريدًا فلسفيًّا ليس أكثر وهمية في جوهره ولا أقل أهمية لفهمنا لذواتنا ولسعادتنا من مفهوم الفضيلة نفسه (الأعمال الكاملة، المجلد الثالث؛ الخطابات والكتابات السياسية المبكرة الأخرى). لم يتناول روسو حِقَبًا ماضية وحاضرة من تاريخنا جنبًا إلى جنب للحث على إنقاذ فضائل خيالية أو البراءة المفقودة للعصور القديمة. في مؤلفين من مؤلفاته المستندة إلى «الخطاب» الأول، وهما «ملاحظات» الموجَّه إلى ستانيسواف ملك بولندا ومقدمة مسرحيته «نرسيسس»، ذكر أن البشر، عند فسادهم، ليس بوسعهم العودة إلى حالة الفضيلة أبدًا، وهي الفكرة التي التزم بها طَوَالَ حياته. والأهم من ذلك أنه استاء بشدة من التلميح الذي أشار به أولًا العالِم الرياضي والمؤرخ جوزيف جوتييه بأنه أمسى شخصًا تواقًا لعصر الجهل ويبدو أنه يؤمن بضرورة سحق ثقافتنا وإشعال النيران في مكتباتنا. رد روسو أنه بالطبع لا يجب أن نعيد أوروبا إلى حالة البربرية التي كانت تعيشها، وأنه لم يكن يؤيد إحراق المكتبات أو الأكاديميات أو الجامعات، وبالطبع لم يدعُ إلى هدم المجتمع نفسه (الأعمال الكاملة، المجلد الثاني؛ الأعمال الكاملة، المجلد الثالث؛ الخطابات والكتابات السياسية المبكرة الأخرى). تكاد تكون العودة إلى الحالة الطبيعية مستحيلةً بالنسبة إلى الإنسان المتحضر، وكذا استعادة البراءة أو الجهل بالرذيلة. بعد هذه الاعتراضات على مقالته «خطاب حول الفنون والعلوم»، حرص روسو دومًا على التشديد على أن المواطن المستقيم أخلاقيًّا يجب أن يُحاوِل شقَّ طريقه في «هذا» العالَم لا في فردوس عتيق من شطحات الخيال. لم يكن هذا المسار البديل من العزلة والتواصل مع الطبيعة الذي اعتنقه روسو شخصيًّا قرب نهاية حياته مسارًا يوصي به كاستراتيجية للمتحررين من سحر الدول الحديثة، وظل مصممًا على أن أفكاره لم تكن مثالية جدًّا أو عنيفة في مضامينها.
لقد أعجب بقوة ببعض الاعتراضات التي أثارها ناقدوه، وقام بين الفينة والأخرى بتعديل أو التخلِّي عن نقاط بعينها من نظريته في ضوء تلك الاعتراضات. ولذا، فعندما طعن المَلِك ستانيسواف في رؤيته الخاصة بالعلاقة بين الفضيلة والجهل، على أساس أن الجاهلين الذين أثنى عليهم روسو نزعوا أحيانًا إلى القسوة والهمجية أكثر من اللطف، قَبِلَ روسو وجهة النظر هذه، واقترح تمييزًا بين شكلين من الجهل؛ أحدهما بغيض ورهيب والآخر طبيعي ونقي (الأعمال الكاملة، المجلد الثالث؛ الخطابات والكتابات السياسية المبكرة الأخرى). ومع ذلك، ومن دون المزيد من الشرح والإيضاح، كان هذا الرد بالكاد مقنعًا، وفي كتاباته اللاحقة، ثبت أن روسو أكثر ترددًا في عزو البراءة الأخلاقية للبشر البدائيين لافتقارهم فقط إلى التعلم. زعم الفيلسوف شارل بورد الذي أقام معه روسو علاقة صداقة في أوائل أربعينيات القرن الثامن عشر بأن مؤلَّف «خطاب حول الفنون والعلوم» لم يكن أيضًا حكيمًا عندما أثنى على الشجاعة العسكرية لغير المتحضرين الذين كانت غزواتهم البربرية دليلًا على ظلمهم لا على براءتهم. وسارع روسو بالموافقة على هذه الحجة، حيث سلَّمَ بأن قدرنا الطبيعي لا يقضي بتدمير بعضنا بعضًا. ولو أنه أشار في بداية الأمر إلى أن التكريس للحرب لغاية الغزو هو نقيض الاستعداد للقتال دفاعًا عن الحرية (الأعمال الكاملة، المجلد الثالث؛ الخطابات والكتابات السياسية المبكرة الأخرى)، غير أنه لم يبادر ثانيةً لتصوير نموذج البسالة العسكرية بالوضوح الشديد الذي صوره به في «الخطاب» الأول. لم يتخلَّ روسو عن اعتقاده، المستوحى من مكيافيللي، بأن حريات الجمهورية الرومانية حافظتْ عليها ميليشيات من مواطنيها، ولكن في «خطاب عن اللامساواة» وما بعده، نزع روسو إلى تصوير الحروب كلها على أنها إجرامية ودموية ولعينة، وحتى بالنسبة إلى المقاتلين أنفسهم لا مغزى لها.
رغم أن روسو بهذه الطريقة غيَّر من بعض آرائه استجابةً لآراء النقاد، فإنه استغل اتهامات أخرى وُجِّهَت إليه استغلالًا مثمرًا في تطوير نظريته. وينطبق ذلك تحديدًا على ردوده على مزاعم ستانيسواف وبورد بأن الانحلال الأخلاقي للإنسان يُعزى إلى فرط الثروة لا التعلم، وكذا على رده على زعم بورد بأن اضمحلال الأمم يمكن أن يُعزى في نهاية المطاف وحسب إلى أسباب سياسية. في مؤلفه «ملاحظات»، أقر روسو بأن العادات والأجواء والقوانين والاقتصاديات والحكومات المختلفة (وهي النقطة التي لَفَتَ إليها دالمبير الانتباه في اعتراضه على أطروحة روسو في مقدمته لكتابه «الموسوعة» المعنونة ﺑ «خطاب تمهيديٌّ» الذي ظهر في عام ١٧٥١) لا بد أنها كان لها دور في تشكيل الخصال الأخلاقية للبشر (الأعمال الكاملة، المجلد الثالث؛ الخطابات والكتابات السياسية المبكرة الأخرى)، وبعدها قُدِّرَ له أن يتعاطى مع أثر مثل هذه العوامل بطريقة أكثر مباشرة. ففي «الرد الأخير» على بورد عام ١٧٥٢ على سبيل المثال، أوضح روسو أن الرفاهية، التي أشار إليها قبلَ ذلك على أنها السبب الأساسي لانحدارنا الأخلاقي، تُعزَى بقدْر كبير إلى تدهور الزراعة في العالم الحديث (الأعمال الكاملة، المجلد الثالث؛ الخطابات والكتابات السياسية المبكرة الأخرى). وفي العمل نفسه، ولاحقًا في مقدمته لمسرحيته «نرسيسس»، لفت روسو الانتباه لأول مرة في كتاباته إلى الأثر الفظيع للملكية الخاصة. وفي «الرد الأخير» تعاطى روسو بشكل أساسي مع مفهوم الملكية، والتقسيم الظالم للأرض بين الأسياد والعبيد الذي ينطوي عليه التطبيق العملي لهذا المفهوم، وذلك إلى حد كبير للطعن في رؤية بورد التي مفادها أن البشر في أكثر حالاتهم بدائية لا بد أنهم كانوا بالفعل وحشيين وعدائيين. في هذا الشأن قال روسو: «قبل اختراع الكلمتين المروعتين «مِلْكُكَ» و«مِلْكِي»، وقبل وجود بَشَرٍ على قدْرٍ من البشاعة يجعلهم يتُوقون لما يفيض عن حاجتهم بينما يتضوَّر آخرون جوعًا، أودُّ أن أعرف ماذا كان يمكن أن تكون آثام أسلافنا» (الأعمال الكاملة، المجلد الثالث؛ الخطابات والكتابات السياسية المبكرة الأخرى). في مقدمته لمسرحيته «نرسيسس»، انصبَّ تركيزه بدلًا من ذلك على حقيقة أن السمات الأخلاقية للشخص الهمجي كانت أسمى بشكل ملحوظ من تلك الخاصة بالأوروبيين؛ وذلك لأن الهمج لم يتشبَّعوا بالرذائل المعتادة مثل الطمع والحسد والخداع التي أدت بالبشر في العالم المتحضر إلى أن يحتقر الواحد منهم الآخر ويستعديه. قال روسو إن «كلمة «ملكية» لا يكاد يكون لها معنًى بين الهمج؛ فهم ليس لديهم أية مصالح متعارضة بخصوصها؛ فما من شيء يدفعهم لخداع بعضهم بعضًا»، كما يفعل المتحضرون الطماعون دومًا (الأعمال الكاملة، المجلد الثاني؛ الخطابات والكتابات السياسية المبكرة الأخرى). في هاتين الفقرتين الموجهتين لنقاد «خطاب حول الفنون والعلوم»، نجد أوائل بيانات روسو الرئيسية حول الأطروحة التي سيسهب في بيانها لاحقًا في شكل تحدٍّ — في تلك المناسبة لتحدي نظرية الملكية الخاصة بلوك — في مقالته «خطاب عن اللامساواة».
كان روسو حينئذٍ قد بدأ ينظر بقدر أكبر من التمحيص إلى الدور الذي تلعبه العوامل السياسية أيضًا. أشار روسو في مقدمة مسرحيته «نرسيسس» إلى أن استعراض شرور المجتمع المعاصر تم من قَبلُ على يد مفكرين كُثُر، ولكن بينما أحس هؤلاء بالمشكلة، كشف هو الستار عن أسبابها. والحقيقة الجوهرية التي توصل إليها بحلول عام ١٧٥٣ هي أن كل آثامنا لا تنبع أساسًا من طبيعتنا بل من سبل الحُكْم المُجْحِفة التي نَحْكُم بها (الأعمال الكاملة، المجلد الثاني؛ الخطابات والكتابات السياسية المبكرة الأخرى). وقد أشار إلى النقطة نفسها بعدها بعامين في مقالته «خطاب عن الاقتصاد السياسي» حيث أورد أن «الناس على المدى الطويل هم صنيعة حكوماتهم» (الأعمال الكاملة، المجلد الثالث؛ العقد الاجتماعي وكتابات سياسية متأخرة أخرى). وشدد على ذلك مرة أخرى في العقد التالي في مقالته «رسالة إلى كريستوف دي بومون» حيث أعلن أن السلوك الزائف للرجال المتحضرين سببه «نظامنا الاجتماعي» الذي يمارس إجحافًا مستمرًّا على طبيعتنا (الأعمال الكاملة، المجلد الرابع). وقرابة عام ١٧٧٠، قال روسو في مؤلفه «اعترافات» إن حقيقة هذا المبدأ تجلت بالفعل له منذ ثلاثين عامًا، وتحديدًا خلال إقامته في البندقية، عندما شهد التبعات الوخيمة التي حلت بشعبها والمترتبة على عيوب حكومتها؛ وبذا، فإن مقدمة مسرحيته «نرسيسس» تتضمن التصريح الأول عن فكرة شغل تطويرها في سياقات متعددة وبأشكال مختلفة جزءًا رئيسيًّا من حياة روسو وأعماله.
وفيما يخص الدور الذي لعبتْه الثروة في اضمحلالنا الأخلاقي، أوضح روسو لاحقًا أنه متفق، جزئيًّا فقط، مع أفكار ستانيسواف وبورد. في العديد من الكتابات المتفرقة التي ظهرت له في أوائل خمسينيات القرن الثامن عشر، ولا سيما في مقالة قصيرة عنوانها «الرفاهية والتجارة والفنون»، أقر روسو بأن جشع الإنسان دليل على رغبته في التعالي على جيرانه؛ ولذا لازم إقحام الذهب في الشئون البشرية حتمًا اللامساواة في توزيعه، ومن ثَمَّ نشأتْ رذيلة الفقر وإذلال الأغنياء للفقراء (الأعمال الكاملة، المجلد الثالث). ولكن حتى في إدراك الدور الذي يلعبه كنز الثروات في الفساد الأخلاقي للبشرية، أصرَّ روسو على أنه لم يكن السبب الرئيسي لانحدارنا الأخلاقي. على العكس من ذلك، كما أعلن في «اعترافات»، فالثروة والفقر اصطلاحان نسبيان يعكسان مدى اللامساواة في المجتمع، لا يُحدِّدانه. وبعد أن أعاد روسو ترتيب أسباب الرذائل التي رسم خطوطها العريضة في «الخطاب» الأول، اقترح أن مكان الصدارة في الترتيب المشئوم لأسباب فسادنا ينبغي أن تحتلَّه اللامساواة ثم تأتي بعد ذلك الثروة التي جعلتْ بدورها بالإمكان زيادة الرفاهية والكسل اللذين ساعدا على نشأة الفنون من ناحية، والعلوم من ناحية أخرى (الأعمال الكاملة، المجلد الثالث؛ الخطابات والكتابات السياسية المبكرة الأخرى). وهكذا وردت هنا نسخة جديدة من حجته جاءت فيها الفنون والعلوم في المرتبة الأخيرة، لا الأولى كما افترض نقاده.
إن جانبًا على الأقل من السبب الداعي لتعديله لآرائه ربما يمكن استخلاصه من مؤلَّفه «ملاحظات» ومقدمة مسرحيته «نرسيسس» حيث أوضح أنه رغم أن تطور الثقافة كان مسئولًا عن مجموعة كبيرة من الرذائل، فإن «رغبتنا» في الأساس في التفوق عبر التعلم وليس أعمال المثقفين هي التي قوضت أخلاقنا في المجتمع المتحضر؛ وذلك لأن سعينا وراء الثقافة أكثر من أي شيء آخر يعبر عن إصرارنا على تمييز أنفسنا عن جيراننا وأبناء وطننا، هكذا زعم روسو مسهبًا في العملين في استعراض ملاحظة موجزة عن «التهافت على التميز» وردت في «الخطاب» الأول نفسه؛ حيث ربما استرجع الدافع الأساسي لإسهام فينلون، الذي أدَّى إلى الصراع الذي اندلع بين القدماء والمحدثين في فرنسا لأكثر من ثلاثين عامًا قرابة نهاية القرن الثامن عشر. إن ما يحثنا على تصنيع الأدوات والمعدات التي تستخدم في المجتمعات المتقدمة ليس رغبتنا في التميز بقدر ما هو رغبتنا في اكتساب احترام الآخرين، بحيث تبدو الحضارة مجرد إشباع لمحاولاتنا ترسيخ توزيع غير عادل للتقدير العام (الأعمال الكاملة، المجلد الثاني؛ الأعمال الكاملة، المجلد الثالث؛ الخطابات والكتابات السياسية المبكرة الأخرى). يستحيل أن يكون للفضيلة الأخلاقية وجود حقيقي، هكذا زعم روسو، ما لم تكن الحظوظ الفردية من الموهبة تقريبًا متكافئة. إن صمام الأمان الذي كان لدينا ضد الفساد، بحسب زعم روسو في «ملاحظات» هو المساواة الأصلية التي ضاعت الآن بلا رجعة، والتي صانت في فترة من الفترات براءتنا، وكانت المصدر الحقيقي للفضيلة (الأعمال الكاملة، المجلد الثالث؛ الخطابات والكتابات السياسية المبكرة الأخرى). وبهذا انتهى روسو إلى أن تَوْقَنا للتميُّز في الفنون والعلوم هو تجلٍّ للشعور الزائف نفسه تقريبًا الذي يكتنفنا عندما تشتعل بداخلنا الرغبة في السيادة في مجال السياسة، وهي الفكرة التي سرعان ما سينصبُّ تركيز روسو عليها في عمله «خطاب عن اللامساواة».
وهكذا، في جميع هذه الجوانب أدت ردود روسو على نقاد مقاله «خطاب حول الفنون والعلوم» به إلى وضع يده على الخطوط الأكثر تركيزًا على الجوانب السياسية والاجتماعية والاقتصادية لحجته التي تتبعها في «الخطاب» الثاني والأعمال التالية عليه. ومع ذلك، فهو لم يتخلَّ قط عن آرائه السابقة حول أهمية الفنون والعلوم باعتبارها عوامل مُسَبِّبَة للفساد البشري. على العكس، فطوال الصراع الذي اكتنف «خطاب حول الفنون والعلوم»، أعاد روسو دومًا تأكيد مزاعمه التي طرحها في مقالته الحاصلة على جائزة تقديرية حول الصِّلات المتداخلة بين الخيلاء والكسل والرفاهية والثقافة، حتى عندما وسع نطاق حجته بحيث تستوعب عوامل أخرى. استطاع أحد نقاد روسو، ويُدعَى كلود-نيكولا لو كات، وهو أستاذ في التشريح والجراحة وسكرتير دائم لأكاديمية روان، أن يمد روسو بجبهة جديدة كليًّا لتطوير أفكاره؛ إذ تحدَّاه بأنْ طلب منه تحديد أي جوانب الثقافة هي العرضة لاتهاماته. لا شك أن روسو لم يكن ليقترح تضمين الموسيقى ضمن الفنون والعلوم التي أفضتْ إلى انحطاطنا، هكذا قال لو كات الواثق بأن المساهم الأبرز في الموضوعات الموسيقية في «الموسوعة» لا بد أنه أدرى من غيره بفائدة ومزايا هذا الفن، وكيف أنه، على الأقل، يمثل استثناءً لأطروحته العامة.
كان افتراض لو كات أبعد ما يكون عن الحقيقة. ففي عام ١٧٥٣، وتحديدًا إبَّان ذروة ما يعرف ﺑ «الخلاف بين الممثلين الهزليين»، وهو الجدل الذي دار حول أوبرا «الخادمة السيدة» لبيرجوليسي و«الأوبرا الهزلية» الإيطالية الذي أدى إلى انقسام رعاة أوبرا باريس والبلاط الفرنسي إلى فصائل موسيقية، كتب روسو مقالته «رسالة عن الموسيقى الفرنسية» التي ثارت حولها موجة من الجدل والاعتراض أكبر مما أحدثتْه مقالته «خطاب حول الفنون والعلوم» التي ظهرت قبلها بثلاث سنوات. ذهب روسو في مقالته إلى أن بعض اللغات أنسب للموسيقى من البعض الآخر؛ لأن لها أحرفًا متحركة أكثر عذوبة، وتحولات نغمية أكثر روعة، وصورًا بلاغية موزونة بقدر أكبر من الدقة. وزعم أن تلك اللغات، وفي مقدمتها اللغة الإيطالية على وجه الخصوص، مناسبة أكثر للتنغيمات اللحنية والتعبير الغنائي، وأن ثمة لغات أخرى، كالفرنسية مثلًا، تتميز بافتقارها للأحرف المتحركة الرنانة، وبأحرف ساكنة غليظة جدًّا لدرجة أن الألحان العذبة يستحيل أن تُنشد بها؛ مما يجعل المؤلفين الموسيقيين المنتمين للدول المتحدثة بمثل هذه اللغات يضطرون إلى تجميل موسيقاهم ببعض الضوضاء الحادة لقطع موسيقية مصاحبة. وبذا، انتهى روسو في السطر الأخير من مقالته إلى أن نطق الفرنسية في أغنية بسيطة خالية من المُجمِّلات مستحيل، وإذا سعى الفرنسيون إلى وضع شكل من الموسيقى خاص بهم، فسيكون هذا من سوء طالعهم. وبعد هذا العمل المستفز، وهذه الملاحظات التي تحطُّ من قدْر الموسيقى الفرنسية، تعرض روسو لهجوم واسع النطاق لإساءته إلى الذوق العام. وإذ لم يشعل روسو ثورة حقًّا بمؤلَّفه «رسالة عن الموسيقى الفرنسية»، فقد جعله يبدو لأول مرة في حياته عدوًّا للدولة الفرنسية. وكما أقر فولتير لاحقًا، لم يكن روسو في أعماله كلها مستفزًّا من الناحية السياسية كما كان في تعليقه على الموسيقى الفرنسية.
لو استطاع لو كات قراءة القسم المخصص لهذا الموضوع الذي كتبه روسو أصلًا كجزء من مؤلفه «خطاب عن اللامساواة»، والذي ظهر في نهاية المطاف بعد وفاته عام ١٧٨١ على هيئة فصلين من «مقالة عن أصل اللغات»، لفَهِمَ لِمَ لا يمكن أن تشكل الموسيقى أي استثناء لأطروحة روسو العامة الخاصة بمقالته «خطاب حول الفنون والعلوم». على العكس من ذلك، فقد تجلَّى فساد الأخلاق البشرية أيما تجلٍّ، بحسب روسو، في تاريخ تطور الموسيقى. جادل روسو في مقالته بأن لغاتنا الأولى ربما نشأت في المناطق الجنوبية من العالم حيث المناخ المعتدل والأرض الخصبة. ولا بد أنها كانت تتمتع بسمة إيقاعية ونغمية مميزة، وكان طابع الحديث بها شعريًّا أكثر منه نثريًّا، ويتغنَّى بها الناس أكثر من أن يتحدثوا بها. ولذا، فلا بد أن أسلافنا في تعبيرهم الأول عن المشاعر التلقائية، باختصار، كانوا يغنون (الأعمال الكاملة، الجزء الخامس؛ الخطابات والكتابات السياسية المبكرة الأخرى). لكن اللغات التي قُدِّر لها أن تنشأ لاحقًا في الظروف القاسية للشمال عبرت أولًا عن احتياجات البشر لا عن عواطفهم، واتسمتْ بأنها أقل جهورية وأكثر حِدَّة (الأعمال الكاملة، المجلد الخامس؛ الخطابات والكتابات السياسية المبكرة الأخرى). ومع الغزو المحتَّم لمنطقة البحر المتوسط إثر موجة من الغارات البربرية، لا بد أن طريقة الكلام الحلقية والمتقطعة لأهل الشمال طَغَتْ على التنغيمات العذبة التي ساعدت على التعبير عن المشاعر البشرية من قبلُ، وفقدتْ كل حلاوة لغاتنا الأصلية واتزانها وأناقتها (الأعمال الكاملة، المجلد الخامس؛ الخطابات والكتابات السياسية المبكرة الأخرى). زعم روسو أنه لا بد أن الأشكال اللحنية للكلمات قد ذَوَتْ، وحُرِمَتْ تعبيراتنا تدريجيًّا من سحرها الأوليِّ. وتحت نِيرِ الحُكْم البربري والعمالة الزراعية، طغى الطابع النثري الرتيب فعليًّا على الطابع الشعري الغنائي، وبالتزامن مع نشأة النثر، أمست اللغات، ولا سيما الأشكال الأولى للفرنسية والإنجليزية والألمانية تبعًا لذلك، نثرية الطابع (الأعمال الكاملة، المجلد الخامس؛ الخطابات والكتابات السياسية المبكرة الأخرى).
والموسيقى، من ناحية أخرى، لا بد أنها فقدت طابعها الحسي بفعل فقدان المكون الدلالي اللفظي الذي يحدث في اللغات النثرية، ولا بد أنها قد شهدت المزيد من التطور وحسب بفعل الابتكار القوطي للإيقاع بحيث تم إقحام أنماط وترية على ألفاظ البشر لتتمخض عن متع متكلَّفة عوضًا عن المتع الطبيعية للأغاني المتداولة. تحت هذه الضغوط، لا بد أن الموسيقى أصبحت أكثر اعتمادًا على الآلات الموسيقية منها على الغناء؛ ولا بد أن حساب الفترات الفاصلة حل محل عذوبة التحولات اللحنية (الأعمال الكاملة، المجلد الخامس؛ الخطابات والكتابات السياسية المبكرة الأخرى). ولا بد أن النثر كان يتم تهذيبه كتابةً لا حديثًا، ولم يكن ليتم توصيله بقوة تعبيرية، بل فقط بإحكام القواعد النحوية وباستخدام دقيق للألفاظ، التي كانت الضرورة تقتضى الاحتكام إليه كي يتأكد المرء من مشاعره (الأعمال الكاملة، المجلد الخامس؛ الخطابات والكتابات السياسية المبكرة الأخرى).
وكأنه يواجه تحدي لو كات الذي وجهه لفلسفته التاريخية، سمَّى روسو الفصل الأخير من مقالته «علاقة اللغات بالحكومة»، وزعم فيه أن اللغات التي انفصلت تدريجيًّا عن الموسيقى معادية للحرية. إن البلاغة النثرية تلهم المرء خُلُقَ الخنوع، والكلام الذي يُمسِي خاويًا بسبب افتقاره للنغم والإيقاع، بحسب تأكيد روسو، يساعد أيضًا على خلق بشر خاوين من الداخل. لقد أمست لغات أوروبا الحديثة مناسبة وحسب للحديث العادي على مسافات قصيرة، كالثرثرة العقيمة للذِينَ يُتَمْتِمون وحسب بوهنٍ بعضهم لبعض بأصوات تفتقر إلى التنغيم، ومن ثم تعوزها الروح والعاطفة أيضًا. وبينما استسلمت لغتنا إلى فقدان سماتها الموسيقية، فقدت حيويتها ووضوحها الأصليين، وأضحت لا تتجاوز كونها محض همهمات واهنة لأشخاص يفتقرون إلى قوة الشخصية أو الغاية. وإذا كان هذا هو الجانب الخاص للغاتنا المعاصرة، فما زال تجليها العام، بحسب روسو، أثقل وطأة وأكثر تعسفًا. فبالنسبة إلى الذين يحكمون آخرين وليس لديهم ما يقولونه هم أنفسهم، ليس بوسعهم الكثير عندما يجتمعون بالناس غير الصياح فيهم ووعظهم، بألفاظ مُغالًى فيها وعصيَّة على الفهم. إن بيانات حكَّامنا ومواعظ رجال ديننا تُسيءُ باستمرار استغلال أحاسيسنا، وتصيبنا بخدر المشاعر، وأمستِ الخُطَب والمواعظ الملتوية التي يُلقِيها الحُواة من العلمانيين والمتدينين الشكل الوحيد للخطابة الشعبية في العالم الحديث (الأعمال الكاملة، المجلد الخامس؛ الخطابات والكتابات السياسية المبكرة الأخرى).
وبالطبع، لا بد أن عمل روسو «مقالة عن أصل اللغات» استُلهم من أمور أكثر من مجرد اعتراض لو كات على «خطاب حول الفنون والعلوم». فاستنادًا لشهادة روسو نفسه، كانت هذه المقالة تعد في الأساس جزءًا من «خطاب عن اللامساواة»، لكنه تراجع عن ذلك؛ لأن المقالة كانت أطول من اللازم ولا تتسق مع موضوع الخطاب، ثم عاد فأرفقها عام ١٧٥٥ بدراسة عنوانها «مبدأ اللحن» كتبها جزئيًّا ردًّا على انتقادات رامو لمقالاته حول الموسيقى التي خصصها لمؤلَّف «الموسوعة»، ثم ما كان منه إلا أن سحبها منها مرة أخرى. إن تأكيد المقالة على أولوية اللحن على الانسجام في الموسيقى محوريٌّ للقضية التي عرضها روسو معارضًا بها رامو الذي أصر طوال حياته على أولوية الانسجام، التي فسرها في ضوء فكرته المبتكرة عن «الجهير الأساسي» للجسم الرنان. لكن معالجة روسو للموسيقى واللغة في مقالته تشكل جزءًا جوهريًّا من فلسفته التاريخية أيضًا، وتضم شرحًا أكثر ثراءً لزعمه بأن تقدم الحضارة أفضى إلى فساد الأخلاق مما يحويه نقاشه لأيٍّ من الفنون أو العلوم الأخرى. إلى هذا الحدِّ تَقبَل المقالة تحدِّيَ لو كات لأطروحته الأصلية بأكبر قدر من المباشرة. في ملاحظة في «الرد الأخير» على بورد، زعم روسو أنه تنبَّأ مقدمًا وتعامل مع كل الاعتراضات المنطقية للناقدين التي يمكن أن تُوجَّه إلى رؤيته (الأعمال الكاملة، المجلد الثالث؛ الخطابات والكتابات السياسية المبكرة الأخرى)، لكنه بذلك لا يعطي إبداعهم حقَّه إلا قليلًا، ولا يُولِي دقة ردوده السريعة غير المحسوسة أفكارها الجديدة إلى حد بعيد في نصه الأصلي قدرها الحقيقي.
ولكنْ ثمة اعتراض وحيد على الأقل على «الخطاب» الأول قُدِّرَ له أن يظلَّ معلقًا دون إجابة في الكتابات الأولى لروسو. فقد اشتكى أحد النقاد — ربما كان الأب رينال الذي تعاون لاحقًا مع ديدرو وآخرين في جمع مؤلف ضخم بعنوان «تاريخ الهندين» — من أن روسو قد أخفق في تقديم أي استنتاجات عملية مترتبة على أطروحته، وتجاهل اقتراح علاج للحالة التي وصفها. في «الرد الأخير» على بورد، أقر روسو بصحة هذا الانتقاد، وعلق بأنه رأى الشر وحسب، وحاول أن يضع أصابعه على أسبابه. زعم روسو في هذه المرحلة من حياته أن البحث عن علاج مهمة يجب أن يتركها للآخرين (الأعمال الكاملة، المجلد الثالث؛ الخطابات والكتابات السياسية المبكرة الأخرى). فهو لم يقبل التحدي في مقالته «خطاب عن اللامساواة»، ولا في غيرها من كتاباته التي ظهرت في أوائل خمسينيات القرن الثامن عشر وأواسطها، لكنه لم يُدِرْ له ظهره كليًّا أيضًا. ففي أعمال بعينها خلال تلك الفترة أو بعدها بفترة وجيزة والتي لم يُقدَّر لها النشر، سمح روسو لخياله بأن يشطح في أحلام اليقظة السياسية التي قد تبدو وكأنها توعِز إلى ضرورة التغيير الجذري، كما في الفصل الثاني من الكتاب الأول لمؤلفه «مخطوطة جنيف»، وهي نسخة مبكرة لمؤلفه «العقد الاجتماعي» الذي كان يشمل رده على بعض ملاحظات ديدرو في «الموسوعة» حيث كان يدعو إلى إقامة «جمعيات جديدة لتصحيح … عيوب المجتمع بشكل عام» (الأعمال الكاملة، المجلد الثالث؛ العقد الاجتماعي وكتابات سياسية متأخرة أخرى). وبالتالي، ففي «رسالة إلى السيد دالمبير عن المسرح»، وفي النسخة الأخيرة من «العقد الاجتماعي»، في محاولة لإحياء مُثُل المجتمع المدني التي فقدتْها البشرية، اقترح مجموعة من المبادئ التي من شأنها أن تؤدي إلى سمو مشاعرنا الأخلاقية لا إلى انحطاطها، لكنه اكتشف فجأة أن السلطات في بلده جنيف ومستضيفته فرنسا منزعجة بشدة مما كتب لدرجة أنها رأت في وجوده على أرض بلادها تهديدًا للنظام العام.