أحلام يقظة جوال
استنادًا إلى دليل مستخلَص من رواية «إلواز الجديدة» التي تُصوَّر أحداثُها على اعتبار أنها وقعت على مدار فترة تمتد لأكثر من ١٢ عامًا بدءًا من حوالي عام ١٧٣٢، عُرف أن روسو ابتكر بطلًا خياليًّا، يُدعَى سان-برو، يُضاهِيه عمرًا بالضبط. ونسب روسو لهذه الشخصية المحورية في قصته، كما أوضح في عمله «اعترافات» (الأعمال الكاملة، المجلد الأول؛ اعترافات)، أحاسيس راقية ونقاط ضعف في الشخصية ترجع إلى طبيعته، وإذ صوَّره باعتباره معلِّمًا جوالًا يَرَاه والِد جولي لا يستحقُّ حبَّها لكونه أدنى منها منزلة، فقد أعطى الانطباع بوجود بطل رومانسي منبوذ اجتماعيًّا، محكوم عليه بالتعاسة، ويستطيع القُرَّاء أن يَرَوْا فيه بسهولة مؤلف النص. ولقد أثار هذا التوازي، إضافة إلى عدد من أوجه التشابه الظاهرية الأخرى بين شخوص الرواية والشخصيات التي سكنتْ عالَم روسو الخارجي، الشكوك من أن أشهَر أعمال روسو في القرن الثامن عشر وضع كتمثيل خيالي لأحداث عاشها روسو بالفعل، وإضفاء للمثالية على سيرته الذاتية المُعَبَّر عنها في شكل رسائلي شائع آنذاك للأعمال الروائية الرومانسية. ولكن الأكثر دقة أن نفسر العشق الثلاثي المتقطع بالرواية بين سان-برو وجولي وولمار، إضافةً إلى الأحداث التي تدور في فلكها علاقاتهم، باعتبارها تعبيرات عن أشواق دفينة لم يكد يستطيع روسو الإفصاحَ عنها في واقع الأمر، ولم يشبِعْها بالقدْر الكافي في حياته الشخصية. لقد سمح روسو، شأنه إلى حد ما شأن معاصرِهِ ديدرو — الذي كثيرًا ما اشتهر بكونه في قمة أَوْجِه عبر شكل من أشكال الإسقاط ينطوي على الإفضاء عن مكنون صدره وكأنه ينقل مزاعم أناس آخرين — لخياله الخصب على نحو مميز بإضفاء شكل ملموس بقدْر أكبر على العوالم التي يُمكِن أن يسكنها، والمشاعر التي يقدِرُ أن يسيطر عليها، في الخيال وحسب.
عندما شرع روسو في تأمل روايته، عَلَّقَ بأنه سمح لخياله، إلى حد كبير بسبب أن أوان الحب قد فات، وجُلُّ آماله في إشباع رغبته الجنسية التي عجزتْ تيريز في أن تثيرها بداخله والتي تبددتْ في منتصف عمره؛ بأن يأخذه إلى «عالم من الخيال»، عالم راقٍ تسكُنُه أكملُ المخلوقات السامية فضيلةً وجمالًا، والتي تتحلَّى بموثوقية مخلصة لم يشهد مثلها بين أصدقائه على الأرض. ولقد وُلدتْ روايته «إلواز الجديدة» من رحم تلك الجاذبية السامية لمثل هذا «العالم المسحور» (الأعمال الكاملة، المجلد الأول؛ اعترافات). وتكشف الرواية عن أسرار حب غامر، وقد تمنَّى لاحقًا أن يكون فعليًّا المفتاح للوصول إلى قلب صوفي دوديتو؛ ولكن رغم الشائعات التي اكتنفتْ طبيعة هيامه بها — والتي اختلقتْها السيدة ديبينيه الغيور، والتي سرعان، إلى جانب عوامل أخرى، ما أفضتْ إلى أكثر أزماتِ حياتِه صعوبةً، بما في ذلك انفصالُه عن ديدرو وعزلته في نهاية المطاف عن معظم أصدقائه الباريسيين — لم يستطع روسو اقتحام قلب صوفي كما سمح، في مخيلته، لسان-برو وجولي أن يُغوِي كل منهما الآخر. ولقد ألهمتِ «الرغبة المتأجِّجة» و«الهذيان العاطفي» اللذان زعم روسو في عمله «اعترافات» أن صوفي هي التي أثارتْهما فيه تأليفَه لاثنين من أكثر رسائله المحركة للمشاعر في روايته (الأعمال الكاملة، المجلد الأول؛ اعترافات)؛ واحدة عن البستان الخفي لوولمار وجولي بالملاذ الذي أسمتْه «الفردوس»، والثانية عن اليوم الذي أمضاه سان-برو مع جولي في غياب وولمار في المياه وعلى ضفاف بحيرة جنيف (الرسالتان رقم ١١ و١٧ بالجزء الرابع، على الترتيب). قال روسو في «اعترافات» (الأعمال الكاملة، المجلد الأول؛ اعترافات) إنه بحلول شتاء عام ١٧٥٦، هام بالفعل عشقًا بالشخصية التي ابتكرها في يونيو، حيث أغدق حبه عليها وعلى ابنة عمها كلير، وكأنها بجماليون ثانية. وألهمه الظهور المدوي في حياته لصوفي في العام التالي، بعد لقاء عابر سابق لم يكن مؤثرًا، استثمار كل مفاتن جولي في رفيقته الجديدة أيضًا؛ مما جعله لا يحلم إلا بصوفي نفسها حيث بدأ يشعر بخفقات قلبه المتصاعدة وعاطفته المشبوبة لشيء أمسى الآن حقيقة وواقعًا.
لم تكن صوفي من ناحيتها، رغم أنها تأثرت بوجوده الحميم بقدْر ما تأثر هو بوجودها، مهتمةً به بالقدْر نفسه. واختلطتْ آهاتُهما وعَبَرَاتُهما معًا بينما غَرِقا في الحب، بحسب روسو؛ غرق هو في حبها وهي في حب عشيقها الغائب، سان-لامبرت الذي التقى به روسو منفردًا وبدأت في الوقت نفسه براعم صداقة تنمو بينهما بالفعل. ولذا، لازم حبَّه لصوفي الذي كان من طرف واحد دومًا طرف ثالث أضفى مرارة على الفور على احتياج صوفي لروسو كشخص ثقة؛ مما جعل من المستحيل بالنسبة إليه في الوقت نفسه، مع حبه لها الممزوج باحترام شديد، أن يسعى إلى امتلاكها. ولكن بعد أن أثارت صوفي في نفسه كل الشوق الذي أحستْ به تجاه سان-لامبرت إثارة هي أشبه بضرب من العدوى، استطاع روسو الآن أن يُشبِع رغبة مضاعفة فقط من خلال التفريغ العاطفي إذ وجَّه تلك الرغبة إلى جولي، المرأة التي كان بإمكانه امتلاكها وحسب في مخيلته والتي نشأتْ من صوفي؛ ولذا قال روسو إن عاطفة صوفي الحقيقية تجاهه كانت كأسًا حلوة مسمومة تجرعها بجرعات كبيرة (الأعمال الكاملة، المجلد الرابع؛ اعترافات). لقد حُصرت الأشهر الأربعة التي أمضاها الاثنان معًا، في حميمية عذبة يخفق لها القلب، بحسب تصريح روسو، والتي لم يشهدها مع أي امرأة أخرى، في حدود الواجب الذي ترك فرضُه لإنكارِ الذات روحَه في حالة من التحفظ الواضح للبراءة الجبرية، بحسب كلماته لها في الرسالة الرائعة التي أرسلها لها في أكتوبر ١٧٥٧ (المراسلات الكاملة، الرسالة رقم ٥٣٣)، والتي صاغ لاحقًا هذا القسم من «اعترافات» بناءً عليها. ورغم ذلك، كانت أحاسيسه متأججة جدًّا بتصورات لقبلة منتظرة منها لدرجة أنه عندما كان يمشي بمحاذاة منحدرات آندلي قاصدًا بيتها في أوبون الذي يبعد خمسة كيلومترات تقريبًا عن ليرميتاج، كانت أوصاله تتخبط، وجسده ينهار، ويعجز عن صرف انتباهه عنها والتفكير في شيء آخر، فيُريق مَنِيَّه ويصل إلى بيت عشيقته التي لم يظفَر بها خاويًا من رغبته، متطهرًا من النشوة الغامرة لخياله الخاص، ليُستثار مجددًا فور أن تقع عليها عيناه بفعل «حيويته العقيمة دومًا» (الأعمال الكاملة، المجلد الأول؛ اعترافات).
إذا كان بإمكان روسو في أعماله الروائية أن يختلق عالمًا متطهرًا من مثل هذه التوترات والإحباطات المرهقة، فقد سعى في كتاباته الأخرى وراء مُتَعٍ تبعث على السعادة بالقدر نفسه بتطهير الحياة الأخلاقية من المؤسسات السيئة والمعتقدات المنحرفة التي اعتبر أنها تقف في طريق الإشباع الذاتي للبشر لرغباتهم. ولقد كان للعالم الخيالي الذي بناه روسو في روايته «إلواز الجديدة» والذي كان واهنًا على الفور بسبب التوتر الدراماتيكي ولكنه كان أيضًا ساطعًا برونق لا زخرفة فيه، نظيرٌ في موضع آخر بتفكيكه للعوالم المبهمة والقمعية التي كانت مثاليات رواياته بديلًا لها. في «رسالة إلى السيد دالمبير عن المسرح» التي خطها روسو تقريبًا إبان فترة تأليفه روايته «إلواز الجديدة» والتي كانت تحوي العديد من الأفكار المتداخلة، قابل روسو بين سبل الترفيه النافعة لجمهورية — تشبه جنيف إلى حد بعيد — تُقام فيها الاحتفالات البهيجة في الخلاء تحت غطاء السماء، وسبل اللهو الضارة لسكان مدينة كبرى — تشبه كثيرًا باريس — التي أفسد التراخي أهلَها الخبثاء الكسالى، والتي تتحول بغية إمتاعهم إلى وسائل للإلهاء تقوم على النفاق تُؤدَّى على خشبة المسرح. لندع المشاهدين يمسون مصدر تسلية لأنفسهم! هكذا علق روسو، بحيث يُمنَح كل منهم دور الممثل المشارك بقوة لا المشاهد المأسور لُبُّهُ وحسب، الذي يحب أن يرى نفسه في الآخرين، «بحيث يتوحد الجميع توحدًا أفضل» (الأعمال الكاملة، المجلد الخامس؛ السياسة والفنون: رسالة إلى السيد دالمبير عن المسرح). لقد أَسِفَتْ شخصية جاك الحزينة في مسرحية شكسبير «كما تشاء» لأن «ما الدنيا كلها إلا مسرح»، لكن جان جاك روسو كان سيسعد لو كان الأمر كذلك.
في «خطاب عن اللامساواة»، كان روسو قد شَكَّلَ صورة للإنسان الهمجي لا تقل تطهرًا بشكل خيالي من شوائب وملوثات المجتمع عن تطهر جولي من العيوب الدنيوية لبنات جنسها. وفي «إميل»، قُدِّرَ لروسو لاحقًا أن يبتكر شخصية كاهن خيالي بالقدر نفسه، وذلك عن طريق التجريد من شخصيات حقيقية، تطرح فكرة تقديسه لرب غير غامض في الطبيعة باعتبارها تطهيرًا روحيًّا للإيمان الديني الحق من كل المظاهر الاحتفالية لأية كنيسة وثنية. وبينما «عالم الواقع له حدوده، فإن عالم الخيال لا حدود له»، بحسب تعليق روسو في الكتاب الثاني من «إميل»، مضيفًا في الكتاب الرابع منه، ردًّا على قرَّائه الذين افترضوا أنه لا يَحيَا إلا في عالَم الخيال لدرجة أنه يراهم «دومًا في أرض التعصب» (الأعمال الكاملة، المجلد الرابع؛ إميل، أو عن التربية). وأغلب أعمال روسو الرئيسية، الروائية منها وغير الروائية، دليل على صحة ملاحظة جيمس بوزويل الواردة في رسالة بتاريخ ١٥ أكتوبر عام ١٧٦٦ إلى ألكسندر دولير، بأن روسو كان لديه أفكار «خيالية بالكامل، ولا تناسب شخصًا في مكانته» (المراسلات الكاملة، الرسالة رقم ٥٤٧٧). إن هذه «الإثارة غير الطوعية» أو «الرغبة الشديدة» أو «الجنون السامي» أو «النار المقدسة» أو «الهذيان النبيل» أو «الحماس الطاهر» التي يتحدث عنها روسو في فقرة واحدة وحسب من الرسالة الرابعة في «رسائل أخلاقية» الموجَّهة إلى صوفي (الأعمال الكاملة، المجلد الرابع)، تُشعِل انفصام قدراتنا عن صلاتها الدنيوية. ولاحظ روسو أنه بينما يزحف عقلنا، تحلق روحنا. ولم يُلهِم أيُّ كاتب من كُتَّاب القرن الثامن عشر الحركة الرومانسية التي ظهرت، ولا سيما في ألمانيا وإنجلترا، مع أفول عصر التنوير، بقوة مشاعره ونشوة أحلامه وتلقائية خياله كما فعل روسو.
وحتى قبل أن تستحوذ أحلام يقظة روسو الجوال على انتباهه في الأعمال الرئيسية التي يذكره العالم بها، فقد جذبتْه على نحو مثمر جدًّا باتجاه الموسيقى، وهي الموضوع الذي أصرَّ في عملَيْهِ «اعترافات» و«محاورات» أنه خُلِقَ ليتناولَه (الأعمال الكاملة، المجلد الأول؛ اعترافات). وفي تأملاته عن عدم ملاءمة اللغة الفرنسية للتعبير الموسيقي، وفي اعتراضاته على مزاعم رامو عن أولوية الانسجام على اللحن، تصور روسو أن الموسيقى كانت في فترة من الفترات الشكل الغني الذي اتخذتْه لغة البشر الطبيعية، الشكل غير المتكلف التلقائي، الفاتن في نطقه فتنة جمال جولي كلما تصورها في مخيلته. إن الجملة الموسيقية الواضحة، التي تُنشد بثقة بعبارات مُصرفة وخالية من الجماليات الأوركسترالية وأوبرالية ومنغمة، كانت في بعض الأوجه أشهَرَ الصور الخيالية الشعبية التي استدعاها روسو على الإطلاق لسبل التعبير الذاتي العتيقة للبشر؛ اللغة البدائية المفقودة للكلام الحر. وإذ إنها مجردة من الزعم بأن النظامَيْن السائد ودون السائد للسُّلَّم الموسيقي الغربي كانا راسخين في كل شكل من أشكال الموسيقى، فمن الممكن إرجاع طبيعتها الأصلية في فلسفته إلى جذورها الشعرية أساسًا، وتحولاتها التدريجية من فن قديم إلى علم حديث يمكن إعادة تحديدها على غرار معالجته للتدجين الذاتي للبشرية بطرق أخرى.
لكن أصول الموسيقى الحديثة والغربية لم تكن بعيدة جدًّا كأصول اللامساواة، وبالتالي كان روسو قادرًا على تقييم مسار تطورها بأسلوب أقل تخمينًا بكثير. لقد نمَّتْ إسهامات روسو بالفعل ﻟ «الموسوعة» عن إلمام كامل بتاريخ الموسيقى وللأنواع الموسيقية المختلفة، ولا سيما النظرية الموسيقية المعاصرة، حيث تناول أفكارًا في مقالاته «الموسيقى المصاحبة» و«التنافر الموسيقي» و«الجهير الأساسي» التي أسهبت إلى حدٍّ كبير في عرض آراء رامو الخاصة حول التعديل النغمي ورنين النغمات التوافقية لنغمة موسيقية مفردة؛ مما دفع بديدرو ودالمبير للزعم، في المجلد السادس من «الموسوعة»، بأن رامو هاجم بفظاظة رجلًا كان في واقع الأمر مخلصًا إلى حد كبير لمبادئه. وحتى في النسخ المُطولة من هذه المقالات التي ضَمَّنَها «قاموس الموسيقى» عام ١٧٦٧، لم يُخفِ روسو أنه يَدِين بشدة لعمل رامو «نظرية الانسجام» الذي نُشر عام ١٧٢٢. ولكن لكي يلتزم بالموعد النهائي المبدئي لديدرو، اضطر روسو إلى الانتهاء من مقالاته الأصلية في غضون ثلاثة أشهر وحسب، وسعى طويلًا لاغتنام فرصة للعودة إليها والإسهاب فيها، وتناول أوجه الاختلاف بينه وبين رامو حيثما وجدت، والإسهاب في الأفكار التي كان عاجزًا عن بحثها في السابق.
وضعَ روسو «قاموس الموسيقى» كمرجع، ولم يُثِرْ هذا العمل فيه شطحات خيال كما فعلتْ أغلب مشروعاته الأخرى التي التفتَ إليها في ليرميتاج بعد أن رحل عن باريس. ولهذا السبب، كما أعلن في «اعترافات»، نحَّى هذا العمل جانبًا بينما كان يخرج للتجول يوميًّا، مما أفرخ أحلام يقظته، وبشكل استثنائي طوَّر أفكاره الخاصة بهذا العمل وهو جالس داخل معتزله في وقت هطول الأمطار (الأعمال الكاملة، المجلد الرابع؛ اعترافات). ورغم ذلك، فإن هذا العمل يُعَدُّ واحدًا من أبرز أعماله، حيث يتسم بالشمول في معالجته للموضوعات التاريخية والفنية والنظرية، ولم ينحصر وحسب في تبسيط تعقيدات مبادئ رامو للقارئ العادي، كما حاول دالمبير أن يفعل أيضًا، بل قدم تعليقات مهمة ومُنقحة تنقيحًا دقيقًا حول الممارسات القديمة والوسطى والحديثة للتدوين الموسيقي في مقالته «النوتات الموسيقية»، ودراسة جديدة حول تاريخ الدراما الغنائية (التي خصصت في «الموسوعة» بدلًا من ذلك لجريم تحت عنوان «القصيدة الغنائية») في مقالته «الأوبرا»؛ وتحليل للنظرية الموسيقية لتارتيني في مقالته «النظام». لقد كتب تشارلز بيرني، الذي سبق أن ترجم النص الأوبرالي لأوبرا روسو «عَرَّاف القرية» إلى الإنجليزية، وسماها «الداهية»، في مؤلفه «التاريخ العام للموسيقى» دفاعًا عن روسو ضد نقاد كلٍّ من «رسالة عن الموسيقى الفرنسية» و«قاموس الموسيقى»، بينما قيل إن روسو نفسه، الذي لا شك في أنه وضع تقييمًا مختلطًا لأوبرا «ألسيست» لجلوك (١٧٦٧)، اقترح أن مسرحية «إيفيجينيا في أوليس» (١٧٧٤) لجلوك، بنصها الفرنسي، ربما دحضت زعمه بأنه من المستحيل تأليف موسيقى لكلمات فرنسية.
ولكن، حتى في «قاموس الموسيقى» كرر روسو وأضاف زخمًا لأفكار ألهبت مخيلته لأول مرة في أواخر أربعينيات القرن الثامن عشر وأوائل خمسينياته. ففي مقالة جديدة تسمى «الترنيمة الدينية»، لاحظ أنه عندما شرع المسيحيون في بناء الكنائس وإنشاد المزامير والتراتيل فقدت الموسيقى القديمة كل حيويتها. ومن الكتاب المقدس والمصادر الكلاسيكية، ولا سيما الفيثاغورثيين، أضاف روسو في مقالته «الموسيقى» — مكررًا تعليقات سبق أن ذكرها في «الموسوعة» ومسترجعًا أفكار كتاب «القوانين» لأفلاطون — أننا نعرف أن كلًّا من القانون الإلهي والبشري، وكذا العظات التي تحض على الفضيلة، كانت تنشدها الجوقات شعرًا، حيث لم تكن هناك وسيلة أخرى أكثر فاعلية لتعليم الناس حب الفضيلة. إن أي شيء يمكن استثارته في الخيال ينبع من قوة الشعر التي نشأت منه الموسيقى قبل ذلك، هكذا زعم روسو في مقالتيه «المحاكاة» و«الأوبرا»، ذاكرًا في كل مقالة افتقاره لتقدير القوى الانفعالية للرسم وتمييزه العقيم لها في مقابل حساسيته تجاه الموسيقى؛ ولعل هذا أكثر أوجه الاختلاف تجليًا بين حُكْمه الجمالي وحكم ديدرو. على العكس من الرسم الذي يُلهم حاسة البصر لدينا وحسب، بحسب زعم روسو، تنقل الموسيقى العين إلى داخل الأذن، وتصور حتى أشياءَ خفية، كالليل والنوم والعزلة والسكوت، وأحيانًا ما تخلق الضوضاء أثر السكينة المثالية بينما ينتج السكون أثر الضوضاء، الأمر الذي يعلمه تمام العلم الذين تأخذهم سِنَة من النوم أثناء محاضرة مملة ويستيقظون لحظة أن تنتهي. استمر اهتمام روسو بالموسيقى طوال حياته، ولا سيما أنه، بعد أن قرَّر حوالي عام ١٧٥٠ أن ينسخ النوتات الموسيقية كي يضمن دخلًا منتظمًا ومستقلًّا، اعتمد على هذه الوظيفة، وحتى نهاية حياته تقريبًا، كمصدر من مصادر الدخل القليلة التي استطاع التعويل عليها ككاتب حريص على أن يرفض كل أشكال الإحسان أو الإعانات، فتفادى بذلك الديون التي كان من الممكن أن تقيد حريته. وفي حالة الضياع الشديدة التي هرب وهو يعانيها أخيرًا من إنجلترا ربيع عام ١٧٦٧، أقنعه هيوم رغم ذلك بقبول هدية من الملك جورج الثالث الذي أمسى في نهاية المطاف أكثر جنونًا، وفي الوقت المناسب، وبما يتعارض مع مبادئه، تلقَّى روسو مبلغ ٥٠ جنيهًا إسترلينيًّا دون أن يُقدِّم شيئًا في المقابل. وظهر تدوينه لنغمات صينية في «قاموس الموسيقى»، المستقاة من عمل «وصف الصين» لجون-باتيست دو هالد عام ١٧٣٥، في كل من مقدمة ويبر لأوبرا «توراندوت» وأوبرا هيندميث «تحولات سيمفونية».
ومرة أخرى، أصبح روسو في فرنسا، على مدار السنوات الثلاثة التالية، في مخيلته وفي الواقع جوَّالًا رهينة للحظ، مسافرًا سرًّا باسم السيد «رينو» وبرفقته مديرة منزله التي قيل إنها أخته. أصبح الآن أكثر عشاق الحقيقة في عصر التنوير صراحةً ووضوحًا، الذي كرَّس كل طاقاته لإماطة اللثام عن النفاق، يعيش متخفيًا مسافرًا مِن تري على حدود نورماندي إلى بورجوان ومونكان في دوفين ومنها إلى ليون وأخيرًا باريس؛ حيث عرج في طريقه إلى قبر السيدة دي وارين في شامبري، وسرعان ما تزوَّج بعدها من تيريز، وهو في حالة من الضياع والتنقل صارت أكثر خِفْيَةً بكثير بفعل راعيه الرئيسي آنذاك، الأمير دي كونتي — الذي كان سجَّانًا في واقع الأمر متخفيًا في هيئة راعٍ — بينما تجاهلت السلطات التي كان روسو يسعى لتجنبها الأخير ظنًّا منها أنه أحمق وليس خطيرًا. في تلك الفترة تحديدًا التفتَ روسو إلى موضوع علم النبات، وهو أكثر ما أُولِعَ به خلال سنواته الأخيرة. في موتييه، وبعد رحلته من مونتمورنسي، كان قد تعرَّف بالفعل على عالِم نباتات بارز يُدعَى جون-أنطوان ديفيرنوا، وقام هناك بالعديد من الجولات النباتية المطولة في الريف المحيط بالمدينة بصحبة البارون المجري المزيف إجناز دي سوترسهايم، بيير لوتي عصره، الذي كانتْ حياتُه أكثرَ خيالًا من جميع خيالات «إلواز الجديدة». وفي ستافوردشير، جمع روسو نباتات السرخس والطحالب. ولكن في أواخر ستينيات القرن الثامن عشر، وسواء وحده أو بصحبة مجموعة من الرفاق، في المناطق النائية من تري وليون وجرونوبل وبورجوان ومونكان، شرع روسو في تخصيص أغلب وقته لدراسة النباتات؛ الأمر الذي أثار شكوكًا أحيانًا بأنه مشعوذ.
إبَّان عودته إلى باريس صيف عام ١٧٧٠، باشر مهنة النسخ الموسيقي كل صباح، وفي فترات ما بعد الظهيرة كان يدرس النباتات والأعشاب خلال جولاته الطويلة سيرًا على الأقدام خارج المدينة. وفي تواريخ متعددة بين عامَيْ ١٧٧١ و١٧٧٣، كتب روسو ثمانِيَ رسائل طويلة عن موضوعات نباتية للسيدة مادلين-كاثرين دولوسير، التي بدأ في مصادقتها إثر لقاء جَمَعَ بينَهما سابقًا في ليون، وكان يتمنَّى أن يثير الفضول الطبيعي لابنتها ذات الأربع سنوات بتشجيعها على الاهتمام بالنباتات. لقد أثارت تلك الرسائل، المتبوعة على مدار السنوات الأربع التالية بست عشرة رسالةً أخرى تتناول أفكارًا شبيهة لأشخاص أخرين (نُشرت كلها مع الأعمال الكاملة لروسو عام ١٧٨٢) اهتمام توماس مارتن، أستاذ علم النبات بجامعة كامبريدج الذي احتلَّ منصبَه لثلاثة وستين عامًا، وخلال جزء من تلك الفترة على الأقل استخدم ترجمتَه الخاصة لتلك الرسائل في مناهجه التربوية؛ واستعان بها أيضًا الرسام بيير جوزيف رودوتيه الذي رسم صورًا لها لطبعة فاخرة من الكتابات النباتية لروسو نُشرت أوائل القرن التاسع عشر. وخلال تلك الفترة تقريبًا، جمع روسو أيضًا قاموسًا للمصطلحات النباتية، لكنه لم ينتهِ منه قط. وواصل أيضًا جمع عينات الأعشاب للمَعْشَبة التي انكبَّ على إنشائها بالفعل في السابق، والتي لم يبقَ منها إلا القليل، ولو أن المجموعة الأكبر على الإطلاق، وتُشَكِّل ١١ مجلدًا، دُمرتْ مع المتحف النباتي ببرلين في الحرب العالمية الثانية.
يبدو الاهتمام المكتسب لروسو بعلم النبات خيارًا مهنيًّا منطقيًّا لرجلٍ تجلَّت إمكاناتُه وقدراتُه أيَّما تجلٍّ بينما كان يمشي، فلا يَعمَل عقلُه إلَّا مع حركة رجلَيْه، بحسب ملاحظته في «اعترافات» (الأعمال الكاملة، المجلد الأول؛ اعترافات). هنا، أخيرًا، استطاع ابن الطبيعة المتقدم في السن أن يتفاعل مباشرة مع مشهد الخلق العظيم الذي طالما وقف قُبالَتَه في هيبة؛ شأنه شأن إميل الأصغر سنًّا، على مشارف الرِّضا، وقوَّته وإرادته في حالة توازن. كان هنا موضوع يُمكِن أن يَملَأ ألوانه وعبقه مخيلته، فردوس طبيعي من حب النباتات كذلك الذي أغوى بالمثل الشاعر أندرو مارفيل قبل قرن من الزمان. في الجولة الثانية من عمله «أحلام يقظة جوال منفرد»، تذكر روسو المتعة العذبة التي أحسها وهو يرى ويعدد النباتات التي ما زالت مزهرة في المروج الواقعة بين مينيلمونتون وشارون على مقربة من باريس، والتي يشغل الآن جزءًا منها مقبرة بير لاشيز (الأعمال الكاملة، المجلد الأول؛ أحلام يقظة جوال منفرد). وفي الجولة السابعة التي خصَّصها إلى حدٍّ كبير للأشجار والنباتات التي تعتبر «لباس الأرض»، تغنَّى روسو بذكرى صدْع جبلي حيث عثر على نباتات مثل حشيشة الأسنان وبخور مريم، وسمع نعيق العُقاب والبومة القرناء، وذلك في ركن بالأرض خفيٍّ بشكل كبير لدرجة أنه عندما جلس على حشيات من الليكوبوديوم راوده حُلْم بأنه عثر مصادفة على أكثر ملذَّات الكون بريَّة وأبعدها على الإطلاق، بعد أن أماط اللثام، ككولومبوس ثانٍ منفرد، عن مأوًى لن يسعى مضطهدوه للبحث عنه فيه أبدًا (الأعمال الكاملة، المجلد الأول؛ أحلام يقظة جوال منفرد). هنا كان «الفردوس» الخاص بروسو، الملاذَ الذي اكتشفه في رحلة استكشافية نباتية قام بها على مقربة من موتييه حوالي عام ١٧٦٤، الملاذ الذي استلهمه أصلًا في ربيع عام ١٧٥٧ بظهور صوفي دوديتو في حياته، ووصفه في «إلواز الجديدة»، بألفاظ شبيهة بشكل مدهش، باعتباره البستان السري لجولي، معتبرًا إياه «أكثر أركان الطبيعة بريَّة وعزلة» (الأعمال الكاملة، المجلد الثاني؛ جولي أو إلواز الجديدة). لقد انتقل حبُّه لصوفي من قلب ظلمة آسر إلى آخر، على نحو جعل حياته الشخصية تحاكي فنه. فبداية من الإثارة الحسية والرواية واسترجاع الصور المنقولة حاليًّا، استطاع روسو — في هذه الجوانب وفي جوانب أخرى عدة يُعتبر مارسيل بروست القرن الثامن عشر — أنْ يجعل علم النبات خاصته وأحلام يقظته يتردد صداهما في صوت واحد.
لم يكن روسو ميالًا بشدة هكذا لدراسة النباتات. فلو كان قد سار في ركب كلود أنيت، متخصِّص الأعشاب الشاب الذي وظَّفتْه السيدة دي وارين في شامبري والذي شاركَه حبَّها، لكان قد أمسى عالمًا بارزًا في النباتات، بحسب تعليقه. ولكن، نظرًا لغفلته عن سحر هذا العلم ومفاتنه، فقد ترك نفسه فريسة للتحيز الشعبي بأن علم النبات شأنه شأن علم الكيمياء أو علم التشريح يرتبط بالطب أو علم الصيدلة ولا يناسب إلا الصيادلة، بحسب زعم روسو في «اعترافات» و«أحلام يقظة جوال منفرد»، وحتى في مقدمة قاموسه للمصطلحات النباتية (الأعمال الكاملة، المجلد الأول؛ الأعمال الكاملة، المجلد الرابع؛ اعترافات؛ أحلام يقظة جوال منفرد). لكن روسو أدرك لاحقًا أن ذلك أبعدُ ما يكون عن الحقيقة. وأي علم آخر كان يمكن أن يقضي فيه وقته؟ وكيف كان له أن يطارد الحيوانات لكي يخضعها بالقوة وحسب إن استطاع أن يمسك بها، وبعد ذلك يقوم بتشريحها كي يفهم كيف تجري؟ ولو كان أضعف من اللازم، لقام بلا شك باصطياد الفراشات بدلًا من ذلك؛ ولو كان أبطأ من اللازم، لبحث عن القواقع والديدان. لكن كل هذه الجثث المتعفنة، والهياكل العظمية المروعة والأدخنة الضارة لم تكن تناسبه. ولم يتمنَّ أيضًا، بمساعدة الأدوات والآلات، دراسة النجوم. لكن الأزهار زاهية الألوان والظلال المنعشة والجداول والغابات والمروج والمساحات الخضراء طهَّرَتْ خياله، بحسب ملاحظته في الجولة السابعة من «أحلام يقظة جوال منفرد». وجعلت الطبيعةُ نفسُها النباتاتِ في متناول البشر، حيث نبتت تحت أقدام الإنسان الذي استقر عقله عندها بالفعل (الأعمال الكاملة، المجلد الأول؛ أحلام يقظة جوال منفرد).
وبالطبع يجب عدم الخلط بين الدراسة الدقيقة والمنضبطة للنباتات والأحاسيس المحببة التي تلهمها، بحسب اعتراف روسو في قاموسه (الأعمال الكاملة، المجلد الرابع). لقد كان علم النبات، بحسب فهم روسو له، علمًا تصنيفيًّا بشكل جوهري، وهو إن لم يُحلِّل الأشياء التي تدرسها بضرورة الحال فهو يسعى رغم ذلك إلى تصنيفها وتحديد الغاية من تنظيمها الداخلي، وذلك وفقًا لملاحظات روسو في «أحلام يقظة جوال منفرد». وفي كلٍّ من قاموسه ورسائله النباتية يصرف روسو بالتالي انتباهه إلى أجزاء الفاكهة والأزهار — مِدَقات الأزهار، وكئوسها وعناقيد النباتات — التي تَعَرَّف على اسمها ووظيفتها من العديد من المراجع، ولا سيما «نظام الطبيعة» و«فلسفة النباتات» و«مملكة النباتات» للينيوس، عالم النباتات البارز في القرن الثامن عشر الذي راسله روسو ذات مرة، علاوة على مقالة بقلم أبرز محرري لينيوس، ويُدعَى يوهان أندرس موراي. وأحيانًا كان روسو يخلط ما بين وصف نبات أو جزء ما بآخر، وكان في بعض الأحيان يُسيء فهمَ المبادئ التي اقتبسها من الآخرين. وبالإضافة إلى ذلك، ربما لأنه فضَّلَ دراسة النباتات على الحيوانات، لم يخطر أبدًا بباله أنه يجوز التمحيص فيها هي الأخرى من حيث تاريخ تكاثرها الطبيعي أو الصناعي، على نفس النسق الذي اتبعه من قبل بوفون في تعليقاته على اضمحلال الأجناس الذي سحر لُبُّهُ بشدة في روايته لتطور البشرية في «خطاب عن اللامساواة». وبالنسبة إلى الاستقصاءات النباتية، وإن لم يكن لعلم الطبيعة البشرية، كان مَثَلُه الأعلى لينيوس لا بوفون. ومع ذلك، فقد كان إلهامُه إلهامَ رجل يصل عقله وأحاسيسه لأوج نشاطها عندما يكون منعزلًا وفي الخلاء يجول محتفيًا بالطبيعة. قال روسو في «أحلام يقظة جوال منفرد» (الأعمال الكاملة، المجلد الأول؛ أحلام يقظة جوال منفرد): إن علم النبات المادة الدراسية المثالية للإنسان الكسول المنعزل العاطل عن العمل.
لكن علم النبات لم يكن المجالَ الوحيد الذي التفتَ إليه روسو في عزلته التي فُرضتْ على الفور عليه بفعل قطيعته عن المجتمع، والتي استلذَّها في الوقت نفسه بسبب الحرية التي كَفَلَتْها لشطحات خياله. وظل هناك موضوع آخر في سنواته الأخيرة شعر بجاذبيته واستقطابه له بقوة أكبر؛ لأنه لم يكن مفر منه، ولأن التأمل فيه طالما أمدَّه بالعين الناقدة التي سعى وراء كل شيء خلافها من خلالها؛ ألا وهو نفسه. زعم روسو أنه حوالي عام ١٧٦٠ فكر في كتابة سيرته الذاتية لأول مرة، وبحلول عام ١٧٦٥؛ حيث كانت كل الأعمال الرئيسية التي أنجزها منذ عَقْد مضى تقريبًا في ليرميتاج إما تحت الطبع وإما جاهزة للطبع وإما مهجورة، التفت روسو لكتابة عمله «اعترافات» بجدية ودأب وجمعها أساسًا من مراسلاته الضخمة، بما في ذلك نُسخ أو مسودات من رسائله الخاصة التي احتفظ بها. ولمَّا كان بعض أصدقائه السابقين الموقنين بأنهم لن يَسلَموا من أذاه على دراية بأساليبه وبلاغته وتحيزه، فقد تحوَّطوا محاولين التشهير به على نحو مسبق أو ردًّا عليه، وعلى رأسهم السيدة ديبينيه التي اتهمها روسو بغير حق بالرياء والخيانة رغم مواساتها له وعاطفتها تجاهه بعد أن وفرتْ له أول ملاذٍ في حياته. لم تستدعِ قط رعونتها التي تدور في فلك هيام روسو بصوفي اتهاماته البشعة لها، لكنها كالَتْ له الصاعَ صاعَيْنِ بسبب فظاظته حيث وضعتْ يدَها في يد ديدرو وطالبتْ بحظرٍ رسميٍّ لقراءات روسو العامة من مخطوطة «اعترافات»، وحصلت عليه، بعد عودته من باريس، وبعون من جريم وديدرو، كما يتضح لنا من الأوراق الوحيدة المتبقية منها، أعادت تجميعَ، بل وأعادت صياغة الرسائل التي تبادلتْها مع روسو خلال انفصالهما، بحيث يَظهَر بمظهر الغدَّار المخادع طوال فترة علاقتهما، في الرواية التي أوردتْها في أعمالها الشبيهة بالمذكرات والمنشورة بعد وفاتها عام ١٨١٨ باسم «قصة السيدة دي مونبريان». شرع خصوم روسو، إلى حد ما في محاولة لحماية أنفسهم من اتهاماته اللاذعة، ولكن أيضًا بدافع الازدراء الحقيقي والمتزايد لرجل بدا غرورُه الصارخ بالنسبة إليهم لا حدود له، في ممارسة مجموعة مختلفة من الحِيَل للقَدْح فيه والنيل من سمعته، الأمر الذي أدى بطبيعة الحال لا لتأكيد ارتيابه الأصلي وحسب في شخصيتهم، بل وكذلك شكوكه المتعلقة بوجود مؤامرة تُحاك ضده لتشويه سمعته. في تاريخ الحضارة الغربية، لم تفُقْ أيُّ شخصية بارزة قط روسو في قدرته على الخلط ما بين الرعونة والنوايا السيئة؛ مما أفضى لاحقًا إلى تبعات متصاعدة بشكل مخيف.
وفي مؤلفه «روسو يحاكم جان-جاك»، المشهور بعنوانه الفرعي «محاورات»، والمكتوب بشكل أساسي في الفترة ما بين عامَيْ ١٧٧٢ و١٧٧٤، ترك روسو لجنون اضطهاده الذي أمسى مرعبًا آنذاك العنان. قال روسو عن نفسه على لسان متحدث يدعى «الفرنسي» إنه كدُبٍّ يجب تكبيلُه بالأصفاد كي لا يفترس الفلاحين (الأعمال الكاملة، المجلد الأولى). وبما أن قلمه المسموم أصبح مخيفًا بهذا القدْر، فكيف للنبلاء الذين يخشون عدوَّ البشر الوحشي هذا ألَّا يتآمروا بكدٍّ ودأب شديدين من أجل مطاردته (الأعمال الكاملة، المجلد الأول)؟ وإذ يحاول أن يتكلم عن نفسه من خارجها، شَيَّد روسو هنا شخصية مغايرة لا تستطيع استعادة تلقائية مشاعرها ولا البرهنة على أصالة دوافع الرجل الذي كانت عليه، ما دام الولوج إلى شخصيته معدومًا بفعل إقصائها عن ذاته كمؤلف أمسى الآن متمايزًا حتمًا بغيريته عن موضوع عمله نفسه. ولقد قُدِّرَ أن يُنشر مؤلف «محاورات» عام ١٧٨٠ في ليتشفيلد، محل ميلاد صامويل جونسون. وإذ وضع روسو المحاورات استنادًا، بقدر أكثر اضطرابًا، إلى الجانب الأكثر جموحًا للعقل مقارنة بأيٍّ من أعماله الأخرى، نراها تُشَكِّل نصًّا حاول روسو نقله للبشرية من طريق إزالة الأثقال عن الكاهل، ساعيًا إلى تركها في يد القدر بوضعها على مذبح كنيسة نوتردام، ليكتشف فجأة أن الجوقة محبوسة، فكُبِتَ التماسُه للعالم بذلك في مهده، حتى إنه حُرِمَ من التملص من نفسه. في السنوات الأخيرة، جذبتْ تلك المحاورات انتباهَ ميشيل فوكو خاصةً الذي قدمها في طبعة حديثة. لكنها نادرًا ما تجد لها قراء الآن، ونادرًا ما يقرؤها القارئ دون أن يحس بالألم.
العمل الأخير الرئيسي لروسو، «أحلام يقظة جوال منفرد» الذي بدأه في عام ١٧٧٦، ولم يكن قد انتهى منه إبان وفاته، له طبيعة مختلفة اختلافًا جذريًّا. ففقرته الافتتاحية، وهي من بين أكثر ما كتبه إثارة للمشاعر، ترصد مِحَنَ حياة تخلصت الآن من توتراتها، وقدمها روسو وكأنها الأسطر الأخيرة من عمله، مسترجعًا فيها كل ما حدث من قبل: «الآن، أنا وحدي إذن في هذا العالم، بلا أخ ولا جار ولا صديق، ولم يبقَ لي رفيق سوى نفسي. أكثر الناس اختلاطًا بالناس وأكثرهم حبًّا لهم نبذَه الآخرون جميعًا باتفاق جماعي بينهم» (الأعمال الكاملة، المجلد الأول؛ أحلام يقظة جوال منفرد). وفي سلسلة من عشر نزهات أو جولات، تُختتم بالرجوع إلى «أمه» المحبوبة والسلام الرائع الذي استمتع به معها في شبابه، كرر روسو عدة أفكار عن اغترابه وعزلته عن المجتمع مُستخلصة من كتاباته الأخرى؛ حيث صور العقل الجوال لرجل عجوز وقد استعاد كل قدراته، منقلبًا على عقبيه إلى الأبد. وتمثِّل جولتاه السابعة والتاسعة، والخامسة بخاصة، القلب الروحاني لعمله — فتكشف السابعة بَريَّة فردوسه النباتي، وتُشَكِّل التاسعة أسفه على عدم ديمومة السعادة، ويسترجع في الخامسة جنة مائية على معتزل في جزيرة — وتلك الجولات تؤلف في واقع الأمر على التوالي السيمفونيات الرعوية والملحمية والكورالية لأحلام يقظة روسو. وفي الجولة التاسعة، حاول روسو أن يَجِد لنفسه عذرًا لهجرانه أطفاله، ويصف التهور الصبياني لشخصيته، وكذا السعادة التي لا تُقاوم التي تنتابه إذ تقع عيناه على الوجوه السعيدة. لكن طوال الجولة، تبنَّى روسو نبرة استسلام كئيب لقدره، مصرًّا على أن كل خططنا لتحقيق السعادة محض خيال؛ لأنه ما من طريقة دائمة يضمن بها الإنسان الرضا.
وفي الجولة الخامسة، بدا أنه يطرح مشاعر مماثلة بتأكيد أكبر، قائلًا إن «كل شيء في حالة تبدل مستمر على هذه الأرض»، ومشاعرنا، انطلاقًا من كونها مرتبطة بأشياء خارجنا، تتغير لا محالة وتموت مع ما ترتبط به، ومُتَعنا الدنيوية ما هي إلا مخلوقات عابرة لحظية (الأعمال الكاملة، المجلد الأول؛ أحلام يقظة جوال منفرد). ورغم ذلك، ففي الجولة نفسها، إذ يسترجع رحلته من موتييه في سبتمبر ١٧٦٥، عندما اتخذ من جزيرة سان-بيير ملجأ في وسط بحيرة بيين، استحضر روسو صورًا لملاذٍ محميٍّ بديع المنظر جدًّا لدرجة أنه كان من الممكن أن يكتب عن كل ورقة عشب في مروجه، وكل أشنة تغطي الصخور، حيث كان يُمضِي فترات الظهيرة في استكشاف نباتات الصفصاف والبرسيكاريا والشجيرات بكل أنواعها، أو كان يستلقي ممددًا في قارب جانح حيثما تسوقه المياه، «منغمسًا في آلاف أحلام اليقظة المشوشة والممتعة رغم ذلك»، في معتكف من السعادة الشديدة التي كان سيرضى بالعيش فيه طوال حياته، «دون رغبة ولو للحظة في أي مكان آخر» (الأعمال الكاملة، المجلد الأول؛ أحلام يقظة جوال منفرد). وكما تستبدل جولته السابعة بفردوس جولي ماضيًا يفترض الآن أنه كان خاصًّا به، تفعل جولته الخامسة حيث تنقل نزهة يوم خيالي على ضفاف بحيرة جنيف — الذي وصفه سان-برو بالمثل بتفصيل مماثل بشكل مذهل باعتباره «اليوم الذي عاش فيه أكثر المشاعر حيوية في حياته كلها» (الأعمال الكاملة، المجلد الثاني؛ جولي أو إلواز الجديدة) — إلى معتزل بجزيرة ذي جمال شديد معزول بفعل الطبيعة نفسها عن الاضطرابات المختَلَقَة للحضارة المعاصرة. وإذ فر روسو من الأزمات الدنيوية لحياته عبر أحلام اليقظة، استطاع أن يُذيب كل الاختلافات بين التذكر والاختلاق. وإذ انتقل روسو بفعل خياله الشخصي، وحُمل معه إلى عالَم روحي من النعم النقية كالتي وصفها في رسالته الثالثة لماليزيرب، فقد استطاع أن يَسكُن عوالِمَ بديلة ذاتَ صفاء مثالي تُناسِبه بشكل متفرد.
في كتاباته الرئيسية، وفي المجالات المتعددة التي تتناولها، سعى روسو إلى محاولة تحقيق تلك المُثُل بالإطاحة بكل المؤسسات التي حالتْ دونَ تحقُّقها، بحيث استطاع من خلال عملية السلبية السامية إنارة عوالم من الخطاب غير النثري والموسيقى غير المزخرفة، والطبيعة البشرية في غياب المجتمع، والتربية من دون مربين، ومدينة من دون مسارح، ودولة بلا قوانين، وكيان مقدس دون كنيسة. وبواسطة مثل هذه الارتدادات، لم يفترض روسو رؤًى متنوعة للتحقيق الذاتي للإنسان في حالة من الحرية غير المقيدة فحسب، بل وفصل نفسه أيضًا بشكل أكثر دراماتيكية عن عصر التنوير الذي كان يعيش فيه؛ حيث بدا أقل تقييدًا بالفرضيات المسبقة لخطابات ذلك العصر وتقاليده من أي مفكر بارز آخر في عصره. وما زال صوته الناقد بعناد في بعض تجلياته يتكلم بحماسة لم تتزعزع بعد أكثر من مائتيْ عام على وفاته. وكثيرًا ما يَدين الفلاسفة والكُتَّاب الحداثيون وما بعد الحداثيين على حد سواء بشكل كبير لأعماله، أحيانًا يأنفون الإقرار به، وفي أكثر الأحيان بالفعل يعتنقون وجهات نظر، في صيغ سابقة، سبق أن اعترض عليها بنفسه. في مسعى روسو وراء لغة تتسم بالصدق المحض، في نموذجه المثالي للفاعلين المتواصلين حقًّا الذين يشتركون بأفعالهم الخطابية، ويساهمون بالكامل في التعبير عن الاختيار العام، يمكن العثور على تنبؤات بالفلسفة السياسية ليورجن هابرماس على سبيل المثال. وفي تصوره لأشكال الاستبداد الخانقة والمشوهة والمُذلة للمجتمع التجاري الحديث، الذي رسمه وكأنه سجن لوحش مستبد سيجمعه دكتور فرانكنشتاين في المستقبل متخفيًا في قناع الفيلسوف بنثام، فإنه يمهد الطريق بعض الشيء باتجاه فوكو. ولكن، باعتباره مميزًا عن أغلب مفكري ما بعد الحداثة ونقادهم على حد سواء، وجد روسو لنفسه ملجأً وتحققت له السكينة، حتى وإن لطمتْه أمواج عالم شخصي وسياسي من الاضطرابات المستمرة. ومن الاستبطان والتميز الفطري، آمن أكبر نقاد القرن الثامن عشر لزخارف الحضارة، والمصور الأكثر وضوحًا لجوانب يأسها وسخطها، طوال حياته، كما فعلت آن فرانك بالقدْر نفسه في أحلك لحظات التاريخ الحديث، بأن الطبيعة البشرية ما زالتْ خَيِّرَة في جوهرها أساسًا.