فاتحة الكتاب
وأتعشم في وجه الله الكريم أن يجعل نتيجة بحثي تُميط اللثام عن حقيقة هذه المسألة الخطيرة التي كثر اهتمام الحكومات والأفراد بها في هذه الأيام.
•••
قالوا: إن الاسترقاق ظهر منذ كان الاجتماع الإنساني، وهو قول في غاية الإصابة والسداد، فإنه ظهر حقيقة عندما وقعت الاجتماعات البشرية الأولى، أيام كان حجاب الجهالة مسدولًا على عالم الفطرة، والذي أوجب حصول هذا الفعل هو أمر يسهل بسطه وإيراده، وذلك أنه لما كان العمل من أصعب الضرورات وأشقاها أخذ الإنسان في البحث عما يخلصه من عنائه ومكابدته، فإذا بطلبته بين يديه عند الهيئة الاجتماعية، فإن القوي ألزم الضعيف بالاشتغال، ومن ذلك نشأ الاسترقاق.
ثم جاءت الحروب، وتولدت الأطماع، فبثت الاسترقاق في جميع أجزاء العالم، وعند معظم الأمم، وصار الناس لا يقتلون العدو، بل يبقون عليه ليعمل لهم. هذا، واعلم أن طبيعة الأقاليم — وهي من أقوى العوامل في إنماء الجمعيات البشرية — كان لها تأثير عظيم في زيادة الاسترقاق واتساع نطاقه، حتى إنه ما لبث أن بلغ عدد الأمم التي على البساطة والفطرة في جميع بلاد المشرق مبلغًا عظيمًا، ودرجة قاصية، وانتشارًا زائدًا، فإن ثمن الرقيق كان زهيدًا، وعمله مفيدًا بالنظر إلى ما صارت إليه الصناعة والتجارة من التقدم والأهمية، ولقد كان الحال على خلاف هذا المنوال عند أمم الشمال، فإن تغذية الرقيق عندهم كانت تكلفهم مصرفًا جسيمًا، ولم يكن لعمله كبير جدوى ولا فائدة، فلهذا كان الاسترقاق في بلاد الشمال منذ العصور الخوالي أقل انتشارًا منه في جهات الجنوب من المعمورة، وهذا يدلنا على أن الاسترقاق هو من الأمور الاقتصادية التدبيرية المترتبة على العمل والاشتغال.
ولنبحث الآن في حالة الرقيق عند الأمم المختلفة واحدة واحدة.