الاسترقاق في الأزمان الحديثة
القانون الأسود
اعلم أن هذا الاسم يطلق في جميع البلدان على مجموع القواعد والأصول المدونة بشأن الاسترقاق.
وقد صدر في ١٧ مارس سنة ١٦٨٥ مرسوم بتنظيم أحوال الأرقاء والعتقى في جميع المستعمرات الفرنساوية، وتقرر فيه تخويل الحق المدني والسياسي للأحرار من ذوي الألوان، واعتبار العتق ولادة جديدة للمعتوق، على أن الجمعية الدستورية لمَّا أرادت العمل بهذا المبدأ واستنباط النتائج المترتبة عليه عقلًا صادفت صعوبات عنيفة ومعارضات قوية، وما ذلك إلا لأن القانون الأسود لم تنفذ منه إلا القواعد الصارمة والأحكام البالغة في الشدة، أما الأصول المقتضية حصر سلطة الموالي أو تحميلهم بحقوق لأرقائهم، فكانت مهملة متروكة كأنها لم تكن.
وإذا اعتدى الزنوج بأقل إكراه على ساداتهم، أو على الأحرار، أو ارتكبوا أخف السرقات، فجزاؤهم القتل أو العقاب البدني بالأقل، وهذا دليل كافٍ على ما في القانون من الشدة التي ليس بعدها شدة، وإن الإنسان ليمتلئ غيظًا وغضبًا إذا ذكر أنواع العقاب التي كانت موضوعة للآبقين، فقد كان عقاب الإباق في المرة الأولى والثانية قطعًا للآذان ومسحًا بالسوق وكيًّا بالحديد المحمي، وفي الثالثة القتل.
وقد أيدت الجمعيات الاستعمارية في كل زمان هذه القاعدة، وهي أنه لا يسوغ للمتشرعين أن يتوسطوا ويتدخلوا بالشرائع بين العبد ومولاه، وكان الأحرار من ذوي الألوان محرومين من وظائف النفوذ والاعتبار.
بل قد صدرت أوامر متنوعة من نظارات الحكومة بمنع التوسع في تأويل مواد القانون الأسود، فمنها ما كان بالنهي عن البحث في الأوراق المثبتة أن صاحبها من طائفة الأشراف متى تزوج بامرأة امتزج بها دم الأرقاء، وكان مثل ذلك الرجل يعد غير جدير بأية وظيفة في المستعمرات، بل يعتبر ساقطًا من درجة ذوي اللون الأبيض، ومنها ما كانت بتحريم حضور ذوي الألوان إلى بلاد فرنسا للتغذي بألبان المعارف واقتطاف ثمرات التأديب والتهذيب، ومنها ما تضمن عبارات صريحة هذا تعريفها: «إن حسن النظام مما يوجب عدم إقلال الصغار والاحتقار المرتبط بالجنس الأسود مهما كانت درجته ومنزلته، وقد صمم جلالة الملك على إبقاء الحكم الاعتباري الذي مقتضاه أن يحرم إلى أبد الآبدين ذوو الألوان وذريتهم من المزايا الخاصة بالجنس الأبيض.» (يناير سنة ١٧٦٧).
هذا كله كان جاريًا في أواخر القرن الثامن عشر قبل الثورة الفرنساوية، وما زالت مواد القانون الأسود تزداد شيئًا فشيئًا بما يصدر من مركز الحكومة أو جهات السلطة بالمستعمرات من الأوامر ومعظمها لم يقصد به ترقية حال الرقيق ولا تحسين درجته كما رأينا، وقد صار هذا القانون أساسًا لتقرير الأحكام وسن النظام في الأملاك الفرنساوية وفي الجهات المستعمرة لها، إلى أن حصلت الثورة في فبراير سنة ١٨٤٨ فعملت على إبطال الاسترقاق مرة واحدة، فكان لها بذلك فخر يذكر فيشكر.
أما حق مدافعة الإنسان عن شخصه، وهو من الحقوق المخولة بالطبع لكل فرد من أفراد بني آدم، فما كان للزنجي المستعبد أن يتمتع به، ذلك كما قضى القانون الأسود لولاية كارولينا الجنوبية، ولم يكن للعبد حق في الذهاب والمجيء، وما كان له أن يخرج من الزرع إلا بتصريح قانوني وافٍ لجميع الشروط المفروضة، على أن هذا التصريح كان له آفة تذهب بالغاية منه، وذلك أنه إذا اجتمع في الطريق العام أكثر من سبعة من الأرقاء يعتبرون مخالفين للأوامر، وأول أبيض يصادفهم في الطريق له أن يلقي القبض عليهم ويجلدهم عشرين جلدة. وكان العبد معتبرًا شيئًا لا إنسانًا، فكان الذين ينقلونه من مكان إلى آخر مسئولين عن فقده وضياعه، وعن العوارض التي تصيبه، كما كانوا يسألون عن خسارة أو تلف حمل من الأحمال أو طرد من الطرود.
هذا، وقد نص القانون على أن العبيد لا نفس لهم ولا روح، وقضى بأن لا فطانة ولا ذكاء لهم، ولا إرادة، وما كانت الحياة تدب إلا في أذرعتهم فقط.
فمن ذلك يتضح أن حرية الزنجي كانت معدومة لا وجود لها، ولكن في نظير ذلك كانت مسئوليته عظيمة جدًّا، فكان يعتبر شيئًا من الأشياء فيما يختص بحقوقه، وأما فيما يتعلق بالواجبات المفروضة عليه فإنه كان يعود له اعتبار الصبغة الآدمية والصفة البشرية، وكان القوم يعتبرونه حرًّا كلما كانت حريته تسوغ الحكم عليه بالسوط أو بالموت، وكان القانون ومشيئة المولى يفرضان عليه واجبات كثيرة، ويلزمانه بأمور متعددة، ويعاقبانه بالشدة والصرامة إذا ظهر منه العصيان، وكل ما يعتبر جناية من الأبيض فهو كذلك بالنسبة إلى الأسود من غير عكس، فيعاقب القانون الزنجي على جنح وجنايات يفعلها، ولا يسوغ معاقبة الأبيض عليها إذا وقعت منه، وما هذا إلا لمجرد اللون، ولذلك كانت العقوبات مختلفة اختلافًا بيِّنًا بحسب الحكم بها على الأسود أو على الأبيض، وكان القانون العادي يحكم بالإعدام على كل زنجي يَضرب ويَجرح مولاه أو مولاته أو أولادهما أو يبتر عمدًا عضوًا من أعضاء شخص أبيض، أو يعود لضرب أبيض مرة ثالثة، أو يسرق أو يرفع لواء العصيان، أو يرتكب ما أشبه ذلك من الجرائم، ويُحكم بالجلد على كل من كان سائرًا بلا تصريح أو يغضب مولاه بسبب ما أو غير ذلك.
أما الذين كانوا يسعون في إبطال الاسترقاق، وينادون بوجوب إلغائه، فأولئك كانوا موضوعًا للاحتقار والإهانة بنوع خاص في مواد القانون الأسود، وكان الإعدام جزاء لكل من أشار على أحد الأرقاء أو على جماعة منهم بالهيجان وخلع الطاعة، سواء كان ذلك بقول أو فعل أو كتابة أو بغير ذلك من الطرق الأخرى، وكان الإعدام أو الأشغال الشاقة مؤبدًا جزاء لكل من نشر رسالة أو كراسة أو مطبوعًا في أي موضوع من شأنه إحداث السخط وعدم الرضى بين الأحرار من السود، أو تحريض الأرقاء على عدم الامتثال، وكان الإعدام أو الأشغال الشاقة من خمس سنين إلى إحدى وعشرين سنة عقابًا لكل من قال مقالًا أو أشار إشارة أو عمل عملًا من شأنه أن يثير الغيظ في قلوب الزنوج الأحرار أو الأرقاء، وكذا كل من أدخل بعمله في أرض الحكومة جرائد أو كراسات أو كتبًا مؤلفة بالطعن في الاسترقاق.
هذه هي أخص الأحكام التي كانت مدونة في القانون الأسود قبل أن تهيج الحرب المدنية التي خربت الولايات المتحدة سنين متوالية مبدؤها سنة ١٨٦٢، وهي تأتينا بالنبأ الصادق والدليل الواضح على ما كان يجول في خواطر واضعي القوانين نحو الأرقاء والمستبعدين، ولكن الزنوج أصابوا من الحروب غنيمتهم، ألا وهي الحرية، ونعمت النعمة.