الفصل الرابع
الاسترقاق في الديانة النصرانية
هل تمكنت الديانة النصرانية من إلغاء الاسترقاق أو من تلطيف شدته وتخفيف وطأته؟ حقًّا
جاء
في الإنجيل أن الناس كلهم يعتبرون إخوانًا، وأنه يجب عليهم أن يحب بعضهم بعضًا، لكن لا
تجد
فيه نصًّا صريحًا ضد الاسترقاق، وهذا الأمر الذي لم يأتِ به عيسى عليه السلام لم يأتِ
به
الحواريون من بعده، فلا ترى طائفة من الطوائف المسيحية قالت بتحريم الاسترقاق، وكان الأمر
كذلك عند الكنائس المختلفة التي تولدت من هذه الطوائف، وهي الكنيسة الرومانية اليونانية
(الرومية) والكنيسة الكاثوليكية ثم البروتستانت.
وقد أوصى بولس
١ الأرقاء في رسالته التي بعث بها إلى الأفسيين
٢ أن يطيعوا مواليهم مع الخوف والرعب كما يطيعوا المسيح عليه السلام، وقد أمر
الأرقاء في رسالته الأولى إلى تيموثاوس
٣ أن يعتبروا ساداتهم أهلًا لكل تشريف وتبجيل، وأوصى مواليهم من النصارى بأن
يبالغوا في حسن القيام بخدمتهم، ثم قال بأن هذه هي تعاليم يسوع المقدسة، وأنها منطبقة
على
التقوى، ثم وصف بالكبرياء والجهالة كل من علم بغير ذلك، ولكنه من جهة أخرى يوصي الموالي
باتباع خطة الإنصاف في معاملة أرقائهم، وأوصى في رسالته إلى تيطس
٤ بأن يستجلبوا رضا مواليهم في كل أمر؛ تعظيمًا وتمجيدًا لتعاليم المخلص (سيدنا
عيسى عليه السلام)، وقد أوصى الحواري بطرس
٥ الأرقاء في رسالته الأولى بأن يكونوا خاضعين لمواليهم وأن يخشوهم.
ولما جاء آباء الكنيسة على إثر الحواريين اقتفوا أثرهم، وساروا على سننهم، فأباحوا
الاسترقاق وأقروه.
فقد استند القديس سيپريانوس
٦ والبابا القديس غريغوريوس الأكبر
٧ على ما قاله القديس بولس وصرح بضرورة الإقرار على الاستعباد، وقال القديس
باسيلوس
٨ بعد أن أورد ما جاء في الرسالة إلى أهل إفسس ما تعريبه: «وهذا يدل على أن العبد
يجب عليه طاعة مواليه بقلب سليم تمجيدًا لله العلي العظيم.» وقال القديس إيزيدوروس
٩ من پيلوزة (الطينة بالقرب من الفرما) مخاطبًا للرقيق: «إني لأنصحك بالبقاء في
الرق حتى ولو عرض عليك مولاك تحريرك، فإنك بذلك تحاسب حسابًا يسيرًا، لأنك تكون خدمت
مولاك
الذي في السماء، ومولاك الذي في الأرض.» وقال القديس توماس من مدينة إكوين:
١٠ «إن الطبيعة خصصت بعض الناس ليكونوا أرقاء.» وأيد ما ذهب إليه بالعلاقات
المختلفة التي تجعل بعض الأشياء خاضعة لبعضها حسًّا ومعنى، واستشهد على ذلك بالشريعة
الطبيعية والشريعة الإنسانية (الوضعية) والشريعة الإلهية، وبما ذهب إليه الفيلسوف
أرسطاطاليس.
وقد استنتج بوسويي
١١ من الفوز والانتصار حق قتل المكسور المقهور، ولذلك يقول: إن استعباد ذلك
المغلوب نعمة ورحمة.
ولم تتغير آراء الكنيسة فيما يتعلق بالاسترقاق من عهد بوسويي إلى يومنا هذا، ونحن
نستشهد
على ذلك بما أورده بعض علماء اللاهوت المتأخرين الموثوق بأقوالهم المعتد على آرائهم.
قال بايي
١٢ بصحة الاسترقاق معتمدًا على ما ورد في الإصحاح الحادي عشر من سفر الخروج،
والإصحاح الخامس عشر من سفر الأحبار،
١٣ وعلى تعريفات مختلفة جاءت في قوانين الكنائس، وقال: إن الإنسان لا يجوز له أن
يبيع نفسه، وأن الحرب يترتب عليها حق استعباد العدو واسترقاقه، وفي أيامنا هذه قد أقر
نيافة
بوفييه أسقف اُلُمان
١٤ على الاسترقاق في (فتاواه اللاهوتية) المتخذة أساسًا للتعليم في الأديرة، بل
إنه اعتبر فوق ذلك أن النخاسة تجارة محللة، وقد نحا هذا النحو أيضًا جناب الأب ليون في
كتابه (العدل والحق)، وقد أثبت جناب الأب فوردينيه رئيس دير الروح القدس أن الاسترقاق
من
جملة النظام المسيحي، وصرح بذلك في كتاب تعليم الديانة المسيحية المخصص للخورنيات
١٥ بالمستعمرات الفرنساوية، وقد نشر هذا الكتاب في سنة ١٨٣٥ بتصديق من المجلس
الديني في رومية، وقال الأب بوتان (في صحيفة ٨٩ من كتابه الذي اسمه فلسفة الشرائع، المطبوع
في سنة ١٨٦٠): «إن ما يتعلق بالحوادث متغير، وحينئذ فالاسترقاق الذي يباح في بعض الأحوال
قد
لا يباح في البعض الآخر، وهو في كلا الأمرين صحيح موافق للديانة.» وقد أثبت الموسيو پاتريس
لاروك في كتابه الذي عنوانه (الكلام على الاسترقاق عند الأمم النصرانية، المطبوع في باريس
سنة ١٨٦٤) أن الديانة العيسوية لم تحرم الاسترقاق نصًّا ولم تلغِهِ عملًا، وأيد قوله
بما
ورد عن القديسين من النصوص التي سردناها وبغيرها.
وقد قال پييرلاروس
١٦ (في المعجم العام الكبير للقرن التاسع عشر، المطبوع في باريس سنة ١٨٧٠، جزء ٧،
حرف
E، صحيفة ٨٥٧، عمود ٢، فقرة ٢): «لا يعجب الإنسان من
بقاء الاسترقاق واستمراره بين المسيحيين إلى اليوم، فإن نواب الديانة الرسميين يقرون
على
صحته ويسلمون بمشروعيته.»
وقد ذكر أيضًا أن بعض القسس المسيحيين قد اجتهدوا في تخفيف مصائب الاسترقاق، فساعدوا
على
العتق والتحرير، ولكن ذلك إنما هو محض اجتهاد ذاتي لا ينقض ما سبق لنا تقريره.
ثم قال: وخلاصة الكلام في هذا المقام أن الديانة المسيحية قد ارتضت الاسترقاق ارتضاءً
تامًّا إلى يومنا هذا، ويتعذر على الإنسان أن يثبت أنها سعت في إبطاله، بل قد لزم ظهور
أفكار أخرى وانتشار مبادئ جديدة حتى تم إلغاؤه، فهي الثورة الفرنساوية التي أعدمته بما
بنته
من مبادئ الحرية، وما نادت به من: «إن جميع الناس متساوون لدى القانون.»
هوامش