الاسترقاق عند أهل الإسلام
تمهيد
ظهرت الديانة المحمدية، وكان الاسترقاق ضاربًا أطنابه عند الجاهلية من الأعراب، كما كان منتشرًا عند غيرهم من الأقوام.
فإن قيل: هل أقرته الديانة على ما كان عليه؟ قلنا: ينبغي قبل الإجابة على هذا أن نلاحظ أولًا حال الزمان والمكان اللذين ظهر فيهما الإسلام.
وذلك أنَّا بينَّا في مبدأ هذه الرسالة أن طبيعة الإقليم كان لها دخل في اتساع نطاق الاسترقاق بالمشرق أكثر منه بالمغرب، وأتينا على ذكر السبب في ذلك.
ولما كان منشأ الديانة المحمدية ببلاد العرب، فلا يصعب الوقوف على ما كانت عليه درجة الاسترقاق عند أهل هاتيك البلاد وشغفهم به، ومن جهة أخرى فإن النبي ﷺ لقي في مبدأ رسالته، بل وفي كل أيامها، شدائد ومقاومات بالسلاح وغيره في سبيل نشر الدين الحنيفي، فإن من أصعب الأعمال — ولا جدال — ما قام به عليه الصلاة والسلام من إخراج الأعراب من ظلمات الجهالة التي كانوا هائمين فيها، ومقاومة الشرك بالله وعبادة الشمس والكواكب لأجل تعليمهم الاعتقاد بإله واحد، وترك ما كان عليه آباؤهم من الأباطيل والأضاليل، وهدايتهم إلى طريق الفضائل، وحثهم على رعايتها واتباع سنتها، فكم من مرة تصدى له ﷺ زعماء القبائل وهددوه وتوعدوه لاستنكافهم ترك ما تتوق إليه أنفسهم من الاستقلال، وكراهتهم لكل سلطان يكون عليهم لرسول قد بعثه الله عز وجل.
وبهذا يتضح ما كان عليه هياج الأفكار، وثورة الخواطر في تلك الأيام، وحينئذ نقول: لمَّا كان النهي عن أمر ألفتْهُ الطباع أعوامًا بل أجيالًا، واعتادته الأخلاق حتى امتزجت به مما يزيد في ذاك الهياج وتلك الثورات، فلا ينطبق بالضرورة على قواعد الحكمة والتدبير، ولا يوافق المصلحة والنظام، لم تأمر الديانة الإسلامية بإلغاء الاسترقاق مرة واحدة، ولكنها لم تقرَّهُ على ما كان عليه، لأن أصولها العمومية لم تكن لتنطبق على ما كان جاريًا في ذلك العهد، فعملت على إنضاب منبعه، وتقليل أثره من الوجود، وحصره في حدود ضيقة على وجه يخالف تمامًا ما كان عليه في تلك الأيام.
قال العلامة جوستاف لوبون في كتابه الذي سماه «تمدن العرب» ما تعريبه: «إن لفظة الرق إذا ذكرت أمام الأوربي الذي اعتاد تلاوة الروايات الأمريكية المؤلفة منذ نحو ثلاثين سنة من الزمان وَرَدَ على خاطره استعمال أولئك المساكين المثقلين بالسلاسل المكبلين بالأغلال، المسوقين بضرب السياط، الذين لا يكاد يكون غذاؤهم كافيًا لسد رمقهم، وليس لهم من المساكن إلا حبس مظلم، وإني لا أقصد أن أتعرض هنا للبحث عن صحة هذا الوصف وانطباقه حقيقة على ما كان واقعًا من الإنكليز في أمريكا منذ سنين قليلة، وعمَّا إذا كان من الأمور المحتملة أن مالك الأرقاء قد قام بفكره أن يسيء معاملتهم، ويذيقهم العذاب والهوان، بما يكون فيه تلف لبضاعة غالية مثل ما كان الزنجي في ذلك الزمان، أما الحق اليقين، فهو أن الرق عند الإسلاميين يخالف ما كان عليه عند النصارى تمام المخالفة.»
إن المسلم المولود من أبوين حرَّين لا يجوز استرقاقه في أي حال من الأحوال.
ولعمري، إن في هذه القاعدة مزية كبرى وفائدة عظمى، لأنها تخرج من هذا الظلم الفاحش المهين قسمًا عظيمًا من العائلة البشرية.
وهذه القاعدة هي — والحق يقال — مفتاح لحل المسألة المعضلة التي حق للعالم المتمدن أن يشتغل بها في هذا الزمان.
الفرع الأول: في منبع الاسترقاق
الحرب هي المنبع الوحيد للاسترقاق، ولكن لا على إطلاقه، بل ذلك مقيد بشرطين: أحدهما أن تكون الحرب قانونية منتظمة، والآخر أن يكون القتال مع القوم الكافرين.
قال الله عز وجل في كتابه المنزل على نبيه المرسل: قَاتِلُوا — أي: قتالًا قانونيًّا — الَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ بِاللهِ وَلَا بِالْيَوْمِ الْآخِرِ وَلَا يُحَرِّمُونَ مَا حَرّمَ اللهُ وَرسُولُه — يعني الخمر والميسر — وَلَا يَدِينُونَ دِينَ الْحَقِّ — لا يدينون بدين الإسلام — مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ حَتَّىٰ يُعْطُوا الْجِزْيَةَ — إن لم يسلموا — الآية (في هذه الآية تمييز بين الوثنيين والكتابيين).
ولذلك كان المسلمون قبل أن يفتحوا بلدًا من البلدان يبعثون إليها وفودًا للمداولة في شأن الصلح، ويقترحون أمورًا تكاد تكون واحدة في كل البلدان والأقطار، وذلك أنهم يقولون ما معناه: «قد أمرَنا رئيسنا بقتالكم إذا لم تقبلوا شريعته، فكونوا منا تكونوا إخوانًا لنا، واتبعوا ما فيه صالحنا، واقتدوا بشعائرنا حتى لا يمسكم سوء منا، فإن لم تفعلوا فادفعوا لنا جزية سنوية في مواقيت معينة ما دمتم على قيد الحياة، ونحن نقاتل كل من يريد أن يلحق بكم ضيرًا أو ضررًا، وكل من يعاديكم بأي وجه من الوجوه، ونحافظ على محالفتكم بالصدق والأمانة، فإن أبيتم هذا أيضًا، فليس بيننا وبينكم سوى الحرب، ولا نزال نُصْلي عليكم نار الوغى حتى نتمم ما أمرنا به الله عز جل.»
ولكن الحرب كانت هي الحكم الوحيد إذا أبى الكفار الرضوخ للشروط التي يقترحها المسلمون، فإذا دارت الدائرة على الكفار صاروا في هذه الحالة فقط أرقاء للغالبين، بعد أن يصرح الخليفة بذلك تصريحًا خصوصيًّا.
ولكن ذلك لا ينبني عليه حرمانهم إلى الأبد من الرجوع إلى ربوع الحرية، فإن الحالة التي وقعوا فيها يمكنهم التخلص منها، لأن أبواب الرحمة لا تزال مفتوحة لهؤلاء المساكين؛ إذ يجوز لهم أن يفتدوا أنفسهم بدفع مبلغ معين، كما أن للخليفة أن يطلق سراحهم لوجه الله تعالى، فقد ورد في القرآن الشريف، خطابًا للرسول عليه الصلاة والسلام: فَإِذَا لَقِيتُمُ الَّذِينَ كَفَرُوا فَضَرْبَ الرِّقَابِ حَتَّىٰ إِذَا أَثْخَنتُمُوهُمْ فَشُدُّوا الْوَثَاقَ فَإِمَّا مَنًّا بَعْدُ وَإِمَّا فِدَاءً حَتَّىٰ تَضَعَ الْحَرْبُ أَوْزَارهَا الآية (سورة محمد ٤٧ – آية ٤).
وفضلًا عن ذلك فقد كان المسلمون يرجعون في النادر إلى ما خوَّله لهم دينهم من الحق في استعباد أسارى الحرب، وكانوا يكتفون بضرب الجزية عليهم.
وفي أيامنا هذه نرى الحكومات الإسلامية تعامل أسارى الحرب بمقتضى أصول قانون الملل، ولا تجري عليهم أحكام الشريعة الدينية.
فظهر مما تقدم بيانه أن الاسترقاق عند المسلمين ليس له إلا مصدر ومنشأ واحد، وهذا المصدر يحصره في حدود ضيقة مع أن مصادره ومنابعه عند الأمم الأخرى كانت كثيرة متنوعة.
ففي رومة مثلًا كان الاسترقاق يصيب أسارى الحرب، وأولاد الأرقاء والأشخاص الذين قضت بعض أحكام القانون باستعبادهم، ومما ينبغي التنبيه عليه في هذا المقام أن النخاسين لم يصاحبوا قط الجيوش الإسلامية لسرقة أولاد المغلوبين واستعبادهم وتعريض نسائهم للعساكر لأجل قضاء الأوطار منهم، كما كان ذلك حاصلًا في رومة.
فإن الديانة المحمدية لم تسمح قط بارتكاب أمر فظيع مثل هذا؛ ولذلك يحكم العقل بداهة بأن لا صحة لقول من يزعم بأن نصوص الدين الإسلامي الشريف تؤيد وتبرر ما هو حاصل على قولهم في أواسط أفريقيا، من اصطياد الرقيق ومعاملتهم بالبشاعة والشناعة والفظاعة، فإن هذا الدين قد جاء بالعرف والنهي عن المنكر كما لا ينكر.
الفرع الثاني: في معاملة الرقيق
ولا يكاد الإنسان يجد عند المسلمين ذلك الحد الفاصل الذي يجعل بين السيد وبين عبده بونًا عظيمًا، وفرقًا جسيمًا، فليس الاسترقاق موجبًا لشيء من الهوان والصغار، كما أن الرقيق ليس من الذين سقطوا عن درجة الاعتبار، وحل بهم العار، فلفظتهم الجمعية الإنسانية واعتبرتهم خارجين عن دائرتها، بل تجب معاملته بالرفق واللين، فقد ورد في الكتاب المبين: وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَانًا وَبِذِي الْقُرْبَىٰ وَالْيَتَامَىٰ وَالْمَسَاكِينِ وَالْجَارِ ذِي الْقُرْبَىٰ وَالْجَارِ الْجُنُبِ وَالصَّاحِبِ بِالْجَنبِ وَابْنِ السَّبِيلِ١١ وَمَا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ ۗ إِنَّ اللهَ لَا يُحِبُّ مَن كَانَ مُخْتَالًا — أي متكبرًا على الناس من أقاربه وأصحابه وجيرانه وغيرهم ولا) يلتفت إليهم) — فخورًا — أي يتفاخر عليهم بما أتاه الله. (سورة النساء ٤ – آية ٣٦).
ومن نظر إلى الأحاديث النبوية الشريفة رآها مشوبة بالتعطف والحنان.
انظر إلى ما رواه الإمام علي كرم الله وجهه عن النبي ﷺ: «اتقوا الله فيما ملكت أيمانكم»، وعن طريق أم سلمة: «اتقوا الله في الصلاة وفيما ملكت أيمانكم»، ترَ أن مراقبة المالك لله سبحانه وتعالى وخشيته منه في معاملة عبده مجعولتان بمنزلة المراقبة والخشية المفروضتين عليه في القيام بواجب الصلاة، وهي عماد الدين ومن أهم أركان الإسلام.
فهل يصح في شرع العقلاء بعد وقوفهم على هذه الشعائر الغراء أن يتهموا الديانة الإسلامية السمحاء بالتوحش والهمجية؟!
ولكن هناك حالة يجوز فيها ضرب العبد، وهذا إذا قصَّر في أداء واجباته الدينية، فقد قال رسول الله ﷺ: «اضرب عبدك إذا عصى الله، واعفُ عنه إذا عصاك.» أو كما قال.
وقد نهى عليه الصلاة والسلام عن تحقير العبد والاستهانة به بتذكيره ما هو فيه من الاستعباد، فقد جاء عن أبي هريرة أنه قال: قال عليه الصلاة والسلام: «لا يقل أحدكم عبدي، أمتي، وليقل فتاي، وفتاتي وغلامي.» وقد استند أبو هريرة على هذا الحديث، فقال رضي الله عنه: «لا تقل عبدي لأننا كلنا عبيد الله.» ورأى رضي الله عنه رجلًا على دابته وغلامه يسعى خلفه، فقال له: «احمله خلفك يا عبد الله، فإنما هو أخوك، وروحه مثل روحك.»
وقد أوصى عليه الصلاة والسلام المولى بأنه إذا أتاه خادمه (حرًّا أو عبدًا، ذكرًا أو أنثى) فليجلسه معه ليأكل، أو فليناوله لقمة أو لقمتين. أو أكلة أو أكلتين، فهلا يرى المنصف في ذلك سعيًا في أحكام التقريب، واستكمال الاتصال بين السيد ومولاه؟!
فهلا ترى في ذلك دليلًا قاطعًا وبرهانًا ساطعًا على أن الشريعة الإسلامية لا تحث فقط على معاملة الرقيق بالحسنى، بل تأمر أيضًا بتهذيبه وتأديبه؟!
ونشهد الآن بالتاريخ، ونذكر بعض الحوادث الصادقة الصحيحة فنقول:
ولما تولى أبو عبيدة هذا القيادة العامة على الجيوش الإسلامية في بلاد الشام أرسل لافتتاح حلب مائة رجل من صفوة قريش (وهي قبيلة رسول الله ﷺ) وجعل رئيسهم زنجيًّا.
فما أوردناه من الآيات القرآنية والأحاديث النبوية والشواهد التاريخية يحق لنا الأمل بأن حضرة الكردينال لافيجري يدرك أن الأرقاء لهم في البلاد الإسلامية نفس الحقوق التي يتمتع بها الأحرار، وأنه لم يصْبُ صوب الصواب حينما جاهر «بأن المسلمين يعتقدون ويعلمون بأن الزنجي ليس من العائلة البشرية، وأن مقامه يكون بين الإنسان والحيوان، بل إن بعضهم يجعلونه أدنى من الحيوان»!
الفرع الثالث: في نكاح الأرقاء
لا يكاد الإنسان يتمالك، من الغيظ والحنق، إذا ذكر الحدود والعقوبات التي فرضتها أمم الشمال على الرجال والنساء، الذين يتزوجون بالأرقاء، فإنهم كانوا يقعون في ربقة الرق والاستعباد.
أما شريعة الويزيقوط فكانت من القساوة بحيث لم يسمع لها بمثيل؛ إذ قد نصت «على أن المرأة الحرة التي تتزوج برقيقها أو بمعتوقها تُحرق هي وهو وهما على قيد الحياة».
وانظر إلى ما جاء في التاريخ، فإن المأمون بن هارون الرشيد مع كونه ابن مملوكة قد نهض به إلى مركز الخلافة ما اتصف به من العقل والعرفان، فكان في ذلك مرجح له على أخيه الأمين.
وقد جعلت الشريعة الغراء للسيد تمام الحرية في تزويج مماليكه إلى من يشاء من الأرقاء والأحرار، ولم تجعل له حقًّا في التفريق بين الأرقاء بعد تزويجهم، ولكنه لا يجوز له أن يصرح لعبده وأمته أن يعيشا معًا بغير زواج، ويجوز له أن يفترش إماءه ما عدا الأختين والأم وبنتها، والخالة وبنتها، والعمة وبنتها، وغيرهن من ذوي الرحم المحرم.
والأولاد الذين يولدون من هذا الوطء يكونون أحرارًا وشرعيين، ويرثون في أبيهم مثل ما ترث أولاد المرأة المعقود عليها، وهذه مزية ما وجدت قط في أية شريعة أخرى.
وللسيد أن يتزوج بأمته بعد أن يعتقها، ويعطيها مهرًا، وفي هذه الحالة ترثه هي وأولادها، فإذا أبت المعتوقة نكاحه فليس له أن يعيدها تحت سلطته، أو أن يلزمها بنكاحه.
الفرع الرابع: في العتق
إن الديانة الإسلامية تساعد كل المساعدة على العتق، فإنها تدعو إليه، وتحث عليه، لأنها تعتبره عملًا مبرورًا مقرونًا بجزيل الأجر والثواب، وإليك الدليل: قال تعالى: وَالَّذِينَ يَبْتَغُونَ الْكِتَابَ مِمَّا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ فَكَاتِبُوهُمْ إِنْ عَلِمْتُمْ فِيهِمْ خَيْرًا وَآتُوهُم مِّن مَّالِ اللهِ الَّذِي آتَاكُمْ الآية.
وقد أوضح الله عز وجل أثناء كلامه على العقبة التي بين الجنة والنار طريقة اجتيازها فقال: فَكُّ رقَبَةٍ (سورة البلد ٩٠ – آية ١٣).
ثم أوصى المسلمين أيضًا بهذا العمل الإنساني لتكفير ذنوبهم وسيئاتهم فقال تعالى: وَمَا كَانَ لِمُؤْمِنٍ أَن يَقْتُلَ مُؤْمِنًا إِلَّا خَطَأً وَمَن قَتَلَ مُؤْمِنًا خَطَأً فَتَحْرِيرُ رقَبَةٍ مُّؤْمِنَةٍ وَدِيَةٌ مُّسَلَّمَةٌ إِلَىٰ أَهْلِهِ الآية (سورة النساء ٤ – آية ٩٢).
وقال تعالى في سورة المائدة ٤ – آية ٨٩ (وفي الأصل ٩١): لَا يُؤَاخِذُكُمُ اللهُ بِاللغْوِ فِي أَيْمَانِكُمْ وَلٰكِن يُؤَاخِذُكُم بِمَا عَقَّدتُّمُ الْأَيْمَانَ فَكَفَّارتُهُ … تَحْرِيرُ رقَبَةٍ.
ولننظر الآن إلى ما جاء في الأحاديث النبوية الشريفة: روى أبو هريرة عن النبي ﷺ أنه قال: «من أعتق رقبة مؤمنة أعتق الله بكل عضو منه عضوًا من النار.» قال الفقهاء: ويستحب أن يكون العبد سليمًا من العيوب.
إذا كان العبد مملوكًا لجملة شركاء فيجوز لأحدهم أن يعتقه عن حصته، فإذا كان المعتق غنيًّا وجب عليه أن يقوم العبد قيمة عدل، ويدفع إلى كل شريك حصته حتى ينال العبد حريته بتمامها، ولكن إذا لم يكن عنده من المال ما يكفي لتحريره بأكمله عتق العبد بقدر حصته، ثم عليه أن يسعى ويعمل للحصول على بقية حريته، فقد جاء في الحديث الشريف عن ابن عمر، أن النبي ﷺ قال: «مَن أعتق شركًا له في عبد وكان له مال يبلغ ثمن العبد قوَّم العبد عليه قيمة عدل، فأعطى شركاءه حصصهم وعتق عليه العبد، وإلا فقد عتق عليه ما عتق.» وعن أبي هريرة عن النبي ﷺ: «من أعتق شقيصًا (نصيبًا) في مملوك (مشترى بينه وبين غيره) فخلاصه (كله من الرق) عليه في ماله (بأن يؤدي قيمة باقيه من ماله) إن كان له مال، وإلا قوم عليه فاستُسعي (بضم التاء أي ألزم العبد) به (أي باكتساب ما قوم من قيمة نصيب الشريك ليفك بقية رقبته من الرق، أو يخدم سيده الذي لم يعتقه بقدر ما له فيه من الرق، والتفسير الأول هو الأصح عند القائل بالاستسعاء) غير مشقوق عليه (في الاكتساب إذا عجز، وقيل: لا يستغلى عليه في الثمن).» ولننبه في هذا المقام إلى أنه لا ينبغي الالتفات إلى ديانة الشركاء أو الرقيق، ولا إرادتهم، لأن الشرع صريح ومساعد على العتق، فلذلك يجب عليهم قبول العتق، لأن ظاهر الحديث أنه لا فرق بين أن يكون المعتق والشريك والعبد مسلمين أو كفارًا، أو بعضهم مسلمين وبعضهم كفارًا.
وعن أبي سعيد المقبري قال: «اشترتني امرأة من بني ليث بسوق ذي المجاز بسبعمائة درهم، ثم قدمت فكاتبتني على أربعين ألف درهم، فأذهبت إليها عامة المال، ثم حملت ما بقي من المال إليها، فقلت: هذا مالك فاقتضيه. فقالت: لا والله حتى آخذه منك شهرًا بشهر، وسنة بسنة. فخرجت به إلى عمر بن الخطاب فذكرت ذلك له، فقال عمر: ادفعه إلى بيت المال، ثم بعث إليها: هذا مالك في بيت المال، وقد عُتق أبو سعيد، فإن شئت فخذي شهرًا بشهر وسنة بسنة. قال: فأرسلتْ فأخذتْهُ.»
ومن الجائز أيضًا أن يعين الإنسان على فك الرقبة؛ فعن عائشة رضي الله عنها «أن بريرة جاءت تستعينها في كتابتها، ولم تكن قضت من كتابتها شيئًا، فقالت لها عائشة: ارجعي إلى أهلك فإن أحبوا أن أقضي عنك كتابتك، ويكون ولاؤك لي فعلتُ. فذكرت بريرة ذلك لأهلها فأبوا، وقالوا: إن شاءت أن تحتسب عليك فلتفعل ويكون لنا ولاؤك. فذكرت (عائشة) ذلك لرسول الله ﷺ، فقال لها ﷺ: ابتاعي فأعتقي، فإن الولاء لمن أعتق، ثم قام فقال: «ما بال أناس يشترطون شروطًا ليست في كتاب الله تعالى؟ من اشترط شرطًا ليس في كتاب الله فليس له، وإن شَرَطَه مائة مرة، شرط الله أحق وأوثق»».
وعِتقُ أم الولد يتم بمجرد افتراش السيد لها متى أقر بأولادها وألحق نسبهم به، وفي حياة المولى تكون حالة هذه الأَمَة شبيهة بحالة الموصى بعتقها، فلا يجوز بيعها ولا هبتها، ومتى توفي نالت فوق ذلك حريتها بلا مقابل، ولو ترك المتوفى ديونًا عظيمة.
وإليك شاهد على تطبيق هذه القاعدة والعمل بها، قالت سلامة بنت معقل: كنت للحباب بن عمرو، ولي منه غلام، فلما توفي قالت لي امرأته: الآن تباعين في دَينه. فأتيت رسول الله ﷺ، فذكرت ذلك له، فقال: من صاحب تركة الحباب بن عمرو؟ قالوا: أخوه أبو اليسر كعب بن عمرو. فدعاه فقال: لا تبيعوها وأعتقوها.
وهذه الأحكام المساعدة على العتق هي محترمة مقدسة، حتى إنه عليه الصلاة والسلام أثبتها وقررها بمناسبة فراشه مع أَمَته مريم والدة سيدنا إبراهيم عليه السلام.
وكذلك حكم العتق في الأَمَة غير المسلمة، فإنها تنال حريتها بمجرد افتراشها لمولاها.
وقد جاء في نصوص الشرع الشريف أحكام أخرى تنيل العبد حريته، ومثال ذلك إذا صار الرجل عبدًا لآخر تجمعه وإياه روابط القرابة والنسب، سواء كان من الأصول أو الفروع لأية درجة كانت، فإنه يعتق عليه حتمًا، وإذا هرب العبد الأجنبي من بلاده، وجاء إلى دار الإسلام وأسلم، نال حريته. ولا يخفى على من له إلمام بالتواريخ والسير أن كثيرًا من العبيد قد التجئوا في واقعتي الطائف والحديبية إلى معسكر النبي عليه الصلاة والسلام، فصرح ﷺ في الحال بأنهم عتقى أحرار، ولم يلتفت قط إلى مطالبة أسيادهم بهم.
قال الله تعالى في كتابه المجيد: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا جَاءَكُمُ الْمُؤْمِنَاتُ مُهَاجِراتٍ فَامْتَحِنُوهُنَّ اللهُ أَعْلَمُ بِإِيمَانِهِنَّ فَإِنْ عَلِمْتُمُوهُنَّ مُؤْمِنَاتٍ فَلَا تَرْجِعُوهُنَّ إِلَى الْكُفَّارِ (سورة الممتحنة٦٠ – آية١٠).
الفرع الخامس: خلاصة ما تقدم
من الآيات القرآنية الشريفة والأحاديث النبوية الكريمة وأقوال الأئمة وشواهد التاريخ التي سردناها في المطالب السابقة، يتضح أن الديانة الإسلامية قد حصرت من غير شك ولا مراء حدود الاسترقاق، وعملت على إنضاب منبعه؛ إذ حتَّمت شروطًا وفرضت قيودًا لا بد منها لوقوع الاسترقاق، وبينت الطرق، وأوضحت الوسائل التي يكون بها الخلاص من ربقته، فإذا اتفق لشخص مع كل هذه الوسائط، ووقع القضاء المحتوم عليه، فأوقعه في الاسترقاق، فقد رأينا أن الشريعة الإسلامية لا تتخلى عنه ولا تتركه وشأنه، بل تبسط عليه جناح حمايتها، ولواء رعايتها، فتعتبره جديرًا بالشفقة خليقًا بالمرحمة؛ لما تراه فيه من الضعف والمسكنة، ولذلك وردت فيها الوصايا التي تفرض على الموالي أن يعامِلوا أرقاءهم كما يعاملون أنفسهم، وأن يسعوا في إسعادهم ونعومة بالهم وتأديبهم وتهذيبهم وتعليمهم، وأن لا يزدروا بهم ولا يضعوا من قدرهم، وأن يزوجوهم أو يتزوجوهن تعجيلًا لتخليصهم من ربقة الرق، وإيرادهم موارد الحرية.
هذا، وإن العتق الذي جئت فقط على ذكر قواعده العمومية وأصوله المهمة على وجه الإجمال لهو — والحقُّ يقال — من أفخر ما يفتخر به الإسلام، فإن شريعتنا المحمدية قد سعت في تقويض دعائم الاسترقاق وتدمير معالمه، ولكن كيف العمل؟ هل كان من الموافق المبادرة بتحريم أمر امتزجت به عوائد العالم كله منذ ما وجد الاجتماع الإنساني، وتوالت عليه الأيام والأعوام والشهور والدهور؟ ألا إن ذلك كان يجر وراءه بلا شك انقلابًا عظيمًا في نظام الاجتماع، وفتنة كبيرة في نفوس الأمم والأقوام، فلهذا جاءت شريعة الإسلام بهذه الغاية من طريق آخر تزول أمامه الصعوبات وتتذلل العقبات، بدلًا من تهييج العقول، وإثارة الخواطر والأفكار بإلغاء الاسترقاق مرة واحدة، فخوطب المسلمون بأن يتقربوا إلى الله بعتق العبيد المساكين في ظروف كثيرة وأحوال متنوعة.
الفرع السادس: في التطبيق والخاتمة
قد أتينا فيما سبق على ذكر القواعد النظرية التي عليها الاسترقاق، ولنبحث الآن بحثًا مدققًا عن الوجه الشرعي الذي يُعامل به الزنوج الذين كانوا يردون علينا ويُجلبون إلينا من أواسط أفريقيا قبل عقد المعاهدة بين الإنكليز ومصر في ٤ أغسطس سنة ١٨٧٧.
هل هؤلاء المساكين أرقاء حقًّا؟ هذا موضع تجوز الريبة فيه وتدخل الشكوك عليه، لأننا إذا طبقنا نصوص الشريعة تطبيقًا مدققًا وبالحرف الواحد كنا على اتفاق تام مع قواعدنا الدينية الحاثة على التقدم، الساعية في الارتقاء، وقلنا إنه يلزم لاسترقاقهم شرطان:
- الأول: أن لا يكونوا يدينون بدين الإسلام في وقت أسرهم.
- الثاني: أن يكون أخذهم بطريق الحرب.
وقد كان يتفق وجود مسلمين بين هؤلاء الزنوج، وكان لا بد من اعتبارهم أحرارًا، حيث تقرر أنه «لا يجوز استرقاق المسلم المولود من أبوين حرَّين»، وأما الآخرون الذين لا يدينون بالإسلام فيشترط في استرقاقهم الأسر في حرب شرعية بعد الإنذار والإشهار، ويشترط أن تكون الحرب في صالح الإسلام، وبما أن أمثال هؤلاء الزنوج كانوا يؤخذون سبيًا واختطافًا، أو بطرق أخرى غير شرعية يُقصد منها المنفعة الشخصية الخصوصية، فلذلك لا يصح القول بأنهم حقيقةً أرقاء.
وفي هذا المقام قد يرد علينا اعتراض مهم، وهو: (بما أن هؤلاء الزنوج لم يكونوا حقيقة أرقاء، فلماذا كنتم تفترشون الإماء وتجعلون منهن أمهات الولد؟) والسبب في ذلك سهل بسيط، وهو أن السواد الأعظم منا كان يفعل ذلك عن جهل ليس إلا، من غير زيادة ولا نقص، على أن البعض كفريق من العلماء كانوا يحتاطون قبل افتراش الإماء، فيستعلمون أولًا عما إذا كانت الشرائط المطلوبة قد استوفيت كلها، وإلا لم يفترشوهن.
فهل بقيت بعد ذلك حاجة تضطرني إلى اختتام القول بأن الاسترقاق بالوجه الشرعي لا يمكن تحققه، ولا يتأتى حصوله في هذه الأيام، وأنه على ذلك يتسنى للحكومة المصرية بلا منازعة أن تنادي بحرية جميع الموالي الذين بوادي النيل، حتى تكون قد أيدت وأوثقت عهد إلغاء الاسترقاق، وإنه ليحق لي بعد هذا — بل يجب عليَّ — أن أجاهر على رءوس الأشهاد بأن حضرة الكردينال لافيجري، هو وكل من يرى رأيه ويذهب مذهبه، واقعون بلا مشاحة في أشد الخطأ، بعيدون عن الصواب بزعمهم أن ديننا القويم يساعد على اصطياد الرقيق، وأن الإسلاميين يعتقدون ويقولون بأن الزنوج ليسوا من الإنسان، بل إن مقامهم أدنى من مقام الحيوان.
هوامش
- (١)
الكواكب الدرية في تراجم السادة الصوفية.
- (٢)
طبقات الشافعية.
- (٣)
درة الأسلاك في دولة الأتراك.
- (٤)
مرآة الجنان.
- (٥)
تحفة الأنام في فضائل دمشق الشام.
- (٦)
العقد المذهب في طبقات جملة المذهب.
- (٧)
حسن المحاضرة في أخبار مصر والقاهرة.