الثقافة وبذور اللاعنف في الشرق الأوسط
العالم العربي الفعلي، لا العالم العربي المُتوهَّم؛ الحياة الحقيقية للشعوب الفعلية، لا الحياة المُتوهَّمة للقوالب النمطية.
مقدمة
يحفل الشرق الأوسط، والعالم العربي تحديدًا، بالتنوُّع؛ إذ تعدَّدت التقاليد التي تلاقت في هذه المنطقة على مدار الألف عام الماضية، بحيث أصبح من الصعب تمييزُ سماتها الأصيلة فيما يتعلَّق بتنظيم اللاعنف، إن وُجِدَ يومًا ما شابَهَ ذلك من تنظيم. وبالرغم من ذلك، خطر لي في محاضرتي التي ألقيتُها عام ١٩٨٥م في الجامعة الأمريكية في القاهرة، أنه سيكون من المفيد لفْتُ الانتباه إلى الأبعاد الثقافية والاجتماعية التي قد تكون منتشرةً على الأقل في المنطقة، وربما يمكن حينها التوصُّل إلى بعض الأفكار، للتعامُل مع سلوك الأفراد في حالات السيطرة الاجتماعية والثقافية، التي تتلاءم مع قِيَم المنطقة أفضل من نماذج الانسجام الإجباري أو الإدارة البشرية التي تتبعها الدولُ القومية الغربية المعاصرة، وتُستَورَد لتُطبَّق في العالم العربي.
وَلْنتأمَّلْ أولًا التعامُلَ القانوني في الشرق الأوسط. إن الإسلام — كما يقولون — أسلوبُ حياةٍ، وأشدُ سمات الإسلام إدهاشًا هي المكانةُ المرموقة للقانون؛ فالقانون كما يعبِّر عنه الدينُ هو القوة التنظيمية الرئيسية في المجتمع. ويميل الناس في الشرق الأوسط إلى استخدام التعابير الدينية في مناقشة أمور الحياة، أو على الأقل هذا هو ما يصدم المتابِع من الغرب. والعرب على وجه التحديد غالبًا ما يواجِهون مشكلاتهم الاجتماعية باستخدام اللغة القانونية، سواء أكانوا في منتدًى قانوني أم لا. والشعوب الشرق أوسطية، مقارنةً بالأمريكيين مثلًا، يَظهرون بمظهر الشعب الواعي بالقانون والمُطبِّق له (ماير، ١٩٨٥)؛ ولهذا فإن القائمين على سَنِّ وتطبيق القانون (سواء أكان العرفي أم الشرعي أم المحلي) في الشرق الأوسط، يتعاملون مع جمهورٍ لديه وعي قانوني. لُوحِظ كذلك أن القانون يفرض النظام في الصراع من أجل الحصول على الموارد المحدودة (الثروة أو المكانة أو الشرف والكرامة)، وبالرغم من وجود المحامين في الشرق الأوسط، فقد صارت العادة في المحاكم أن يتحدَّث المتخاصمون بالأصالة عن أنفسهم، والغيابُ النسبي للمحامين والدفاعِ يحوِّل التركيزَ في قاعة المحكمة إلى القاضي. ونظام العدالة المعتمِد على القاضي يجذب الشخصَ العادي داخل العملية القانونية بطريقةٍ لا يستطيع أن يحقِّقها نظامُ العدالة المعتمِد على المحامي.
ويُعبِّر مارتن شابيرو في دراسة مقارَنة أجراها على المحاكم (١٩٨٦: ١٩٥) عن عدة ملاحظات إضافية مفيدة، فيقول: «لا تكتفي الشريعة الإسلامية بتناوُل الأمور الصحيحة والخاطئة من وجهة النظر القانونية، ولكن تتناول كذلك الأمور الجيدة، والأفضل منها، والأفضل على الإطلاق من الناحية الأخلاقية.» ويشير إلى أن أحد المبادئ الأصيلة في الفكر التشريعي الإسلامي أن الحق في القانون والدين يتحدَّد بناءً على إجماع المؤمنين، وليس استنادًا إلى أوامر أيِّ شخص حيٍّ. كما يرحِّب الإسلام بمجموعة كبيرة من الآراء المتنوِّعة داخلَ إطار هذا الإجماع الشامل: «لا يقتصر الأمرُ على وجود مدارس مختلفة للشريعة، ولكن يجوز كذلك وجود آراء مختلفة داخل المدرسة الواحدة كما رأينا، بل إن المفهوم الإسلامي للإجماع هو في العموم نوعٌ من الاتفاق العفوي المتجدِّد، وليس فرضًا للتماثل.» (١٩٨٦: ٢٠٣).
ويتكوَّن القانون في البلدان الشرق أوسطية من مجموعة وافرة من المبادئ المتناثرة في ميادين لا حصرَ لها، فيتم جمْعُها والاختيارُ من بينها، وأحيانًا تجاهلُها، في إطار عملية اتخاذ القرار القضائي. وقد امتزجت الشريعة الإسلامية والقانون العرفي والقانون الموروث من القانون الاستعماري، وأصبحوا أجزاءً من الأنظمة القانونية المحلية. ويرى البعض أن الفترة الاستعمارية وسَّعَت الخياراتِ التي تلجأ إليها الحكوماتُ الحالية، بينما يرى آخَرون أن ما استعارَتْه الدولُ الجديدة من القوانين الإدارية والتجارية والجنائية الغربية، زاد من الخيارات عن الفترات السابقة للاستعمار. ولكن ربما يكون قانونُ الدول القومية قد أدخَلَ نوعًا من الجمود على النظام، بما يجبر الحكوماتِ على زيادة اللجوء إلى القانون العرفي أو الشريعة الإسلامية. وفي الدول القومية تُعَدُّ المحاكمُ الإسلامية والقانون العرفي معًا أداةً اجتماعيةً ومدنيةً للسيطرة، ولا يوجد مكان يُدلِّل على صحة ذلك أكثر من الدول غير المركزية مثل أفغانستان.
ماذا عن السيطرة خارج المؤسسات الشبيهة بالمحاكم؟ أكَّدَتْ أغلب الدراسات الأكاديمية التي تناوَلَتِ الشرق الأوسط (سواء الاستشراقية أم غير ذلك) تأكيدًا شديدًا على أن المجموعات الأساسية التي ينتمي إليها الأفرادُ قويةٌ، وأن هذا التركيز على المجموعة الأساسية (سواء أكانت هذه المجموعة هي الأسرة النواة أم السلالة أم العشيرة) يكون على حساب تطوُّر المجموعة الثانوية التي لا تستند إلى العلاقات الأسرية. وقد استُخدمت أولوية المجموعات الأسرية لتفسير غياب نظام التدرُّج الهرمي، في المحاكم مثلًا، أو في الحكومات بصفة عامة. إن الأهمية الكبيرة المرتبطة بالأسرة في المنطقة حقيقيةٌ، ولكن الجانب الآخَر من هذا التعميم الذي يركِّز على غياب الجماعات الثانوية/المدنية، لا يعترف فيما يبدو بأن الإسلام قوة مُنظِّمَة وتنظيمية تتميَّز بعدد كبير من الضوابط «التلقائية».
وقد أُتِيحت لي الفرصةُ لمشاهدة بعض هذه الضوابط التلقائية أثناء إجراء دراسة ميدانية في المغرب في صيف ١٩٨٠م. كان المغربيون وقتَها يحتفلون بحلول شهر رمضان، وكانت شواطئ الرباط مزدحمةً بالمصطافين كعادتهم في اليوم الأخير قبل رمضان، ولكن مع بداية اليوم الأول من الشهر خلا الشاطئ من مرتاديه تمامًا، على الرغم من عدم وجود شرطي أو مسئول لمراقبة الزيارات إلى الشاطئ، أو مراقبة حركة زوَّار المطاعم لتناوُل الطعام أثناء النهار. كانت القيود داخليةً واعتمدت على الانضباط الفردي، فكان المدخِّنون ومحبُّو الطعام يراعون الصومَ في تنظيمهم للتدخين أو تناوُلهم للطعام. أما قاعات المحاكم خلال شهر رمضان، فقد لاحظتُ أنه لم يُعرَض عليها سوى فئة قليلة من السكِّيرين بغرض التعيير. كانت حالةُ الانضباط بشكلٍ عامٍّ لافتةً للنظر على كافة مستويات المجتمع، وخصوصًا في الحيِّز العام، وقد تحقَّقَ ذلك من خلال السيطرة الثقافية، لا السيطرة الاجتماعية التي تفرضها الشرطةُ بمراقبة سلوك المواطنين، وهي المهمة التي قد تتطلَّب في مثل هذه الحالة مواردَ أكثر ممَّا تستطيع المغرب أو أي دولة أخرى حشْدَها. أما في الغرب، فقد استدعى نقْصُ آلياتِ الانضباط الذاتي زيادةَ عناصر الشرطة وتطوُّر تقنياتها، بينما تُعَدُّ هذه الآليات أرخص من العمليات الشُّرطيَّة في الدول الأفقر، ودونها سيكون من العسير تنظيمُ مناسباتٍ دينيةٍ كرمضان أو الحج إلى مكة كلَّ سنة. لذا فإن الانضباط والتنظيم الذاتيَّيْن هما السمتان المهمَّتان في الصوم أو الحج، على الأقل تقليديًّا، والآلية الجوهرية في حالتنا هذه هي الآلية الإقليمية المشتركة، وليس الثقافة الخارجية المُستعارة.
التغريب المتنافر والحَجُّ
أيُّ جانب من جوانب الثقافة المختلفة يُنظَّم ذاتيًّا؟ وما الآليات التي تدعمه؟ قد يكون الخوف هو آلية التنظيم في بعض المجتمعات، أو الشعور بالذنب في مجتمعات أخرى، أما في الشرق الأوسط فالأرجح أن هذه الآليات مرتبطة بمفهومَيِ العار والشرف. وهذا التركيز على الشرف والعار هو ما دفع بورديو (١٩٥٨: ٩٥-٩٦) للانتباه إلى أنه من غير المسموح إظهارُ النزاعات والإخفاقات والعيوب أمام الغرباء عن المجموعة. وبالرغم من أن العلماء غالبًا ما يصفون مثل هذه المفاهيم مقترنةً بمكانة المرأة في ميثاق شرف الجماعة، فإن الشرف والعار لهما صدًى أوسع بكثير. فعلى سبيل المثال: يشمل الميثاق المجتمعي لحسن الأدب صِيَغًا لغوية، وقواعدَ لحسن الأدب، ومقولاتٍ خاصةً لكل مناسبة تعكس مفهومَيِ الكرامة والحِشمَة؛ لذا فإن المجموعات تمتلك نفوذًا على سلوك أفرادها، وتؤثِّر في «أبسط الأفعال في الحياة اليومية» (بورديو، ١٩٥٨: ٩٥).
علينا كذلك دراسة الدلالات الجمعية لمفهومَيِ الشرف والعار؛ لأنهما يتجاوزان حدودَ الجماعة الخاصة؛ حيث يربط الناس أنفسهم بالجماعات التي تتزيَّن بالشرف، ويتخلَّون عن المجموعات الأقل أهميةً والأهون شرفًا من عشائرهم. وترتقي مكانة الأسرة بما يُنسَب إليها من صالحات وبمدى كياستها في التصرُّف، بينما تسوء سمعة المجموعات من خلال الأخطاء والزلَّات الموسومة بالعار. وترتبط بالشرف مجموعةٌ من الحقوق مثل حق اللجوء؛ أي إنه يتعيَّن منْحُ الأمانِ للعدوِّ الذي يستسلم لخصومه في الحروب والغزوات، بل إن القاتل يستطيع الذهاب لبيت ضحيته طالبًا الأمان. وتحمُّلُ العدوِّ الذي يصير ضيفًا — كما سوف نشير في سياقات أخرى — يتطلَّب التحلِّيَ بأقصى درجات ضبط النفس، إلا أن الجزاء هنا هو التبجيل والتمتُّع بالرِّفْعة المترتبة على التصرُّف بشرف، بينما يجلب العجزُ عن الالتزام بهذه القواعد الخزيَ والعارَ لأصحابه. وتتحقَّق أسمى مراتب الشرف حينما يُوفَّى بالمبدأ على حساب مَن يوفيه، «وأفضل مثال على ذلك» — كما يشير أحد الباحثين — «هو الالتزام بمنح الأمان للعدوِّ إذا طلبه. وفي هذه الحالات يُثبِت الرجل عمليًّا أن الشرف بالنسبة إليه أهمُّ من الحياة نفسها» (زيد، ١٩٦٦: ٢٥٨). ويلعب الشرف دورًا مهمًّا في السيطرة الاجتماعية في المجتمعات ذات الطبيعة المقسَّمة التي امتثلت مؤخرًا للسلطة الحكومية، كما في حالة البدو المصريين. ونظرًا لأن مفهومَيِ الشرف والعار أكثر انتشارًا في المجتمع العربي، يمكننا أن نحزر أهميةَ دورهما في تنظيم السلوك المجتمعي، سواء للأفضل أم للأسوأ. ففي المجتمعات الديمقراطية مثلًا يحمل العار (جهرًا على المستوى العام) فائدةً أعظم للصالح العام من الشعور بالذنب (سرًّا على المستوى الشخصي).
علاوةً على ذلك، يوجد في هذا الجانب من العالم العديدُ من وسائل السيطرة غير الحكومية التي تتَّسِم ضوابطُها بطابعها اللامركزي الداخلي؛ ففي حالات الخلاف مثلًا غالبًا ما يتولَّى نزْعَ فتيلِ التصعيد وسطاءُ مُوَقَّرون يتمتعون بالسيطرة من خلال ما يحظون به من الاحترام؛ فيتوصَّلون إلى الحلول لجماعاتهم من خلال الواسطة (التي لا يجوز الخلط بينها وبين الرشوة) التي تعتمد على ردِّ الحق لأصحابه وتعويضِ الأطراف لمنع حدوث أيِّ تصعيد (انظر نادر، ١٩٦٥). كذلك فإن النموذج النظري الذي تطرحه فكرةُ المجلس يتمثَّل في الأساس في عقد اجتماعٍ مفتوحٍ بين الحاكم والمحكومين، بغرض تناوُلِ المشكلات وحلِّها. ولكني لا أقصد أن أعكس انطباعًا بأن القوة لا تُستخدَم لتحقيق الأهداف في هذه المنطقة، بل لقد أظهرَتِ الأنظمةُ الديكتاتورية الشرق أوسطية نصيبَها من ممارسة العنف الموجَّه ضد مواطنيها. فالدولة القومية الحديثة غالبًا ما تكون مُجهَّزة بجهاز شرطة وكيان عسكري طليقَيِ اليد؛ ولكن، وعلى الرغم من ذلك، تظل أساليب السيطرة غير العنيفة بذورًا ثقافيةً قوية في المنطقة قابلةً لمزيدٍ من التطوير.
ولكن الأساليب غير العنيفة المُتَّبعة في الغرب لا تنتقل مع أفكار السيطرة والحكم المأخوذة منه؛ ولهذا تعتمد الأممُ الجديدة على القوة اعتمادًا كبيرًا لإحكام سيطرتها. ويعود هذا من ناحيةٍ إلى المبادئ المتنافرة المأخوذة من الخارج مثل مبدأ الدولة القومية المركزية، ومن ناحيةٍ أخرى يعود إلى أن الحداثة تُزاحِم أساليب السيطرة المحلية، خاصةً مع دعم القوى الغربية للأنظمة الديكتاتورية، وأيضًا بسبب الإرث الذي خلَّفته الأنظمةُ الاستعمارية.
وتتجلَّى هذه التناقضاتُ في أساليب إحكام السيطرة فيما يتعلَّق بموسم الحجِّ على سبيل المثال؛ حيث يشير تاريخُ هذه المنطقة إلى قلَّة تدخُّلِ الحكومات على مرِّ التاريخ في الحياة الشخصية للمواطنين، الذين اتبعت علاقاتُهم المشتركة أنواعًا أخرى من الأنظمة كالنظام العرفي أو الديني، والتي أشرتُ إلى بعضها بالفعل. ولكن الدول القومية الجديدة — كما سبقت الإشارة — تكون مصحوبةً مع الأسف بآليةٍ لفرض القوة، تعمل على تقويض أساليب السيطرة التقليدية. علاوة على ذلك، فإن أيَّ حكومةٍ في الشرق الأوسط، مثلها مثل كل الحكومات حول العالم، تكون مجهَّزة لمواجَهةِ نوعين من الأزمات: الداخلية والخارجية، ولكن الأزمات المُصنَّفَة باعتبارها أزماتٍ «داخليةً» في العالم العربي تشمل تقليديًّا وإلى حدٍّ ما الأزماتِ التي تنشأ في الدول الإسلامية الأخرى، سواء أكانت عربية أم غير عربية (كما هو الحال بين إيران والسعودية، أو العراق والسعودية — الشيعة/السنة)، بينما تُصنَّف الدولُ التي يكون قوامها من غير المؤمنين ضمن الفئة الخارجية بطبيعة الحال. وهكذا بينما قد يُوصَف أحد الخلافات بأنه خلافٌ داخليٌّ في العالم الإسلامي، يُطالَب المواطنون — نظرًا لانتمائهم لدولٍ قومية — بحملِ جوازات سفر للانتقال من دولةٍ لأخرى، وهو ما يؤدِّي إلى إبراز الاختلافات بين الأمم في موسم الحج؛ وهذا النوع من التناقُض يمثِّل جانبًا ممَّا يتحدَّث عنه العلماءُ عند إشارتهم إلى التغريب المتنافر.
ولكن عادةً ما تخلو تحليلاتُ أساتذة العلوم السياسية من الإشارة إلى هذه المشكلة — مشكلة التغريب المتنافر — عند تناولهم دورَ الأطراف الخارجية في الصراعات الأهلية؛ نظرًا لأن وجود الأمم القومية أمرٌ بديهيٌّ ومُسلَّمٌ به بالنسبة إليهم، في حين أن النزاعات التي تسبَّبت فيها أطرافٌ خارجية منذ نهاية عهد الاستعمار، ترتبط من وجهة نظر علماء الأنثروبولوجيا ارتباطًا وثيقًا بحالات الصراع الداخلي، إلى جانب أن الحلفاء الخارجيين متورِّطون بالفعل بدرجةٍ ما في الشئون الداخلية في عددٍ كبير من النزاعات بين الدول منذ نهاية الحرب العالمية الثانية. وحرب إيران/العراق من أبرز الأمثلة على ذلك.
وعلى الرغم من أننا لا نتناول هذا المنظورَ الشامل إلا على هامش نقاشاتنا، فإنه يظل جوهريًّا بالنسبة إلى أي نقاش يدور حول الأساليب المتاحة للسيطرة على الأفراد؛ إذ إن سُبُل السيطرة غير المباشِرة عن طريق مفهومَيِ الشرف والعار، والتنظيم عبر الوسطاء كالاستعانة بالواسطة، وعقد مزيدٍ من المنتديات العامة مثل المجلس والمحاكم الإسلامية؛ تُعَدُّ جميعها أساليبَ جوهريةً لضمان اللاعنف في موسم الحجِّ حين يحتشد حرفيًّا الآلافُ من البشر من جميع أنحاء العالم في مكة والمدينة. وإذا ما استُعينَ بجهاز الشرطة الذي يمثِّل جزءًا من الدولة القومية الأوروبية الطراز على حساب هذه الأساليب، فقد تشمل التبعات تصعيدَ المشكلة، أو تدويلَ مشكلاتٍ هي في الأصل مشكلاتٌ محلية، أو مواجهات عنيفة بصرف النظر عن البادئ بالاعتداء أو ما أثاره الاعتداء. وقد يتفق القليل من الشعوب الشرق أوسطية على أن القوة الغاشمة هي الحل لجميع المشكلات باستثناء حالات محدَّدة، ولكن الأغلبية يميلون للِّجوء إلى السُّبل التي تتفادى المواجهات، أو الحلول الإسلامية التي تقضي باستخدام الشريعة، أو وسائل السيطرة المماثِلة لإلحاق العار، والتي طالما كانت جزءًا من ثقافة الشرق الأوسط على مدار قرون طويلة، وتشمل في حالة الحجِّ دورَ الحشد نفسه في ضبط سلوك الأفراد الذين ينتهكون المعاييرَ الثقافية.
ما بين القوالب النمطية والواقع
كرَّستُ جُلَّ أبحاثي في الفترة التالية لعام ١٩٦٠م لدراسة عمليات التنازع وعمليات فضِّ النزاع، وأجرى طلابي أبحاثَهم حول عمليات التنازُع أو إحلال السلام من إيريان الغربية في غينيا الجديدة حتى بافاريا، ومن غانا وصولًا إلى لبنان، ومن تركيا إلى الإكوادور؛ ونُشِرَت النتائج الإثنوجرافية لهذه الأبحاث في كتاب «عملية التنازع: القانون في عشرة مجتمعات» (نادر وتود، ١٩٧٨). كانت بعض المجتمعات في وقت الدراسة، كما يوضِّح الكتاب، أكثرَ عنفًا أو إثارةً للنزاع من غيرها (انظر مثلًا أبحاث كوخ حول إيريان الغربية في غينيا الجديدة، وأبحاث نادر حول قبائل زابوتيك الواهاكا المكسيكية)، كما كان ممكنًا الربطُ بين انتشار المَيْل للنزاع أو العنف أو غيابهما، والمسارات التاريخية للأحداث أو السمات المختلفة للبِنيات الاجتماعية. وقد انتهت أبحاثنا من دون شك إلى أنه لا يمكن الادِّعاء دومًا أن البِنيات الاجتماعية هي السبب وراء اندلاع العنف؛ إذ أحيانًا ما تكون الشرارةُ الأولى للعنف وديمومته، قد اندلعَتْ خارج ثقافات معيَّنة، كما هو الحال في العلاقة بين أهالي جزيرة ساردينيا وحُكَّامهم الإيطاليين (روفيني، ١٩٧٨)، أو بين السكان الأصليين للمكسيك والغزاة الإسبانيين (نادر، ١٩٩٠).
وتُعَدُّ دراسةُ التنازع مفيدةً من حيث إنها تتيح التفكير في توزيع العنف بين الثقافات عمومًا، والثقافة الشرق أوسطية على وجه الخصوص. وبالرغم من أن هذا المسلك في التعامُل مع المسألة قد لا يقدِّم حلولًا سهلة للمشكلات القائمة في الشرق الأوسط، إلا أنه ربما يبيِّن زوايا جديدة للنظر إلى العنف والتعامل معه. وكذلك يشير تحديدًا إلى سياسة تستطيع الشعوبُ العربية من خلالها التحكُّمَ في مصائرها بنفسها، من حيث الوقت المناسب للجوء إلى العنف باعتباره وسيلةً لفرض السيطرة، وكيفية ومدة استخدامه، مع الاعتراف الكامل بأن العنف يكون ناجمًا عن تحريضٍ من ثقافات ومجتمعات ومصالح خاصة خارج نطاق الشرق الأوسط؛ إذ اتضح للجميع الآن أن نوعية العنف التي تجتاح الشرقَ الأوسط غير معتادة في المنطقة؛ فهو عنف يتميَّز باستعانته بالتقنيات الحديثة، ولا يُفرِّق بين الرجال والنساء والأطفال، أو بين المدنيين والجنود، وسوف يُخلِّف آثارَ حربِه على البيئة لفترات طويلة قد تصل إلى مئات السنين في بعض الأحيان، إلى جانب ما يتركه في النفوس من ذكريات شخصية.
إلا أن المنظور الأشمل لفهم العنف يفرض تساؤلًا حول هوية الجهات الأعنف، وتحديدًا حول موقع الشرق الأوسط داخل الإطار الأشمل لممارسة العنف. في الولايات المتحدة تُقولَب شعوب أمريكا اللاتينية والشعوب الشرق أوسطية، العربية منها على وجه الخصوص، باعتبارهم أفرادًا منتمين إلى ثقافاتٍ تتسم بالعنف؛ حيث تحتلُّ الاثنتان مراتبَ مرتفعة على قائمة الشعوب العنيفة، بالرغم من أن الدول الأوروبية والأمريكية كانت هي أول مَن أنتَجَ الماكينات الحربية العالية التقنية (إلا إذا كنتَ تعتبر البنادق والمدافع معدات «منخفضة التقنية»). ولكن توجد حاليًّا أعدادٌ متزايدة من الأعمال الأدبية تتناول كيف أن العرب تحديدًا مُدرَجون ضمن قوالب نمطية تُوصَم بالعنف في الكتب المدرسية والأفلام والتليفزيون والصحف وغيرها من وسائل الإعلام الأمريكية، ومجرد الاطِّلاع على هذه الأعمال يبيِّن الطريقةَ التي تعيق بها تلك القوالب النمطية إظهار الحقائق الموضوعية (شاهين، ٢٠٠١؛ ٢٠٠٨).
ومن ضمن عملية القَوْلبة التي يتعرَّض لها العرب في السينما الأمريكية، أن يُسنَد أداء الشخصيات الإسرائيلية إلى ممثِّلين أمريكيين معروفين، بينما يظهر العرب في أدوار الإرهابيين القساة الذين لا يظهرون على الشاشة أو يظهرون عن بُعْد، وهو ما يجري منذ زمن بعيد. ففي فيلم «الخروج» (إكسودس) (١٩٦٠) يقتل شخص عربي فتاةً لاجئةً في الخامسة عشرة من عمرها بوحشية، وفي فيلم «العاصفة والأسد» (ذا ويند آند ذا ليون) (١٩٧٥) يختطف إرهابي عربي امرأةً أمريكية، وفي فيلم «شبكة» (نتوورك) (١٩٧٧) يحذِّر معلِّق إخباري عدوانيٌّ خلال تقرير ناقِم ساميِّ النزعة معادٍ للعرب من أن العرب يبسطون سيطرتهم على الولايات المتحدة، ويصفهم بمتعصِّبي القرون الوسطى، ويُذكَر أن هذا الفيلم حصد أربع جوائز أوسكار. وتدور أحداث فيلم «أحد الذهاب إلى الشاطئ» (بيتش صنداي) (١٩٧٧) حول مخطَّط إرهابي عربي لقتل مشاهدي نهائي دوري كرة القدم الأمريكية، أو ما يُعرَف بمباراة السوبر بول، ومن بينهم رئيس الولايات المتحدة، عن طريق قنبلة فتَّاكة يتمُّ تفجيرها في منطادِ بثٍّ تليفزيونيٍّ فوق ملعب المباراة. وفي فيلم «انقلاب» (رول أوفر) (١٩٨١) يدمِّر «العرب» النظامَ المالي العالمي. وقد أوضحَتْ جين فوندا رسالةَ الفيلم بكل صراحةٍ في مقابلاتها الدعائية الخاصة به قائلةً: «الأجدى بنا أن نفحص عقولَنا إن لم نكن نخشى العرب؛ فهم يسيطرون علينا استراتيجيًّا، وهم مضطربون سريعو التقلُّب، وأصوليون، ويناهضون المرأة، ويكبتون حريةَ الصحافة» (وارد في: بارينتي، ١٩٩٢: ٣٠). أما قصة فيلم «الخطأ هو الصواب» (رونج إز رايت) (١٩٨٢) فتدور حول «ملك عربي» مستعِد لتسليم قنبلتين نوويتين صغيرتين لقائد ثوري شبيه بشخصية القذافي، لتفجيرهما في إسرائيل وبعدها نيويورك. كذلك تمَّ تناقُل أخبارٍ حول تفكير شركة باراماونت في عمل فيلم بميزانية تبلغ ١٥ مليون دولار أمريكي، عن رواية تدور أحداثها حول مجموعة من الفلسطينيين يحصلون على دعمٍ ليبيٍّ ويزرعون قنبلةً في نيويورك. وبالطبع توجد أمثلة معاكِسة لهذه الصورة — مثل أفلام المخرج السوري الأمريكي مصطفى العقاد — ومع ذلك فإن القوالب النمطية التي يُوضَع فيها العرب باعتبارهم شعوبًا عنيفة، قد تشجِّع على إثارة نوعٍ من العنف داخل الشرق الأوسط وضده، بل قد تبرِّر أيضًا العداء والعنف بوصفه ردَّ فعلٍ دفاعيًّا. وفي رواية «الحاج» للكاتب ليون يوريس، التي احتلت المرتبةَ الثالثة على قائمة الكتب الأكثر مبيعًا، ودارت أحداثها خلال الفترة من ١٩٤٤ إلى ١٩٥٦م، يُوصَف العرب «بالكسل والجُبن والغرور والخداع وعدم استحقاق الثقة والشهوانية والقتل والسرقة والاغتصاب»، ويقول اليهود في الرواية: «مرةً أخرى نتورَّط نحن اليهود في تولِّي مهمةِ التعامُل مع قسوة العالم الإسلامي وشروره.» بل ويقول بطل الرواية العربي نفسه: «نحن قوم نحيا بالكراهية واليأس والظلام، والإسلام غير قادر على التعايش بسلامٍ مع أي أحد … كما أننا لم نقدِّم أيَّ إسهام على مدار قرون طويلة من أجل الارتقاء بالبشرية، إلا إذا كنتَ تعتبر الاغتيالات والإرهابيين هدايا بشرية.» العنصرية والجهل حقًّا يؤجِّجان نارَ الكراهية والعنف.
الأكيد أن العالم قد شهد الكثير من العنف؛ من حروب الغزو إلى حروب التحرير والتأسيس؛ كالحرب الأهلية في السلفادور، ومحاولة الكونترا الإطاحةَ بالساندينستيين في نيكاراجوا، واجتياح الاتحاد السوفييتي لأفغانستان واجتياحها بقيادة الولايات المتحدة فيما بعدُ، إضافةً إلى الاجتياح الإسرائيلي للبنان، والإبادة الجماعية لهنود المايا في جواتيمالا وهنود الأمازون في البرازيل، وكذلك الكفاح ضد الخمير الحمر، والغزو الفيتنامي في كمبوديا، والحروب القبلية في زيمبابوي، والعنف المُمارَس في جنوب أفريقيا، والمواجهات العنيفة بين الهندوس والمسلمين، ومذبحة السيخ بعد اغتيال غاندي في الهند، ولا ننسى العنفَ الذي مارَسَه الجيش الجمهوري الأيرلندي في شمال أيرلندا وإنجلترا. والمُلاحَظ أن جميع هذه الأمثلة، باستثناء عنف الجيش الجمهوري الأيرلندي، قد وقعت أحداثُها في العالم الثالث، ولكن في الخلفية كان سباق التسليح بين الولايات المتحدة والاتحاد السوفييتي مستمرًّا، علاوةً على تورُّط القوى العُظمى في العديد من هذه الأمثلة للعنف الدائر في العالم الثالث. وبالرغم من ذلك سوف ترى في الصحف اليومية الأمريكية كيف ترسِّخ القوالب النمطية للعالم العربي و«الشعوب ذات البشرة الداكنة»، فَهْمَ مَن يتسمون بالعنف، وليس تجار السلاح المنتشرون في كل مكان.
في الوقت نفسه تنتشر المجموعات والحركات الداعية لإيقاف العنف حول العالم، وهم لا يحظون بنفس القدر من الاهتمام، ولكن المجموعات والحركات التي نعرفها منهم مدفوعة بالأساس — وإن لم يكن بالكامل — بقضايا الحقوق المدنية والأسلحة النووية والقضايا البيئية/قضايا البقاء؛ ومن هذه المجموعات حركةُ الحقوق المدنية الأمريكية بقيادة الدكتور مارتن لوثر كينج في ستينيات القرن العشرين، وجماعة تشيبوا شمال الهند في جبال الهيمالايا (جماعة بيئية أغلبها من السيدات، شعارها «ضموا الأشجار»)، وكفاح الأسقف توتو وأتباعه في جنوب أفريقيا ضد التمييز العنصري، وحركة الملاذ في الولايات المتحدة الهادفة إلى حماية لاجئي أمريكا الوسطى المهدَّدةُ حياتُهم بالخطر، إلى درجة مخالَفةِ القانون المدني في سبيل حماية هؤلاء الأشخاص، وبالطبع الحركات غير العنيفة المناهِضة للأسلحة النووية: سيدات ساحة جرينهام في المملكة المتحدة، وفريق عمل ليفرمور ورابطة مناهضي الحرب في الولايات المتحدة، وحركة الخُضر في ألمانيا الغربية، والجماعات الداعية للسلام في أوروبا الشرقية التي لا يتوافر عنها نفس القدر من المعلومات، وحركة فلسطين حرة.
ويتطلَّب فَهْمُ ظاهرة العنف واحتمالية اللاعنف في الشرق الأوسط تحديدًا التراجُعَ خطوةً إلى الوراء، ثم النظر عن بُعْدٍ لاستيعاب القوى المُحرِّكة للعنف واللاعنف عبر التاريخ. بادئ ذي بدء فإن الدول والثقافات والمجتمعات لا «تُولَد عنيفة»، ولكن قد تتجه نحو العنف أو السِّلم خلال فترات مختلفة؛ فالإمبراطورية السويدية على سبيل المثال اجتاحَتْ في عهد جوستافوس أدولفوس في القرن السابع عشر أوروبا تخريبًا وتدميرًا، وقتلت الآلافَ من البشر، بينما نرى السويديين اليومَ من صنَّاع السلام وينزعون إليه. كذلك كان كلٌّ من اليابانيين والألمان شعبَيْن عسكريين عنيفين وصولًا إلى الحرب العالمية الثانية، ولكن نظرًا لظروف خسارة الحرب فقد تنحَّيَا عن صناعة التسليح وتوجَّهَا إلى التنمية البيئية وتنمية الطاقة، وهما يمثِّلان أفضلَ حُجَّة في العالم الحديث لدحْضِ قول مَن يدَّعون أن اقتصادنا الأمريكي سوف يترنَّح دون صناعة التسليح وصناعة الدفاع، بالرغم من أن اليابانيين قد يتَّجِهون نحو بيع الأسلحة في المستقبل القريب بعد كارثة فوكوشيما. وتوجد كذلك شعوب تتحوَّل من السِّلم إلى العُنف؛ فأعراف الشعب اليهودي مثلًا أعرافٌ إنسانية في الأصل، واليهود كشعب لم يكونوا شعبًا عنيفًا حتى أطلَقَ هتلر سياساته الدموية التي أدَّتْ إلى تطوُّر القومية اليهودية المرتبطة بالصهيونية والدولة الإسرائيلية. وكذلك المصريون الذين كانوا شعبًا مُحِبًّا للسلام، ولم يُدفَعوا نحو بناء قوتهم العسكرية إلا في القرن العشرين.
وإنْ ركَّزنا انتباهَنا على التقنيات المستخدَمة في أعمال العنف، فسنجد أن الأمم الأورو-أمريكية من الأمم الرائدة في صناعة أكثر التقنيات الحربية التي عرفها الجنس البشري تدميرًا على الإطلاق — الولايات المتحدة والاتحاد السوفييتي وبريطانيا وفرنسا وألمانيا واليابان وإسرائيل — إذ تسبَّبَتْ تقنياتهم في أعمال عنف هائلة؛ منها على سبيل المثال: إسقاط الولايات المتحدة قنبلتَيْن نوويَّتَيْن عن عمدٍ على المدنيين في اليابان إبَّان الحرب العالمية الثانية. واليومَ تشكِّل التقنياتُ الحربية أساسَ جانبٍ كبيرٍ من أعمال التجارة الدولية، والأسلحة المُصدَّرَة إلى مناطق مثل أمريكا الوسطى أو الشرق الأوسط تُصنَّع في الولايات المتحدة أو روسيا أو فرنسا أو المملكة المتحدة أو ألمانيا أو الصين أو إسرائيل.
عوالم صغيرة في القبضة الدولية
أعود الآن — بعد توضيح الإطار الأشمل للوضع والمُبيِّن لخلفيته — إلى العالم الصغير الذي عادةً ما يتناوله العالِم الأنثروبولوجي بالبحث في الشرق الأوسط. في منطقة الشام يثير المواطنون العنفَ بعضهم ضد بعض، ونلاحظ كيف أن العنف الدولي مستمِرٌّ على نطاق واسع، وهذا العنف له أوجه عدة، وله سمات خارجية وأخرى داخلية. وقد اتَّجَهتُ أول ما بدأتُ بالعمل الميداني الأنثروبولوجي في الشرق الأوسط إلى جنوب لبنان؛ حيث توجد قرية مسلمة شيعية، وقعت فيما بعدُ تحت السيطرة الإسرائيلية عام ١٩٨٢م، وهناك درستُ أثرَ ازدواجِ المؤسسات والتحزُّب السائد في المجتمع، الذي يؤدِّي أحيانًا إلى العنف. كان النشاط الأساسي للقرية هو زراعة التبغ، وكانت مقسَّمة إلى عائلتين: (أ) و(ب) على أساس القرابة والرَّحِم، وكانت القرية شيعيةً بالكامل، يتزوَّج فيها أفرادُ العائلة (أ) بعضهم من بعض، وأفراد العائلة (ب) بعضهم من بعض، وما كان هناك من فرقة ثالثة في القرية؛ ولذلك كان من الوارد أن يُصعَّد أيُّ نزاعٍ ينشب بين العائلتين (أ) و(ب) ليتحوَّل إلى حربٍ تطال القرية بأكملها. والحلُّ — عند نشوب أحداث عنف — أن يغادر الطرفان المتخاصمان القريةَ بحثًا عن واسطة، أو وسيط، تجنُّبًا لحدوث تحزُّبٍ خطير في القرية، وكان من الجائز، حتى إذا كان المتخاصمان من الشيعة، أن يلجآ إلى رجل موقَّر من ديانة أخرى، يكون على الأرجح من المسيحيين الأرثوذكس، للتوسُّط لحلِّ النزاع.
وبعد مرور عشرة أعوام على الشروع في عملي البحثي مع الشيعة عام ١٩٧١م، شاركتُ في مناقشةِ رسالةِ دكتوراه في الاقتصاد في جامعة كاليفورنيا ببيركلي، تناوَلَتْ موضوعَ التنمية في لبنان، ومن بين النتائج التي توصَّل إليها الطالبُ صاحب الرسالة أن التنمية كانت تؤدِّي إلى اتساع الفروق بين الأغنياء والفقراء، وأن هذا من شأنه التسبُّب في حدوث اضطرابٍ سياسي فيما بعدُ أو تفاقُمه. والجدير بالذكر أن الشيعة كانوا من أفقر الفئات في البلاد. وبالرغم من ذلك، في كلٍّ من بدايات ستينيات القرن العشرين (بعد أزمة ١٩٥٨ في لبنان) ومنتصف سبعينيات القرن نفسه (إبَّان الحرب الأهلية اللبنانية)، كان أغلب مذيعي الأخبار الأمريكيين يصفون النزاعَ بأنه نزاعٌ دينيٌّ بحت، بين المسيحيين والمسلمين، مع إشارةٍ لا تُذكَر للعوامل الاقتصادية الحاسمة أو غيرها، أو تجاهُل الإشارة إليها بالمرة. بل الواقع أن المناطق القروية في الشام تضمُّ العديدَ من القرى المختلطة بين المسيحيين والمسلمين، بينما المزيج الوحيد النادر وجوده في قرية واحدة هو المزيج الشيعي-السني؛ ومع ذلك فإن التفسيرات الخارجية للوضع تتناسب مع القالب المخصَّص للعرب باعتبارهم منقسمين عمومًا إما مسيحيين وإما مسلمين.
عام ١٩٨٢م، مع الغزو والاحتلال الإسرائيلي للبنان، حُرِّفَت أسبابُ إثارة العنف — الإسرائيلي في هذه الحالة — في الأخبار العالمية، أو على الأقل في الولايات المتحدة. وبالرغم من أن الرأي الأمريكي بدأ في التغيُّر، ظلَّ أغلب الشعب الأمريكي يظن أن الإسرائيليين كانوا يدافعون عن أنفسهم ضد الإرهابيين الناشطين في جنوب لبنان، وكان من رابع المستحيلات أن يتمكَّن المثقَّفون الأمريكيون الراغبون في تنوير الجماهير من تغيير الشبكة التي يرى الناسُ من خلالها العالَمَ العربي، حتى في ظلِّ وضعٍ سافِرٍ كالغزو الإسرائيلي للبنان عام ١٩٨٢م. وقد أشار إدوارد سعيد في كتاب «الاستشراق» (١٩٧٨) (أو بصورة أفضل في كتاب «تغطية الإسلام»، ١٩٨١) إلى هذه الشبكة التي طالما جرى تحليلُ العالَمِ العربي من خلالها وما زال، والتي صارت جزءًا أصيلًا من النظرة الغربية الخارجية للشرق على مدار قرون. وفي النقاشات التي تلت غزوَ ١٩٨٢ لقيت محاولاتُ تفسير العنف والعدوان الإسرائيلي باعتباره جشعًا ورغبةً في التوسُّع — من خلال السيطرة، سواء السياسية أم الاقتصادية، على العمالة الرخيصة، وعلى كميات كبيرة من المياه من نهر الليطاني بثمن زهيد — آذانًا صمَّاء، واستبعدتها شبكة الرؤية الغربية لحساب الصورة النمطية للعرب كمعتدين شرسين؛ فكان العرب هم الإرهابيين والإسرائيليون يحمون حدودَهم. وكذلك استُبعِدَت من الشبكة محاولاتُ استكشافِ المقوِّمات النفسية للعدوان الإسرائيلي بالاستناد إلى نظرياتِ إزاحة العدوان (حيث يصبح الفلسطينيون بالنسبة إلى الإسرائيليين نازيي الشرق الأوسط) أو متلازمةِ الطفل المضطَهد (اليهود المضطهَدون يضطهدون غيرهم).
باختصار، الأحداثُ الخارجية التي تتخذ من الشرق الأوسط مسرحًا لها تتداخل مع العديد من الملاحظات الداخلية؛ إذ إن التدخُّل الأجنبي الأوروبي متوطِّنٌ في المنطقة منذ قرون طويلة، سواء أكانت الأطراف المُتدخِّلة من أوروبا الشرقية، مثل السوفييت في سوريا أو مصر أو اليمن؛ أم من أوروبا الغربية أو الدول المعتمِدة عليها، مثل إسرائيل في لبنان، والغزو الأمريكي للعراق وأفغانستان فيما بعدُ. وقد ظلَّتِ المنطقةُ منذ وقت الحملات الصليبية ولقرون بعد غزو نابليون لمصر عام ١٧٩٨م بيدقًا في يد الغرب وبيدقًا في يد الشرق؛ فكافة الشعوب الأوروبية التي شاركت في الحرب الباردة أتت إلى الشرق الأوسط لأخذ الثروات الطبيعية كالنفط، ثم لتبيع للشرق الأوسط منتجاتها كالأسلحة، التي صارت اليومَ أهمَّ أنواعِ البضائع؛ حيث تأتي تجارةُ السلاح وماكينات القتل العالية التقنية على رأس المنتجات المُصدَّرَة للمنطقة.
وأشار الصندوق التربوي الأمريكي في إصداراته مِرارًا إلى أن الشرق الأوسط أصبح أحدَ أكثر مناطق العالم تمركُزًا للقوى العسكرية؛ حيث يمتلك العرب والإيرانيون والإسرائيليون مجتمِعِين دباباتٍ وطائراتٍ حربيةً مقاتِلةً تفوق في عددها ما تمتلكه جميعُ قوات حلف الناتو في أوروبا. وقد شهدت المنطقة منذ عام ١٩٤٨م خمس حروب كانت دولة إسرائيل طرفًا فيها، فضلًا عن عددٍ من الحروب الواسعة النطاق في محيط العالم العربي، منها ما وقع من خصومات بين الصومال وإثيوبيا، والعراق وإيران، والقوات المغربية والموريتانية ضد جماعات المغاوير المدعومة من الجزائر في الصحراء الغربية، والقوات الليبية وتشاد. وإلى الشرق من العالم العربي زاد الغزو السوفييتي لأفغانستان في ثمانينيات القرن العشرين والاضطرابات التي شهدتها إيران من مخاوف كلٍّ من العرب والغربيين على حدٍّ سواء من احتمال انقطاع إمدادات النفط والغاز وغيرهما من الموارد، بل من التعرُّض للغزو كذلك.
وقد تجلَّى تدخُّل القوى العظمى في المشكلات العربية إبَّان الحرب الباردة في مبيعات الأسلحة المتطوِّرة، وتعيين مستشارين عسكريين أجانب في بعض الدول العربية، والتمركُز المسبق لمعدَّات عسكرية أمريكية وسوفييتية في دول عربية معينة، والدعم الأمريكي الواضح والصريح لإسرائيل والمملكة السعودية وغيرها من الحكومات السلطوية. كل هذه الأنشطة توفِّر حافزًا قويًّا لإخراس أيِّ نزاعات إقليمية داخلية من شأنها زعزعة الاستقرار، وتوفير الدافع للتدخُّل الخارجي أو اندلاع أي انتفاضات منادية بالديمقراطية (مثلما شهدنا بدءًا من الربيع العربي ٢٠١١ في تونس ومصر واليمن والبحرين وسوريا وغيرها من الدول).
المُلاحَظ أن أحداث الصراع الشرقي-الغربي كانت تتواصل على أرض الشرق الأوسط؛ فما السبب؟ تَفكَّر لدقيقة في هوية سكان المنطقة: المسلمين واليهود والمسيحيين؛ وهي جماعات تُوصَف من حيث ما يتعلَّق بها من مشكلات: مشكلة اليهود: مضطهدون؛ مشكلة المسلمين: غير ذوي شأن؛ مشكلة المسيحيين: أقلية. والأسلوب المتَّبَع مرة أخرى هو نفسه أسلوب الاستعمار: «فرِّقْ تَسُدْ»، وكان البريطانيون هم أساتذة تطبيق هذه الاستراتيجية، وكذلك الفرنسيون. واتضحت النسخة الأمريكية منها في شخص وزير الخارجية حينها هنري كيسنجر، الذي كانت سياساتُ الدبلوماسية المكوكية التي يطبِّقها غالبًا ما يتبعها سقوطُ آلاف، بل مئات الآلاف، من القتلى. أما الصور المعاصرة من السياسات الاستعمارية القائمة على مبدأ فرِّقْ تَسُدْ، فقد زادت تفاقُمًا بسبب التقنيات الحربية الهادفة إلى الإبادة، ولكن القضية الجوهرية كانت وما زالت هي النفط.
ومن بين العديد من المصادر التي تصف نفاق الولايات المتحدة في نقدها للعنف الإسرائيلي ضد المواطنين اللبنانيين، بينما نحن (الولايات المتحدة) نمدُّ الإسرائيليين «بماكينات القتل العالية التقنية»، نجد كتاب نعوم تشومسكي بعنوان «المثلث المحتوم» (١٩٨٣)، وكتاب روبرت فيسك الشامل «الحرب العظمى من أجل الحضارة: غزو الشرق الأوسط» (٢٠٠٥). وقد شملت هذه الأسلحة القنابل العنقودية التي تُسقَط على المناطق ذات الكثافة السكانية العالية لضمان «قتل أكبر عدد ممكن بقنبلة واحدة»، كما تُظهِر أفلامُ حصار لبنان عام ١٩٨٢م طائرات ميراج إسرائيلية فوق صوتية، مجهَّزة للقتال وإلقاء القنابل، وهي تهاجِم المدينةَ بينما يحاول الفلسطينيون هباءً إسقاطَها بمدافع مضادة للطائرات. أما في حرب إيران/العراق فقد أبلى صُنَّاع الأسلحة الأمريكيون بلاءً حسنًا؛ إذ تمكَّنوا في إحدى المراحل من بيع الأسلحة لكلا الطرفين! ولكن هذه الأمثلة تُعَدُّ اليومَ مجرد عروضٍ تمهيدية لحرب الخليج الأولى عام ١٩٩١م، وغزو أفغانستان عام ٢٠٠١م، وحرب العراق عام ٢٠٠٣م، والغارات الإسرائيلية اللاحقة على لبنان، وأخيرًا تدخُّل القوات الأمريكية وقوات حلف الناتو في أحداث الثورة الليبية.
الثقافة واللاعنف: مَن المستفيد من السلام؟
يتعلَّق النقاش التالي بنموذجَيْن للمجتمع الشرق أوسطي من حيث: الصلات التي تربط، والبِنى التي تُفرِّق. تركِّز الدعاية الغربية في الغالب على العوامل التي تُفرِّق، ليس فقط بغرض غزو الشرق الأوسط، وإنما كذلك بسبب المخاوف الخارجية من وحدة العرب، ولكن وجود الصلات التي تربط يقتضي من شعوب العالم العربي التأكيد والتشديد عليها. في سبعينيات القرن العشرين انتشرت مزحةٌ بأن العرب إذا اختلفوا حول كل شيء، فَهُمْ على الأقل مجتمعون على جمال صوتَيْ أم كلثوم وفيروز؛ لذا فإن الخطوة الأولى باتجاه تحقيق اللاعنف أو تجنُّب العنف هو إيجاد الروابط المشتركة، خصوصًا في الموسيقى والشعر، ثم التركيز والتشديد عليها هنا وفي الخارج لتغيير الشبكة التي يرى الأجانبُ الشرقَ الأوسط من خلالها، والتي يشترك فيها معهم أحيانًا أبناءُ الشرق الأوسط أنفسهم. وجدير بالذكر هنا أن التبادُل الثقافي بين إسرائيل والولايات المتحدة أكبر من التبادُل الثقافي بين الولايات المتحدة والعالم العربي بأسره. توجد إلى جانب ذلك المبادئ البنيوية الاجتماعية؛ فمثلًا تَوسَّطَ السياسيُّ الشيخُ المُبجَّل إميل البستاني في حلِّ مشكلات الرعاة في شمال لبنان في أربعينيات القرن العشرين، وكتبت صحيفة نيويورك تايمز عن الواقعة. إن مبدأ توسُّط الغير مبدأٌ قديمٌ قِدَم النظام القبلي في الشرق الأوسط، وهو بالمناسبة مبدأٌ استعارَتْه الولاياتُ المتحدة في شكل حركات داعية لإيجاد حلول بديلة لتسوية المنازعات، فضلًا عن استعارة الجنرال بترايوس لنفس المبدأ في سعيه للوصول إلى «استراتيجية قَبَليَّة» في العراق وأفغانستان؛ ويرجع هذا إلى أن التفاوض وأساليب اللقاء وجهًا لوجه غيرُ ذاتِ جدوى في هذا الجزء من العالَم، الذي يُثمِّن تدخُّلَ الغير أكثر من أي آلية أخرى.
يوجد كذلك «مبدأ الفصل» داخل الأحياء السكنية (التي تُشبَّه أحيانًا بالخلايا)، وهو أسلوب ينبغي تسليط الضوء عليه في صنع السلام والحفاظ عليه. وبالرغم من أنه يتناقض مع المبادئ الغربية المنادية بالقضاء على التمييز، فإن الأحياء المفصولة كانت صالحةً على مدار قرون من التعايُشِ الحضري المتقارِب منذ زمن حضارة بلاد الرافدين القديمة، وصولًا إلى نظام الدوائر الانتخابية الحالي المتَّبَع في المناطق الحضرية في أنحاء الشرق الأوسط كافة؛ ولكن الفصل العِرقي أو الديني أو المهني في البيئات الأكثر حداثةً قد يُفسِح المجالَ أمام الفصل على أساس الطبقة الاجتماعية، بين كلٍّ من الأغنياء والفقراء، ونحن في الولايات المتحدة ندرك ما يرتبط بهذا النموذج من مشكلات مُسبِّبَةٍ للشقاق والخلاف.
والشرق الأوسط لديه تقاليدُه التي تقتضي أن يلعب المثقَّفون دورًا في التعامُل مع حالات الظلم الاجتماعي والاهتمام بالتقدُّم الاجتماعي، وهذا قد يعني عدم تقليد الغرب، وإنما التوصُّل إلى نموذج شرقي لتحقيق الارتقاء الاجتماعي؛ وتجتمع كلُّ هذه العوامل كجزء من أيِّ تقييم للحداثة، أيًّا كان ما تعنيه هذه الكلمة، باعتبارها نموذجًا للتقدم. كان أخو الملك حسين ملك الأردن قد ألقى خطابًا في بدايات ثمانينيات القرن العشرين في جامعة بيركلي، وفيه تساءَلَ: مَن المستفيد من السلام؟ ثم طَفِقَ يتحدَّث بحماس عن التنمية الاجتماعية باعتبارها إجابته على السؤال، واصفًا عهدًا من التبادُل التجاري والفكري يعبر كلَّ الحدود بما فيها الحدود الإسرائيلية، وهذا أيضًا يُعَدُّ عُرفًا عريقًا؛ إلا أن الجمهور تجاهَلَ حديثَه الذي كان من المفترض أن يرفع الروحَ المعنوية للمستمعين، فكان أول الأسئلة التي بادَرَ أساتذةُ بيركلي لطرحها هو: هل سيحتلُّ الإسرائيليون لبنان؟ لقد فرض الغربُ على الشرقِ مفهومًا للحرب؛ فكرة غريبة ومستعارة لا يستطيعون هم ولا الجنس البشري تحمُّلَ تبعاتها؛ ولهذا فإن غرْسَ فلسفاتِ اللاعنف هو اتجاهٌ مُلهم دون شك، والخطوة الأولى لتحقيقه هي زيادة التبادُل مع الأطراف التي تُجحف بالعرب إذ يضعونهم في قوالب العنف، ومن ثم يرون إمكانيةَ الاستغناء عنهم. وقد تفاجَأَ الإسرائيليون الذين شاركوا في غزو لبنان عندما نهبوا منازل المثقفين الفلسطينيين في بيروت إذ وجدوا فيها كتبًا. أما الوجه الآخر من القالب النمطي، فيبيِّن عندما يبدأ العربي نفسه في التصرُّف بما يتناسب مع ما يتوقَّعه منه الساميون المعادون للعرب.
وإذا كانت بذور اللاعنف ثقافيةً وسياسيةً ومرتبطةً بالبنية الاجتماعية، فكيف يمكن الاستفادة من الممارسات غير العنيفة لتحقيق الأهداف السياسية؟ ليست الآليات غير العنيفة بالجديدة على الكفاح الفلسطيني؛ فقد لجأ الفلسطينيون إليها منذ ثلاثينيات القرن العشرين إلى جانب أساليب المقاومة المسلَّحة، ومن بين أبرز الأمثلة على استخدام اللاعنف في القضية الفلسطينية إضرابُ ١٩٣٦، والمقاطعةُ العربية لإسرائيل فيما بعدُ (سويدنبيرج، ١٩٩٥).
يوجد ٣٫٥ ملايين فلسطيني يعيشون في الضفة الغربية وغزة، وسياسةُ التهويد تُغيِّر كلَّ الاحتمالات المتاحة للمقاومة؛ لذا لا يمكن أن تتضمَّنَ أساليبُ المقاومةِ استخدامَ القوة الغاشمة؛ ولهذا ظلَّت الأساليبُ غيرُ العنيفة هي الأكثر فعاليةً وتأثيرًا في تفعيل الكفاح، بل الوحيدة المتاحة أيضًا، خصوصًا مع حظر امتلاك الأسلحة. ولو عرف العالم هذا لكان له أثرٌ ملموسٌ في التخلُّص من الخوف غير المنطقي من «العنف العربي»، كما سيَفرِق كثيرًا من ناحية أخرى في فضْحِ الملامح العنصرية والتوسُّعية للقوى الإسرائيلية العسكرية. وقد تحدَّثْتُ عام ١٩٨٥م عن المظاهرات والعراقيل التي استُخدِمَت للمقاومة؛ مثل رفض العمل في تشييد المستوطنات الإسرائيلية، ورفض توقيع الاستمارات المطبوعة أو المكتوبة بالعبرية أو ملئها، وبناء بِنية تحتية مستقلَّة عن إسرائيل، من جامعات ومصانع ومؤسسات ومكتبات ومستشفيات ومدارس وما إلى ذلك.
وفي الأراضي المحتلة تمثِّل إضرابات المدارس والإضرابات التجارية، والالتماسات، وتلغرافات الاحتجاج، ومحاولات مقاطعة البضائع الإسرائيلية؛ نماذجَ للاستراتيجيات غير العنيفة. كذلك أطلق المواطنون السوريون في هضبة الجولان المحتلة حملةً قويةً ومركَّزةً للمقاومة غير العنيفة ردًّا على المحاولات الإسرائيلية لفرض القانون الإسرائيلي على هضبة الجولان السورية، وقد نُقِلَ عن هذه الحملة تنظيمُها وذكاؤها في استخدام الأساليب غير العنيفة.
أما في لبنان، فقد اختلفت الأساليب غير العنيفة في معالجتها للعنف بين المواطنين؛ حيث تكوَّنَ رأيٌ عامٌّ (بين النساء) اكتسَبَ نوعًا من السيطرة الاجتماعية التي عَمِلَت على عزل المجموعات أو الأفراد الذين عرَّضوا استقرارَ البلاد للخطر والإعراض عنهم، فتمَّ إلقاءُ الضوء على اللبنانيين ممَّن كانوا يستفيدون من تجارة السلاح التي أدَّتْ إلى العنف الداخلي بالبلاد. ومثل هذه الأساليب تبدأ على نطاق ضيق، ولكنها تكون قابلةً للنمو والتضاعُف حتى تتحوَّل إلى حركةٍ تتجلَّى فيها صورُ اللاعنف بعيدًا عن الحكومة؛ إذ غالبًا ما تكون الحكوماتُ والمسئولون الحكوميون عاجزين عن اتخاذ مواقفَ معيَّنةٍ لا يمكن أن تصدر إلا عن منظمات أهلية أو شخصيات مؤثرة محبوبة.
كان الموضوع العام لمحاضرتي في الجامعة الأمريكية بالقاهرة عام ١٩٨٥م هو أن حلول مشكلة العنف في الشرق الأوسط، أو أي أحداث عنف أخرى في العالم الثالث، ينبغي أن تتغيَّر وتتكيَّف مع أوجه كثيرة. ويعني التغيير المتزامِن في القالب النمطي أن يصبح العرب بشرًا، ومن ثم لا يستحقُّون الاستغناءَ عنهم أو التخلُّص منهم من وجهة النظر الأورو-أمريكية. والخطوة الأولى لتطبيق الحل هي إعادةُ تعريف العربِ أنفسِهم بأعرافهم المتعلِّقة باحترام الذات أولًا، ثم الاحترام المتبادَل بعد ذلك. والحضارة المصرية تُعَدُّ من أعرق الحضارات وأطولها تاريخًا، والسرُّ في ذلك أنها حضارة لم تعتمد على الخارج أو على أي قوًى خارجية، وقد ذكرتُ مرارًا وتكرارًا أن المجتمع الشرق أوسطي يضم العديدَ من مبادئ التنظيم الاجتماعي القائمة، التي تعمل على تجنُّب العنف، ودراسةُ هذه المبادئ وتفسيرُها وتفصيلُها يمكن أن يشكِّل جزءًا من المخطَّط الأوَّلي لتحطيم القالب النمطي المفروض على العرب. فإذا قرَّرَتِ القوى الخارجية مواجَهةَ بعضها البعض على أرضك، لا تقدِّم لهم سببًا يساعدهم على ذلك. ويجوز أن يكون العرب، أكثر من أي أمة أخرى، قادرين على تقديم نماذج لفكِّ الحلقة المفرغة للتغيُّرات السريعة التي تسبق زيادةَ العنف، كما نرى في مناطق أخرى من العالم النامي. والواقع أن نوع العنف المسيطر على الشرق كان إلى حدٍّ ما مؤدِّيًا الدورَ المرسوم للشرق منذ الحملات الصليبية، إلا أن الشرق الأوسط قادر على أن يصبح مكانًا يجرِّب فيه الشرق والغرب معًا العقاقيرَ الجديدة العالية التقنية، أو أنواعَ الطاقة المتجدِّدة، المتأصِّلة في المنطقة، تلك المنطقة المعروفة كذلك بالشعر والفن والمعمار، التي تلعب دورًا في تعزيز الثقافات على كوكب الأرض.
تحقُّق الكرامة
تحقَّقت بحلول عام ٢٠١٢م — أيْ بعد مرور ربع قرن من محاضرتي بالقاهرة — احتمالاتُ اللاعنف على أرض الواقع، وكأنما جاءت احتفاءً بما يُسمَّى اليومَ «الربيع العربي». نُشِرَت مجموعةٌ من الكتب تُوثِّق المسارَ العلماني المنادي بالديمقراطية والمُوصِّل إلى ما يبدو للبعض انتفاضةً مفاجِئةً لأعمال اللاعنف؛ حيث صدر عام ١٩٩٠م كتابُ «النضال السياسي العربي غير العنيف في الشرق الأوسط» (تحرير: آر كرو وبي جرانت وإس إبراهيم)، وتلاه كتاب «بث حي من فلسطين: العمل الدولي والفلسطيني المباشِر ضد الاحتلال الإسرائيلي» (تحرير: إن ستولمان وإل علاء الدين) عام ٢٠٠٣م. وفي عام ٢٠٠٧م ظهر كتاب «ثورة هادئة: الانتفاضة الفلسطينية الأولى والمقاومة غير العنيفة» (إم كينج)، وتبعه عام ٢٠٠٩م كتابُ «الجهاد المدني: النضال غير العنيف وإرساء الديمقراطية والحوكمة في الشرق الأوسط» (تحرير: إم ستيفان)، وصدر كتاب «رافضون للعداء: المقاومة الفلسطينية والإسرائيلية غير العنيفة للاحتلال الإسرائيلي» (تحرير: إم كوفمان لاكوستا) عام ٢٠١٠م، ثم في عام ٢٠١١م كتاب مازن قمصية الذي يحمل عنوان «المقاومة الشعبية في فلسطين: تاريخ من الأمل والتمكين». وتغطِّي هذه الأعمال موادَّ لم تكُن متاحةً لمحاضرتي عام ١٩٨٥م تغطيةً تفصيليةً؛ من هضبة الجولان إلى الصحراء الغربية، من الانتفاضة اللبنانية إلى شمال أفريقيا، من إسرائيل إلى حزب الله إلى إيران؛ مقاطعات، إضرابات، عروض مسرح الشارع، تظاهرات، نكات ساخرة، هتافات أسطح المنازل، اعتصامات، انسحابات من الجلسات البرلمانية، مواجهات غير عنيفة؛ كل هذا في الشرق الأوسط، ذاك المكان الذي لا يُتوقَّع أن تتأصَّل فيه الحقوقُ المدنية وتنجح. انكسر الخوفُ، ونفد الصبرُ، وانطلق إلى الشوارع شبابٌ أقلُّ مهابةً من المخاطرة من آبائهم؛ وعلاوةً على ذلك قرَّر المؤيدون للاستراتيجيات العنيفة الرجوعَ عنها، مثل: الإخوان المسلمين في مصر، وحزب العدالة والتنمية في تركيا، وجبهة العمل الإسلامي في الأردن.
ولكن لماذا لم يحتفِ العالَمُ الغربي بمثل هذه الأحداث قبل ربيع عام ٢٠١١م؟ من بين النماذج التي حظيت بأقل قدر من التغطية الإخبارية النموذجُ المذكور سابقًا لجهود سكان هضبة الجولان السورية المحتلة ذات الأغلبية الدرزية لمقاومة الاستيعاب الجبري، الذي أرادت إسرائيلُ فرْضَه بعد وقوع الجولان في القبضة الإسرائيلية إبَّان حرب يونيو ١٩٦٧م. وفي عام ١٩٨١م سنَّتْ إسرائيل تشريعًا بضمِّ أراضي الجولان إليها فعليًّا، بما يعني إجبار الدُّرُوز على قبول الهوية الإسرائيلية؛ فقدَّم الدُّرُوز بدايةً التماسًا لنقض قرار الكنيست، وعندما فشلت هذه الخطوة أعلنوا إطلاقَ حملة عدم تعاوُنٍ من جانب العمال، وكسر حظر التجوال، ومواجهة الجنود الإسرائيليين في مواجهات غير عنيفة حتى فكَّ الإسرائيليون حصارَهم (آر سكوت كينيدي، ٢٠٠٩: ١١٩–١٣٠).
إن قراءة هذه الدراسات العلمية عن اللاعنف في أراضي الشرق الأوسط تضع إطارًا جديدًا حول التفسيرات الصحفية للربيع العربي التي تنسب الانتفاضاتِ الديمقراطيةَ الجديدة إلى الفيسبوك وما شابه من تقنيات، أو إلى قناة الجزيرة. وقد نسبَتْ صحيفةُ نيويورك تايمز (ستولبيرج، ٢٠١١) الفضلَ في الثورة العربية غير العنيفة إلى أعمال الكاتب الأمريكي جين شارب الذي لم يسمع عنه الشبابُ العربي إطلاقًا؛ ممَّا جعل أستاذ العلوم السياسية اللبناني أسعد أبو خليل يشكو من أن الصحفيين الغربيين استخدموا أساليبَ استعمارية ليحرموا العربَ الفضلَ. ولكن إذا ما تأمَّلْنا الإطارَ التاريخي لأحداث المنطقة، فسوف تصبح كلُّ هذه المحاولات الفورية لإسناد الفضل لأيِّ جهةٍ محلَّ نقاش وجدل؛ إذ أزهرت بذورُ اللاعنف على مدار التاريخ المُسجَّل للشرق الأوسط من خلال إدراك حقيقة أن العنف لا يحقِّق النتائجَ المرجوَّة؛ وهكذا جرى التأرجُحُ من العنف إلى اللاعنف.
وعلى الرغم من توافر عددٍ كبير من الدراسات الإثنوجرافية حول التقاليد العربية والشرق أوسطية المتحكِّمة في شكل السلطة الاجتماعية والثقافية، فإن مقال خالد القشطيني «الكفاح العنيف وغير العنيف في التاريخ العربي» (١٩٩٠) يرصد تقريبًا مختلف التنوعات والحركات الإقليمية والدينية والثقافية التي مرَّت بالمنطقة، بالإضافة إلى قابليتها المرتفعة لتدخُّلِ القوى الخارجية في شئونها منذ القرن السابع عشر (بل منذ الحملة الصليبية الأولى أيضًا في رأيي). ويصف القشطيني (١٩٩٠: ١٠) العربَ في القرن السابع قائلًا إن الطبقات الحاكمة حينها «كانت مكوَّنةً في الأساس من التجار، فكانوا ينظرون إلى هذه النماذج باعتبارها دليلًا على العظمة العسكرية، وذلك بعين طبقة التجار المتشكِّكة الانتهازية»، ويشير فيما بعدُ إلى أن التاريخ العربي «لا توجد به ملاحِم مثل قرطاجة أو طروادة أو جاليبولي أو ستالينجراد أو برلين»، ويقتبس عن الجنرال جون جلوب قوله: «حتى «الحروب الطويلة» التي سبقت العهدَ الإسلامي، كانت في واقع الأمر مجرد مناوشات وغارات لم تتسبَّبْ في سقوط الكثير من الضحايا» (١٩٩٠: ١٠). ولا شك أنه يتحدَّث عن نخبة القوم في إشارته إلى أن: «العرب تخلَّوا عن الحروب والحياة العسكرية لغيرهم من المسلمين (الفُرس والأتراك والتتار)، والتفتوا إلى العناصر الأكثر جاذبيةً في الحضارة … ترجمة الأعمال الكلاسيكية الإغريقية والهندية، وتطوير العلوم والرياضيات والفلسفة، والتمتُّع بالفن والشعر والأدب والموسيقى والحب وفن الطهي الراقي والسفر والترحال» (١٩٩٠، ١٢). ولكن القشطيني يحذِّر أنه «من السذاجة الاعتقاد بأن العرب شعب غير عنيف بالمرة — فلا يوجد أي شعب ينطبق عليه هذا الوصف على الإطلاق — إلا أن العالم العربي ليس فيه سوى القلة القليلة من القتلة المجرمين» (١٩٩٠: ١٢). وتستحق هذه التقدمة السريعة التي قدَّمها القشطيني القراءةَ، حتى إنْ كان ذلك فقط بهدف زعزعة الصورة التقليدية للإسلام والثقافة العربية باعتبارها كياناتٍ عنيفةً بطبيعتها.
وبالمثل تتيح الكتابات الإثنوجرافية التي تتناول العدالةَ القَبَليَّة فهمًا أعمق؛ حيث يصف سليمان خلف — عالِم من أصول بدوية قَبَليَّة من شمال شرق سوريا — في مقاله «فض العنف في المجتمع البدوي» (١٩٩٠) بندولَ الحرب والسلام وجهود البدو لكبح العنف وتسوية المنازعات في إطار نظامِ حمايةٍ معقَّدٍ في حالات القتل؛ فيُؤمِن البدْوُ أن من واجبهم الأخذ بالثأر، ولكن نظرًا لأنهم يعتبرون أنَّ كل بيت بدوي يُعَدُّ ملاذًا، سعى بعض الجناة إلى الاحتماء ببيوت أعدائهم ومُنِحوا الحماية بالفعل؛ هذا فضلًا عن أن البدو يوفِّرون للجاني الحمايةَ من تهديدات جماعة الضحية في أثناء مرحلة الوساطة (وهو مقال آخَر يستحقُّ القراءةَ في ضوء العثور على أسامة بن لادن «مختبئًا في وضح النهار» في باكستان). إن نزاعاتِ البدو قصيرةُ الأجل، ومحدودةُ النطاق، وتُسوَّى بسرعة من غير ريب.
وبالرغم من الآليات التي طوَّرها الشرق الأوسط على مدار فترات طويلة لتجنُّب تصعيد العنف، فإن محاولة التكيُّف مع التغيُّرات السريعة التي طرأَتْ على المنطقة خلال الفترة المعاصرة، أدَّتْ إلى انحراف هذه الآليات عن مسارها؛ إذ صار لدينا الحروبُ الاستعمارية، والاستقلالُ، وتقسيمُ العالم الإسلامي إلى «دول» مختلفة تفصلها حدودٌ رُسِمَت تعسُّفيًّا، والاستعمار الاستيطاني، وإسرائيل، وخمس حروب عربية/إسرائيلية منذ ١٩٤٨م (١٩٥٦، ١٩٦٧، ١٩٧٣، ١٩٨٢)، أضِفْ إلى ذلك الحروبَ الأهلية في لبنان والسودان والعراق؛ وكل هذه العوامل الحديثة نسبيًّا تجعل الربيعَ العربي يبدو مفاجئًا. وقد تكرَّرَ مرارًا أن الشرق الأوسط الذي يشكِّل سكانُه أقلَّ من ١٠٪ من سكان العالم، شهد ٢٠٪ من النزاعات المسلَّحة في العالم خلال الخمسين عامًا الأخيرة؛ حيث جعله موقعُه الاستراتيجي والاحتياطيُّ الخاص به من النفط والغاز عُرضَةً لتدخُّل القوى الخارجية في شئونه الداخلية منذ القرن التاسع عشر، وبنائه لقدرته العسكرية التي قدَّمَتْها القوى الأورو-أمريكية منذ نشأة الدول القومية (خالدي، ٢٠٠٦).
ووفقًا لفكر خالد القشطيني ينبغي أن يركِّز المرء على الآليات السليمة في تخطيطه لتحقيق اللاعنف، وقد اقترح بالفعل إحدى هذه الآليات المتمثِّلة في: «مفهوم الصبر الراسخ الأصيل الذي يُعَدُّ مُكوِّنًا أساسيًّا في جميع الأفعال غير العنيفة» (١٩٩٠: ١٧–١٩). والقرآن يضم أكثرَ من مائة آية تتناول مفهوم الصبر. كذلك يشير القشطيني إلى الاستخدام التاريخي للعصيان المدني وسحب التعاون، ويُذكِّرنا بمبادئ الإسلام: «مَن يتحالَف مع حاكم ظالم، فلا دينَ له ولا مِلَّة.» وقد كان الإمام الغزالي (١٠٥٨–١١١١م) واضحًا حين قال إن الإطاحة بحاكم ظالم ينبغي أن تكون بلا عنف، على الرغم من أن بعض الفِرَق الإسلامية تُبيح الإطاحةَ بالحكَّام باستخدام العنف. ولكن مَن يريد رؤية بذور اللاعنف في العالم العربي، فسوف يجد التاريخ العربي مليئًا بالأمثلة العملية؛ فسوابق اللاعنف مترسِّخة منذ قرون.
وبالرغم من الاهتمام الذي وُجِّهَ أخيرًا لاحتمالات تحقيق اللاعنف، فالواضح أن أحد أسباب هذا التحوُّل نحو الاهتمام بالأساليب غير العنيفة، هو ما أدَّى إليه عدم تكافؤ القوى العسكرية من موت ودمار وفقدان للكرامة الفردية والجمعية للإنسان، فأضحى يُنظَر إلى الشباب اليومَ باعتبارهم نماذجَ لنوعٍ جديد من الحراك. وكما أسلفنا، فقد انكسر بداخلهم الخوفُ، وصارت كلمةُ الكرامة تتردَّد؛ كرامة كل إنسان وكرامة دولتهم، سواء أكانت مصر أم العراق أم تونس أم لبنان أم فلسطين. والقوى الغربية بدعمها الحكومات الديكتاتورية تشتري الاستقرار، ولكن ذلك يكون على حساب الكرامة الفردية والجمعية للشعوب؛ فالذل الذي يفرضه الحكَّامُ الديكتاتوريون، والذل الذي تفرضه القوى الإمبرياليةُ يسحق الكرامةَ، وهذا هو ما يعبِّر عنه المتظاهرون في أنحاء العالم العربي حينما يضعون أجسادَهم في وجه النار من أقصى العالَمِ العربي إلى أدناه. فالكرامة تعني الحريةَ والعدالة الاجتماعية والاحترام.
مراجع
-
Bourdieu, Pierre (1958) The Algerians. Boston: Beacon Press.
-
Chomsky, Noam (1983) The Fateful Triangle. Boston: South End Press.
-
Crow, Ralph, Philip Grant, and Saad Eddin Ibrahim (eds) (1990) Arab Nonviolent Political Struggle in the Middle East. Boulder, CO: L. Rienner Publishers.
-
Fisk, Robert (2005) The Great War for Civilization: Conquest of the Middle East. New York: Alfred A. Knopf.
-
Kaufman-Lacusta, Maxine (2010) Refusing to be Enemies: Palestinian and Israeli Nonviolent Resistance to the Israeli Occupation. Reading, NY: Ithaca Press.
-
Kennedy, R Scott (2009) Noncooperation in the Golan Heights: A Case of Nonviolent Resistance. In Civilian Jihad, M. Stephan, ed. New York: Palgrave Macmillan, pp. 119–130.
-
Khalaf, Sulayman (1990) The Settlement of Violence in Bedouin Society. Ethnology, 29, no. 3, pp. 225–242.
-
Khalidi, Rashid (2006) The Iron Cage: The Story of the Palestinian Struggle for Statehood. Boston, MA: Beacon Press.
-
King, Mary Elizabeth (2007) A Quiet Revolution: The First Palestinian Intifada and Nonviolent Resistance. New York: Nation Books.
-
Kisthainy, Khalid (1990) Violent and Nonviolent Struggle in Arab History. In Arab Nonviolent Political Struggle in the Middle East. R. Crow, P. Grant, and G. E. Ibrahim, eds. Boulder, CO: L. Rienner Publishers, pp. 9–24.
-
Mayer, Ann Elizabeth (ed.) (1985) Property, Social Structure and Law in the Modern Middle East. Albany, NY: State University of New York Press.
-
Nader, Laura (1965) Choices in Legal Procedure: Shia Moslem and Mexican Zapotec. American Anthropologist, 67, no. 2, pp. 394–399.
-
Nader, Laura and Harry Todd, Jr (eds) (1978) The Disputing Process: Law in Ten Societies. New York: Columbia University Press.
-
Nader, Laura (1990) Harmony Ideology: Law and Justice in a Mountain Zapotec Village. Stanford, CA: Stanford University Press.
-
Parenti, Michael (1992) Make-Believe Media: The Politics of Entertainment. New York: St Martin’s Press.
-
Qumsiyeh, Mazin (2011) Popular Resistance in Palestine: A History of Hope and Empowerment. London-New York: Pluto Press.
-
Ruffini, Julio L. (1978) Disputing over Livestock in Sardinia. In The Disputing Process: Law in Ten Societies. Laura Nader and Harry Todd, Jr, eds. New York: Columbia University Press, pp. 209–246.
-
Said, Edward (1978) Orientalism. New York: Vintage Books.
-
Said, Edward (1981) Covering Islam: How the Media and the Experts Determine How We See the Rest of the World. New York: Pantheon Books.
-
Shaheen, Jack G. (2001) Real Bad Arabs: How Hollywood Vilifies a People. New York: Olive Branch Press.
-
Shaheen, Jack G. (2008) Guilty: Hollywood’s Verdict on Arabs after 9/11. New York: Olive Branch Press.
-
Shapiro, Martin (1986) Courts: A Comparative and Political Analysis. Chicago: University of Chicago Press.
-
Stephan, Maria (ed.) (2009) Civilian Jihad: Nonviolent Struggle, Democratization, and Governance in the Middle East. New York: Palgrave Macmillan.
-
Stohlman, Nancy, and Laurieann Aladin (eds) (2003) Live from Palestine: International and Palestinian Direct Action against the Israeli Occupation. Cambridge, MA: South End Press.
-
Stolberg, Sheryl Gay (2011) Shy U.S. Intellectual Created Playbook Used in a Revolution. New York Times, February 17, p. A1.
-
Swedenburg, Ted (1995) Memories of Revolt: The 1936–1939 Rebellion and the Palestinian National Past. Minneapolis: University of Minnesota Press.
-
Zeid, Abou A. M. (1966) Honor and Shame among the Bedouins of Egypt. In Honor and Shame: The Values of Mediterranean Society. J. G. Peristiany ed. Chicago: University of Chicago Press.
-
Zogby, James (2010) Arab Voices: What They Are Saying to Us, and Why It Matters. New York: Palgrave Macmillan.
قراءات إضافية
-
Geertz, Clifford (1999 [1971]) Islam Observed: Religious Development in Morocco and Indonesia. Chicago: University of Chicago Press.