العبرة
لا يمكننا الاستمرار في قبول … ادِّعاء الحضارة الغربية أنها حضارة عالمية؛ لأن عالميتها قائمة بدرجة كبيرة على منطق القوة، لا على قوة المنطق. علينا إعادة استكشاف الحضارات الأخرى، وأن نَحِيك معًا نسيجًا جديدًا مأخوذًا من مختلف الثقافات والشعوب.
الدروس المُستفادَة
ربما تبدو دروسُ الثقافة والكرامة المُستفادَة من كلٍّ من الفصول السابقة دروسًا بديهية، بصرف النظر عن درجة التشويق التي حملها محتوى كلِّ موضوع على حِدة. وقد تنوَّعَتْ موضوعات الكتاب بدءًا من أخبار رحَّالة القرن التاسع عشر الذين أتوا من الشرق إلى الغرب، إلى القوى المهيمنة في الأبحاث والدراسات الأنثروبولوجية، القادرة على تكميم أفواه المراقبين، إلى الأصوليات المتنافرة، إلى بذور اللاعنف الموجودة إقليميًّا في العالم العربي من المناطق التي تسودها حياة الترحال وحياة الاستقرار، إلى الحياة الحضرية. ويتمثَّل التحدِّي الذي أواجهه في هذا الفصل الأخير في شرح الصلة القائمة بين هذه الموضوعات المنفصلة ظاهريًّا، وبيان الكيفية التي يمكن أن ترتبط بها بالتقاليد الإنسانية التي تحفظ وجودنا مهما اختلفت أصولنا وتنوَّعَتْ.
الاقتباس المذكور أعلاه مأخوذ من مقالٍ حماسي كتبه الأستاذ عيسى شيفجي بعد اجتياح الولايات المتحدة للعراق عام ٢٠٠٣م مباشَرةً؛ إذ كان «المتنوِّرون» ما زالوا يتصرَّفون في عام ٢٠٠٣م كما كان البرابرة يتصرَّفون في الماضي؛ فكيف يمكن ذلك؟ وهل توجد إمكانية لإقامة حضارة عملاقة تتبنَّى أفضلَ ما وصل إليه البشر على مستوى العالم؟ إن بدائل الإمبراطورية والإمبريالية غير مقبولة؛ نظرًا للأريحيَّة التي يستطيع بها أصحابُ التقنيات العسكرية محْوَ شعوب بريئة بأسرها من على وجه الأرض، والإتيان على البيئة، وتدمير ثمار آلاف السنين من الإنجاز البشري. إن السرعة التي يتغيَّر بها كلُّ شيء في زماننا هذا غيرُ مسبوقة، لكن السبب في حالة عدم الارتياح العامة التي نحياها هو الإمكانية المُعلَن عنها للتدمير باستخدام التكنولوجيا. ولعل فُرَصَ اكتساب السياسيين لأي عبرة من خبرات الأزمنة التاريخية أو حتى من خلال مراقبة الأحداث المعاصرة، فُرَصٌ ضئيلة؛ فغطرسة السلطة تعمي البصيرة، ولكن عسى أن تتوافر عِبَرٌ تهدي الشعوبَ الراغبة في التعلُّم إلى الطريق السليم على الأقل.
لقد فتح الرحَّالة القادمون من الشرق نوافِذَ بين العالَمين بتعبيرهم الجمعي عن دهشتهم عند تعامُلهم مع الغرب لأول مرة، وكان أسلوبهم يقضي بتسجيل الملاحظات حول الآخَر مع تأمُّل حالهم في نفس الوقت، ويقوم على المقارنة الصريحة والمباشرة؛ ولهذا نجد أن الدارسين-الرحَّالة الأوائل لم يمتنعوا عن إصدار حكمهم على الأشياء، كما لم يُحجِموا كذلك عن التصريح بالثناء في موضعه، ومن ضمن ما كتبوا: «بمقدورنا التعلُّم من تلك الشعوب الأخرى.» ولكنهم قاموا بذلك بكرامةٍ وثقةٍ بالنفس وبأعرافهم، لم يشعروا قطُّ بالدونية أو التأخُّر بالمعنى المعاصِر للكلمة، فحكموا على صحة الأمور أو خطئها بحسب تأثيرها على العالم، فكانوا براجماتيين، لا موضوعيين ولا منفصلين عن موضوع بحثهم الخاضع للملاحظة، بل بحثوا عن العوامل المشتركة بين الأعراف المختلفة وإمكانيات التعايش فيما بينهم؛ «تذكَّرِ الأوائل والمجدِّدين على حد سواء»، فهما موجودان في دروس الثقافة والكرامة.
وعلماء الأنثروبولوجيا هم أيضًا علماء رحَّالة، وإن كانوا أكثر تخصُّصًا من الأوائل السابقين عليهم، وأفضل علماء الأنثروبولوجيا يلجئون إلى التفكير الحر والتفكير المُقيَّد على حد سواء في الكتابة عن خبراتهم، التي تتعلَّق في الأساس بلقاءاتهم الأولى مع الشعوب الأخرى الأصلية في أوطانها، وهو يقومون كذلك بتسجيل ملاحظاتهم باستخدام الإثنوجرافيا التي يمكن اعتبارها تنظيرًا لعملية الوصف. وبالرغم من أن علماء الأنثروبولوجيا الأنجلو-أمريكيين ليسوا وحدة واحدة يسودها التناغم، إلا أن أكثرهم حساسيةً فقط هم مَن يتشكَّكون وينخرطون في نقد مبدأ الاستثنائية الغربية بحِدَّة. ولعلَّ أبسط قواعد العمل هو المبدأ القائل بأن «جميعنا بشر»، وهو ينطبق على أفضل الأنثروبولوجيين الذين يخالفون القواعدَ غير المُعلَنة لمهنتهم عندما تعوق هذه القواعدُ قدرتَهم على الاستيعاب، وهم كذلك يعقِدون في دراساتهم المقارنات الضمنية والصريحة على حدٍّ سواء، ويزعزعون من خلالها المفاهيمَ المتعلِّقة بما يُسمَّى «العقلية البدائية»، كما يستكشفون في عملهم طبيعةَ عملية التفسير نفسها، وينظرون للأمور نظرةً شاملة، وهم يرون أن «جميعنا عاقلون» ويتَحدَّون بهذه الفكرة المفاهيمَ الأورو-أمريكية لماهية التفكير العقلاني، ويردُّون من خلالها صفةَ الكرامة للجماعات التي يدرسونها. وهذا النوع من علماء الأنثروبولوجيا يتصدَّى لمَن يرغب في تقسيم الجنس البشري باستغلال وَهْمِ «فرض التحضُّر على الآخرين».
أما تحليل الأصوليات المختلفة، فيتناول عالَمًا يتسم بوجود العديد من العلاقات بين جهات معلومة وأخرى مجهولة، من خلال فرْضِ النزعة التجارية على العالم؛ إذ لم تَعُدْ توجد علاقاتٌ مباشِرة بين جهتَيْن كلتاهما مجهولتان. توجد ثلاثة أنواع متداخلة من الأصوليات في العالم؛ هي: الأصولية المؤسسية، والأصولية الإنجيلية، والأصولية الإسلامية. وأولى هذه الأصوليَّات — الأصولية المؤسَّسية — هي عبارة عن دمْجٍ بين الديمقراطية والأسواق التجارية، بينما المساجد والكنائس ترغب في التقاليد والاستقرار والكرامة للأسر والأطفال. والصلاتُ بين كافة العناصر عالميةٌ؛ إذ يشعر الآباء في جميع الأنحاء بالعجز في مواجهة نزعةٍ تجاريةٍ تشارك في تنشئة الأطفال عن طريق قِيَمٍ نشأت في الولايات المتحدة، وتساوي ما بين الذوق العام أو الاستهلاك الواسع الانتشار، وبين مصلحة عامة هي تصنيع أسلوب حياة يتحوَّل فيه الانتماءُ من الأسرة إلى العلامات التجارية. فتحدُث فجوة بين الأجيال داخل الأسر نتيجةً لتعاقُب التداعيات عليها، بينما يدفع ردُّ فعلٍ آخَر معاكِسٌ أجيالَ الآباء والأبناء للتعاضُد سياسيًّا ودينيًّا؛ ويُطلِق البعض على هذا اسمَ «التغريب المتنافر».
وهكذا، على الرغم من أن النقاش المبدئي المتعلِّق ببذور اللاعنف في الشرق الأوسط يتعيَّن أن يتناول عناصرَ مثل الثقافة والمجتمع والإعلام الدولي والتاريخ، فإنه يمكن استخدام بذور اللاعنف كترياق لهدم القوالب النمطية التي تَصِمُ الساميين العرب بالعنف. لا توجد منطقة في العالم تنشأ عنيفة أو غير عنيفة، بل إن الظروف التي تمرُّ بها كلُّ منطقة تخلق الإمكانيات لحدوث إما العنف وإما نقيضه؛ فتجَّار الأسلحة العالية التقنية يخلقون إمكانيةً لحدوث عنف واسع النطاق، بينما التاريخ والتقاليد (الدينية وغيرها) يتيحان أن يسود اللاعنف، خصوصًا عندما يُثبت العنف فشله مرارًا وتكرارًا، أو عندما ينعدم خيار العنف من الأساس (عدم وجود أسلحة)، أو عندما تكسر أيُّ أمة حاجِزَ الخوف داخلَها. كل هذا ينكشف وينجلي كلما تعمَّقنا في دراسة القوى المحركة للعنف واللاعنف.
يحفل الشرق الأوسط بالكثير والكثير من الضوابط التي تحدُّ من العنف، أو على الأقل تَحُول دون تصعيده؛ مثل: ضبط النفس، والثقافة القائمة على القانون، ومفهومَيِ الشرف والعار، والواسطة، والتساؤل عن المستفيد من العنف أو اللاعنف. وعلى الرغم من أن التعامُل مع كلٍّ من هذه النقاط ليس هيِّنًا، فإنه من الواضح أن إهدار كرامة العدو فكرةٌ سيئةٌ على المدى القريب والمدى البعيد على حد سواء. وبالرغم من أن القرآن يحثُّ على الصبر، ولكن قد يؤدِّي إهدارُ الكرامة وفقْدُ الحقوق المدنية إلى الانفجار على مرأًى ومسمعٍ من الجميع. وهذه حقيقة لا خلافَ عليها على مر العصور؛ لذا ينظر البعض إلى الربيع العربي باعتباره حركةً جماهيرية لاسترداد الكرامة.
ولكنَّ كل تلك الدروس المستقاة على مدار قرونٍ، تمضي دون أن يلمحها أو يستفيد منها أحدٌ؛ فهل يمكن إذن نَشْر التنوير من خلال مكافحة الضلالات؟ وهل الشعوب قابلة للتعلُّم؟ الملاحظة الواضحة والأكيدة هنا أنه عندما تكون الحياة محدودةً وذات إيقاع متوقَّع إلى حدٍّ ما، تُبتَكَر الحلول بمرور الوقت وتُستَخدَم للحفاظ على بقاء المجموعة، حتى إن كان هذا هو الغرض الوحيد منها. ولعلَّه من السذاجة الظنُّ بأنه يمكن تشريع الحلول للتعامُل مع تعقيدات الحياة ومخاوف العالم المعاصر، لكن أحيانًا تنتشر الأفكار بشكل تصاعدي، كما حدث مع انتشار أفكار الحقوق المدنية والديمقراطية، ثم تأتي اللحظة الفاصلة، لحظة الانفجار. والربيع العربي كان لحظةَ انفجارٍ؛ ولهذا لم يكن متوقَّعًا كما أشار منذر كيلاني في مقالٍ له بعنوان «عمَّ تعبِّر «الثورات العربية»؟» (كيلاني، ٢٠١١).
وختامًا، لا يضمُّ هذا الكتاب خلاصةً مثيرةً للطريقة المُثلى للتعامل مع المشكلات، بل هو فقط يحمل طاقةَ تفاؤلٍ مبنية على قدرة البشر على البقاء على مرِّ العصور؛ لأنهم تعلَّموا أحيانًا كيفية البقاء. ولكننا اليومَ كوكبٌ كامل يحاول تعلُّمَ كيفية البقاء، وهذا تحدٍّ لا يشبه أي تحدٍّ سابق. إننا نشهد على مستوى العالم فعاليات ثورية من طراز حركة «احتلوا»، بدءًا من ميدان التحرير إلى وُل ستريت، تعبِّر عن مشاعر ترتبط برغبة البقاء على قيد الحياة والحاجة للتغيير على مستوى كوكبنا ككلٍّ؛ ولهذا فسوف يكتسب التقدُّمُ معانيَ جديدةً تتطلَّب استراتيجياتٍ جديدةً؛ استراتيجيات إخضاع ولكن باتجاه معاكس.
استراتيجيات الإخضاع (المعاكس)
تمتلئ النصوص الأنثروبولوجية باستراتيجيات مختلفة للإخضاع تمثِّل تقليديًّا جزءًا من استراتيجية الهيمنة التي استخدمتها القوى الأورو-أمريكية للتعامُل مع الشعوب الأخرى. والواضح أن هذه الاستراتيجيات ترتبط بمبدأ التقدُّم، وهو يُعَدُّ مفهومًا حديثًا ظهَرَ لأول مرة مع الحضارات الصناعية الأولى في أوروبا؛ حيث كان الناس، وما زالوا، يُصنَّفون ضمن فئات مختلفة بحسب تطوُّرهم الاجتماعي. وعلى الرغم من جهود علماء الأنثروبولوجيا الأورو-أمريكيين لنقد نظرية التطوُّر الأُحادي الخط في بدايات القرن العشرين، فإن الأنثروبولوجيا قد اشتركت في تشكيل استراتيجيات الإخضاع التي تلتها؛ مثل: «الحداثة»؛ وتعني أن بعض الناس لا يُعتبَرون عصريين بالرغم من أنهم معاصرون؛ و«التأخُّر» وهي لفظة تشير إلى الجماعات التي لم تَفِ بمعايير التطوُّر. ومن المصطلحات الأخرى «العِرقيةُ»، وهو عنصر لا يمتلكه سوى مجموعة معينة من البشر. وفي وصف الأشخاص بالإشارة إلى الأصول التي انحدروا منها، في تعبيرات مثل أفرو-أمريكي، أو مكسيكي-أمريكي، أو عربي-أمريكي، في حين أن تعبيرات أخرى مثل أنجلو-أمريكي أو فرنسي-أمريكي أو أمريكي-إسرائيلي، لا تُستَخدَم إلا فيما ندر.
وقد رسَّخَ المفكِّرون الغربيون استراتيجياتِ الإخضاع تلك من خلال مبدأ الافتقار (نادر، ٢٠٠٥)؛ كقول البعض إن المجتمعات الإسلامية تفتقر إلى وجود قانون قائم على العقلانية، وتلك كانت بصمة فيبر، وما زالت تُستخدَم حتى اليوم لتبرير إخضاع الشعب العراقي الذي هو «بحاجة» إلى سيادة قانونية أكثر عقلانيةً. ويُقال كذلك إن الصينيين يفتقرون إلى القضاء، هذا إن كان يمكن الزعم بأن لديهم قانونًا على الإطلاق. أما مفهوم حقوق الإنسان، فعلى ما يبدو ينطبق في الأساس على الثقافات غير الغربية؛ مثل الأماكن التي يُقال إن النساء المسلمات فيها بحاجةٍ إلى حمايتنا من أقاربهن الرجال من ناحية الأب. هذا علاوةً على مسمَّيات أخرى تستخدمها مؤسسات اقتصادية قوية مثل البنك الدولي للتعبير عن درجات التبعية؛ مثل تصنيف العالَم إلى عالَمٍ أول وعالَمٍ ثانٍ وعالَمٍ ثالث، بل وحتى عالَمٍ رابع. وفي كل هذا دليل على أن التطوُّر الأُحادي الخط ما زال قائمًا وفعَّالًا.
أنا شخصيًّا ترعرعت في بلدة صناعية في ولاية كونيتيكت، يعيش بها أناسٌ يُشار إليهم بأصولهم — أمريكيون-إيطاليون، وأمريكيون-بولنديون، وأمريكيون-أيرلنديون، وأمريكيون-لبنانيون أو سوريون — في مقابل أناسٍ آخَرين يبدو أن أجدادَهم أتوا إلى البلاد على ظهر السفينة مايفلاور؛ ولذا لا ينحدرون من أي «عِرق». وعلى أي حال، فقد شعرتُ أنني مدفوعة — وإن كان عن غير وعي ذاتي مني — إلى الخضوع باتجاهٍ معاكِسٍ منذ فترة طويلة ترجع إلى عام ١٩٦٩م في مقالِي «الدراسة الأنثروبولوجية للمستويات العليا في الهيكل الاجتماعي»، الذي نُشِرَ في كتاب ديل هايمس «إعادة اختراع الأنثروبولوجيا» (١٩٦٩)؛ دعوتُ فيه إلى دراسة أي موضوع خاضع للبحث الأنثروبولوجي دراسةً متكاملةً تشمل كافةَ الجوانب؛ كأنْ نشمل البنوكَ التي تمتنع عن منح القروض للفقراء عند دراستنا فقراءَ الولايات المتحدة ساكني أحياء الأقليات أو الجيتو؛ ونشمل المستعمرين عند إجراء دراسات إثنوجرافية على الشعوب الأفريقية؛ وندرس النخب إلى جانب الفقراء، والمضطهدين والمستعمَرين، حتى نقدِّمَ دراساتٍ أنثروبولوجيةً ملائمةً أكثر، بل علمية أكثر أيضًا. فكيف يتسنَّى لنا فهم أفريقيا مثلًا دون فهم الاستعمار واستمراره في فترةٍ من المفترض أنها تالية للاستعمار؟ لم يزَل البريطانيون يمتلكون مناجِمَ الماس في سيراليون، بينما يتحكَّم المزايدون الأجانب في نفط العراق؛ لأنهم يعتقدون أنهم أدرى من غيرهم بالاستخدام الأمثل لهذا المورد الثمين، علاوةً على أن بعض القادة العراقيين يرغبون في وجود تلك الشركات أيضًا.
في أعقاب حركة الحقوق المدنية في الولايات المتحدة، واجهنا سيلًا من حركات الاختلاف أو «التنوُّع». ظهر دعاةُ التنوُّع من حيث لا يدري أحد، ولكن يبدو أنهم واجَهوا صعوبةً في قبول فرضية أن أيَّ اختلافات بين البشر تُعَدُّ اختلافاتٍ سطحيةً مقارنةً بتقدير ما يشتركون فيه جميعًا. وهكذا يتبلور مفهومُ إخضاع الأعراق ويدوم من خلال خبرة متفانية في الهندسة الاجتماعية والثقافية، وفي الاختلاف باعتباره «مشكلةً». وقد يتساءل البعض: متى يُشكِّل الاختلافُ مشكلةً على الإطلاق؟ متى يُحرَم الأمريكيون من حقِّهم في الاقتراع؟ متى يكون رأْبُ الفجوة بين المساواة والاختلاف مسألةً غاية في الأهمية؟ ومتى تفقد أهميتها؟
طالما كان التركيز على الاختلاف، وإبرازه لتيسير عمليات الإقصاء، من سمات السيطرة والهيمنة الاستعمارية، وبالمثل فإن أيديولوجية استخراج التجانس من التنوُّع هي أساس الهندسة الثقافية التي تتبعها الولايات المتحدة للتعامل مع الأقليات، وتجازف من خلالها بنشأة فكرٍ شبيهٍ بالفاشية الثقافية! فمثلًا تضمن أيديولوجيات التجانُس أن نشرب جميعًا الكولا وأن تتشابه أذواقنا الاستهلاكية، ولكن التساؤل الذي يطرح نفسه هو: مَن المستفيد من الاختلاف أو التجانُس؟ وأين يظهر التعايش أو الاحترام المتبادل؟ إن الأوروبيين لديهم هلعٌ من المهاجرين المسلمين، وما يحملونه من عادات ودين، ولكن هل خاف المصريون أن يجتاح التجَّار الأوروبيون الإسكندرية؟ علينا أن ننقل تساؤلاتنا عبر التاريخ. في عام ١٩٩٦م صدر كتاب «العلم المُجرَّد: بحث أنثروبولوجي حول الحدود والقوة والمعرفة» (نادر، ١٩٩٦)، وتناوَلَ جزئيًّا النتائج المترتبة على خضوع أساليب علمية مختلفة لأسلوب علمي واحد؛ فحتى في أوروبا وحدها تتعدَّد الأساليب العلمية؛ لذلك كشفنا في هذا الكتاب عن أسباب أهمية الطبيعة التعدُّدية للعلم والاعتزاز بها.
وطالما كانت دولة الأمن القومي — وما زالت — مهتمةً بكيفية الاستفادة من علم الأنثروبولوجيا. وقد استفدتُ في مقالي «العنصر الخفي: أثر الحرب الباردة على الأنثروبولوجيا» (نادر، ١٩٩٧) — كما استفاد غيري من علماء الأنثروبولوجيا مثل ديفيد برايس — من قانون حرية المعلومات في توسيع نطاق معرفتنا باستخدام «الاستخبارات الأنثروبولوجية» (٢٠٠٨) لخدمة السلطة. ومشاركةُ علماء الأنثروبولوجيا في إعمار الشرق الأوسط ليست بجديدة، ولكنها في تصاعُد منذ بدايات القرن العشرين. فبعد انقضاء الحرب العالمية الثانية استدعى فرانكلين ديلانو روزفلت عالِمَ الآثار المتخصِّص في شئون الشرق الأوسط هنري فيلد، لرغبته في معرفة المناطق غير المأهولة في الشرق الأوسط. والمعلوم أن الأورو-أمريكيين طالما عرفوا أفضلَ الطرق لاستغلال «المناطق غير المأهولة»، ولم يكُن روزفلت يختلف عنهم، بالأخص في الوقت الذي كان احتياطي النفط فيه يُعَدُّ من أهم الموارد، بالإضافة إلى النقاش الدائر حينها حول نقل لاجئي الحرب العالمية الثانية إلى المنطقة لتأسيس موضع قدم للغرب فيها. لقد كان اكتشاف النفط، وازدياد الرغبة فيه، سببًا منذ اللحظة الأولى في زعزعة استقرار أجزاء من الشرق الأوسط وأفريقيا وبعض الأماكن القليلة السكان في أمريكا الشمالية.
ولكن في مقابل كل عالِم أنثروبولوجي يقبل العمل لمثل هذه الأغراض (في مشروع المضمار الإنساني مثلًا الذي أُطلِقَ خلال فترة رئاسة جورج بوش الابن)، يوجد آخَرون يهتمُّون بقضايا الرفاهية الجماعية للشعوب، وبالنقاشات المعاصرة حول استغلال الأنثروبولوجيا لأغراض عسكرية (جونزاليس، ٢٠٠٩). غير أن أغلب الناس، بمن فيهم علماء الأنثروبولوجيا، لا يبالون. ولكن تغيير العالم لا يتطلَّب سوى عددٍ قليل من الأشخاص كما تقول مارجريت ميد. وإن لم نصدِّق ذلك، فَلْنتأمَّلْ أولًا العشر سنوات السابقة والتالية في تاريخ واشنطن العاصمة في ظل رئاسة بوش الابن، وأثر الليبرالية الجديدة في خدمة الإمبراطورية.
قد يأتي اليوم الذي نشهد فيه إقامة معارض للكتاب تُعرَض فيها دراساتٌ متميزة في الأنثروبولوجيا العامة، ولسوف أحرص على عرض كتاب «السباحة ضد تيار نهر دجلة» (٢٠٠٧) لعالِمة الأنثروبولوجيا والصحفية باربرا نمري عزيز، التي توثِّق فيه التبعاتِ القاتلةَ لاثني عشر عامًا من العقوبات الاقتصادية، التي فرضتها الولايات المتحدة والمملكة المتحدة والأمم المتحدة خلال الفترة السابقة لغزو العراق عام ٢٠٠٣م، وتسبَّبَتْ في إزهاق أرواح ما يُقدَّر بنحو ١٫٥ مليون شخص، بينما كنَّا نحن نُشيح بأبصارنا ونتجاهل الوضع. إن الباحثين المَهَرَة لا يكتفون بدراسة المجتمعات المنكوبة، بل يشيرون إلى أسباب نكبتهم، مقيمين الروابطَ بين التحوُّلات المحلية والقومية (دوكاس، ٢٠٠٣؛ شيبر-هيوز وفاكونت، ٢٠٠٣).
وحتى تكتمل الصورة، فإن استراتيجيات الإخضاع المعاكس هي نقيض الدراسات التي تركِّز على الضحايا، وتختلف كذلك عن أساليب البحث من منظور الرفاهية الاجتماعية، بل تربط استراتيجيات الإخضاع المعاكس بين مبحوثيها وعمليات التغيير الأشمل. وهذا هو ما يجيده علماء الأنثروبولوجيا؛ إذ يتأمَّلون سلالةَ الإنسان العاقل على مدار الآلاف من السنين، وبعد حدوث ما يكفي من التطوُّر لإقامة الدول المركزية، يتفكَّرون في الوجهة المُحتمَلة لذلك الكائن البشري، وعسى أن تزوِّدنا دراسةُ التاريخ بمنظورٍ مفيد للبحث.
سافَرَ ميرزا أبو طالب خان (١٨١٤) من الهند إلى إنجلترا في القرن الثامن عشر، وكتب الجبرتي (١٧٩٨) — وهو أعظم مؤرِّخي العرب — عن نابليون في مصر؛ نابليون الذي كان ينادي بالحرية والتحرير بينما هو يمارس العكس. وقد ارتحل هذان الرجلان الشريفان في قومهما حينما كان الشرق هو العالَم، وقبل سيطرة مفاهيم الاستعلاء الغربية، ليُعلِّمانا الكثيرَ عن أنفسنا سلبًا وإيجابًا؛ إذ لم تكُن دراساتُهما النقديةُ أُحاديةَ الاتجاه. فعلى سبيل المثال: يناقش أبو طالب أولًا «كم الرعب» الذي تحتويه العقوباتُ التي يفرضها النظام القانوني البريطاني في الهند، ثم يعقد مقارَنةً بينها وبين محاكم كالكتا، من خلال الاستشهاد بدعاوى هندية معروفة يجري فيها إعادة الشهود الذين يُتَّهَمون بالكذب إلى بيوتهم دون جزاء. لقد تأمَّلَ أبو طالب حالَ قومه وهو يُجرِي دراسته، وجاء نقده في النهاية بنَّاءً؛ فاقترح أن يحصل المحامون، مثل القضاة، على أتعابهم من المال العام للتخلُّص من أي دوافع للتأخير قد تنبني على دواعٍ مالية. وبالإضافة إلى دراسته النقدية للحريات القانونية الإنجليزية، نجده يقارن بين الحريات الممنوحة للمرأة الهندية والمرأة البريطانية، في محاولةٍ لتبرئة ساحة المرأة الآسيوية من الآراء المُلصَقَة بها؛ فهو لا يكتفي بدحض صورة المرأة الآسيوية (النخبوية) المقهورة، بل يتقدَّم بادِّعاءٍ أجرأ بأنها تتمتَّع بحريات أكثر مقارَنةً بالمرأة الأوروبية؛ إذ من حقِّها حيازةُ ممتلكات منفردة، وأن تديرها دون تدخُّلٍ من رجال عائلتها أو جماعتها.
وبالمثل، تسود الكثير من المعتقدات غير العلمية في نقاشاتٍ حول الطاقة بين بعض علماء الطاقة ورجال السياسة والاقتصاد: الطاقة النووية «أرخص من أن تُقاس»، التغيير يعني الحفاظ على الوضع الراهن، التقدُّم مساوٍ للنمو، إجمالي الإنتاج القومي يعني زيادةَ الرفاهية، نمو الطاقة يعني تحقيق نموٍّ اقتصاديٍّ أكبر، زيادة الإنفاق على الطاقة لا يغيِّر أسلوبَ الحياة بينما يغيِّره نقصُ الإنفاق، الحلول الفنية قادرةٌ على حلِّ المشكلات الإنسانية والحيلولة دون وقوع الكوارث، الحل النظري للمشكلات مساوٍ لحلِّها على أرض الواقع، الأرقام حقيقية، يمكن التخطيط للمستقبل، حفظ الطاقة وتوفيرها أساليب قمعية، كلما زاد الحجم كان ذلك أفضل، إما النمو وإما الفشل (نادر ٢٠١٠). وليست تلك سوى مجموعة صغيرة من المعتقدات أوردها هنا كأمثلة، وتوجد بيانات تدحض تقريبًا كلَّ هذه المعتقدات التي تقودنا إلى خوض الحروب على الموارد والمعاناة من مآسٍ صحية يمكن تجنُّبها. وما أقلَّ العلماء والأطباء الذين يدركون الأوهامَ والضلالاتِ المترسخة في نماذجهم!
ويجمع كتاب «الغنيمة: عندما تكون سيادةُ القانون غيرَ قانونية» (ماتاي ونادر، ٢٠٠٨) بين طيَّاته خلاصةَ ٥٠٠ عام من التوسُّع الأورو-أمريكي والأوهام والضلالات المرتبطة بالاستعمار الأورو-أمريكي، وفيه أردنا أنا وأوجو ماتاي التوثيقَ لاستغلال أيديولوجية سيادة القانون في المغامرات الإمبريالية، منذ أن اتَّخَذ كولومبوس كاتب عدل اسمه رودريجو إسكوبيدا وصعد به إلى ظهر السفينة سانتا ماريا في رحلته إلى العالم الجديد.
ساق جون لوك في إنجلترا (١٦٩٨) وإيميريش دي فاتيل في سويسرا (١٧٩٧) معنى الغنيمة بالقانون؛ فهي: «أكبر مساحة من الأرض يستطيع الرجل حرثها وزراعتها وتحسينها وفِلاحتها واستخدامها»، وبفكرة الأراضي المُباحة (ماتاي ونادر، ٢٠٠٨: ٦٧) التي يمكن تخصيصها للسلطات التي تُقام. في عام ٢٠٠٣م أرسل الرئيس بوش بول بريمر إلى العراق بزعم فرْضِ سيادة القانون، في مكانٍ من المفترض أنه لا يعرف القانونَ؛ لأنه كان تحت حكم ديكتاتوري، وطبَع بول بريمر بدوره ١٠٠ أمرٍ لتبرير نهب العراق، ومَنَح بموجبها الأفضليةَ للشركات الأمريكية باعتباره — آنذاك — رئيسَ سلطة الائتلاف المؤقتة (ماتاي ونادر، ٢٠٠٨: ١١٨)، وهي ذات الوصفة التي استُخدِمَت للنهب منذ ما يقرب من ٥٠٠ عام على الأقل، ومدَّ فترةِ حظرِ صدام حسين عملَ النقاباتِ العمالية. وسمح الأمر رقم (٣٩) بخصخصة المائتي شركة العراقية المملوكة للدولة، والسماح بامتلاك الأجانب حصصًا تصل إلى ١٠٠٪ من حجم الشركات العراقية، ومعاملة الشركات الأجنبية نفس «معاملة الشركات الوطنية»، وتحويل جميع الأرباح والأموال الأخرى تحويلًا غير مقيَّدٍ ومُعفًى من الضرائب إلى خارج البلد، ومنح تراخيص حيازة تصل مُددها إلى ٤٠ عامًا. أما الأمر رقم (١٧) فقد منح المقاولين الأجانب حصانةً تامةً من القوانين العراقية. وبذلك فإن أوامر بريمر حرمَتِ العراق فعليًّا من إمكانية منح الأفضلية للشركات العراقية أو الموظفين العراقيين في أعمال الإعمار؛ هذا فضلًا عن السماح للمنتَجات الأجنبية بإغراق السوق العراقية؛ ممَّا يجبر المنتجين المحليين على ترك العمل. كذلك منح الأمرُ التنفيذي الأمريكي رقم ١٣٣٠٣ الصادر في مايو ٢٠٠٣م حصانة شاملة للشركات الأمريكية التي تتملك أو تسيطر على النفط العراقي أو المنتجات العراقية. إن أوامر بريمر غير قانونية بموجب القانون الدولي الذي ينصُّ على أنه لا يجوز لأي دولة مستعمِرَة أن تحوِّل المجتمعَ الذي هزمته إلى مجتمعٍ مماثِل لها، وما زلنا بانتظار أن نشهد إن كان لكلِّ هذه الأوامر أثرٌ ممتدٌّ أم لا.
إنَّ لمفهوم سيادة القانون تاريخًا عريقًا ظلَّ يُشار إليه طوال ذلك التاريخ باعتباره «مبدأً إيجابيًّا»، ولكن من الأهمية بمكان، كجزء من الاستراتيجية المُتَّبَعة التي تركِّز على الصالح العام، أن يُوقَف استغلالُ مبدأ سيادة القانون استغلالًا غامضًا يتناسب واحتياجات كل طرف من الأطراف السياسية كما لو كان رمزًا أو سببًا للوجود؛ عند احتلال العراق أو أي دولة أخرى على سبيل المثال. وعليه يتعيَّن اعتبار سيادة القانون غيرَ قانونية عندما تُستَخدَم بوصفها عقيدةً أساسيةً في الخطاب الأمريكي حول السياسة الخارجية — جزءًا ضخمًا من «عبء الرجل الأبيض» — أيْ عندما تُستَخدَم لتبرير الإمبريالية، سواء في العراق أم في أي مكان آخَر. وينبغي اعتبار سيادة القانون غير قانونية عندما تُطبَّق بأسلوب إجرامي وتعسُّفي وبحسب الأهواء، جاعلةً من المواطنين الأضعف ضحايا، أو حين تنتهك روح ونص معاهداتٍ مثل اتفاقية جنيف التي تهدف إلى الحد من الحروب المتعلِّقة بالنهب وكسب الغنائم، أو حين يتعمَّد أصحاب السلطة وبأسلوب منهجي عدمَ تطبيق القانون، أو تطبيقَه بناءً على معايير مزدوجة أو من خلال التمييز بين فئات مختلفة؛ أما أسلوب الإخضاع المعاكس فلا يتيح إخفاءَ الانتهاكات وراء أيديولوجيات سيادة القانون. كما يتناول كذلك مغزى تسمية المناطق الجغرافية؛ فكان ألفريد ثاير ماهان، أحد أبرز مناصري القوة البحرية الأمريكية، هو مَن أطلق تسميةَ «الشرق الأوسط» عام ١٩٠٧م، التي صارت تُستخدَم حتى يومنا هذا، ولكن مع إثارة الجدل حول معنى التسمية، فهو أوسطُ مقارَنةً بماذا؟ وإلى الشرق من أين؟ (كوبيس، ١٩٧٦).
دراسات تاريخية جامعة
المقالات المُجمَّعة بين دفَّتَيْ هذا الكتاب تُجمِل الروابطَ الجديدة والقديمة بين الماضي والحاضر، بين المناطق الجغرافية بعضها ببعض، بين الباحثين الإثنوجرافيين الفرديين ومهنتهم والقطاع الأعرض من الجماهير. نحن بحاجة لمزيد من الدراسات والأبحاث التي تربط بين الأطراف المختلفة داخل إطار عالمي، وإذا أخذنا المياه كمثالٍ فسنجد أنها مَوردٌ أساسيٌّ تحتاجه كل الكائنات الحية؛ لذا فعند دراسة النزاعات الدولية حول الأنهار من منظور نقدي، يستحيل أن يتمكَّن الباحث من التفكير بإبداعٍ، إذا كان أسلوبه في العمل محدودًا (نادر، ١٩٩٥). على سبيل المثال: يُعتَبَر حوض نهر الدانوب منطقةً دوليةً؛ إذ يقطع مجرى النهر ثمانيَ دول، ومثله نهر الأردن الذي يقطع حدودَ أكثر من دولة. فنهر اللدان ينبع في إسرائيل ما قبل ١٩٦٧م ويصبُّ في نهر الأردن العلوي، أما نهر الحاصباني فينبع من جنوب لبنان ويصبُّ في نهر الأردن العلوي، ونهر بانياس الذي ينبع من هضبة الجولان في سوريا يصبُّ في نهر الأردن العلوي، بينما نهر اليرموك يشكِّل الحدَّ الفاصِلَ بين سوريا والأردن ويصبُّ في نهر الأردن السفلي. وهكذا تتضح ضرورة تخطِّي كلِّ الحدود لفهم قضية المياه.
ولكن إن أردنا إطلاق العنان للخيال الأنثروبولوجي، فلا بُد أن يشمل النطاقُ الأعرضُ للبحث — بالتزامن — كلًّا من التاريخ والإثنوجرافيا والمقارنة؛ فإذا كان صدام حسين قد حدَّثَ المؤسسات التعليمية العراقية، فإن حرب العراق تسبَّبَتْ في «طمس معالم الحداثة» في الجامعات العراقية، واستهدفت الأساتذة والباحثين. وربما نتساءل عن مصير الجامعات الأمريكية إبَّان الحرب؛ هل أُخضِعَت لمزيد من العَسكَرة؟ (جسترسون، ٢٠١١). إذا كانت المرأة متحرِّرةً في عهد دولة صدام حسين الديكتاتورية، فلِمَ زاد معدل ارتدائها «الحجاب» عند خروجها من بيتها في ظل التدخُّل الغربي في البلاد؟ وهل ترتبط مثل هذه الأحداث بالارتفاع المتصاعد لمعدلات الاغتصاب والمشكلات المُعلَّقة للنساء في الجيش الأمريكي؟ إن وضع مثل هذه الملاحظات بعضها إلى جوار بعض يحرِّر الخيال، فنبدأ في إقامة الروابط بين الأمور، فيما قد يحفِّزنا لدراسة التنافُسِ بين نظامَيْن أبويين؛ أحدهما عربي والآخَر أمريكي.
لجأت مارجريت ميد إلى عقد مقارَنةٍ — عن طريق المُجاوَرَة ما بين الثقافات — بين أنماط المراهقة في كلٍّ من ساموا والولايات المتحدة من خلال كسر الشعور بالألفة أو كسر التعوُّد، وهو أسلوب أجبَرَ الأمريكيين على «رؤية» ما هو مألوف ومعتاد بالنسبة إليهم. فوضع الأمر المألوف في سياقات غير مألوفة يُمكِّن القارئَ من التدبُّر في النتائج أو الاحتمالات البديلة. على سبيل المثال: مراقبة متظاهري ميدان التحرير وشارع وُل ستريت يُظهِر تحدِّي الشباب، ولكن ليس هذا فحسب، بل ويظهر كذلك بأن هذا الجيل لا يستشرف أي مستقبل أمامه بعد إتمام تعليمه. إن أقصى أنواع العجز هو عجز الخيال؛ فالأسواق ليست بشرًا، ولكن تُوصَف بأنها تفعل هذا أو ذاك، والشركات كذلك «تتصرَّف» وتُمنَح حقوقًا شخصية في الولايات المتحدة، على الرغم من أنها ليست بشرًا من لحم ودم، والحكومات تقول أمرًا وتفعل آخَر؛ ولعلَّ جيلَ التحدِّي يرى ما يرفض الجيل صاحب الموقف الدفاعي رؤيتَه؛ وهو الحاجة لاختبار الواقع.
وعلى الرغم من أن تركيز الأنثروبولوجيا كان يَنصَبُّ في المعتاد على كلِّ ما هو غريب، فإنه مع التقنيات المُعاصِرَة المتوافرة في الإنترنت والتليفزيون، لا يوجد ما يمكن وصفه بالغرابة اليوم، إلا أن تكوين العالم اليومَ لا شكَّ غريبٌ — بل عجيب أيضًا — إذ لم يسبِق قطُّ أن شهد تاريخ الإنسانية أيَّ شيء شبيه بما يحدث اليومَ؛ ولهذا فإن وقتنا الحالي قد يبدو مختلفًا تمام الاختلاف إذا ما تأمَّلْناه على امتداده الطويل المدى؛ ممَّا قد يفتح بصائرنا على أشياء قد تكون قريبةً إلى درجةٍ لم نتمكَّن معها من رؤيتها من قبلُ. يوجد كذلك فَرْق بين القول والعمل، بين الديمقراطية والعمل الديمقراطي، بين التقدُّم باعتباره نموذجًا مثاليًّا لإسعاد البشرية وتعريف التقدُّم باعتباره مقدِّمةً للتأخُّر أو «طمس معالم الحداثة». إن الالتزام الأخلاقي في الأبحاث والدراسات يعني إعادةَ تقييم هويتنا وأصلنا ووجهتنا — مَن نكون؟ ومن أين جئنا؟ وإلى أين نحن متوجِّهون؟ — أيْ تاريخ جامع متكامِل له غرض محدَّد.
إن وجود هذا التاريخ الجامع يعني أن تُتاح لنا الفرصةُ للاستفادة من المعرفة بالثقافة والبيئة لتعلُّم شيءٍ ذي قيمة لأنفسنا. على سبيل المثال: ربما يكون الشرق الأوسط هو المنطقة الجغرافية صاحبة أطول تاريخ مُسجَّل على الإطلاق؛ فهو المكان الذي زُرِعَت فيه الحبوب لأول مرة، علاوةً على أن البيئة في الشرق الأوسط معروفة بتدهورها المتواصِل على مرِّ التاريخ. فمن بين ١٥ دولة في العالم تعاني من أعلى معدلات ندرة المياه، يوجد ١٢ منها في الشرق الأوسط (أحمد، ٢٠١١). كيف تعلَّم الناسُ التكيُّفَ مع هذا الواقع على مدار قرون؟ كيف تكيَّفوا مع تآكُل التربة، والتصحُّر، وانخفاض مقاييس المياه؟ وبما أن الشرقَ الأوسط صاحبُ المدن الأولى المرتبطة بالتخصُّص والمركزية، فكيف تعامل مع التفاوت في المستويات؟ يقول السكان الأصليون للبلاد إن الفروق الحضرية كانت تُعالَج من خلال أساليب المساواة بين الطبقات؛ مثل ارتداء الحجاب في المناطق الحضرية، أو مثل ما يحدث في السودان من انتشار ارتداء الأغنياء والفقراء ملابسَ بيضاء بالكامل، علاوةً على وجود قواعد تقضي بعدم التفاخُر ترجع إلى الإيمان بالحسد. كذلك كان السلام السائد بين الجماعات الدينية المختلفة سببًا في انتعاش فلسفات التعايش. ولعلَّ الضوابط التلقائية كمفهوم العار تمثِّل وسائلَ للبقاء والحفاظ على الحياة في المجتمعات. بأسلوب آخَر: المحاولات الجمعية تنشأ للتعامل مع مشكلات جمعية. وجميع الشعوب تستطيع الاستفادةَ من دراسة الشعوب الأخرى، خاصةً مع مواجهتها جميعًا لنفس المشكلات الجمعية من تغيُّر المناخ والعنف والحروب من أجل الموارد ونزوح السكان؛ فلا يوجد مكان على المدى البعيد لمفهومَيْ «نحن» و«الآخر».
مراجع
-
Ahmed, Nafeez Mosaddeq (2011) Freedom Will Not Chase Away the Arab World’s Triple Crisis. Beirut Daily Star, February 19. Available at http://www.dailystar.com.lb/Opinion/Commentary/Feb/19/Freedom-will-not-chase-away-the-Arab-worlds-triple-crisis.ashx#axzz1stlaWmk2 (accessed April 23, 2012).
-
Aziz, Barbara Nimri (2007) Swimming Up the Tigris: Real Life Encounters with Iraq. Gainesville: University of Florida Press.
-
Doukas, Dimitra (2003) Worked Over: The Corporate Sabotage of an American Community. Ithaca, NY: Cornell University Press.
-
Gonzalez, Roberto (2009) American Counterinsurgency: Human Science and the Human Terrain. Chicago: Prickly Paradigm Press.
-
Gusterson, Hugh (2011) Universities and the Costs of the Iraq War. The Brussels Tribunal. Available at http://www.brussellstribunal.org/ University_At_War.htm (accessed April 17, 2012).
-
Khan, Mirza Abu Taleb (2008 [1814]) The Travels of Mirza Abu Taleb Khan. Ontario, Canada: Broadview Press.
-
Kilani, Mondher (2011) What are “Arab Revolutions” Expressions Of? An Anthropological Perspective. Unpublished paper presented at American Anthropological Association Annual Meeting, Montreal, November 19, 2011.
-
Koppes, Clayton R. (1976) Captain Mahan, General Gordon, and the Origins of the Term “Middle East.” Middle Eastern Studies, 12, January, pp. 95–98.
-
Mattei, Ugo and Laura Nader (2008) Plunder: When the Rule of Law is Illegal. New York: Blackwell.
-
Nader, Laura (1969) Up the Anthropologist: Perspectives Gained from Studying Up. In Reinventing Anthropology. Dell Hymes, ed. New York: Pantheon Books, pp. 284–311.
-
Nader, Laura (1996) Naked Science: Anthropological Inquiry into Boundaries, Power, and Knowledge. New York: Routledge.
-
Nader, Laura (1997) The Phantom Factor: Impact of the Cold War on Anthropology. In The Cold War and the University. Noam Chomsky, ed. New York: New Press, pp. 107–146.
-
Nader, Laura (2005) Law and the Theory of Lack. Hastings International and Comparative Law Review, 28, no. 2, pp. 191–204.
-
Nader, Laura (2010) The Energy Reader. Oxford: Wiley-Blackwell.
-
Price, David (2008) Anthropological Intelligence: The Deployment and Neglect of American Anthropology in the Second World War. Durham: Duke University Press.
-
Scheper-Hughes, Nancy and Loic Wacquant (2003) Commodifying Bodies. London: Sage.
-
Shivji, Issa G. (2003) Law’s Empire and Empire’s Lawlessness: Beyond Anglo-American Law, Journal of Law, Social Justice and Global Development, no. 1. Available at http://elj.warwick.ac.uk/global/issue/2003-1/shivji.html (accessed April 17, 2012).