الركائز الأولى
إن شبكة الإنترنت العالمية كما نعرفها اليومَ بدأتْ بهدف مختلف تمامًا، وهي مثال
على قانون النتائج غير المقصودة الذي ناقشناه في الفصل الثالث. كانت ركيزةُ
ابتكارها إطلاقَ اتحادِ الجمهوريات السوفيتية الاشتراكية للقمر الصناعي سبوتنك ١
نحو مدار الأرض يوم ٤ أكتوبر من عام ١٩٥٧. من المثير للعجب أن آلةً في حجم كرة
السلة تدور حول كوكب الأرض كل ٩٨ دقيقة كان لها مثل هذا التأثير العظيم على الحرب
الباردة ومستقبل الاتصالات عن بُعْد.
1 بعدها بشهر واحد، أطلق العلماء والمهندسون السوفيت القمرَ الصناعي
سبوتنك ٢ وعلى متنه راكب، وكان الراكب كلبة. في ذاك الحين كان للسوفييت السبق
بوضوحٍ في السباق العالمي لغزو الفضاء.
مع انهيار الاتحاد السوفيتي في ١٩٩١، كان من الصعب على مَن وُلِدوا بعدَ هذا
التاريخ استيعابُ الخوف الذي أنزله إطلاق القمر سبوتنك في نفوس الأمريكيين إبَّان
خمسينيات القرن العشرين. بلغت الحرب الباردة حالةً من الجمود بعد الحرب الكورية،
وإطلاقُ السوفيت لمركبة فضائية ضئيلة تدور حول الأرض فوق الولايات المتحدة كان
تطوُّرًا مريعًا في نظر كثيرٍ من الأمريكيين. اتسم العصر بسرعةِ نَشْرِ الولايات
المتحدة والاتحاد السوفيتي لصواريخ بالستية عابرة للقارات مسلحة برءوس نووية حرارية
يتعذَّر استيعاب قوتها التدميرية. وإمكانية نشوب حرب باستخدام هذه التكنولوجيات
الكارثية أقَضَّتْ مَضْجَع الرئيس دوايت أيزنهاور (الجنرال السابق) والكونجرس
الأمريكي. أدَّى إطلاق سبوتنك إلى تضافُر جهد وطني ضخم لتحسين الحال الذي عليه
العلم والتكنولوجيا والتعليم بالولايات المتحدة على المستويات كافة. أحد جوانب هذه
المبادرة الوطنية كان زيادة التمويل للأبحاث التي تُجرِيها الجامعات والمختبرات
الوطنية؛ وكثير من هذه الأبحاث كان برعاية وزارة الدفاع. أنشأ الرئيس أيزنهاور
وكالة مشاريع الأبحاث المتطورة،
2 المذكورة في الفصل الثالث، بدعمٍ من الكونجرس في فبراير ١٩٥٨، أيْ بعدَ
مضي أقل من ٦ أشهر على إطلاق القمر الصناعي سبوتنك.
3
ولما كان الرئيس أيزنهاور ضابطًا سابقًا بالجيش، أدرَكَ من ملاحظته الشخصية خلال
حياته الحافلة الآثارَ السلبية المترتبة على التنافس بين أفرع الجناح العسكري؛ كما
كان محترزًا من «المجمع العسكري الصناعي» بالبلد، وهو المصطلح الذي استخدمه في خطبة
وداعه الرئاسة التي وجَّهَها للأمة في ١٩٦١.
4 كان للقوات المسلحة أَذْرُعها البحثية والتطويرية الخاصة، مثل هيئة
أبحاث البحرية الأمريكية التي موَّلت تطوير أول كمبيوتر رقمي تلقائي، مارك ١، على
يد هاورد إكان وفريقه البحثي بجامعة هارفرد. وتولت آي بي إم تصنيعه وسلَّمَتْه إلى
هارفرد في ١٩٤٤.
5 إبَّان الحرب العالمية الثانية، موَّل مختبر أبحاث المقذوفات التابع
للجيش الأمريكي تطويرَ «إينياك»، وهو أول كمبيوتر إلكتروني قابل للبرمجة في العالم،
بجامعة بنسلفانيا؛ استُخدِم أول مرة في ١٩٤٦ لحساب مسارات المقذوفات البالستية
لجداول إطلاق المدافع.
6 أدى استحداث مدافع جديدة إبَّان الحرب إلى الحاجةِ إلى جداول خاصة بكل
سلاح من أجل تصويب طلقات المدفع بدقةٍ على الهدف؛ وبذلك كان أول تطبيقٍ عملي
للكمبيوتر الإلكتروني الحديث في المساعدة على جعل سلاحٍ قديم نسبيًّا — المدفع —
أكثرَ دقةً.
بمختبر لينكولن المشيَّد حديثًا في معهد ماساتشوستس للتكنولوجيا في ١٩٥١،
موَّلَتِ البحرية الأمريكية ومن بعدها القوات الجوية الأمريكية تطويرَ الكمبيوتر
«ويرلويند» بهدف تنسيق الدفاع الجوي. وتحوَّلَ الكمبيوتر بعد ذلك إلى منظومة «سيدج»
للدفاع الجوي التي طوَّرَها مختبرُ لينكولن أيضًا (شكل
٤-٢).
7 وعلى الرغم من أن هاتين المنظومتين الرائدتين لعبتا دورًا رئيسيًّا في
تطور تكنولوجيا الكمبيوتر، فقد موَّلَ تطويرَهما كلٌّ من الجيش والأسطول والقوات
الجوية بشكلٍ منفصل؛ وهو دليل على المنافسة على الموارد الحاسوبية (والمخصصات
المالية ذات الصلة) بين أفرع وزارة الدفاع الأساسية. في هذه البيئة من المنافسة
الشرسة بين أفرع الجناح العسكري على تمويل أبحاث أنظمة الأسلحة، أُنشِئت وكالة أربا
للاعتماد على خبرات الأمة العلمية (من المجتمع الأكاديمي بالأساس)، من أجل التركيز
على كلٍّ من الأبحاث التطبيقية والأساسية. كانت الوكالة الجديدة غير تقليدية من حيث
إن إدارتها كانت موكلة إلى مدنيين في البنتاجون يرفعون تقاريرهم إلى وزير الدفاع
مباشَرةً، لا إلى ذراع عسكري بعينه.
8 وقد أكد الرئيس أيزنهاور مرارًا على أن المدنيين على قمة تسلسل القيادة
في البنتاجون، مع توليه منصب القائد الأعلى.
هيئة تكنولوجيا معالَجة المعلومات بوكالة داربا
لا يختلف بيان أهداف وكالة داربا الحالي عن بيانها الأصلي، الذي ينص على:
الحفاظ على التفوق التكنولوجي للقوات المسلحة الأمريكية والحيلولة دون
إلحاق المباغتة التكنولوجية الأذى بأَمْنِنا القومي عن طريق رعاية الأبحاث
الثورية العالية المردود، التي ترأب الصدْعَ بين الاكتشافات الجوهرية
واستخدامها العسكري.
9
على الرغم من أن قيادة الوكالة والبرامج التي ترعاها قد تطوَّرَتْ منذ عام ١٩٥٨،
يوضِّح بيانُ أهدافها عزْمَها على تجنُّب المباغتات التكنولوجية (أي المباغتات
المشابهة لإطلاق سبوتنك)، واستغلال الابتكار التكنولوجي لدعم الأجنحة العسكرية.
تهدف داربا إلى التركيز على الأبحاث والتطوير الطويل الأجل، مع مباشَرة كلِّ جناح
عسكري على حدة للأبحاث المعنِيَّة باحتياجات قصيرة الأجل. إحدى نقاط الاهتمام
الرئيسية لدى وكالة داربا منذ ستينيات القرن العشرين كانت علوم وتكنولوجيا
المعلومات. أُنشِئت هيئة تكنولوجيا معالجة المعلومات التابعة لوكالة داربا في ١٩٦٠،
ولا يزال عملها البحثي مستمرًّا حتى تاريخ كتابة هذه السطور، بما فيها فاعليات
مسابقة داربا الكبرى التي تتنافس فيها مركبات ذاتية القيادة.
10 كما موَّلَتْ هيئةُ تكنولوجيا معالجة المعلومات (إيبتو) أبحاثًا حديثة
على ذاكرة الوصول العشوائي المقاوِمة للمغنطة
MRAM التي ستسمح باستمرار قانون مور حتى أمدٍ
بعيدٍ بهذا القرن.
11
اعتمدَتْ مشروعاتُ هيئة تكنولوجيا معالَجة المعلومات على أبحاث علوم الكمبيوتر
المبتكرة التي تربط نظمًا موزَّعة على نطاق واسع، وتتحكم في منظومة سيدج للدفاع
الجوي. ومع نشر المنظومة عام ١٩٦٣، استخدمت ٣٠ كمبيوتر مركزيًّا ضخمًا صمَّمَتْها
شركة آي بي إم (بناءً على كمبيوتر ويرلويند الرائد الذي صمَّمَه معهد ماساتشوستس
للتكنولوجيا) بهدف تنسيق منظومات الدفاع الجوي الأمريكية.
12 كانت أول منظومةِ قيادةٍ وتحكمٍ واسعةِ النطاق قائمة على الكمبيوتر في
العالم تعمل في الزمن الحقيقي. استخدمت المنظومة خطوطَ الهاتف للاتصال بمراكز
التحكم ومنشآت الرادار وقواعد الدفاع الجوي لاعتراض وإسقاط الطائرات المعادية التي
قد تخترق المجال الجوي الأمريكي. عملت المنظومة بالخدمة لأكثر من عشرين عامًا
(١٩٦٣–١٩٨٣)، وطرحت عددًا من الابتكارات في علوم الكمبيوتر تحوَّلت إلى تكنولوجيات
تُستخدَم اليومَ على نطاق كبير، لا سيما استخدام واجهات المستخدِم الرسومية
للتفاعُل بين البشر والكمبيوترات.
اقتفى مشغِّلو منظومة سيدج أثر الطائرات على شاشاتٍ دائريةٍ كبيرة تعمل بتقنية
أنابيب أشعة الكاثود، واستخدموا مسدسات ضوئية على شاشاتٍ لاستدعاء معلومات إضافية
حول الطائرة المعادية (شكل
٤-٢).
13 وتطوَّرَتْ هذه الشاشات إلى أول أدوات عرض رسومية لأجهزة الكمبيوتر،
وأصبحت النموذج المستخدم في أنظمة تعقُّب الطائرات بإدارة الطيران الفيدرالية. كانت
هذه الشاشات بمنزلة سلف شاشات الكمبيوتر المكتبي والكمبيوتر المحمول التي نستخدمها
حاليًّا، وكانت المسدساتُ الضوئية بمثابة واجهةِ تفاعُلٍ أولية بين الإنسان
والكمبيوتر، مع تطوُّر شاشات عرض منظومة سيدج إلى استخدام الأقلام الضوئية التي
استعان بها إيفان سذرلاند في ابتكاره تكنولوجيا «سكيتش باد» الرسومية للكمبيوتر،
التي طوَّرها في معهد ماساتشوستس للتكنولوجيا عام ١٩٦٣. نشأت مهنتان جديدتان؛ هندسة
تطوير البرمجيات وبرمجة الكمبيوتر، أثناء تطوير برامج التحكم المستخدمة في
كمبيوترات ويرلويند ٢ بالمنظومة. وباستطاعتنا تعقُّب أصل الطفرات الأخرى في هندسة
الكمبيوتر مثل ذاكرة النواة المغناطيسية، والتصميم الوحدوي، وقواعد البيانات على
الإنترنت، وصولًا إلى تطوير كمبيوتر ويرلويند. وعلاوةً على ذلك، فإن الابتكارات في
البرمجيات؛ مثل القدرة على استيعاب مستخدمين متعددين في الوقت ذاته، واستخدام بِنَى
نُظُم بيانات متقدمة، خرجت من رحم تطوير منظومة سيدج.
14
النقطة المحورية هي أن تاريخَ تكنولوجيا المعلومات والاتصالات، وتاريخَ الأبحاث
والتطوير بمنظومة الدفاع الأمريكية، ارتبطا ارتباطًا وثيقًا منذ الحرب العالمية
الثانية. وفرت منظومة سيدج منصةً للجمع بين شبكة الاتصالات عن بُعْد الوطنية
وكمبيوترات ويرلويند التي ابتكرتها آي بي إم لإتاحة قدرةٍ على معالجة المعلومات في
الزمن الحقيقي لم يسبق لها مثيل في تاريخ البشرية. بيَّنت منظومةُ سيدج قدرةَ
وفاعليةَ نُظُمِ الكمبيوتر المخصصة لخدمة أغراض القيادة والتحكم العسكرية على نطاق
قارةٍ بأسرها. ودون أجهزة كمبيوتر مركزية عملاقة ونظم اتصالات عن بُعْد ضخمة، ما
كان سيتسنَّى ابتكارُ وظيفةِ القيادة والتحكُّم هذه في الزمن الحقيقي. وبربط أجهزة
الكمبيوتر بأجهزة الاستشعار عن بُعْد، بوسع أجهزة الكمبيوتر معالَجة كمٍّ ضخمٍ من
البيانات الواردة بمعدلٍ يستعصي على أي إنسان أن يضاهيه؛ وبذلك بدأ تطوُّر تخلِّي
الإنسان عن معالجة المعلومات وتوكيله الكمبيوترات بها في الأنظمة الواسعة
النطاق.
بول باران وشبكة الاتصالات المستدامة
تأسَّسَتْ مؤسسة راند
15 في ١٩٤٦ كمنظمة بحثية وتنموية لصالح سلاح الجو الأمريكي وغيره من أجهزة
الدفاع. وبمؤسسة راند ركَّزَ مهندس الكمبيوتر بول باران أبحاثَه على تصميم شبكة
اتصال للقيادة والتحكم بإمكانها النجاة من التدمير في حال نشوب حرب عالمية ثالثة.
لا تَنْسَ أنه في عالَم ما بعد إطلاق الاتحاد السوفيتي القمرَ سبوتنك عقب ١٩٥٧،
كانت المهمة الأساسية لمؤسسة الدفاع الأمريكية هي النجاة من حرب نووية مع الاتحاد
السوفيتي و«الانتصار فيها» (كما لو كان سيوجد أي «منتصرين» بعد نهاية العالم). عمل
بول بقسم علوم الكمبيوتر بمؤسسة راند واقترَحَ إنشاء شبكة من نقاط اتصال مترابطة
تصل بينها عدةُ خطوط هاتفية. كان أحد العيوب الكُبرى بمنظومة سيدج هو أن مراكز
تحويل المكالمات الواقعة بالمدن الكُبرى أو بالقرب منها عرضةٌ للهجوم عليها؛ فاقترح
بول إنشاء نقاط الاتصال الجديدة بالشبكة في مناطق محصنة خارج المراكز الحضرية
الكُبرى؛ لتعزيز قدرتها على النجاة في حال نشوب حرب نووية. كما اقترح نظامًا جديدًا
«لتبديل الرسائل» يقوم بتقسيم الرسالة إلى مقاطع رقمية ويرفق عنوانًا بكل مقطع، ثم
يرسلها عبر طرق مختلفة عبر الشبكة إلى وجهاتها.
16 وقد صرَّح بول باران بما يلي:
اكتشفتُ أنه إنْ صُمِّمت شبكةٌ على شكل مصيدة السمك، فنظريًّا سيظل أغلب
العناصر الناجية من الهجوم على اتصالٍ بالعناصر الناجية الأخرى. وتحقيق هذا
المستوى من الصلابة بالشبكة كان يتطلب حوالي ثلاثة أمثال الحد الأدنى من
العناصر اللازمة لتشييد شبكة تقليدية.
17
كان ذلك تحوُّلًا جذريًّا عن نظام «تبديل الدوائر» الذي استخدمته شبكات الهاتف في
ذاك العصر؛ فالمكالمة الهاتفية الواردة من أي مسافة استلزمت نقطةَ تبديلٍ مركزية
لكل مكالمة، والإبقاءَ على استمرارية وجود دائرة كاملة بين نقطتين على الشبكة من
أجل دوام المكالمة. عادةً ما كانت مراكز التبديل الرئيسية لشبكة هواتف الولايات
المتحدة موجودةً في وسط أكبر المدن؛ ومن ثمَّ كانت معرَّضةً بشدة لهجوم نووي. وكما
توضِّح لنا مخططات بول باران عام ١٩٦٤ (الشكل
٤-٤)، الشبكةُ
الموزَّعة أقلُّ عرضةً بكثير لخطرِ تدميرِ نقاط الربط من الشبكة المركزية. لم يكن
مهندسو شركة إيه تي آند تي مؤيِّدين في ذاك الوقت لفكرة بول لتصميم شبكة موزَّعة،
وظنوا أن فكرة تبديل الرسائل لن تنجح أبدًا؛ بل رفضوا تزويده بخريطةٍ لشبكة
الشركة.
18 واليومَ أُنصِف بول باران مع تحوُّل شبكات الهاتف الوطنية إلى نماذج
تقوم على تبديل حزم البيانات وتستغلُّ الإنترنت، وبوسعها تقديم كفاءة أكبر للشبكة
مقابل تكاليف أقل كثيرًا على المستخدمين.
توصَّل الفيزيائي الإنجليزي دونالد ديفيز إلى أفكار مشابهة بالمملكة المتحدة في
الوقت نفسه، لكنَّ دافِعَه خلف اقتراح هذا النوع من الشبكة التبديلية كان مختلفًا
تمامًا عن دافِع بول باران. كانت مجموعة دونالد البحثية تركِّز في ذاك الوقت على
مشاركة الموارد الحاسوبية الباهظة والنادرة في المملكة المتحدة، ورغبَتْ في ابتكار
تكنولوجيا حاسوبية تكون المملكةُ المتحدة وطنَها، وألَّا يُضطروا إلى الاتكال على
متعهدي التكنولوجيا الأمريكيين.
19 فوُضِع تصوُّر لمفهوم بثِّ حِزَمِ البيانات، وأُطلِق عليه هذا الاسم في
شبكةٍ تعتمد على تبديل حزم البيانات، أصبحَت النموذج المستخدَم لبثِّ البيانات في
المملكة المتحدة ومشروع أربانت.
تدشين مشروع أربانت
ليس القصد من هذا الفصل عرض تأريخ مفصَّل لتدشين مشروع أربانت؛ فقد وثَّق غيري من
المؤلفين هذه القصة بتفاصيل دقيقة.
20 لكن كي يكون المرء مواطنًا يتمتع بالمعرفة الناقدة في الكون الرقمي،
يستلزم منه ذلك الإحاطةَ بمنشأ شبكة الإنترنت وببعض الخلافات التي نشأت مع
تطوُّرها. تعود أصول شبكة الإنترنت كما نعرفها الآن إلى الحرب الباردة، مع ذلك
ابتكرَتْها مجموعةٌ من علماء الكمبيوتر المغرِّدين خارج السِّرْب، وكان كثير منهم
جزءًا من الثقافة المعاكِسة في ستينيات وسبعينيات القرن العشرين. وخلافُ الثقافات
بين الحكومة الأمريكية وأجهزتها (وزارتَيِ الدفاع والتجارة بالأخص) من جهةٍ،
والعلماء المستقلين بالجامعات العامِلين على الشبكة الجديدة من جهة أخرى؛ أدَّى إلى
صراعٍ في الوقت الذي تحوَّلَ فيه مشروعُ أربانت إلى شبكة الإنترنت. ومنذ عام ٢٠٠١،
ظهرت نزاعات جديدة حول السيطرةِ على الإنترنت والدورِ المهيمن الذي لعبته الهيئات
القائمة في الولايات المتحدة الأمريكية.
أيُّ نقاش يتناول تطوُّرَ شبكة الإنترنت يطرح التساؤلَ عن السبب وراء إنشائها. في
العقود التي تلت إطلاقها، أوردت وسائل الإعلام أن المنطق وراء ابتكار شبكة الإنترنت
كان الأمن القومي؛ أيْ إن الشبكة صُمِّمت للحفاظ على روابط الاتصال بين مختلف
نقاطها العديدة، حتى إنْ دُمِّر بعضها من جرَّاء هجومٍ نووي. وبالنظر إلى أنظمة
القيادة والتحكم الدفاعية القائمة على الكمبيوتر والمرتبطة بشبكات مثل سيدج التي
دُشِّنت في خمسينيات وأوائل ستينيات القرن العشرين، يبدو هذا الافتراض منطقيًّا؛
خاصةً إنْ وُضِع في الاعتبار توقيتُ تدشين مشروع أربانت في نهاية ستينيات القرن
العشرين (في ذروة الحرب في فيتنام). إلا أن هذا التفسير صحيح جزئيًّا فحسب؛ فكما هو
الحال مع استحداث أغلب التكنولوجيات الجديدة، تكون القصة الحقيقية أكثرَ
تعقيدًا.
من ليكلايدر إلى تايلور حتى روبرتس في أربا
بعد إنشاء وكالة أربا في ١٩٥٨، تعاقَبَتْ عليها مجموعة من المديرين وشارفَتْ على
الإفلاس والإغلاق بعد أن استحوذَتْ وكالةُ ناسا على كثير من تمويلها من أجل البرامج
المتعلقة بالفضاء.
21 جمعت الوكالة شتاتها مع تركيزٍ جديدٍ على الأبحاث الأساسية، التي لم
يكن لكثيرٍ منها استخدامٌ آني في أنظمة الأسلحة.
22 وفي ظل هذا المناخ إبَّان إدارة كينيدي في ١٩٦١، تولَّى العالِمُ جاك
روينا منصبَ مدير وكالة أربا تحت رئاسة وزير الدفاع روبرت ماكنمارا. واصَلَ جاك
روينا التركيزَ على الأبحاث الأساسية، وفي ١٩٦٢ استعان بجوزيف سي آر ليكلايدر،
عالِم النفس من معهد ماساتشوستس للتكنولوجيا، ليشرف على برنامجٍ بحثي جديد في
العلوم السلوكية تابِعٍ لوزارة الدفاع.
23 وكان ذلك مثالًا آخَر على اختيار الرجل المناسب في المكان المناسب في
الوقت المناسب؛ ما أدَّى إلى الابتكار اللاحق لشبكة الإنترنت.
جرَت الاستعانة بليكلايدر لتولي إدارة تقنيات معالجة المعلومات بوكالة أربا؛ وفي
ضوء تركيز ليكلايدر الجديد المنصَبِّ على شبكات الكمبيوتر، فقد كان الشخصَ المثالي
لإدارة عملياتها في ذاك الوقت. عمل ليكلايدر بالوكالة لعامين فحسب، لكنْ بالالتفات
إلى تلك الفترة وتأمُّلها، كانت مرحلةً تشكيلية مهمة بالنسبة إلى مشروع أربانت. كان
المعتاد أن يقضي مديرو الوكالة فترات قصيرة في المنصب؛ لأنه عادةً ما كانت تُخفَّض
رواتبهم نظير خدماتهم للحكومة، ثم يعودون إلى الوظائف الأكاديمية أو المؤسسية بعد
قضاء عامين إلى أربعة أعوام بالمنصب. تفرَّدَت الوكالة بثقافة الخدمة القصيرة
الأجل التي جذبَتْ بعضًا من ألمع العقول في مجال التكنولوجيا إلى الوكالة منذ
إنشائها إبَّان الحرب الباردة.
24
في خريف عام ١٩٦٢، سافر ليكلايدر إلى مختلف أنحاء أمريكا زائرًا للجامعات
والمختبرات التي حصلت على تمويلٍ من هيئة تكنولوجيا معالجة المعلومات من أجل منشآت
الكمبيوتر. نشط ليكلايدر في ممارسة ضغوطه على معهدِ ماساتشوستس للتكنولوجيا في
بوسطن، ومعهدِ كارنيجي للتكنولوجيا في بيتسبرج، ومؤسسةِ تطوير النظم ومؤسسةِ راند
في لوس أنجلوس، وجامعةِ ستانفورد ومعهدِ ستانفورد للأبحاث وجامعةِ كاليفورنيا
ببيركلي في منطقة خليج سان فرانسيسكو؛ من أجل التماس مشاركتهم في أبحاث المشاركة
الزمنية. ولما كانت وكالة أربا قد قدَّمَتْ تمويلًا تأسيسيًّا بقيمة ملايين
الدولارات إلى كثير من هذه المختبرات، تمتَّعَ ليكلايدر بقدرة معتبرة على التأثير
استحضَرَها في «طلبه» بالمشاركة.
25 وكان لتمتُّعه بالشخصية المثالية للمهمة دورٌ فعَّالٌ؛ فقد كان عالم
نفسٍ وأدرَكَ احتياجَ كلِّ مختبرٍ للعمل بشكل مستقل. وبصفته أستاذًا جامعيًّا
سابقًا، تفهَّمَ بيئةَ البحث الأكاديمي وضرورةَ توفيرِ قدرٍ من حرية الاختيار في
الطرائق التي يقترحون استخدامَها في أبحاثهم الحاسوبية. لمسوا في الرجل أفكارًا
كأفكارهم، ووجدوا فيه نصيرًا استثنائيًّا للأبحاث الحاسوبية في وزارة
الدفاع.
في أبريل من عام ١٩٦٣، أرسل إلى كبار باحثيه الرئيسيين مذكرةً مشهورة الآن
موجَّهةً إلى «أعضاء شبكة الحاسوب الرابطة بين المجرات والمنتسبين إليها»، حضَّهم
فيها على تجاوُز الحدود الجغرافية، وعلى ربط شتَّى أنظمتهم الحاسوبية إلكترونيًّا
معًا.
26 كانت مذكرةً طويلةً ومفصَّلةً تناولَتْ معالجةَ البيانات على الكمبيوتر
وتطبيقاتها الممكنة. اختتم ليكلايدر مذكرته بمناشدةٍ لتحقيق التوازُن بين احتياجات
الجيش واحتياجات الأبحاث الأساسية في علوم الكمبيوتر:
اعتزمتُ استعراضَ اهتمامات وكالة أربا على صعيد القيادة والتحكم في التفاعُل
المعزز بين الإنسان والكمبيوتر، وفي المشاركة الزمنية وفي شبكات الكمبيوتر …
والحقيقةُ كما تتجلَّى أمامي هي أن الجيش في حاجةٍ ماسة إلى حلولٍ لكثير أو لمعظم
المشكلات التي ستنشأ إنْ حاوَلْنا استغلالَ المنشآت التي في طَوْرِ البناء
الآن.
وآمل أن تكون لنا، في إطار جهودنا الفردية، أسبقيةٌ واضحة بما يكفي في مجالَي
البرمجة والتشغيل التشارُكيَّيْن بما يقودنا إلى حلِّ مشكلاتنا؛ ومن ثَمَّ توفير
التكنولوجيا التي يحتاجها الجيش. عندما تتجلَّى المشكلات في السياق العسكري ولا
تظهر في السياق البحثي، فلوكالة أربا أنْ تتَّخِذ إجراءاتٍ لعلاج تلك المشكلات
وفقًا لما تُملِيه الظروف. مع ذلك، آمل أن يكون كثيرٌ من المشكلات التي ستظهر
مهمًّا في الأساس في السياق البحثي بنفس قدر أهميته في السياق العسكري.
27
يصرِّح ليكلايدر بوضوح في المذكرة أن الهدف من تمويل وكالة أربا كان دعم احتياجات
معالجة المعلومات العسكرية في نُظُم القيادة والتحكم، وأنه بمقدوره أنْ يستشرف أن
الأبحاث في هذا المجال ستنهض بتكنولوجيا المشاركة الزمنية على الكمبيوتر. كان تحت
تصرُّفه ميزانية ضخمة بالوكالة (مبدئيًّا ١٠ ملايين دولار سنويًّا) لتحقيق رؤيته
بتدشين منظومة وطنية من نظم الحاسوب المرتبطة والمتشاركة زمنيًّا.
28 في الوقت الذي غادر فيه ليكلايدر وكالة أربا في ١٩٦٤ ليعود إلى معهد
ماساتشوستس للتكنولوجيا، كان قد أرسى الأساسَ للكيان الذي سيصبح أربانت.
كان لمنشورات ليكلايدر بالغ الأثر على العاملين في حقل علوم الكمبيوتر الناشئ.
كان روبرت تايلور مديرًا للمشروعات البحثية بوكالة ناسا في ١٩٦٠، عندما قرأ ورقة
ليكلايدر البحثية «التكافل بين الإنسان والكمبيوتر» في محاضر معهد مهندسي الراديو
(جمعية مهندسي الكهرباء والإلكترونيات حاليًّا)؛ فكان تعليقه: «نعم، هكذا يكون
الكلام!»
29 أثناء وجود تايلور بوكالة ناسا، قدَّمَ التمويل الضروري (إلى جانبِ
مِنَحٍ من وكالة أربا) إلى دوجلاس إنجلبارت بمعهد ستانفورد للأبحاث لأبحاثه
المبتكرة في جامعة ستانفورد حول تكنولوجيات الذكاء المعزز بالكمبيوتر والتفاعل بين
الإنسان والكمبيوتر.
30 في ١٩٦٦ عندما انتقل تايلور لمنصب الإدارة بهيئة تكنولوجيا معالجة
المعلومات، الذي تقلَّدَه ليكلايدر من قبله (انضم تايلور إلى وكالة أربا في ١٩٦٥)،
انتقل إليه مشروعُ الوكالة للتشبيك.
كان تايلور الخلف المثالي لليكلايدر على رأس هيئة تكنولوجيا معالجة المعلومات؛ إذ
شارَكَه رؤيةً مشابِهةً للقدرة الممكنة للنُّظُم المرتبطة بشبكات. كانت أمامه مسائل
عملية تستلزم معالجتها. حوى مكتب تايلور الخاص بشئون الوكالة بالبنتاجون ثلاثة
أجهزة إلكترونية متصلة بجهاز الكمبيوتر: آلة كاتبة معدلة من طراز آي بي إم سليكتريك
متصلة بكمبيوتر في معهد ماساتشوستس للتكنولوجيا في بوسطن، ومُبْرِقة كاتبة متصلة
بكمبيوتر في جامعة كاليفورنيا ببيركلي، ومُبْرِقة ثانية للتحكُّم كانت وحدة طرفية
متصلة عن بُعْد بكمبيوتر كيو-٣٢ الضخم من تصنيع آي بي إم في مؤسسة تطوير النُّظُم
بسانتا مونيكا في كاليفورنيا. تفرَّدَتْ كلُّ منظومة من حيث لغةُ برمجتها ونظامُ
تشغيلها وإجراءُ تسجيل الدخول عليها.
31 كانت وزارة الدفاع أحد أكبر المشترين للكمبيوترات إبَّان الحرب
الباردة، ولم يكن بوسع الكمبيوترات التي صنَّعها منتجون مختلفون الاتصالُ بعضها
ببعض. سعى كلُّ مَن استفاد بمِنَح هيئة تكنولوجيا معالجة المعلومات للحصول على
أموال الوكالة لشراء أجهزة كمبيوتر إضافية. وحاوَلَ تايلور حلَّ إشكالية التشتُّت
هذه المستنزِفة للموارد في دوائر الأبحاث الأكاديمية المختصة بالكمبيوتر. كانت
فكرته هي تركيز الموارد الحاسوبية في مراكز للتميز (كما هو الحال مع رسومات
الكمبيوتر بجامعة يوتا)، ثم ربط جميع المنظومات التي تموِّلها وكالةُ أربا معًا
بحيث تتسنَّى مشاركة الموارد. كانت فكرته إضافةً على أفكار ليكلايدر حول المشاركة
الزمنية، مع الميزة الإضافية المتمثِّلة في توفير النفقات ومشاركة الخبرات بين
المستفيدين من مِنَح الوكالة. ورأى تشارلز هرتسفيلد، مدير الوكالة، أن هذا النظام
المرتبط سيتيح درجةً أعلى من الموثوقية بتوفير روابط فائضة في الشبكة.
32 وكما أشار هرتسفيلد لاحقًا:
كنا نضع في اعتبارنا بالفعل الاستخدامات العسكرية الممكنة (بما فيها
إمكانية إنشاء شبكة اتصالات قوية)، لكنها لم تكن مسئوليتنا الأولى. في
الواقع كان هناك بالفعل برنامج ضخم خاص بالقوات الجوية مكرَّس للقيادة
والتحكم الاستراتيجيَّيْن، ومهامُّ العمل المرتبطة أُجرِيت تحت مظلة هذا
البرنامج.
33
شدَّدَ تايلور في تصريحه إلى هافنر وليون على أن مشروع أربانت لم يُصمَّم لحماية
الأمن القومي. شعر تايلور أن وسائل الإعلام أساءَتْ فهْمَ هذا الجانب من تاريخ
الإنترنت، وصرَّح بأن مشروع أربانت صُمِّم لأغراض سِلْمية لربط أجهزة الكمبيوتر عبر
البلد لأغراض المشاركة الزمنية.
34 وأكَّدَ هرتسفيلد هذا التركيز بوصفه المقصد من إنشاء أربانت، لكنه
شدَّدَ على أن وزارة الدفاع اهتمَّتْ ببناء شبكاتِ اتصال «قوية». النظرة القاصرة
تقول إنه جرى تصميم أربانت لتوضيح منفعة المشاركة الزمنية كما تصوَّرَها كلٌّ من
ليكلايدر وتايلور؛ أما المنظور الأوسع فيفيد بأن أنظمة الكمبيوتر المرتبطة ستكون
ضروريةً من أجل أيِّ منظومةِ قيادةٍ وتحكُّمٍ دفاعية أمريكية واسعة النطاق في الزمن
الحقيقي، كما تصوَّرَها ليكلايدر في مقاله المنشور عام ١٩٦٠. وعلى الرغم من أن
وكالة أربا موَّلت الكثير من المشروعات البحثية (وواصَلَتْ وكالة داربا خلفها
تمويلَها)، المعروفة باسم أبحاث «السماء الزرقاء» (أبحاث التطبيقات المستقبلية)؛
كان الهدف النهائي في بيان أهدافهم هو رعاية «الأبحاث الثورية العالية المردود التي
ترأب الصدع بين الاكتشافات الجوهرية واستخدامها العسكري».
35
ليست هذه بالمسألة الهينة؛ ففكرة التحكم الآلي (استخدام تكنولوجيا الذكاء
الاصطناعي) بمنظومات الدفاع الوطنية الرئيسية ليست بعيدة الاحتمال. فكما ذكر
ليكلايدر، لا بد أن تتمكَّن منظومات القيادة والتحكم هذه من دراسةِ تهديداتٍ
متعددةٍ في الزمن الحقيقي، وعرْضِ خيارات على القادة كي يدرسوها. الإضافة اللاحقة
على هذه الفكرة هي إيكال صنع القرار العسكري إلى الكمبيوترات؛ وهذا هو محتوى أدب
الخيال العلمي، وموضوعٌ رئيسي تتناوله الأفلامُ منذ ثمانينيات القرن العشرين، مثل
فيلم «مناورات» (وور جايمز) الذي يصوِّر كمبيوتر بقيادة الدفاع الجوي الفضائي
لأمريكا الشمالية
36 ظنَّ أن لعبةَ محاكاةٍ حربية هجومٌ حقيقي على الولايات المتحدة. وكان
أسوأ السيناريوهات هو أساس حبكة سلسلة أفلام «المبيد»؛ حيث تحوَّلَتْ سكاينت،
منظومة الدفاع الأمريكية القائمة على الذكاء الاصطناعي، إلى شبكة واعية استحوذَتْ
على التكنولوجيا العسكرية بكافة أشكالها، وبدأت في إبادة الجنس البشري. لا ينبغي
لنا إسقاط تأثير هذه الأفلام على المجتمع؛ فقد رسمت صورًا بالغةَ السلبية عن
التطوُّر المحتمل للتكافُل بين البشر والكمبيوتر، ولا تزال هذه الصورُ تسكن مخيلةَ
مُشاهِدي هذه الأفلام. إنها تساهِم في دعم شكٍّ متأصِّلٍ في البشر في ذكاء الآلة
والآثار الديستوبية «لأحادية» الذكاء الاصطناعي في المستقبل. وسأناقش الفكرة
الرئيسية لأحادية الذكاء الاصطناعي بتفصيلٍ أعمق في الفصل الرابع عشر.
إنشاء شبكة أربانت
في ١٩٦٦، تلقَّى تايلور مبلغ مليون دولار إضافيًّا من تشارلز هرتسفيلد، مدير
وكالة أربا، لتحويل فكرة ليكلايدر عن المشاركة الزمنية على الكمبيوتر إلى منظومة
وطنية من مراكز الكمبيوتر المرتبطة بشبكات. كان في حاجةٍ إلى عالِم كمبيوتر داهية
لإدارة مشروع التشبيك الجديد، فاقتفى أثر لاري روبرتس، وهو باحث بمختبر لينكولن
بمعهد ماساتشوستس للتكنولوجيا. كان روبرتس قد أجرى أبحاثًا رائدة لربط الكمبيوتر تي
إكس-٠ في مختبر لينكولن في بوسطن بالكمبيوتر كيو-٣٢ بمؤسسة تطوير النظم في لوس
أنجلوس.
37 وكان يجب أن يكون متقلِّدُ هذا المنصب الرفيع بوكالة أربا عالِمًا
بالكمبيوتر وخبيرًا في الاتصالات الإلكترونية، ما يُلقِي الضوءَ على تطوُّر
الكمبيوتر الرقمي من آلة حاسبة تُجرَى عليها العملياتُ الحسابية المعقَّدة إلى
أداةِ اتصالٍ جبَّارة، وهو الدور الذي تنبَّأ به ليكلايدر في مقاله عن التكافل بين
الإنسان والكمبيوتر في ١٩٦٠. كان روبرتس راضيًا تمامًا عن عمله البحثي بمختبر
لينكولن، ورفض عرض تايلور للانتقال إلى وكالة أربا في واشنطن؛ أما تايلور فكان
مقتنعًا بأن روبرتس هو الشخص المثالي لقيادة مشروع التشبيك، وإثرَ خيبةِ أمله طلَبَ
من هرتسفيلد التدخُّل لدى إدارة مختبر لينكولن. كانت وكالة أربا قد قدَّمَتْ
للمختبر ملايين الدولارات في صورة اعتمادات مالية بحثية فيدرالية، وعرض هرتسفيلد
أمامَ مدير المختبر حججًا مقنعة تفيد بأن سماحَه بانضمامِ روبرتس إلى الوكالة من
أجل هذا المشروع أمرٌ في مصلحة المختبر على المدى البعيد. بعدها بأسبوعين، قَبِل
روبرتس المنصب في الوكالة.
38
كان روبرتس قريبَ الشبه من ليكلايدر، فقد جمع بين عقلٍ متسائل يسعى لاكتساب
المعرفة وقدرةٍ على حلِّ المشكلات في مجموعةٍ واسعةِ التنوع من المجالات. تمتَّعَ
بقدرة عظيمة على التحمُّل، واعتاد أن يعمل لساعات طوال حتى الليل إنْ كانت لديه
مشكلةٌ أثارت اهتمامه ويبحث عن حلٍّ لها. نجح روبرتس في إدارة مشروع التشبيك الوطني
لصالح وكالة أربا، وبعد أن غادَرَ تايلور الوكالةَ في ١٩٦٧ تولَّى روبرتس منصبَ
مدير هيئة تكنولوجيا معالجة المعلومات، وتعاقَدَ مع شركة المقاولات بولت، برانيك
آند نيومان (بي بي إن) في بوسطن لتشييد الشبكة. إنْ بَدَتْ هذه العلاقات التمويلية
مغلقةً على دائرةٍ بعينها (أتى ليكلايدر من بي بي إن ليعمل بوكالة أربا، وكانت شركة
المقاولات تُعتبَر «حلقةَ تدريبٍ» فنية لخريجي معهد ماساتشوستس للتكنولوجيا)؛ ففي
ذلك الوقت لم يوجد سوى مجموعة صغيرة نسبيًّا من علماء الكمبيوتر، وقد كانوا ضمن
دائرة الخواص من المستفيدين من مِنَح هيئة تكنولوجيا مُعالَجة المعلومات في معهد
ماساتشوستس للتكنولوجيا وشركة بولت، برانيك آند نيومان ومعهد ستانفورد للأبحاث
وجامعة يوتا وجامعة كاليفورنيا بلوس أنجلوس.
كان ويسلي كلارك أحد أعضاء دائرة الخواص هذه، وهو عالِم كمبيوتر بجامعة واشنطن في
سانت لويس (الجامعة التي تخرَّج ليكلايدر فيها)، وقد ساهَمَ بأحد الأفكار الجوهرية
التي جعلَتْ مشروع أربانت ممكنًا من الناحية التقنية. في مختبر لينكولن التابع
لمعهد ماساتشوستس للتكنولوجيا في أواخر خمسينيات القرن العشرين، قام كلارك بتلقين
ليكلايدر أساسياتِ برمجةِ الكمبيوتر على نظام تي إكس-٢.
39 وكان قد استمع إلى عرض تقديمي ألقاه لاري روبرتس في ١٩٦٨ حول الشبكة
المقترحة، وصَفَ المشكلةَ الجوهرية المتمثلة في ربط أنظمة الكمبيوتر على اختلافِ ما
بها من نُظُمِ تشغيل ولغاتِ برمجةٍ وأجهزة واجهة (كما يتضح في الوحدات الطرفية
الثلاث الفريدة بمكاتب هيئة تكنولوجيا معالجة المعلومات). وبالالتفات إلى مقترح
كلارك وتأمُّله، سنجده مقترحًا عبقريًّا؛ وكانت فكرته أنه بدلًا من التعامُل مع
مشكلات عدم التوافُق الجوهرية على مستوى النظام، لِمَ لا نصمِّم كمبيوترًا متخصِّصًا
يتولَّى إدارة اتصالات الشبكة من الكمبيوتر المركزي المقترن به وإليه؟ وكان
المقرَّر أن يُطلَق عليه «معالج الرسائل في الواجهة»، وكان يعني هذا الحلُّ أنَّ
كلَّ جهاز كمبيوتر متصل بالشبكة لن يحتاج سوى الاتصال بكمبيوتر «معالِجِ الرسائل في
الواجهة» المخصَّص له؛ وهذا من شأنه أن يبسِّط البرمجةَ المطلوبة للاتصال الشبكي.
ستجري برمجة كل كمبيوتر مضيف بكل مؤسسة للاتصال بكمبيوتر «معالج الرسائل في
الواجهة» الخاص به؛ بدلًا من كل كمبيوتر على الشبكة. استلزَمَ توصيلُ كل مضيف
بمعالج الرسائل في الواجهة كمًّا هائلًا من العمل؛ وهي عملية اقتضَتْ حلولًا على
مستوى المكونات المادية وعلى مستوى البرمجيات، واستغرقت ما يصل إلى ١٢ شهرًا
لإنجازها.
40 كان المزمع أن تشكِّل معالجاتُ الرسائل في الواجهة ما سيُعرَف باسم
«الشبكة الفرعية» التي تربط كلَّ نقاطِ الاتصال على الشبكة.
كانت السمة الرئيسية الأخرى بالمنظومة أنها ستستخدم تكنولوجيا تبديل حِزَم
البيانات التي طوَّرها بول باران بشكل مستقل في مؤسسة راند ودونالد ديفيز في
المملكة المتحدة. المثير للانتباه بشبكة أربانت أنها كانت مخاطَرةً محسوبةً بقيمة
ملايين الدولارات قُدِّرَ لها العمل بفاعلية. لم يعرف أحدٌ في مستهل العمل إنْ كان
يمكن إنجاح تبديل حِزَم البيانات في شبكة وطنية بالغة الضخامة. ولا تَنْسَ أن
المهندسين بشركة إيه تي آند تي قالوا إن هذه التكنولوجيا لن تنجح أبدًا في شبكة
اتصالات. اتخذ بوب تايلور القرارَ باستخدام تكنولوجيا تبديل حِزَم البيانات،
وانضمَّ لاري روبرتس لتحقيق هذا الهدف الطموح.
كان ليونارد كلاينروك من الأعضاء الآخرين بدائرة الخواص، وهو عالِم كمبيوتر
بجامعة كاليفورنيا بلوس أنجلوس. أعَدَّ كلاينروك رسالتَه لنيل درجة الدكتوراه في
١٩٦٢ بمعهد ماساتشوستس للتكنولوجيا عن النظريات الرياضية لتبديل حِزَم البيانات في
شبكات البيانات؛ وهي التي طوَّرها لاحقًا إلى الجوانب العملية في مشروع تبديل حِزَم
البيانات لشبكة أربانت.
41 وعمله الرائد في مجال نقل البيانات أدَّى إلى حصول جامعة كاليفورنيا
بلوس أنجلوس على تمويلٍ ضخمٍ من وكالة أربا، واختيار لاري روبرتس لها لتكون أول
مؤسسةٍ تتسلم «الكمبيوتر معالج الرسائل في الواجهة» ليكون نقطةَ الاتصال الأولى على
الشبكة التي لا تزال في طَوْر التطوير. وفي ٢٩ أكتوبر ١٩٦٩، أشرف الأستاذ كلاينروك
على إرسال أول رسالة عبر الشبكة من كمبيوتر إس دي إس سيجما ٧ بجامعة كاليفورنيا
بلوس أنجلوس، إلى كمبيوتر إس دي إس ٩٤٠ في مختبر دوجلاس إنجلبارت بمعهد ستانفورد
للأبحاث في بالو ألتو.
42 أصبحت نقاط الاتصال الأربع الأولى متصلةً بالشبكة في ٥ ديسمبر ١٩٦٩،
ودخل الإصدار الأول من شبكة الإنترنت حيزَ العمل.
على مدار الأربع سنوات اللاحقة نَمَتِ الشبكةُ بسرعة، مع اتصال ١٥ مؤسسة بها
بحلول ١٩٧١، وأكثر من ٣٧ مؤسسة بحلول ١٩٧٣ (الشكل
٤-٨). كان
أغلب هذه المؤسسات أقسامًا لعلوم الكمبيوتر بجامعات، لكن كان ثمة عددٌ من المختبرات
الحكومية المشتركة، مثل مختبر لينكولن في معهد ماساتشوستس للتكنولوجيا، ومنشأتَيْ
لورانس ليفرمور وإيمز التابعة لناسا البحثيتين في منطقة خليج سان فرانسيسكو. سمح
تطويرُ المعالجات الطرفية في الواجهة للمؤسسات التي لا تملك كمبيوترات مضيفة (أو
التي تحتاج إلى روابط متعددة) بالاتصال بالشبكة التي لا تنفك تتوسَّع بسرعة.
والجدير بالملاحظة أن خريطة عام ١٩٧٣ يظهر بها العديد من المنشآت والمتعهدين
العسكريين، بما فيها مؤسسة راند في كاليفورنيا، وفورت بلفوار ومؤسسة ميتر في
فرجينيا، ووحدة أبردين التابعة للجيش في مريلاند. وهكذا يدور تاريخ الحوسبة دورةً
كاملةً بدءًا من إدخال قيادة سلاح المدفعية بوحدة أبردين الكمبيوتر إينياك الخدمةَ
في ١٩٤٦، وانتهاءً بربط الموقع بشبكة أربانت في ١٩٧٣.
عرض العروض43
ثمة فعاليةٌ معتادة تَحْدُث بقطاعات التكنولوجيا المتقدمة، وهي عقد عروض لمنتج
برمجي أو جهاز إلكتروني جديد أمام كبار المسئولين التنفيذيين بالشركة، الذين
بسلطتهم إعطاء الضوء الأخضر لمشروع أو إلغاؤه. تنطوي هذه الفعاليات على مخاطرة
كبيرة؛ إذ تضع مسيرةَ المصمِّم المهنية على المحك، وتُعرَف الآن بالعروض أو
بالاختصار
Demo (ديمو) باللغة الإنجليزية. إن نجح العرض، يسمح باستكمال المنتج
وتسويقه للجمهور؛ أما إنْ فشل العرض، فسيقاسي فريق التصميم تبعات الفشل حتى يحوذوا
الثقة مرةً أخرى.
44 تقريبًا كلُّ المهندسين بشركات التكنولوجيا المتقدمة مرُّوا بمرحلة
الفشل هذه، وقلة قليلة منهم يرغبون في تكرار التجربة. ذاع صيت العروض التي عُقِدت
أمام بيل جيتس المدير التنفيذي السابق لميكروسوفت، وستيف جوبز المدير التنفيذي
السابق لآبل، لطرح منتجات ناجحة بالشركتين؛ بل زادت عليها شهرةُ العروض التي طرحَتْ
منتجًا لم يكن جاهزًا بعدُ لتسويقه، وكان على المهندسين تحمُّل النقد اللاذع من
جيتس أو جوبز. كان «عرض العروض» الفعالية الأسطورية التي عرض فيها دوجلاس إنجلبارت
تقنيةَ معالجةِ المعلومات على الشبكة في سان فرانسيسكو عام ١٩٦٨، ولم يَغِبْ عن
مبتكِرِي شبكة أربانت التأثيرُ الهائل الذي خلفته بين صفوة المنخرطين في مجال
تكنولوجيا المعلومات والاتصالات.
في خريف عام ١٩٧١، صرَّح لاري روبرتس، مدير هيئة تكنولوجيا معالجة المعلومات بأن
المؤتمر الدولي للاتصالات الكمبيوترية سيُعقَد في العاصمة واشنطن في أكتوبر من عام
١٩٧٢. ولما كان روبرتس مسئولَ البرنامج بالمؤتمر، قرَّرَ أن هذا المؤتمر سيكون
فرصةً ذهبية لعرض إمكانات شبكة أربانت الناشئة.
45 التمَسَ روبرتس مساعدةَ روبرت خان، وهو مهندس بشركة المقاولات بولت،
برانيك آند نيومان (بي بي إن)، لتخطيط العرض الخاص بالمؤتمر الدولي للاتصالات
الكمبيوترية. وعلى مدار الاثني عشر شهرًا اللاحقة سافَرَ خان بصحبة شريكه في
التخطيط ألبرت فيزا بمعهد ماساتشوستس للتكنولوجيا إلى مختلف أنحاء البلد، مُلتمِسًا
الدعمَ من علماءِ الكمبيوتر بشبكة أربا، وطلابِ الدراسات العليا الذين يدرسون على
أيديهم؛ من أجل إقامة عرض عملي ضخم لإمكانات النُّظُم المرتبطة على الشبكة. ذهب
البعض إلى أن العروض ينبغي تسجيلها على أشرطة فيديو مسبقًا لعرضها لاحقًا بالمؤتمر
في حال تعطَّلَتْ أجهزةُ الكمبيوتر المتصلة بالشبكة أثناء التقديم.
لأغراض عرض المؤتمر بفندق هيلتون واشنطن، رتَّبَ خان وفيزا الأمر بحيث تثبت شركة
بي بي إن نقطة اتصال على معالج طرفي في الواجهة على شبكة أربانت بقاعة الاجتماعات
بالفندق. كان بوسع المعالج الطرفي في الواجهة التعامُل مع ما يصل إلى ٦٣ وحدة طرفية
متصلة، وكان مرتبطًا بشبكة أربانت عن طريق خط هاتف مخصَّص ثبَّتَتْه شركة إيه تي
آند تي. في وقت إقامة العرض في أكتوبر من عام ١٩٧٢، بلغ مجموع نقاطِ الاتصال على
شبكة أربانت ٢٩ نقطة؛ ومن ثَمَّ كان هناك الكثير من المواقع والبرامج الخاصة بها
التي ينبغي عرضها.
46 كان جهدًا محمومًا لتوصيل عشرات الوحدات الطرفية المختلفة إلى المعالج
الطرفي في الواجهة، وتصحيح الأخطاء بها؛ استعدادًا لفعالية استقبال كبار الضيوف يوم
الأحد قبل بدء المؤتمر، ومع ذلك كان العرض جاهزًا للتقديم بحسب الجدول
الموضوع.
حقَّقَ العرض نجاحًا باهرًا لكلٍّ من روبرتس وخان وفيزا ووكالة أربا؛ حيث
اكتظَّتِ القاعةُ بأكثر من ألف من علماء الكمبيوتر بالجامعات، وطلاب الدراسات
العليا، ومهندسي الاتصالات العاملين بالمجال، والمسئولين الحكوميين، على مدار
الثلاثة أيام اللاحقة. كان عرضًا ينمُّ عن البراعة والإتقان في ربْطِ مختلِف نُظُم
الكمبيوتر التي تفصل بينها آلاف الأميال (بما فيها موقع بباريس). كان بإمكان حضور
المؤتمر لعب الشطرنج التفاعلي، والحصول على معلومات عن جغرافيا أمريكا الجنوبية،
وقراءة خدمة أسوشيتيد بريس الإخبارية على الشبكة (وهي السابقة على مواقع الأخبار
على الإنترنت كما نعرفها اليومَ)، والتفاعل مع نظامٍ لمراقبة حركة الملاحة الجوية،
من بين خبراتٍ أخرى أُتِيحت على الشبكة.
47 في هذه المرحلة من التاريخ المبكر لتكنولوجيا المعلومات والاتصالات،
كان هذا العرض عرضًا عمليًّا مثيرًا للتكنولوجيات المتفاعلة المرتبطة بشبكة.
وباستخدام التعبيرات الاصطلاحية التي شاعت آنذاك، يمكننا القول إن عرض شبكة أربانت
كان «تجربةً تخطف الأذهان» لمَن شاركوا فيه، وكان عاملًا رئيسيًّا في تبنِّي تبديل
حِزَم البيانات من أجل الاتصالات عن بُعْد؛ ما ألجَمَ رافضي التكنولوجيا بشركات
الهاتف الذين قالوا إن هذه التكنولوجيا لن تنجح أبدًا.
48 إضافةً إلى ذلك، كان للمؤتمر عظيمُ الأثر على حركة البيانات على شبكة
أربانت، التي قفزت من معدل نموٍّ بطيءٍ كان يبلغ نسبةً مئويةً بسيطة في الشهر، إلى
زيادةٍ قدْرُها ٦٧ بالمائة في أكتوبر ١٩٧٢، واستمرَّ هذا النمو المدهش في الأشهر
اللاحقة.
49 وكما عقد لاري روبرتس آماله، أبرز العرضُ شبكةَ أربانت وذاعَ صيتها،
وأدَّى إلى موافَقة كثيرٍ من المؤسسات الأخرى على المشاركة في الشبكة
الجديدة.
50
أصبحت الساحة مهيَّأة للتوسُّع السريع لشبكة أربانت، مع إضافة مئات النُّظُم
المضيفة، وتطوُّرها التدريجي إلى شبكة الإنترنت التي نَلِجها اليومَ. وهذا التطور
هو موضوع الفصل الخامس.