الاتصالات عن بُعْد في العالم «المسطح»
«ما أبدع صُنْع الله!»
- (١)
«احتياجات الشركات»: في حالة الإرسال بالتلغراف، استغلَّتْ شركاتُ السكك الحديدية التكنولوجيا الجديدة بوصفها وسيلةً لتتبُّع مواقع القطارات لأغراض الأمان والإدارة. وكانت هذه عواملَ مسرِّعةً من انتشار التكنولوجيا. ظهرت كذلك بضعة عوامل كابحة أو مثبطة؛ إذ كان ذلك أولَ استخدام على نطاق واسع لتكنولوجيا الاتصال الكهربي.
- (٢) «اشتراطات التكنولوجيات الأخرى»: كان نجاحُ نظامِ الإرسال بالتلغراف على يد مورس متوقِّفًا على نظام تشفير متفوِّق (شفرة مورس)، يمكن بثه في صورة دفقات قصيرة أو طويلة من التيار (نقاط أو شرطات). وكان مورس وفيل من الذكاء وحُسْن الإدراك بحيث زارَا متجرَ الطباعة لتحديد نظامِ التشفير الأمثل استنادًا إلى تكرار الحروف بالمطبوعات.8 وعليه، يُرسَل نداءُ الاستغاثة المألوف SOS باستخدام شفرة مورس الدولية بالصيغة نقطة-نقطة-نقطة S؛ شرطة-شرطة-شرطة O؛ نقطة-نقطة-نقطة S، بحيث يمكن إرسال هذه الرسالة بسرعة حال وقوع أمر طارئ باستخدام ثلاث مجموعات من ثلاث علامات مألوفة يطبعها زرُّ التلغراف بالتتابُع.9
- (٣) «إجراءات تنظيمية وقانونية»: دعمَتِ الحكومة الأمريكية تطويرَ الإرسال بالتلغراف بتمويلها الخط القصير من واشنطن إلى بالتيمور في ١٨٤٤. وكما ذكرتُ آنفًا، كان عرضُ مورس العام لمنظومته مقدَّمًا إلى أعضاء من الكونجرس الأمريكي، وتبنَّتْ هيئةُ البريد الأمريكية منظومتَه في العالم التالي.10 أما الانتشار في بريطانيا العظمى فكان أكثر تعقيدًا؛ إذ رفضَتِ الأدميرالية البريطانية المحاولاتِ الأولى لاستحداث خدمة التلغراف الكهربية في ١٨١٤ (التي طوَّرَها ودجوود)، وفي ١٨١٦ (التي طوَّرَها رينالدز).11 استخدمَتِ السفنُ بعرض البحر الأعلامَ وإشاراتِ سيمافور لإرسال الإشارات بعضها إلى بعض، ولم تجد الأدميرالية ضرورةً لهذه التكنولوجيا غير العملية المعتمدة على الأسلاك. واستقبلت بلدان أخرى التكنولوجيا على نحوٍ أكثرَ عدائيةً؛ فعندما طوَّر الدبلوماسي بافيل شيلينج النموذجَ الأولي من منظومة فاعلة في ١٨٣٢ في سان بطرسبرج، اعتبرها الإمبراطور نيكولاي الأول أداةً تخريبية (ولا يخفى على أحدٍ أنها ليسَتْ من صنْعِ الله)، وحظَرَ انتشارَها في روسيا.12
- (٤)
«القوى الاجتماعية العامة»: مع تفجُّر الثورة الصناعية في النصف الثاني من القرن التاسع عشر، مُدَّت آلاف الأميال من قضبان السكك الحديدية لربط المدن في مختلف أنحاء العالم. وتتبَّعَتْ عواميدُ التلغراف قضبانَ السكك الحديدية لتكون منظومةً للقيادة والتحكم، لكن الاستخدامات الأخرى للاتصال الآني سريعًا ما استولَتْ على الاستعمالات الخاصة بالسكك الحديدية عبر بثِّ أسعار الأسهم ونشرات الأخبار. أمكن استخدام الإرسال بالتلغراف لربط الدول — والقارات في النهاية — لأغراض الأعمال ووسائل الإعلام الجماهيرية والأهداف العسكرية.
كابل التلغراف العابر للأطلسي
فرضَتِ الصعوباتُ التقنية نفسها على المشهد؛ فتصنيع كابل يبلغ طوله ٢٠٠٠ ميل وبوسعه تحمُّل الضغط الشديد على عُمْق ١٤٠٠٠ قدم تحت سطح البحر، كان فكرةً كافية لتثبط الهمم. وتصنيع كابل مَرِن بقلب داخلي نحاسي (لتوصيل إشارة التلغراف) وغلاف خارجي واقٍ من الحديد لن يصدأ في ماء البحر؛ كان تحدِّيًا آخَر. كانت الكابلات الأخرى الممتدة تحت سطح البحر في تلك الحقبة تستخدِم مادةً مكتشفة حديثًا؛ الطَّبْرَخِيَّ، لعزل القلب الداخلي وحمايته من ماء البحر الذي قد يؤدي به إلى قصر الدائرة (مرور التيار في مسار غير مقصود، ما ينجم عنه توقُّف الدائرة). والطبرخي عبارة عن عُصارة لبنية بيضاء مستخرجة من الشجرة التي تحمل الاسم نفسه والموجودة بشبه جزيرة مالايا (ماليزيا حاليًّا) بجنوب شرق آسيا. وآنذاك كانت تُعتبَر هذه المادة أعجوبةً، فعلى الرغم من أنها تكون جافةً في الهواء الطَّلْق، يمكن تليينها وتشكيلها عند غمرها في الماء الساخن. وفي الأغوار الباردة لشمال الأطلسي ستكتسب صلابةً لتكون العازل المثالي للكابل. شُحِنت مادة الطبرخي بكمياتٍ ضخمةٍ من مالايا إلى المصانع بإنجلترا كي يُغطَّى بها القلبُ النحاسي الداخلي للكابل، ثم كان يجري تغليفه بغلاف خارج من أسلاك الحديد الحلزونية لتعزيز الكابل وحمايته من التعرُّض للتلف بفعل مراسي السفن في المياه الضحلة عند طرفَي الكابل.
انطلقَتِ السفينة يو إس إس نياجرا، وهي سفينة حربية أمريكية وُكِّلت بمهام مدِّ الكابل لأغراض المشروع، من جزيرة فالينشيا قبالة أيرلندا في أغسطس من عام ١٨٥٧، وعلى متنها كابل بطول ١٨٠٠ ميل. كانت السفينة تُبحِر بطيئةً بسرعة أربع عُقَدٍ في الساعة لتجنُّب التسبُّب في ضغطٍ على الكابل الذي أخذَتْ تمدُّه تدريجيًّا من مؤخرتها، ولم تَقْضِ السفينةُ سوى ٣ أيام بالبحر عندما انفصل الكابل وفقدت ٣٣٥ ميلًا من الكابل في أغوار المحيط. كانت تلك بدايةَ رحلةِ كفاحٍ طالَتْ تسع سنوات لمدِّ كابل الأطلسي، كان مقدرًا أن تمتحن المهندسين والعلماء والمستثمرين المشتركين في المشروع.
أقامَتْ مدينة نيويورك احتفالًا رسميًّا شارَكَ فيه مواطنوها في ١ سبتمبر من عام ١٨٥٨ لتكريم سايروس فيلد، ومستثمري مشروع كابل التلغراف العابر للأطلسي، وقبطانَيِ السفينتين اللتين مدَّتَا الكابل، وطاقم العلماء والمهندسين الذين اضطلعوا بالمشروع. تقدَّمَ موكبٌ احتفالي مهيب من باتري، شمال ما يُعرَف الآن بوسط مدينة مانهاتن، واختُتِم اليومُ بمسيرةٍ بأضواء المشاعل نظَّمَها رجالُ الإطفاء بالمدينة. والمفارقة المثيرة للحزن، أن كابل التلغراف العابر للأطلسي الذي أُقِيمت له الاحتفالات تعطَّلَ عن العمل في اليوم ذاته؛ فالماء المالح المسبِّب للتآكُل نفَذَ عبر عازل الطبرخي في موضعٍ ما على طول ٢٠٠٠ ميل تحت ضغطٍ هائلٍ؛ ما تسبَّبَ في قِصَر دائرة الموصِّل.
عمل الكابل لمدة أربعة أسابيع ويوم واحد، وأدَّى توقُّفه إلى شعورٍ بفقدان الأمل عند طرفَي المحيط الأطلسي كليهما، لكن المشروع كان إثباتًا ناجحًا (وإنْ كان موجزًا) للمفهوم شجَّعَ الجهود على استبداله. وعلى الفور وضع سايروس فيلد خطةً لمد كابل جديد أكثر تحمُّلًا، إلا أن اندلاع الحرب الأهلية في الولايات المتحدة كان من شأنه تأخير الانتهاء منه لقرابة سبع سنوات. رُوعِي في تصميم الكابل الجديد حلُّ أخطاء التصميم والإنشاء التي واجهَتِ الموصل الأول؛ فعُزِل بشكلٍ أفضل باستخدام مادة الطبرخي، وتمتَّعَ بغلافٍ أقوى من أسلاك الصلب.
- (١)
«احتياجات الشركات»: كان كابل التلغراف العابر للأطلسي هو علة وجود شركة نيويورك، نيوفاوندلاند، آند لندن تليجراف كومباني التي أسَّسها فيلد؛ فنجاح الشركة كان راجعًا بشكل مباشِر إلى القدرة على مد كابل متين لتوفير القدرة على بث الرسائل أو النطاق الترددي للبث اللازم لجعل الخدمة مواتية اقتصاديًّا. لم يكن هناك بديل للإرسال بالتلغراف من أجل التواصل الآني العابر للمحيطات في ذاك الوقت (لم تكن أقمارُ الاتصال الصناعية خيارًا مطروحًا حتى عام ١٩٦٢). وشكَّلَ البريد جزءًا ضئيلًا جدًّا من التجارة العابرة للمحيطات، وعليه لم تُعارِض شركاتُ الشحن مدَّ الكابل.
- (٢) «اشتراطات التكنولوجيات الأخرى»: توقَّفَ نجاحُ كابل التلغراف العابر للأطلسي على التقدُّمات التقنية المحرَزة في ثلاثة مجالات متمايزة: علم المحيطات، وعلم المواد (استخدام الطبرخي وعلم المعادن)، وتكنولوجيا مد الكابلات. أجرى سلاحَا البحرية الأمريكي والبريطاني عدةَ دراسات مَسْحية لقاع المحيط الأطلسي في خمسينيات القرن التاسع عشر على طول المسار المخطط للكابل. حدَّدَ عالِم المحيطات الرائد في مجاله الملازِم ماثيو موري «بقعةً مستقرةً» تحت البحر بوصفها المسار المثالي لكابل التلغراف العابر للمحيطات.23 وكان استخدام الطبرخي كمادةٍ عازلةٍ شبيهةٍ بالمطاط عنصرًا حيويًّا في حماية الكابل في المياه العميقة. ولزم استحداثُ طرقٍ لمعالجة عصارة الشجر وصبِّها حول السلك النحاسي الداخلي الحامل للإشارات. وابتكارُ آلةٍ بوسعها لفُّ غلافٍ عازلٍ من السلك الصلب حول الكابل كان مهمًّا كذلك في «تصفيح» الموصِّل. وأخيرًا، كان يلزم إتقان حرفية وضْعِ الكابل في المياه العميقة بحيث يمكن مدُّه بسلاسةٍ من سفينةٍ دون التسبُّب في الضغط غير المرغوب الذي قطَعَ النُّسَخ السابقة من الكابل.
- (٣) «الإجراءات التنظيمية والقانونية»: كما ذكرنا آنفًا، دعمَ كلٌّ من حكومتَيْ أمريكا وبريطانيا بقوةٍ المسعى المحفوفَ بالمخاطر، وخفَّضَ الدعمُ الحكومي المخاطِرَ المتكبدة بتوفير برامج دعمٍ ومِنَحٍ لشركة أتلانتيك تليجراف كومباني. تعهَّدَتْ حكومةُ بريطانيا العظمى باستخدامِ سفنِ البحرية الملكية لإجراء الدراسات المسحية للمسار المخطط ولمد كابل التلغراف. علاوةً على ذلك، تعهَّدَتِ الحكومة البريطانية بدفع ١٤٠٠٠ جنيه إسترليني إلى الشركة سنويًّا حتى يتجاوز صافي ربحها ٦ بالمائة، حينها سينخفض الدعم إلى ١٠٠٠٠ جنيه إسترليني للخمسة والعشرين عامًا اللاحقة.24 في ١٨٥٧، اعتمَدَ الكونجرس الأمريكي دعمًا مشابِهًا بقيمةٍ مكافئةٍ بلغَتْ ٧٠٠٠٠ دولار سنويًّا في البداية، ثم ٥٠٠٠٠ دولار سنويًّا بعدما يتجاوز صافي الربح عتبة ٦ بالمائة.25 كما وفَّرَتِ البحرية الأمريكية سفينتين لمد الكابلات في ١٨٥٧؛ سفينة يو إس إس نياجرا الجديدة، وسفينة يو إس إس سسكويهانا. كانت شراكة فريدة من نوعها بين أمَّتين تناحَرَتا في عام ١٨١٢.
- (٤) «القوى الاجتماعية العامة»: اهتمَّتِ الجماهير اهتمامًا محمومًا بكابل التلغراف العابر للأطلسي، وهو ما تجسد إبَّان الاحتفالات السابقة لأوانها في ١٨٥٨ بكلٍّ من بريطانيا العظمى والولايات المتحدة. لمس مواطنو كلتا الأمتين آثارَ الاتصال الآني الذي وفَّرَه التلغراف مع انتشار التكنولوجيا على طول قضبان السكك الحديدية التي تغلغلت كشبكة العنكبوت في خمسينيات القرن التاسع عشر وستينياته. أصبحت الاتصالات الإلكترونية العابرة للقارات أمرًا اعتياديًّا اليومَ، حتى إنه يصعب تخيُّل عالَمٍ دونها. لا بد أن العالَم السابق على مد كابل التلغراف العابر للأطلسي كان يبدو أضخم كثيرًا للمُواطِن العادي، مقارَنةً بإدراكه للمسافات بين مختلف بقاع العالم بعد الانتهاء منه بنجاح في ١٨٦٦. وشعورُ الجماهير ﺑ «تلاشي المسافات» متمثِّلًا في خطوط التلغراف العابرة للمحيطات زاد زيادةً كبيرة في وقت لاحق بفعل مدِّ خطوطِ الهاتف على مستوى العالم عبر القارات وتحت أسطح البحار.26
الاتصالات والإمبراطورية وهارولد إينيس
يكمن أحد أَوْجُه المفارقة، كما أشرتُ إليه في مواضع أخرى من هذا الكتاب، في أن الإنترنت والشبكة العنكبوتية العالمية جعلَا في الواقع النفاذَ إلى محتوى الراديو والتليفزيون والصحف أيسرَ عمَّا كان عليه أيام إينيس؛ فهذه الوسائط المرتبطة بالمكان هي الآن أقلُّ زوالًا من حيث الاطِّلاع على محتواها من خلال محركات البحث والأرشيفات الرقمية على الشبكة. بوسع مستخدمي الإنترنت الوصولُ إلى محطات الراديو والتليفزيون حول العالم وهم يسمعون ويشاهدون فقرات البث الحي المباشِر؛ وأغلب شركات الإعلام تخزِّن في أرشيفاتٍ فقراتِ البث الحي السابقةَ من أجل تشغيلها مرةً ثانية متى يشاء أحدهم. كان الوصول إلى أرشيف الصحف فيما مضى يعني إما زيارة الناشر وإما قضاء ساعات في تثبيت وتشغيل بكرات الميكروفيلم لأرشيفات الصحف في مكتبةٍ من المكتبات. واليومَ أغلبُ كبريات الصحف والمجلات لديها أرشيفاتٌ رقمية على الإنترنت يعود محتواها إلى عقود سابقة، وصار الوصول إلى المحتوى أسرع وأبسط كثيرًا.
وكذا سيُذهَل إينيس من استخدام المدرسين والطلاب للوسائط المتعددة في حجرات الدراسة بالجامعات حديثًا؛ فأنا لم أدَّخِرْ جهدًا في إضافة الصور المعروضة ومقاطع الفيديو وروابط الويب المباشِرة إلى محاضرات صفِّي وإلى المناهج على الإنترنت. يسَّرَتِ الويب الاطِّلاع على هذا المحتوى، وأضافت ثراءً وعمقًا إلى هذه «المحاضرات» التي لم تكن ممكنة منذ عقد من الزمان. أطلب من طلابي المشاركة في حواراتٍ على الإنترنت حول محتوى الدورة على مواقع الويب الخاصة بنقاش حجرات الدراسة؛ وذلك لأنني اكتشفتُ أنَّ كثيرًا من الطلاب الذين يعزفون عن الحديث في قاعةِ محاضراتٍ كبيرةٍ يعبِّرون عن آرائهم بدرجةٍ أكبر كثيرًا في هذه المنتديات على الإنترنت. ويجرِّب بعضُ أعضاء هيئة التدريس حجراتِ الدراسة المختلطة؛ حيث يحضر بعض الطلاب المحاضَرةَ بحجرةِ الدراسة، بينما يشارك البقية عن بُعْد. يفضِّل بعض الطلاب الحضورَ المادي بحجرة الدراسة، بينما يحبِّذ آخَرون تلقِّي المحاضرة بالمنزل أو بالعمل بسبب متطلباتٍ أسريةٍ أو عمليةٍ. زاد بعض أعضاء هيئة التدريس على هذه الفكرة؛ حيث يعقدون فصولًا مختلطة دوليًّا، يكون فيها بعضُ الطلاب بموقعٍ ما ويتلقَّى الآخَرون البرنامجَ الدراسي من قاراتٍ أخرى. والفكرةُ التي تتيح حدوثَ ذلك هي مفهوم «العالَم المسطَّح».
نشأة العالَم المسطَّح
لا ينبغي إغفال أهمية خطوط الاتصال هذه لأغراض القيادة والتحكم في الأصول الاستعمارية فيما وراء البحار من قِبَل القوى العظمى المهيمنة على العالم. عزَّزَ الكابلُ البحري وخطوطُ الاتصال الهاتفية سيطرةَ بريطانيا العظمى على حكومات المستعمرات التابعة لها في كندا والهند وشرق أفريقيا وأستراليا ونيوزيلندا. واعتمدَتِ القوى الأوروبية الأخرى على خطوط الاتصال عن بُعْد هذه من أجل الغرض ذاته في أفريقيا والأمريكتين وآسيا. لم يَعُدْ وكلاء وزارة الخارجية ووزراء المالية بالوطن والمديرون التنفيذيون مضطرين إلى انتظار التقارير التجارية لتصل بالسفينة بعد إرسالها بأسابيع طوال؛ إذ وصلت التقارير اليومية بالتلغراف (ولاحقًا بالهاتف) من نظرائهم لدى المستعمرات. عزَّزَتِ المعلوماتُ المحصلة في الزمن الحقيقي من تنمية إمبراطوريات العالم في القرن التاسع عشر، وساعدَتْ على استمرار بقائها في القرن العشرين.
زادَتِ الطاقة التحميلية لكابلات الألياف البصرية زيادةً مهولة منذ عام ١٩٩٠، خاصةً مع استخدام الضوء المُضمَّم بألوان متعددة. تعمل الكابلات بتحويل الإشارات الكهربية من الأجهزة مثل الكمبيوترات والهواتف إلى نبضات ضوئية تومض وتنطفئ ملايين المرات في الثانية الواحدة. وهذه النبضات الضوئية تتنوَّع بحسب اللون؛ بحيث تعمل كلُّ درجةِ لونٍ كقناةٍ مستقلة داخل كابل الألياف البصرية، وعند الطرف الآخَر من الكابل، يترجم ذلك جهازُ استقبالِ تيار الدفقات الضوئية المتعددة الألوان ويحوِّله مرةً أخرى إلى نبضات كهربية بوسع الكمبيوتر أو الهاتف ترجمتها؛ فموقع الويب من خادم في هونج كونج يُعرَض على هاتف محمول في باريس يُبَثُّ عبر كابلات بحرية في صورة ملايين النبضات الضوئية.
- (١)
«٩ نوفمبر ١٩٨٩» هو تاريخ سقوط حائط برلين وما تبعه من تحوُّلات جيوسياسية هزت العالم. ويرى فريدمان أنَّ انهيار الاتحاد السوفيتي والجمهوريات التابعة له في شرق أوروبا كان نصرًا للمجتمعات الرأسمالية والتدفُّق الحر للمعلومات والتجارة بين الأمم.
- (٢)
«٩ أغسطس ١٩٩٥» هو تاريخ طرْحِ شركةِ نتسكيب أَسْهُمَها للاكتتاب العام. ويرى فريدمان أن النجاح القصير الأجل للمتصفح الذي طوَّرَتْه الشركة كان إيذانًا بصعود الإنترنت في تسعينيات القرن العشرين كوسيلةٍ للاتصالات وبث المعلومات جرى تبنِّيها على نطاق واسع.
- (٣)
ذلَّلَ تطويرُ «برمجيات تدفُّق العمل» رقمنةَ المعلومات بحيث يمكن معالجتها وتحليلها في أي مكان بالعالم. واستعان فريدمان بأفلام الرسوم المتحركة التي تُنتَج في كاليفورنيا كمثالٍ؛ حيث يتمُّ تحريكُ الخلايا في الهند، وتسجيلُ الصوت بالقرب من منزل كلِّ ممثلٍ، والتحريرُ النهائي في كاليفورنيا.
- (٤)
«المصدرية المفتوحة» هي إنشاء أكواد الكمبيوتر ومحتوى الإنترنت من قِبَل «تجمعات تعاونية ذاتية التنظيم». والأمثلة المَسُوقة تشمل برمجيات أباتشي مفتوحة المصدر لخادمات الويب وموقع ويكيبيديا كموسوعة عالمية مفتوحة المصدر يساهم فيها الآلاف بشتَّى اللغات.
- (٥) «التعهيد الخارجي» هو تفويض مهامَّ خارجَ الشركة أو المنظمة. ويسوق فريدمان تعهيدَ مهمةِ تصحيح أكواد الكمبيوتر لتجنُّب تعطُّل الأنظمة في مستهل عام ٢٠٠٠. حلَّت شركات البرمجيات في الهند مشكلة Y2K عام ٢٠٠٠ لعملائها بإعادة كتابة الكود المعيب، وأثبتَتْ أنه بإمكانها تولِّي مهامَّ برمجيةٍ مشابِهةٍ بالتعهيد.
- (٦)
«التعهيد الأجنبي» هو تحويل الإنتاج إلى المصنِّعِ العالمي الأقل تكلفةً أو مقدِّمِ الخدمة الأدنى كلفةً. ويسوق فريدمان صعودَ الصين بوصفها منتِجًا تنافسيًّا للسلع المصنَّعة، وترسُّخ «السعر الصيني» باعتباره المحك الذي يسعى المنافسون لمضاهاته.
- (٧)
«سلسلة التوريد» هي تصميم نظام شامل من أجل شراء وتسليم السلع والخدمات من المورِّد إلى العميل. يحلِّل فريدمان سلسلةَ التوريد المحوسبة لدى وول-مارت التي تبادِر بإعادة طلب المنتجات من المورِّدين أثناء شرائها من متاجرها.
- (٨)
«التعهيد الداخلي» هو عملية تدعو الشركة وفقًا لها مقدِّمَ خدمةٍ لتقديم خدمات حيوية داخل المنظمة. ويسوق فريدمان شركة يونايتيد بارسيل سيرفيس لمجموعة الخدمات اللوجيستية التي توفِّرها لعملائها، والتي تخطَّتْ مجرد تسليم الطرود.
- (٩)
«الإطْلاع» هو وصف فريدمان لمحركات البحث ومقدِّمي هذه الخدمة. ويستشهد بصعود جوجل إلى القمة في هذا المجال، ويتحرى التبعات التي تعود على المجتمع من جرَّاء إتاحة معلومات العالَم كلها للجميع.
- (١٠)
«المنشطات» هي أربعة عوامل تعزِّز الاتجاهات المذكورة أعلاه: العامل الرقمي والمحمول والشخصي والافتراضي؛ فالوسائط والمعلومات التناظرية بصدد التحوُّل إلى صيغٍ رقميةٍ يمكن النفاذ إليها وبثُّها بسرعةٍ. والهواتفُ المحمولة وغيرها من الأجهزة اللاسلكية تتيح المحتوى للجميع دون الحاجة إلى الاتصال بأسلاك. والتطبيقاتُ المطوَّرة حديثًا تتيح لكلِّ مستخدِم تخصيصَ الوسائط وغيرها من المحتوى الرقمي، من الأمثلة على ذلك الحسابُ على موقع فيسبوك. وطرح الحوسبة السحابية يعني أن المستخدمين لن يكونوا بحاجةٍ لحمْلِ ملفاتهم الرقمية عندما يتنقلون. سينفُذ المستخدِمون إلى ملفاتٍ افتراضيةٍ مخزَّنة على خادمات بعيدة، ويستخدمون برمجيات مشتركة لمعالجة ونشر المعلومات.
كذلك تسمح هذه التكنولوجيات للحكومات والمؤسسات والمنظمات غير الهادفة للربح بتشكيل فِرَق عالمية من أجل حل المشكلات (مثل التضافر في حل قضايا التغير المناخي)، وتطوير المنتجات وتسويقها، وأغراض القيادة والتحكم. واليومَ تتنافس كبريات الشركات في استخدام شبكة الإنترنت العالمية. والتكنولوجياتُ ذاتها التي تيسِّر المنافسةَ العالمية، من شأنها أيضًا أن تُستخدَم لتصدير العمل إلى أقل أسواق العمالة كلفةً في العالم. وبوسع مَن فقد وظيفته بدولةٍ من الدول التي تدفع أجورًا أعلى، وحلَّ محلَّه موظفٌ معلوماتي في بلدٍ أجنبي؛ أن يشتري قميصًا قطنيًّا يحمل صورةً لتوماس فريدمان مكتوبًا عليها: «خسرتُ وظيفتي وحلَّ محلي شخصٌ من الهند، ولم يُلْقِ كاتبُ عمودِ الشئون الخارجية الشهير بجريدة ذا نيويورك تايمز بالًا لمأساتي!»
منذ عام ٢٠٠٠، فقدَتْ أعدادٌ ضخمة من موظفي المعلوماتية في الدول الأكثر تقدُّمًا وظائفَهم، وحلَّ محلَّهم موظفون بدولٍ ذات مستويات أجور أدنى. تحدَّثْتُ مؤخرًا إلى زميلٍ بشركة من شركات التكنولوجيا المتقدمة في كولورادو، طُلِب منه فعليًّا تدريبُ الموظف الأجنبي الذي سيحلُّ محلَّه في الخارج، وكان يفعل ذلك حتى يتسنى له الحصول على مكافأة نهاية الخدمة. هذه العملية معروفةٌ في لغة الأعمال ﺑ «الترشيد»؛ أيْ خفض القوى العاملة بالبلدان ذات مستويات الأجور الأعلى في مقابل توسُّعٍ في المناصب المشابهة في البلدان الأقل ثراءً. قد يدفع البعض أن في هذا أيضًا حِكمة، وهي توزيع أعدل للثروة حول العالم، لكن مَن فقدوا وظائفهم وحياتهم المهنية نتيجةً لهذا الاتجاه قد لا يرون هذا المنطق، كما عبَّرت عنه الجملة المكتوبة على القميص القطني التي تنتقد توماس فريدمان. وقد عزَّزَ تصديرُ الوظائف المرتبطة بمعالجة وتوفير المعلومات (مراكز الاتصال وخطوط المساعدة) اقتصادات الدول النامية القادرة على توفير التدريب المطلوب، وأدى كذلك إلى إعادة نظر الشباب بالدول الأكثر تقدُّمًا في وظائف في مجالاتٍ مثل برمجة الكمبيوتر. فلأسباب وجيهة هم راغبون عن الاستثمار في وظيفةٍ قد تهاجِر فرصُ العمل بها إلى بلدانٍ أجنبية أثناء عملهم بها. ويلفت فريدمان الانتباهَ إلى أنه تقلُّ احتمالاتُ تصديرِ الوظائف الإبداعية في الهندسة والعلوم والفنون بسبب المعارف أو المهارات البالغة التخصُّص التي تستلزمها. إلا أنه مع تحسُّن التعليم الفني في مختلف أنحاء العالم، سيتعاون — ويتنافس — العاملون بمختلف وظائف المعلوماتية مع أقرانهم في الدول المتقدِّمة الأخرى. وبحسب ما ذَكَر مبتكرو جهازِ التلغراف وكابل التلغراف العابر للأطلسي، فإن المنفعة المستفادة هي أن حواجز المسافة التي أعاقَتِ التواصلَ على مستوى الكوكب قد سقطت، لكننا نعيش الآن في عالَم يمكن أن تختفي فيه وظيفةُ المرء فجأةً، ويتقلَّدها شخصٌ أجنبي بالخارج من أجل «الترشيد».