نهاية السياسة
يحمل زوال الأمة في طياته موت السياسة.
فأيًّا كان التراث الذي نرتبط به؛ فإن الحوار السياسي يفرض مقدمًا وجود كيان سياسي. وبالنسبة للمواطن الفرنسي، لا يمكن أن يكون هناك تعبير عن السيادة بدون تواجد كيان سياسي. وهو لا غنًى عنه بنفس الدرجة لدى المواطن الإنجليزي أو الألماني لأنه يمكِّن المواطنين من التعبير عن «الوطنية القائمة على المؤسسات» بالخضوع للقوانين. غير أن تلك البنايات التجريدية لا تصمد أمام واقع المجتمع الحديث. فالكيان السياسي — الذي يتضاءل دوره كمبدأ ينظم حياة الناس في المجتمع — يتعرض في عصر شبكات الاتصال لمنافسة عدد لا نهائي من الارتباطات التي يعقدها هؤلاء المواطنون خارج إطاره، حتى إن السياسة تبدو نشاطًا ثانويًّا، بل وبناءً مصطنعًا لا يساعد على حل المشاكل العملية في العالم المعاصر.
وبما أنه لم يَعُد هناك مجال طبيعي للتضامن والمصلحة العامة؛ فإن الترابط الرائع في المجتمع المنظم وفقًا لهرم السلطات المتداخلة فيما بينها، يزول. ولا تكون هناك قرارات عظيمة تنبثق منها قرارات أصغر، وقوانين تنبثق منها مراسيم. وبما أن البلدة لم تَعُد «مستوعَبة» في المنطقة التي لم تَعُد هي أيضًا «مستوعَبة» في الدولة القومية؛ فإن القرار الصغير لا يكون مستنبَطًا من القرار الكبير. وهكذا تنعكس أزمة المفهوم الإقليمي للسلطة على اتخاذ القرارات. وبدلًا من أن تتخذ تلك القرارات وفقًا لأسلوب يحدد لكل كيان اختصاصًا معينًا؛ فإنها تتجزأ، كما يتراجع، بل ويتفتت الحوار السياسي التقليدي المتعلق بالمبادئ والأفكار العامة، والجوانب الأيديولوجية، وتنظيم المجتمع، كانعكاس لتفتت عملية اتخاذ القرارات ذاتها ولتحويلها إلى احتراف.
ومما لا شك فيه أننا لا نرى في أي مكان، خيرًا من الولايات المتحدة — التي تبوأت طليعة تنظيم السلطة عن طريق المؤسسات — كيف أن منطق الاعتماد على المؤسسات يُنفذ ويجرف معه السياسة ذاتها.
ونادرًا ما يتهدد الأخلاقيات اليوم نشاط جماعات الضغط، ولكنه يقلب آليات الديموقراطية رأسًا على عقب. فعضو اللوبي سمسار في مجال الإعلام. وهو يجنَّد لحساب المنشأة أو المصالح التي يمثلها كافة المعلومات التي يمكن أن تؤيد وجهة النظر التي يدافع عنها. فإذا أرادت شركة للمقاولات العامة أن يتم التصويت بالموافقة على اعتمادات تخصص لمدِّ طريق مزدوج، قام هذا السمسار بجمع معلومات أكمل وأدق من أي جهة رسمية متخصصة في تقرير احتياجات كل منطقة حسب عدد سكانها ونوعية نشاطهم، ليثبت ويعدد مزايا هذا الطريق المزدوج بالنسبة للمجتمع بأسره. ولو كان هذا الشخص يمثل جمعية للمهتمين بالحفاظ على البيئة؛ فإنه سيقدم بخصوص نفس الملف تفاصيل كل العواقب الوخيمة لهذا المشروع على البيئة. ففي كل مسألة وفي كل مشروع قانون ستتعارض مكاتب جماعات الضغط التي ستخوض معارك مريرة، سلاحها الأساسي المعلومات. وكثيرًا ما تكون هيئات الحكومة ذاتها أقل استعدادًا للمشاركة في تلك المجابهات بين مختلف المصالح التي تتوفر لديها إمكانات أكبر بكثير! ولا يعمل اللوبي مجانًا بالطبع، ولا يستطيع أن يلجأ إلى خدمات أي لوبي سوى أصحاب المصالح القادرين على الدفع. وكثيرًا ما يوجَّه هذا الانتقاد للنظام الأمريكي الذي للأغنياء وحدهم إمكانية الدفاع عن مصالحهم بفعالية. وهذا النقد ليس صحيحًا صحة مطلقة، نظرًا لأن كافة المصالح تقريبًا تستطيع أن تدفع التكاليف في الولايات المتحدة، بما في ذلك مصالح الفقراء بوصفهم فئة اجتماعية. ولنذكر في هذا الصدد الإمكانات الضخمة التي تستطيع أن تعبئها الأقلية الزنجية لتدافع عن نفسها.
وقد يدفعنا ذلك إذَن إلى التفاؤل وإلى الاستنتاج أن تحول مهنة عضو اللوبي إلى حرفة يعتبر تحسنًا مستحبًّا لصالح الديموقراطية التي أضحت أقدر على الحصول على المعلومات. وإذا كان حرم الكونجرس يشكل بالنسبة للأفكار ما تشكله البورصة بالنسبة للعقود، ألا يمكننا عقد مقارنة حول تطور هاتَين السوقَين؟ فكما أن أسعار الأسهم في بورصة نيويورك تخضع أكثر فأكثر لرأي المستثمرين الأساسيين الذين يحددون تقديراتهم حسب تحليل محترف لحسابات الشركات؛ فإننا قد نشهد أيضًا تحول المناقشات في الكونجرس إلى حرفة عن طريق تزودها بمعلومات جوهرية يوفرها أخصائيو جماعات الضغط الممثلون لمصالح متناقضة. وعليه فإن السياسة لا بد وأن تستفيد من ذلك.
ولكن هل نظل مع ذلك في حقل السياسة؟ يتمثل سوء الفهم حول نظام اللوبي في الاعتقاد بأن المصلحة العامة ستنشأ بشكل طبيعي من خلال المواجهة النزيهة بين المصالح الخاصة.
وهكذا تؤدي تلك المواجهة إلى الجمود لعدم تواجد مبدأ تضامن يتجاوز المواجهات الخاصة. ويطلق الأمريكيون على ذلك الوضع اسم «الاختناق السياسي» مشيرين بذلك إلى ازدحام السيارات عند مفترق الطرق الذي يجعل السيارات تمنع بعضها البعض عن مواصلة السير. فكل سائق يتصور أن السيارة الواقفة أمامه هي التي تعطل المرور بينما يوضح التقاط صورة ذلك الازدحام من الجو أن كل واحد منهم يشارك في الاختناق العام. ففي الديموقراطية المتقدمة يصبح من الصعب أكثر فأكثر أن يسمو الشخص فوق المصالح الخاصة لتكون نظرته سمائية!
وتتمثل نقطة الانطلاق في هذا التطور في التخلي بلا تروٍّ عن فرضية تفوق السياسة. فالسياسة ليست المحصلة البسيطة للمصالح الخاصة بل تفترض وجود عقد اجتماعي يسبق كل العقود الخاصة ويتجاوزها. ولو تم التخلي عن تلك الفرضية وتحولت السياسة إلى سوق تتحدد فيها «قيمة» المصالح القائمة، لأصبح الحيز السياسي مهددًا في الحال بالزوال لأنه لا توجد «سوق» تحدد «قيمة» المصلحة الوطنية وتقرر حيز التضامن. وإذا غدا التجمع الوطني اختيارًا لا أحد المسلَّمات؛ فلن تتوفر أبدًا لأي شخص إمكانات إقامة ذلك الاختيار على نفس المعايير الرشيدة التي يسترشد بها عند إدارته لمصالحه. ومن الواضح أن أي قانون اقتصادي لا يستطيع أن يحل محل الواقع الإقليمي والتاريخي للأمة.
وتحويل الدفاع عن المصالح إلى حرفة يذيب السياسة من كثرة المواجهات الخاصة وإذا كان الوعي بالمصير المشترك، بما يتضمنه من ذكريات وبالتالي من حوافز للانطلاق نحو المستقبل، لا يزال قائمًا هنا أو هناك فهو ليس نتاج الاحتراف في مجال المصالح. فمنطق هذا الاحتراف يؤدي في الواقع إلى أقصى حدود التفتت. ففي غياب مبدأ منظم للأمور معترف به من الجميع ويعلو على المصالح الخاصة؛ فإن المنزلق الطبيعي لكل فرد يكون الانطلاق إلى أقصى حدٍّ ممكن دفاعًا عن مصالحه. فبِاسم أي مبدأ يمكن أن تكون هناك حدود لذلك الانطلاق؟ وخير دليل على ذلك يسوقه هذا الميل إلى إثارة المنازعات الذي يتميز بها المجتمع الأمريكي. فتحرير أي عقد في الولايات المتحدة يكون دائمًا محاولة للحصول على أقصى قدر من الحقوق، والمحامون هم جنود مجتمع كل فرد فيه مشغول بكل عناد بمتابعة مساعيه المنعزلة من أجل مصالحه الخاصة، والعقد في كل الأحوال ليس سوى هدنة في المعركة الاجتماعية. ولا توجد أي أرض مشتركة خارج ما نص عليه العقد تتيح لأطرافه الكف «بحسن نية» عن التقاتل. فانتهاك نصوص عقدٍ ما يعتبر عملًا غير أخلاقي ولكن لا محل للأخلاقيات خارج نطاق القواعد التي تم الاتفاق عليها بمقتضى العقد. ولذا تكون المعركة شرسة بشكل يثير دهشة الأوروبيين في الكثير من الحالات؛ إذ إنهم يعتبرون غياب النية في حد ذاته دليلًا على سوء النية؛ ولذا فإن عدم ترك أي شيء غير واضح المعالم، وتحديد الحقوق المقررة والالتزامات المتعاقَد عليها بكل دقة مسألة حيوية. ويجب ألا تترك المبارزة القانونية أي ثغرات؛ لأن الخصم سيتوغل حتمًا من خلالها. ومن واجب المحامي أن يحصل دائمًا على الحد الأقصى في أي عقد. والطرف الآخر لا يتصور أن الأمر يمكن أن يكون خلافًا لذلك. والمنشأة التي لا تؤكد كل حقوقها تحوم حولها شكوك العدالة لشبهة تواطؤها مع الطرف الآخر أو اللجوء إلى الحد من منافسة منشأة لم تؤكد على كافة حقوقها.
والواقع أن ما لا يمكن التسامح فيه إطلاقًا هو ما يسميه رجال القضاء «تنازع المصالح» وجناية التواطؤ لأنهما يصيبان الآلة الاجتماعية بالخلل؛ فانتماء شخص في آن واحد إلى مجالَين للمصالح يدعو إلى إعادة النظر في حساب القوي الذي يجب أن يحقق الحد الاجتماعي الأمثل. وينبغي أن يلتزم كل شخص بمنطق أحادي الأبعاد في كل تصرف يُقدِم عليه. وقد برهن على أي حال كل من كوندورسيه وكينيث آرو (الذي أوضح أن الاقتصاد لا يكفي وحده لتوفير التوازن الاجتماعي) أن ذلك المنطق هو وحده الذي يتلاءم مع الأفضليات الفردية. وسيقال وفقًا لرطانة رجال الاقتصاد إنه من المناسب رفع المنفعة «إلى أقصى حد». فالمبدأ المحرك لهذا العالم ليس الاعتراف بوجود مصلحة مشتركة بل بمعركة الجميع ضد الجميع، أي المواجهة التي لا تعرف فيها إرادة القوة عند كل فرد وعند كل قطب ذي سلطان أي حدود سوى إرادة القوة عند الجار. فكل سلطة تتمادى حتى أقصى سلطتها. ولو لم يكن الأمر كذلك لما كانت للسلطة حدود عن طريق السلطات؛ إذ سرعان ما ستحتل بعض السلطات الحيز الذي تُرك شاغرًا بتخلي سلطة أخرى عن نفوذها.
عندما ميز آباء الديموقراطية الليبرالية بدقة بين المجالَين العام والخاص، كانوا يحاولون التوفيق بذلك بين المنطق الأحادي الأبعاد للمصالح الخاصة التقاليد الإنسانية النزعة التي تَعتبر كل شخص ذاتًا مستقلة. فمواطن الأزمنة الحديثة كائن مزدوج، إلا أنه كان يحتفظ بقدرٍ من الوحدة الداخلية في كل من جانبَي حياته الخاصة والعامة. والقطيعة بين العام والخاص لا تسقط مع التخلي عن فرضية أسبقية السياسة، بل تصبح أمرًا دارجًا. ويقضي ذلك التردي على فكرة الذات التي تشكل الأساس الآخر للديموقراطية الليبرالية.
ولا يقتصر الأمر فقط على عدم تواجد ما يتجاوز المواجهة بين المصالح الخاصة وبعضها، بل إن هذه المصالح نفسها تتجزأ؛ فالشخص الواحد يمكن أن ينتمي إلى حزب سياسي ونقابة مهنية وجمعية لحماية المستهلكين ومنشأة اقتصادية، ولكنه لا يفلت من التنازع على المصالح إلا بقبول تجزئة نفسه إلى ما لا نهاية. وتظهر عدة مهن تابعة تقوم كل منها لا بحماية مصلحة خاصة وإبرازها وتنظيمها، ولكن بمعالجة مرحلة منها فقط. فعضو اللوبي والمحامي والمصرفي والمستشار في العلاقات العامة أو في التنظيم والمحاسب، يقدِّم كل منهم «خدمة» عابرة استجابة لوضع خاص.
وفي نهاية المطاف فإن صاحب العمل الحديث المحاط بالأخصائيين في كل مجال لم يَعُد يدير المنشأة نفسها بل الحالات التي تتعرض لها. ولا عجب في أن يؤخذ على المنشآت الأمريكية كونها تعيش على المدى القصير. فالأفق الوحيد المهم هو ذلك الذي يفرضه حلول موعد الحسابات الربع سنوية، بل إن أخذ المدى البعيد في الاعتبار يمكن أن يصبح وظيفة خاصة وتخصصًا. وقد رأينا منشآت تلجأ إلى «مستشارين في مجال الاستراتيجية» لتحديد توجهاتها. إنه التمادي إلى أقصى حد في منطق عالم لا تحدد معالمه الجماعات الإنسانية أو الأمم أو المنشآت التي يتكون منها، ولكن تحدده فقط المشاكل التي يتعين عليه معالجتها.
وما دامت لا توجد سوى حالات خاصة؛ فإن كل وضع يجب أن يعالج وفقًا لمزاياه الخاصة، لا على حسب المدة التي تربك الحسابات وتقحم التباسات خطرة. وهذا صحيح بالنسبة للمحامي الذي يحرر عقودًا دون أن يحرص على خلق مناخ من الثقة بين الطرفين المتعاقدين، وكذلك بالنسبة للمصرفي الذي يتفاوض على أفضل سعر لشراء منشأة لحساب أحد عملائه، حتى وإن كانت الفائدة العائدة من الحصول على تلك المنشأة قد يكون مشكوكًا في جدواها. ومع أن أصحاب هذا التطور ينكرون ذلك، إلا أن المنطق الأمريكي يهتم بالصفقة لا بالعلاقة مع العميل، ويسهم بذلك في تفتيت المجتمع.
وعندما يفقد الحوار بعده الزمني، وينحصر في حالات بدلًا من أن ينتظم حول مبادئ؛ فإنه يفرغ من جوهره ولا يمكن أن يسمَّى حوارًا سياسيًّا إلا عسفًا. واستطرادًا لتلك الأوضاع؛ فإن التوسع في الإعلام الذي تؤاخذ عليه بسذاجة الحياة السياسية المعاصرة، يعبر فقط عن تطور مجتمع حل فيه التدفق العابر للتصورات كما تعرضها وسائل الإعلام، محل الوعي بالمصير المشترك المعاش على المدى الطويل.
بل إنه بوسعنا أن نزعم أن المهمة الرئيسية لرجل السياسة، العاجز أمام الاختناق الذي تسببه المواجهات بين المصالح التي أصبحت حرفة، غدت من الآن فصاعدًا احتراف إدارة التصورات المشتركة وخلق تواصل معين. فهو يزعم أنه الداعية إلى الحلول الطويلة المدى في عهد التصرفات العابرة والمؤقتة، ولكن وسائله في ذلك هي أيضًا عابرة … وتتوفر لديه في هذا المجال مزايا واضحة بالمقارنة مع غيره من المهتمين بشئون الحياة الاجتماعية. فطريقة تعيينه بالانتخاب المباشر أو غير المباشر بالاقتراع العام يحتم عليه أن يكون من نجوم الإعلام، بل وأن يصبح أحد منتجاته. وهو يحتل بذلك مركزًا فريدًا لأنه الإنسان-المنتج الوحيد صاحب الرسالة العامة. فكل «الناس-المنتجين» الآخرين لا تتوفر لديهم نفس تلك الأوراق الرابحة في المجتمع الإعلامي. فالفنانون الاستعراضيون يوجهون جهودهم نحو قطاعٍ من الرأي العام ويرتبطون بمنتج محدد (فيلم، أسطوانة … إلخ.) وقادة المنشآت يحرصون من جانبهم على ألا تغيب صور منشآتهم عن الأذهان.
أما السياسي فينظم التصورات المشتركة بمصاحبة زميله الصحفي التليفزيوني. وكل منهما يعيش عن طريق الآخر. ويتحقق الوضع المثالي في هذا المجال — الذي اقترب منه الرئيس ريجان — عندما لا يتوجب على السياسي أن ينفعل إزاء صور لا يتحكم فيها — مثل تحطيم سور برلين مثلًا — ولكن عندما يخلق بنفسه الصورة والوضع المرئي الذي سيثير@@ اهتمام وسائل الإعلام. وترمي إدارة جدول الأعمال هنا إلى خلق أوضاع على غرار الكاتب المسرحي البارع الذي يخلق الحدث المفاجئ. فهناك الجمل القصيرة التي يلقي بها في اللحظة المناسبة والصور الشديدة الوقع والأشد فعالية من الرسالة الطويلة، كما أن اللحظة الحاسمة في اجتماع قمة لم تَعُد المناقشة التي تدور بين رؤساء الدول بل المؤتمر الصحفي الذي يعقبه.
هناك إذَن تجزئة للصور والمواضيع وتفتيت للوقت وتبسيط للتصورات، وأهم ما في الأمر هل يتكلم الناس عن الموضوع أم لا، وكثيرًا ما يكون ذلك هو المقياس الوحيد؛ فالمشكلة التي لا يتحدث الناس عنها لا وجود لها. أما مسألة معرفة ما يتوجب عمله فتخضع لأسلوب الحوار الذي يحرص على عرض التعارضات التبسيطية. فهناك موقف يتمتع بالهيمنة على كل قضية مطروحة، يتعين على المرء أن يقرر موقفه منها بنعم أو لا. أما الفروق الدقيقة والمتدرجة والعبارات مثل «ليس الأمر كذلك تمامًا» و«موافق تقريبًا» فهي خارج الاعتبار لأنها غير تربوية. ويبرز هنا عمل أفراد اللوبي ومحترفي الإعلام. فالمعلومات الهامة التي يقدمها اللوبي تعقِّد العملية في الأوساط العليا وتبسطها مع مشاهدي برامج التليفزيون. وفي المراحل الأولى في صياغة مشروع القانون تكون المباراة حامية بين المحترفين الذين يحاولون التأكيد على موقف معين في نص المشروع بعيدًا عن الحوار السياسي. وفي المراحل النهائية للمناقشة العلنية تميل المواجهة المحترفة بين المصالح إلى تحييد التأثير المتبادل. وفي أغلب الأحوال تكون هناك حجج جادة يمكن أن تُساق تأييدًا لمختلف المواقف المطروحة. وعندئذٍ يتوقف كل شي على الزاوية التي تُعرَض من خلالها المسألة. وهنا تحتل مسألة التصورات المركز الرئيسي؛ لأن التعقيد يولِّد الملل، أما الحجة التي لا يمكن تلخيصها في جملة واحدة فلا محل لها في مجال الإعلام.
وبعد أن يقال كل شيء؛ فإن قدرة السياسي على فرض الإخراج الذي لجأ إليه تكون لها الغلبة في اتخاذ القرار. وقد عوتب الرئيس ريجان على ذلك، وإن كانت موهبة هذا الممثل السابق في الاتصال أتاحت الفرصة لتعميم بعض الأفكار الساذجة. ومما لا شك فيه أنه لا يمكن أن يبتهج أحد لوضع لا يتم فيه التوصل إلى قرار نهائي إلا ﺑ «كَلفتة» الحوار القومي، مما قد يؤدي إلى طريق مسدود. ولكن هل تم على الأقل اتخاذ قرار؟ حتى هذا ليس مؤكدًا لأن السياسي المحنك يعلم تمامًا أنه ليس هناك أخطر من المظاهر التي تتحول إلى حقيقة. والواقع أن المرحلة القصوى للديموقراطية عن طريق وسائل الإعلام سيتم بلوغها عندما لا يتعلق الحوار السياسي بقرارات فعلية ولكن بالتصور المشترك المتواجد لدى شعبٍ ما عن نفسه. وقد يكون ذلك التصور بعيدًا تمامًا عن الواقع. ففي ظل رئاسة ريجان زاد حجم الإنفاق العام، على عكس التوجهات التي أعلنت. وليس هذا بيت القصيد؛ فالمهم أن التصور العكسي فرض نفسه وأن رجال الاقتصاد اقتنعوا بأن الدولة تراجعت. وهذه الرسالة التي دارت حول العالم بأسره لها انتكاسات فورية أهم بكثير من واقع الميزانية. وعلى العكس، فلا أهمية لكون الرئيس كارتر قد بدأ عملية إعادة التسليح الأمريكية قبل ريجان؛ لأنه لم ينجح في عرض صورته كرئيس قوي الشكيمة؛ فكان لذلك القصور أثر عكسي يفوق حقيقة إعادة التسليح.
وهكذا نجد أنفسنا بعيدين للغاية من كافة النواحي عن طموحات القرن التاسع عشر وتعبيرها الأمثل: الديموقراطية البرلمانية. فالحلم بقيام سلطة تحول دون التسلط وبتوزيع بين عدة أقطاب صغيرة مستقلة ذاتيًّا لا يؤديان إلى التوازن بل إلى الشلل. لقد حل احتراف المواجهة بين المصالح محل الحوار العام العقلاني والمستنير الذي كان يحلم به فلاسفة القرن الثامن عشر.
وكانت الديموقراطية الليبرالية تعتمد على فرضيتَين أصبحتا موضع أخذ وردٍّ الآن؛ تواجد مجال سياسي يكون ميدانًا للتفاهم الاجتماعي والمصلحة العامة، وتواجد عناصر تتوفر لديها طاقة خاصة وتمارس حقوقها وتعبر عن «قدرتها» حتى قبل أن يجعلها المجتمع شخصيات مستقلة ذاتيًّا. وعوضًا عن الشخصيات المستقلة، لم تَعُد هناك سوى أوضاع عابرة تنعقد على أساسها تحالفات مؤقتة تساندها كفاءات تم تجنيدها لهذه المناسبة. وبدلًا من الحيز السياسي الذي يوفر المجال للتضامن المشترك، لا توجد سوى التصورات المتسلطة والعابرة على غرار المصالح التي تحركها. إنه مجتمع يتفتت إلى ما لانهاية وبلا ذاكرة أو تضامن، ولا نؤمِّن وحدته إلا من خلال الصور التي تقدِّمها له وسائل الإعلام كل أسبوع. إنه مجتمع بلا مواطنين وبالتالي فهو «لامجتمع».
ولا تخص هذه الأزمة مجتمعًا معينًا، أي النموذج الأمريكي كما يود الناس أن يأملوا في أوروبا بغية الإفلات منه. وأمريكا تدفع بالطبع إلى أقصى حد منطق تصادم المصالح الذي ينفي فكرة الصالح العام، كما أن إدارة التصورات المشتركة في هذا البلد بلغت درجة من التكلف والبراعة لم تعهد بعد في أوروبا؛ غير أن الحالات القصوى تساعد على فهم الحالات المتوسطة، والأزمة الأمريكية تكشف لنا عن مستقبلنا.
واليابان هو البلد الثاني الذي يحمل شعار مستقبلنا. إنه الوجه الآخر لفناء السياسة ولعهد الشبكات الجديد. وهو لم يجرب بنايات عهد النور والاحتفاء بالفرد والتطلع إلى آلية اجتماعية تحترم تعددية المصائر الشخصية؛ إذ إنه انتقل مباشرة من عصر الإقطاع إلى الحداثة التي لم نألفها بعد. ونجاح اليابان يفيدنا في حد ذاته عن نهاية السياسة بنفس القدر الذي تفيدنا بها الأزمة الأمريكية.
فالنجاح الياباني ليس سياسيًّا؛ لأن تحول مصالح هذا البلد إلى احتراف، والتجزئة المترتبة على ذلك، يقابلها في الواقع وزن موازٍ طبيعي في الذاكرة تحافظ عليه الطقوس التاريخية المشتركة. وهكذا يفلت اليابان من الاختناق الأمريكي العاجز حاليًّا عن التوفيق بين مؤسساته التاريخية الأصلية ومنطق علاقات القوى المعاصرة. فواشنطن لا تعرف كيف تتخذ القرارات؛ إذ تشلها التحالفات السلبية، وأيضًا تعدد المناقشات المشتتة التي لم تَعُد تحكمها أرض السياسة المشتركة والمصلحة العامة. ولا ينطبق هذا الوضع على اليابان. ولكن ما ينقذه من الشلل ليس السياسة، بل اعتماده أصلًا على عادات وتقاليد عريقة لا على عقود. فاليابان ليس مجتمعًا ولكن ذكرى مجتمع تتم فيه محاكاة علاقات القوى وتنظيم مسرح الديموقراطية، بنفس الحزب الحاكم منذ عدة عقود. أما إيقاعات تلك المصادمات المنسقة تمامًا والمدروسة بعناية فهي الصيغة الآسيوية للمبارزات الإعلامية في أمريكا الحديثة. فهنا الجينيول — في فرنسا — وهناك البوزاكر — في اليابان — ولكن مسرح العرائس في كل من الحالتين ليس واحدًا وهما لا يخضعان لنفس القواعد، غير أنهما «غير سياسيين».
ومع أن نقطتَي انطلاقهما متعارضتان، إلا أن كلًّا منهما يمثل شكلًا متدهورًا للديموقراطية البرلمانية، هذا إذا كنا نشير بذلك إلى النظام الذي تمارس فيه الدولة السلطة التنفيذية تحت إشراف السلطتَين التشريعية والقضائية. والإشراف يتطلب أن يبقى هذان القطبان، وهما من مؤسسات السلطة، ولكننا نلاحظ أنهما يتلاشيان. فلا بد من وجود مراقِبين ومراقَبين. ويجب أن تكون هوية متخذي القرارات محددة بكل وضوح. ولا يعود ذلك الوضع قائمًا عندما يؤدي تعدد المشاركين في اتخاذ القرارات إلى قلب الرؤية، التقليدية رأسًا على عقب. لم نَعُد في زمن القوانين العامة الكبرى التي تحدد المبادئ على أن تتكفل الجهات الإدارية بتطبيقها. ولم يُعَد هناك من الآن فصاعدًا إلا سلسلة من القرارات التي تشكل في مجموعها في الظاهر لا في الواقع «القرارات الكبرى». فالإجراءات المتعلقة بالميزانية الأمريكية التي ترهقها وتلاحقها آلاف المطالبات المنتظمة والمغلقة بشكل مصطنع بقرارات ذات صبغة عامة لا تُلزم إلا المظاهر، وهي تقدم مثالًا لهذا العالم الذي يؤدي فيه شلل المؤسسات في نهاية الأمر إلى توزيع للسلطات لا يبعد كثيرًا عن المنطق الياباني. وهكذا فقدت السلطة التنفيذية المبادرة دون أن يدع البرلمان سيادته.
وليس هناك ما يدعو للعجب إذا كان عدد الناخبين الذي يدلون بأصواتهم يتناقص في الديموقراطيات «المتقدمة» بينما يفقد أغلب الساسة احترام مواطنيهم لهم، علمًا بأن اليابان تحتل في هذا المضمار وغيره قمة الحداثة. ورجل السياسة الذي كان يحلم به فلاسفة عصر التنوير كان من المفترض أن تتولد عن طريقه حقيقة المجتمع. ولما كان يتمتع بموهبة التحدث في نفس الوقت مع موهبة العقل، فقد كان يساهم في التعبير عن جوانب السمو في المجتمع في المحفل البرلماني. غير أن الحفاظ على مثل هذا الطموح — أي السعي المشترك والديموقراطي للصالح العام — كان يتطلب المراهنة على قدرة كل شخص على حمل الحقيقة في جنباته وبالتالي الاعتراف بها.
وليس هناك ما هو أكثر غرابة في عصرنا من تلك الفكرة التي تتصور شخصًا قائمًا بذاته، خارج شبكة العلاقات التي يندمج فيها والتي تعرِّفه هي وحدها. وهناك بالطبع مشاعر بل وأهواء خطرة بوسعها أن تدمر النسيج الاجتماعي الذي يتيح قيام العلاقة، وإن كانت تلك الأهواء لا تشكل الشخص، كما تشكل الخطيئة المسيحي. لقد غدونا «يابانيين» أكثر فأكثر وأصبحت بطاقة الزيارة بمثابة التعميد ويمين ولاء المواطن. ونحن نتبادل بطاقات الزيارة بوصفها إشارات مشفرة لا يمكن أن تقوم بدونها علاقة وظيفية، يحددها بالكامل الوضع الذي أوجدها.
وهكذا يحل السلوك المهذب محل السياسة، وهو لم يَعُد الطلاء الخارجي الذي يكسو الواقع الاجتماعي بل أصبح ذلك الواقع نفسه.
ولا تحيلنا الإشارات إلى أي حقيقة يمكن أن تكون هي الأرض المشتركة التي يلتقي عليها الناس. فلو كان الأمر كذلك لكان هناك أيضًا أناس وحيدين منغلقين على تجربتهم المعزولة عن الحقيقة مثل جاليليو أمام قضاته. فليست هناك سوى حقيقة اجتماعية وليس هناك ناسك يعتكف في الصحراء، والمعرفة الوحيدة التي تستحق أن نتعمق فيها هي الإشارات لكي نحل شفرة القواعد الجديدة لا الحقائق الجديدة؛ فالمعرفة لا تتمثل في اكتشاف حقيقة أولى بل جمع الإشارات الجديدة. وهذا المسعى ليست له نهاية.
لقد صرفنا النظر عن تشكيل كيان سياسي وأصبحنا محصورين بين جمع الإشارات واحترام الاعتبارات التي يركن إليها عصر العلاقات؛ ففقدنا مع حقيقة الأمة والأرض ذلك الأساس الذي كانت تقوم عليه المبادئ التي جعلت منا مجتمعًا. وأقصى ما يمكن أن نأمل هو أن نقلد اليابانيين ونبحث في الذاكرة والطقوس عن الصدى الباهت لمجتمع لم يَعُد قائمًا.