إمبراطورية بلا إمبراطور
يبدو انحسار الطائفية متعارضًا مع البنيات العالمية الكبرى، وإذا كان العصر الإمبراطوري هو عصر الأباطرة؛ فإن حقبة انتشار التسلط وحقبة السلطة التي لا يُعرف موقعها يبدو بعيدًا جدًّا من زمن الإمبراطوريات. ولكن إذا قلنا إن الإمبراطورية نقيض الجمهورية بمعنى أن الأولى تفضل الغامض؛ حيث كانت الثانية تفضل المحدد، وإن الإمبراطورية تفضل كذلك الإجراء على المبدأ، والمتحول على الثابت، والمدير على صاحب السيادة؛ فإننا نكون مقبلين على قيام إمبراطورية جديدة. ولن تكون عاصمة هذه الإمبراطورية واشنطن أو بروكسيل أو طوكيو أو موسكو. «لن تكون روما في روما»؛ أي إنه لن يكون هناك تحديد إقليمي كما لن يفرض نفسه أي فريق مهيمن. ولن تكون هذه الإمبراطورية قومية عليا أو جمهورية التنظيم القادم، شريطة ألا نفكر في البنيات الهشة التي أقامها شارل الخامس أو نابليون، بل بالأحرى الإمبراطورية الرومانية وربما أيضًا الإمبراطورية الصينية. ففي هذين الحيزَين السياسيَّين كان دور العواهل أقل شأنًا من القواعد التي ظلت قائمة من بعدهم. كانت الصين ثقافة قبل أن تكون دولة، أما المواطنة الرومانية فقد ظلت واقعًا سياسيًّا مهيمنًا طوال عدة قرون في الوقت الذي كان يجري فيه التضامن على السلطة عن طريق المناورات الخسيسة. وظلت الإمبراطورية قائمة بلا إمبراطور طالما لم يحاصر البرابرة روما.
ولم يحدث أبدًا أن كان الناس واعين إلى هذا الحد بتعدادهم كما لم يحدث من قبل أن كانت فكرة الجماعة مشكوكًا في أمرها بهذا القدر. فلم نَعُد نؤمن بوجود الأمة بينما تولي الأدبار الجمهورية العالمية المأمولة. ولا تتوفر لدينا وصفة ملائمة لتحديد حيز تضامناتنا، بعد أن أصبحنا محرومين من تقنيات عصر الدولة القومية، عندما كان الكيان الاجتماعي من المعطيات والتراث الذي يمكن أن تقوم عليه كافة أشكال البناء السياسي.
ولا يوجد اليوم تراث لا يمكن ألا يدور حوله النزاع. ولا توجد بداهة تاريخية أو اجتماعية أو إقليمية. وقد أصبح تعريف الكيان الاجتماعي ورسم الحدود وتأسيس كيان سياسي من اختيارنا نحن. ففي عصر الدول القومية كان الأمر يقتصر بالنسبة لمجموعة معينة على توزيع السلطات في إقليم محدد والتصرف كما يروق لها فيما حصلت عليه من إرث، وكانت الحرية المجردة الواردة في العقد الاجتماعي متأصلة في تاريخ كان يحدد لحسن الحظ اختيارنا. وكانت الأمة تقدِّم تسوية ملائمة تقع في منتصف الطريق بين حتمية المجتمع وحرية المواطن في الاختيار. أما في عصر ما بعد القومية فإن تحديد قواعد اللعبة يقع على عاتقنا. إنها لمسئولية جسيمة سرعان ما ستصبح أمرًا لا يطاق إذا كان يتحتم عليها الخضوع لقوانين السياسة الكلاسيكية. والواقع أنه لا توجد مسألة سياسية أصعب من تعريف الكيان السياسي. فالمناقشات التي تثيرها هذه القضية سواء تعلق الأمر بسياسة الهجرة أو بحقوق الأقليات، تكشف عن طريق عنفها الذي لا مخرج منه، عن عجزنا في حل مشاكل عصرنا حسب المعايير الكلاسيكية التي أرست قواعدها مؤسسات الدولة.
والحق أنه لم تَعُد توجد «هيئات نظامية». ويخطئ تمامًا من ينتظرون قدوم الجمهورية العالمية مع حلول القرن الحادي والعشرين، وتحقيق حلم الفيلسوف كانْت. فالبناء الهرمي الرائع الذي يجعل الأمم تتجاوز خلافاتها عن طريق تنظيمات إقليمية تشكل هي نفسها عماد نظام عالمي، لم يَعُد له معنًى لأنه يعتمد على نموذج لاتخاذ القرارات وفرض السلطة بات لا يتفق مع الواقع؛ فعصر التعقيد هو عصر عدم الإنجاز وعدم التوازن.
إننا نلج عصر النظم المتفتحة سواء تعلق الأمر بالدول أو بالمنشآت، كما أن معايير النجاح تتعارض مع عصر المؤسسات والنظم المنغلقة. ولم تَعُد قيمة منظمة ما تقاس بالتوازن الذي تحاول أن تقيمه بين مختلف عناصرها، ولا بدقة حدودها، ولكن حسب عدد انفتاحاتها ونقاط تمفصلها التي تخلطها بكل ما هو خارج عنها.
والحوار حول مستقبل أوروبا يوضح تمامًا، على بساطته الزائفة، نواحي القصور في معالجة عصر العلاقات عن طريق المؤسسات … والنزاع القائم بين «القوميين» و«الاتحاديين» يفصح عن رؤيتين مختلفتين بخصوص المؤسسات، بينما تكشف انعكاسات العالم الماضي في طريقه إلى الزوال عن عجزها عن إدراك العالم الجديد الذي تبزغ ملامحه.
فمن جهة، يعبر كل من يحرصون على دوام فكرة القومية عن قلقهم إزاء انتقال السيادة الذي يهدد القومية ويشكل إهانة للبرلمانات القومية. وهكذا نجد في كل بلد من بلاد الجماعة الأوروبية مدافعين مستبسلين عن فكرة القومية، باعتبارها الإطار الوحيد المتوافق، في رأيهم، مع الرقابة الديموقراطية الفعالة، والأفق السياسي الوحيد القادر على تعبئة طاقات المواطنين.
وهناك في مواجهة هؤلاء كل من يمكن أن نطلق عليهم تسمية «الفيدراليين» على سبيل التبسيط. ولعل ميزة هؤلاء تكمن في أنهم ينطلقون في تحليلهم على أساس العالم كما هو، لا على أساس عالم خيالي لم يَعُد له وجود. ولكن أوروبا التي يتخيلونها لا تقل طوباوية عن الأمة عند القوميين. فهم يعلمون أن البلدان الأعضاء في المجموعة الأوروبية تخلت من الآن عن جانب له وزنه من سيادتها الوطنية. ففي المجال الاقتصادي أصبح ما يقل عن ٥٠٪ من القوانين من أصل قومي وغدت لجنة الجماعات الأوروبية، وهي هيئة تعلو على القوميات، المنبع الرئيسي للقوانين، وأصبحت السيادة مقسمة من الآن فصاعدًا على عدة مستويات إقليمية وقومية ومحلية. ويرى بعض الاتحاديين في هذا التقسيم تكرارًا للأسلوب الأمريكي وخطوة نحو قيام الولايات المتحدة الأوروبية كصدًى لنشأة الولايات المتحدة الأمريكية بعد مرور مائتي سنة. فالجماعة الأوروبية التي تراكم في حيز واحد الأبعاد الاقتصادية والسياسية والعسكرية للسلطة ستكون مهيئة في رأيهم؛ لأن تصبح في يومٍ ما نوعًا من «القومية العليا» المعبرة عن «هوية أوروبية» على غرار الهوية الأمريكية أو الهوية الفرنسية.
ويبدو أن هذا التطلع الأوروبي جاء في حينه عندما كفَّ الصراع بين الشرق والغرب عن أن يكون المبدأ المنظم لشئون العالم. وبالطبع يرى «الفيدراليون» المنطقيون حقًّا موقفهم أن انتقال السيادة والتوسع في اتخاذ القرارات بالأغلبية هي الوسيلة الوحيدة لكي تظل الجماعة الأوروبية التي تسَع لعشرين أو ثلاثين أمة، قادرة على اتخاذ القرارات. والهوية الأوروبية التي يحلمون بها ليست هوية الجماعة المكونة من اثنتي عشرة أمة، بل هوية أوروبا كافة الديموقراطيات؛ لأن تصورهم للمؤسسات يتمثل في الدعم المتوازي للسلطة التنفيذية وللرقابة البرلمانية الأوروبية. وهذا البناء المتماسك مستمد بالكامل من منطق عصر المؤسسات.
غير أن حصول مثل هذا البناء على موافقة الشعوب، لكي يصبح مشروعًا سياسيًّا، يتطلب أن تظل أوروبا نوعًا من الجزيرة الديموقراطية، كما كانت في الخمسينيات؛ فقد رسم الستار الحديدي بكل دقة حدودها الشرقية كما يفصلها المحيط غربًا عن الولايات المتحدة الأمريكية. وحينئذٍ يكون بوسع الجماعة الأوروبية أن تحتل تدريجيًّا مجال التوسع الذي يهيئه لها كل من التاريخ والجغرافيا على نحوٍ ما حققته الولايات المتحدة في القرن التاسع عشر. وستعلن آنذاك الجماعة الأوروبية مبدأ مونرو الخاص بها لتؤكد مسئوليتها الخاصة عن القارة القديمة، وتستبعد الدول الخارجة عنها، وفي مقدمتها الولايات المتحدة الأمريكية. ولا تتفق مثل هذه الافتراضات مع حقائق عصر العلاقات المتحررة من إذعانات الجغرافيا وتسهيلاتها.
فلم يَعُد هناك في الشرق عدو يتحدد بالنسبة له الاستثناء الديموقراطي الأوروبي. ويشكل ذلك فرصة وصعوبة بالنسبة لأوروبا لكيلا تترك نفسها محصورة في تعريف جغرافي. فأوروبا لم تَعُد لديها حدود مع الشرق بل هوامش غير محددة. فهي تلامس روسيا وعدم التبلور السوفييتي. إن أوروبا التي تواجه تفكك دولة إمبراطورية لا تستطيع أن تصبح أمة، ولو فيدرالية؛ إذ يتعين عليها في هذه الحالة أن تحدد أراضيها وأن ترسم بالتالي حدودها الشرقية. ولكن كيف يمكن رسم حدود تستبعد بلد تولستوي ودستويفسكي؟
ومن ناحية الغرب، يوهم المحيط الأطلسي الأوروبيين بأن حدودهم ملموسة بدرجة أكبر في هذا الجانب. غير أن ذلك يعني إعطاء الجغرافيا أهمية فقدتها في عصر الثروات غير المادية وتوسع الاتصالات بلا حدود. ولا يعني ذلك تجاهل الفروق الفاصلة بين أوروبا وأمريكا. فالاختلاف الثقافي — الذي كثيرًا ما يتم الرجوع إليه — ليس كبيرًا إلى هذا الحد، خاصة وأن بعض الجامعات الأمريكية أصبحت مستودعًا لخير ما لدى ثقافات أوروبا، بينما حولت أوروبا إلى مصرف لأسوأ وسائل التسلية الأمريكية. وهناك فروق أكثر جدية فيما يتعلق بالتعارضات القانونية — تتمثل صورها في رفض المحكمة العليا الخضوع لمرسوم قانون أعلى، وفي اختلاف التقاليد السياسية — قدر أكبر من «التضامن» في أوروبا يقابله نصيب أكبر من «الحرية» في الولايات المتحدة. ولكي تكون تلك الفروق كافية لقيام مشروع سياسي، يجب أن تكون من القوة بحيث تتمكن من تعبئة المخيلات وتشكيل تلك «التصورات الجماعية» التي تبين لنا من قبل أنها المجال الوحيد الذي لا يزال للسياسة نفوذ عليه حتى الآن.
والأمر مشكوك فيه للغاية، ومن الصعوبة بمكان أن نرى أوروبا الغد تبني هويتها بتعميق فروقها مع أمريكا. والفيدراليون الأوروبيون محقون في شجب أفكار القوميين البالية، ولكنهم يخطئون في الدعوة لإقامة مشروع يفترض في الواقع بناء قومية أوروبية. وأوروبا المنفتحة على الشرق والغرب لا تستطيع أن تتشكل في كيان سياسي بنفس أسلوب القوميات التي سبقتها. وبالطبع فإنها لا تملك أصدقاء فقط، ولكن ليس لديها أيضًا عدو يخصها وحدها، بل مجرد تهديدات تتعرض لها مع الآخرين. غير أنها تعوزها المعارك التي أنهكت نفسها فيها أوروبا القديمة وصقلتها أيضًا. وهي بحاجة إلى محنة مشتركة شديدة لكي تصبح بدورها هي أيضًا أمة.
يجب أن يكون لفكرة «المصلحة الوطنية الأوروبية» معنًى، بينما يكشف الربط بين تلك الكلمات مدى عدم جدوى المشروع. فالسياسة الخارجية لأي وحدة أوروبية لا يمكن أن تكون مجرد محصلة للسياسات القومية.
وهناك بالطبع «مصالح مشتركة أوروبية». فالفرنسي والألماني والإنجليزي يودون أن تنجح طائرات إيرباص لا طائرات بوينج، ويودون أن تظل في أوروبا كفاءات تكنولوجية كافية لتأمين ثروة القارة. وهم يدركون أن المستقبل سيكون ملك القادرين على تأهيل الكفاءات والمواهب والاحتفاظ بها. غير أن هذا الشاغل المشروع لا يكفي لتحديد معالم كيان سياسي جديد، كما أنه قد يؤدي إلى تعارض المصالح بخصوص بعض الأعمال وإلى التعاون مع أمريكا أو اليابان في مسائل أخرى. ولا يشكل ذلك هوية أوروبية متميزة توحد الأوروبيين حول كافة المواضيع، في مواجهة العالم الخارجي. وعلى أي حال فإن هذا التعارض سيكون غريبًا للغاية بالنسبة للتقاليد الأوروبية. فما هي القضية التي ستتكلم أوروبا باسمها؟ فالفرنسيون المعتادون على عدم التشكيك في حقيقة المصلحة الوطنية لا يطرحون حتى هذا السؤال على أنفسهم. ورد فعل الألمان الذين يداخلهم الشك في أنفسهم وفي سياسة القوة، مختلف؛ فالسياسة الخارجية لا يمكن أن تقتصر على التعبير عن مصالح أوروبا ويجب أن تكتسب مشروعيتها. ولكن ما هي المشروعية في عصر الشبكات والإمبراطورية العالمية؟ لقد عرَّفت أوروبا نفسها بتطلعها إلى العالمية، ولا يمكنها أن تتخلى عن ذلك الطموح دون أن تنكث بعهودها.
وهكذا فإن حلول عصر شبكات الاتصال يسجل نهاية السياسة؛ فلن تنشأ الهوية الأوروبية بواسطة بعض «حيل» عصر المؤسسات. فالمؤسسات لا تخلق بنفسها الإحساس بالانتماء، بل إن الإحساس بالانتماء هو الذي يدفع إلى القبول بالمقتضيات التي تفرضها تلك المؤسسات. وإذا كانت واشنطن لا تقوى بعد على التوفيق بين مصالح أهالي تكساس وكاليفورنيا ونيويورك المتعارضة، فهل يمكن أن نكون أشد تفاؤلًا إذا تعلق الأمر بالتصالح بين السويديين والبولنديين والإيطاليين والفرنسيين والبرتغاليين …؟ وإذا استدعى الأمر تنصيب رئيس لأوروبا هذه ذات الألوان المتعددة بالاقتراع العام، ألن تكون هناك مخاطرة بالمُضي خطوات إضافية في طريق أعلَمة (نسبة إلى الإعلام) الحياة العامة والابتعاد بقدر أكبر عن المُثل الأصلية التي تقوم عليها المؤسسات؟
والواقع أن اللَّبس الذي يكتنف الحوار الأوروبي يعود بدرجة كبيرة إلى كونه حوارًا سياسيًّا حول مفهوم السيادة في الوقت الذي كفَّت فيه أوروبا عن أن تكون أوروبا عصر العلاقات فكرة سياسية، على أحسن حال عندما يتعلق الأمر بتجاوز النزاعات بين الأمم وعلى أسوأ حال عندما نحلم بمواطنين أحرار ومقبلين على التطوع.
ولن تكون أوروبا بنية جامدة تعتمد على المؤسسات المتنافسة وغير الخاضعة لأي بنية واضحة المعالم، بل وغير مرتبطة أحيانًا بمنطق غير إقليمي. وينطبق ذلك مثلًا على الأسواق المالية في العواصم الرئيسية التي تحدد وضعها أكثر فأكثر بالقواعد التي تقررها لنفسها، لا حسب موقعها الذي أصبح على أي حال موقعًا مجردًا في عهد الصفقات الإلكترونية. وهذه المنافسة بين المؤسسات — الناجمة عن توزيع السلطة بين عدة بنيات تتقاطع دون أن تتراكب، وتتكامل دون أن تتمكن من القضاء على المنافسة تمامًا — ستجعل آليات تنظيم السلطة القائمة في المنشآت الحديثة تمتد إلى النظام السياسي الآيل للزوال. فعمليات الدمج والبيع والتنازل التي تُسمى في السياسة الغزو والحرب الأهلية والتقسيم لن تتخلص من طابعها الدرامي إلا إذا تحقق تصدع سيادة الدول وتفتتها في عدة بِنًى وظيفية. ويعني ذلك أن أوروبا ستتمكن من إدارة نزاعاتها الداخلية وأطرافها في آن واحد في اليوم الذي سيُكفُّ فيه عن أن تكون فكرة سياسية أحادية الأبعاد. وهذا بالذات ما يبدو أن أغلب الألمان يرجونه، وفقًا لاستطلاع للرأي جرى مؤخرًا، عندما أوضحوا أنهم يطمحون إلى أن يكون مصيرهم دولة سويسرية مكبرة.
وهذا ما يثير بالذات فزع العديد من الفرنسيين الذين يرون أن عظمة أي أمة لا بد وأن تكون سياسية. فكأن موت السياسة يعني موت أوروبا، وكأن أوروبا لا يمكن أن تتصور نفسها إلا كيانًا سياسيًّا، وكأننا عاجزون عن الازدهار في إطار عدم استكمال حيز متعدد الأبعاد وغير محدد بشكل جيد. ويتعين أن نكتسب بالذات تلك الموهبة أو أن نستردها لكي نتخلص من الحواجز الصارمة المرتبطة بعصر الدول القومية واللجوء إلى صيغ أكثر مرونة. هل يتعين البحث عن إجابات من خلال عهود أقدم في التاريخ الأوروبي؟ ربما كان العصر الوسيط الأعلى بما ذخر به من أمراء ودوقات ومطارنة قد اقترب من هذا النموذج. ويتميز الحنين الفرنسي للسياسة بعدم القدرة، بشكل غريب، على أن يتصور القيم إلا كتعبير عن الدولة، فكأن مونتاني وفولتير وهوجو لا ترجع عظمتهم إلى فكرهم العالمي. ومن خصائص العهد القومي أن يسعى منذ قرنين إلى التماس أساس القيم في السياسة.
إننا بالأحرى بصدد عهد إمبراطوري لا عهد جمهوري. والمقصود بذلك أن قضية الرقابة على السلطة مطروحة بشروط جديدة، وأن تنظيم العالم تتغير طبيعته هو أيضًا؛ ففكرة الجمهورية العالمية الموروثة من عهد المؤسسات لا معنى لها؛ لأن الكيان السياسي القريب من العالمية سيكون نفيًا للسياسة كما حددناها منذ أن تواجدت تلك الكلمة. ففكرة الإمبراطورية العالمية، بالمعنى الذي بلغت فيه الإمبراطورية الرومانية نوعًا من العالمية، يصف بشكل أفضل واقع العالم القائم على علاقات.
والواقع أن ظهور بنيات «بعد قومية» في أوروبا لا يسفر عن تنظيم العالم في ثلاثة «أقطاب» تشكل فيما بينها ما يشبه حكومة الديركتوار (المكونة من عدة أعضاء يتولى واحد منهم الرئاسة كل سنة بالانتخاب)؛ فأوروبا لن تكون دولة كبرى بالمعنى التقليدي، كما أن أي دولة كبرى لن تكون لها أبعاد القوة اللازمة. ويتعين أن نتحدث بالأحرى عن مجموعة من الشبكات المرتبطة ببعضها مثل الحلقات المتشابكة التي ترمز إلى الألعاب الأولمبية. ولكن قد يعترض البعض قائلين إنه حتى وإن كانت أوروبا دولة كبرى عسكرية مثل الولايات المتحدة، إلا أنها ستتميز بعملتها الموحدة الدالة بوضوح على قوتها الاقتصادية بشكلها التقليدي. ففضلًا عن أن البنك المركزي سيحرص على أن يتباعد عن الأشكال التقليدية للسلطة السياسية؛ فإن هناك ما يدعو إلى الاعتقاد بأن مرحلة العملة الأوروبية «المستقلة» ستكون قصيرة. فالنقد الأوروبي سيكون في الواقع بديلًا له مصداقية الدولار؛ نظرًا لضخامة السوق الذي سيتعامل معها، مما يزيد من احتمالات تبخر الأسواق؛ لأن الأموال المتحركة قد تنتقل بشكل مفاجئ من عملة إلى أخرى حسب الأخبار الاقتصادية اليومية. ولا شك في أن الحاجة إلى التنسيق — القائمة أصلًا بين الدولار والعملات الأخرى — ستصبح ضرورة لا مفر منها. وكما نشاهد حاليًّا؛ فإن استقرار أسعار العملات يتطلب التنسيق بين السياسات النقدية، ولا يمكن أن يستمر في الأمن البعيد إلا بمصاحبة التوافق في سياسات الميزانيات؛ فالعملة الأوروبية تؤدي منطقيًّا إذَن إلى نظام نقدي عالمي، ينتقل إلى بلدان منظمة التجارة والتنمية الاقتصادية، والنظام النقدي الدولي يؤدي هو نفسه إلى نقد موحد وإلى «حيز اقتصادي فريد» يضم مناطق العالم الأكثر ثراءً دون أن تصبح متجانسة، ولكن متوافقة، كما يقال بالنسبة للذخيرة ونظم الاتصال.
وهذا العالم المتعدد الأقطاب والذي لا يتيح لأي بنية أن تجتذب كافة أبعاد السيادة، ينظم الانفتاح، على نقيض النظام المنغلق الكامن في كل منطق سياسي. فكلما اكتسبت القضايا المطلوب معالجتها بعدًا عالميًّا، سواء تعلق الأمر بالمخدرات أو البيئة أو النقد، أصبح من العبث محاولة حلها في إطار واحد. فالامتداد الجغرافي يتطلب التخصص الوظيفي، وكل محاولة للتجمع السياسي، سواء كان أوروبيًّا أو غير أوروبي، ستبدو آنذاك من المخلفات المفتعلة التي تعود إلى عصرٍ انقضى.
إن العصر «بعد القومي» الذي نلجه يمكن أن نطلق عليه نعت الإمبراطوري نظرًا لأن «حدوده» على غرار ما كانت في عهد الإمبراطورية الرومانية، ليست خطًّا مستقيمًا يقسم حيزًا ويفصل بين من يمارسون السياسة ومن لا يمارسونها، بل إنها أشبه بالأحرى بحوافَّ غير محددة لا تصطدم سيادتها التامة بسيادة أخرى تامة على الضفة الأخرى من النهر، كما هو الحال في زمن الدول القومية. فالحركة التي تميل إلى جعل الحدود نسبية داخل الجماعة الأوروبية ستجعل حدود الجماعة ذاتها نسبية، ولن تكون هناك حدود مطلقة.
فالمواطن في عهد إمبراطورية العلاقات سيُعرف أقل فأقل حسب مساهمته في ممارسة السيادة، وأكثر فأكثر حسب الإمكانية المتوفرة لديه لممارسة نشاطه في إطار تخضع فيه الإجراءات لقواعد واضحة ومتوقعة، وذلك على غرار المواطن الروماني في عهد الإمبراطور كاراكالا الذي منح الهوية الرومانية لكل أتباعه الأحرار على نطاق الإمبراطورية بأسرها.
وتتباين تلك القواعد من طوكيو إلى واشنطن أو باريس. فكل مهمة وكل مشكلة يقابلها وضع جغرافي متميز، وبالتالي فإن مجالات القانون لا تكون بنفس الامتداد، ولكن المحاسبة هي القاعدة. وهذا التحول التدريجي الذي يطرأ على القانون، الذي كان في الماضي المعبِّر عن السيادة الأحادية الأبعاد للكيان السياسي، يصبح اليوم مجرد تطور عملي يحكم قطاعات النشاط البشري على أساس وظيفي، ويقضي على الاستقلال الذاتي للسياسة التي تفقد أسسها المعنوية والفلسفية. وهكذا يصبح طرح مسألة المشروعية أمرًا غير وارد تمامًا كالتساؤل حول «عدالة» أو «عدم عدالة» برنامج معلوماتي؛ فالحفيف الهادئ الصادر عن الآلة الاجتماعية يكفي نفسه بنفسه.
وشيئًا فشيئًا، سيضع هذا التحول على نفس المستوى القواعد الصادرة عن العمليات التي تُسمى سياسية بصفة مؤقتة، وتلك التي تنجم عن التحرك المتفق عليه بين المنشآت. ولا يهم أن تفرض منشأةٌ ما خاصة، أو لجنة من الموظفين معيارًا معينًا. فهي لم تَعُد تعبيرًا عن سيادة ولكن مجرد عامل يحدُّ من دواعي عدم التيقن ووسيلة لخفض تكلفة التعاملات بزيادة الشفافية.
ويهدد هذا المنطق «العلاقاتي» باستمرار حدود المجال القانوني. فتسهيل التعاملات في حيز معين يجب ألا تعرقله القوانين بمجرد تجاوز حدود ذلك المجال. ويجب ألا يتعرض الربح المحقق التعاملات الداخلية إلى الطمس عن طريق احتمال ارتفاع التعاملات الخارجية. وهكذا يؤدي منطق عالم العلاقات إلى المعايير الدولية وإلى الترابط المتزايد بين «العُقل».
ومنذ عهد قريب كانت البرلمانات التي تحرص على تأكيد سيادتها، تعرض للتصويت التعريفات الجمركية التي تطبق على السلع العابرة للحدود. أما اليوم؛ فإن «الخدمات»، تلك المنتجات اللامادية في عصر العلاقات، تدفع إلى تزايد المبادلات، ولكن نظرًا بالذات لكونها لا مادية؛ فإن نمو هذه المبادلات لم يَعُد مرتبطًا بتخفيض التعريفات الجمركية — لأن الخدمات لا تعبر الحدود جسديًّا — بل بتجانس اللوائح الداخلية حتى يتمكن البنك أو شركة التأمين من إقامة مقره في البلد الذي يختاره وتطوير ارتباطاته التي تُخلق عن طريقها الثروة. وهكذا حلت محل البرلمان، صاحب السيادة، المفاوضات التي تُجرى بين موظفين غير مسئولين أمام أي برلمان لأنه ليس بوسع أي برلمان أن يغير أي تفاصيل دون أن يسقط مجموع ما يتم الاتفاق عليه. وهكذا أصبحنا بعيدين حقًّا عن الجمهورية العالمية! فما يتم خلقه ليس كيانًا سياسيًّا عالميًّا بل نسيج خياطاته غير ظاهرة، وتجمع غير محدد لعناصر متداخلة معًا.
ذلك هو منطق عالم العلاقات وإن لم يكن حقيقته بعد. فحيز الشبكات ليس محايدًا أو متجانسًا في الواقع. إنه مجال للقوى ولاختلال التوازنات؛ حيث تجرى الموازنة بين التطلع إلى زيادة الاتصالات والخوف من فقد السيطرة على الشبكات التي تم مدها من قبل. وهذا التوتر قائم في صميم دينامية مجتمعاتنا. فالعلم يتحول إلى بورصة هائلة للمعلومات لا تغلق أبوابها أبدًا، وكلما تزايدت المعلومات ازداد اختلال التوازنات، كما هو الحال في نظام ضخم للأرصاد الجوية؛ حيث تعالج الرياح منخفضًا جويًّا هنا لتسبب في منخفض آخر هناك.
ولما كانت مؤسساتنا «السياسية» لا تزال مستوحاة على نطاق واسع من المنطق «المؤسساتي»؛ فإنها لا تعرف كيف تدير هذا التوتر القائم بين الانفتاح الذي يحرز التقدم والانغلاق الذي يحمي ما لا يزال قائمًا. فتعريف الحدود وقيام الكيان السياسي يعاملان كشروط مسبقة وأسس ثابتة يمكن أن يقام عليها مجتمع بعد ذلك. ولكن منطق الشبكات سيقلب تمامًا تلك النظرة. فالحدود لم تَعُد بداية بل نهاية مطاف يظل هشًّا لطبيعته المرنة؛ لأن السيولة تصبح شرطًا للتنافس وللحيوية في عصر شبكات الاتصال، ولا يتحدد هنا أبدًا بشكل نهائي حيز للقانون.
ونرى ذلك الآن في سير عمل الشركات عبر القومية التي ترمز إلى هذا العالم الجديد. فالشركة عبر القومية ليست مقيدة بعادات وطن معين، ولا هي مجردة من أي جنسية. وهي تحقق نجاحها عن طريق نوعية «عُقلات» العلاقات التي تمكنت من إقامتها، كما لم تَعُد تسعى إلى الاقتصاديات العملاقة، ولكن إلى التدفق الأكمل للمعلومات، مما يحولها إلى جهاز استشعار عن بُعد بالغ الحساسية تحركه باستمرار نبضات لا تُحصى ولا تُعَد تتلقاها من العالم الخارجي معدات الاستقبال التابعة لها، ومنها المنتجات الجديدة، وأساليب التمويل الحديثة، وطرق التصنيع الجديدة.
ويجب أن تكون كل وحدة من وحدات الشركة راسخة بما فيه الكفاية في شبكتها المحلية لكي تؤدي بالكامل دورها كجهاز استقبال من الخارج وتظل متصلة بما فيه الكفاية أيضًا بوحدات الشركة الأخرى؛ لتؤدي دورها على خير وجه في توزيع المعلومات في نطاق الشركة.
ومن شروط حسن سير العمل في بنية معقدة: الشفافية وتداول المعلومات والوضوح في تحديد المهام، مما ييسر نشأة هوية خاصة بالشركة تُعبِّئ جهود العاملين فيها حول تطلعات مشتركة. غير أن تلك المزايا يمكن أن تشكِّل مخاطر في إطار الآفاق الدينامية. فالهوية التي يُغالى في تأكيدها قد تخمد جذوة الأفكار الجديدة، وخطة التنظيم الإداري المحددة بصرامة قد تشجع السلبية بل واللامسئولية، عندما يصبح هامش المبادرة لدى كل مستخدم مقصورًا على المهمة الموكولة إليه. وهناك حاجة إلى جرعةٍ ما من الغموض المزعزِع للجمود لكي تحافظ الشركة على حيويتها. وعليه يتعين ألا يكون المشاركون في تحريك المنشأة، الغارقون دائمًا في فيض متزايد من المعلومات، ألا يكونوا واثقين تمامًا من المواقع المسندة إليهم والدور المكلفين به. ويجب ألا تُصب المعلومات في أجهزة إرسال واستقبال تحولت إلى مؤسسات. فالمعلومات تظل إذَن مصدر قوة، ولكن طبيعتها تغيرت؛ فهي لم تَعُد تُكتنز، وقيمتها تنبع من تداولها. فالمعلومات تفيد أولًا في الحصول على المزيد من المعلومات.
ومن الملاحَظ أن نفس الاختيارات قائمة بين الشفافية والسرية وبين سيولة العلاقات واستقرار المؤسسة، وذلك في علاقة المنشأة بالبيئة المحيطة بها.
فالمنشأة تحرص في الواقع على حجب المعلومات لتحافظ على تفوقها على منافسيها، ولكن بما أنه يتعين عليها أن تلتقط الحد الأقصى من المعلومات لكي تكون قادرة على المنافسة؛ فإنها تكون مدفوعة إلى التوسع في علاقاتها حتى وإن كانت كل علاقة تفشي ببعض أسرارها. ولذا يتعين عليها الاختيار باستمرار بين السر الذي يحميها والانفتاح الذي يغذيها بالمعلومات، وبين الموقفين الدفاعي والهجومي في معركة المعلومات.
وبما أن الحدود لم تَعُد من المعطيات سواء تعلق الأمر بمنشأة أو دولة؛ فإن مهمة القيادة تتغير كما تتغير معها طبيعة السلطة.
فالقادة يتحولون بالأحرى إلى «وسطاء» لا مديرين، يتولون باستمرار إعادة ترتيب عملية تنظيم العلاقات بين مختلف الوحدات. فقيادة شركة عبر قومية تعني إدارة التوتر الدينامي بين وظيفة «الالتقاط» من الشبكات الخارجية ووظيفة «النشر» داخل شبكة المنشأة الخاصة بها.
وهذه الإدارة لا تكون فعالة إلا إذا كانت لامركزية بشدة. فسير عمل المنشأة له «حدوده» وتحديد علاقاتها مع مورديها وعملائها يتطلب عددًا لا يُحصى من القرارات الصغيرة التي لا يمكن أن تكون من اختصاصات القيادة العامة. وإذا ظهر تناقض شديد بين المنطق الاستراتيجي الذي حددته المنشأة وإدارة علاقاتها مع منافذها، يتم حل ذلك التناقض عادة بإعادة النظر في الاستراتيجية أو بأزمة تغير بعنف حواف المنشأة، ومنها على سبيل المثال اتخاذ مجموعة من الكوادر قرارًا بأن يواصلوا بأنفسهم العلاقة عملاء (أو موردين) رغم تناقضها مع الاستراتيجية الشاملة للمنشأة. فهناك إذَن باستمرار تنافس بين الرؤيتَين الاستراتيجية والتنظيمية لقادة المنشأة مع التنظيمات القائمة والدوائر الجديدة التي تنمو على حواف المنشأة استجابة للدفعات إلى تتعرض لها في مجال العلاقات.
واستجابة لذلك الوضع الجديد يتغير التركيب الداخلي للمنشأة ويميل تنظيمها الهرمي إلى الاندثار.
ويحل محل النموذج الطبيعي للتفرعات الكبيرة التبسيطية النموذج المتعدد الأبعاد لقواعد المعطيات المسماة معطيات «علاقتيه». كما تحل محل البنية الهرمية التي كانت السلطة فيها تعني السيطرة بالتحكم والقيادة، بنية توزيع السلطات ذات الارتباطات العديدة حيث تنبع القوة من الاتصالات والعلاقات، وحيث تتحدد السلطة بالنفوذ لا التحكم. وهذا التنظيم الجديد يصبح ممكنًا بفضل تقنيات الاتصال التي تتيح المزيد من المرونة في التعامل بالمعلومات.
ويتناقص عدد المستويات الإدارية المتسلسلة، وينفصل تدرج الأجور عن التدرج في الوظائف. فكثيرًا ما يكون مرتب رئيس الشركة أقل من مرتب هذا المعاون أو ذاك.
ولكن هل يرتبط هذا الوضع الغريب باختلال يطرأ على سوق العمالة؟ لا. إنه بالأحرى اعتراف بقيمة رجال شبكات الاتصال الذين يخلقون ثروة المنشآت باتصالاتهم.
فالمستشارون والسماسرة والمحامون ورجال المصارف المشتغلون بالأعمال والمتخصصون في اصطياد الكفاءات، هم قبل كل شيء محترفون في إقامة العلاقات، يعملون أكثر فأكثر خارج المنشأة الكبيرة ويشكلون رمز عصر العلاقات الذي نلجه الآن، بينما يُنظر إلى المنشأة الكبيرة على أنها من مخلفات عالم المؤسسات. وهؤلاء لا يتحاشون فقط البيروقراطية التي تشل المنظمات الكبيرة، بل ويهيئون الفرصة للاستغناء عن التنظيم واستبداله بوحدات ذات كيانات أكثر تواضعًا، تتوفر لديها التقنيات والتخصصات التي ما كان بوسعها أن تكتسبها بشكل مستقل. إنها المرحلة الأخيرة من «المنافسة المؤسساتية» التي تزود المنشأة بأقصى حد من المرونة. فمجال نشاطها لا يكُف فقط عن التغيير عن طريق التنازلات والاقتناءات، بل ويصبح من الممكن إدارة بعض المهام التي كانت حتى عهد قريب مهام استراتيجية باللجوء إلى خدمات تقدمها كفاءات خارج المنشأة ولو تصورنا استمرار هذا التطور فإن إدارة المنشأة لن يتعين عليها أن تعتمد إلا على بعض الأشخاص القادرين على اختيار محترفين خارج المنشأة يقدمون لها مؤقتًا خدماتهم، ويشرفون على أعمالها، فالنفوذ لم يعد المزيد من المعرفة بل الربط بين المنافسة عدة معارف.
وستضطر المنشأة الكبيرة إلى قبول تحولات عميقة، في مواجهة منطق مثل هذا النظام. فالضخامة المرتبطة بالعصر الصناعي، غدت أقل قدرة على اختراع أساليب جديدة في العلاقات، تجعل من العملاء الموردين شركاء لا منافسين أو غرباء وستقام منشآت متوسطة الحجم، متشابكة مع غيرها، ذلك أن المجموعات تتكون أو تصفى في الاقتصاد الذي تعود فيه القيمة إلى الصفقة أكثر مما تعود إلى الإنتاج. وبما أن التنظيم على شكل شبكات يتغلب على البنية الهرمية التي ترجع إلى عهد المؤسسات ولا يتطلب وجود «مركز»؛ فإن أحد المبررات الأساسية لتواجد المنشأة الكبيرة يسقط. فلم يَعُد الأمر يتعلق بفرض رئاسة مشتركة من أعلى ولكن بإدارة الكيانات بحذق وضمان محاسبتها مع غيرها من الكيانات الأخرى. فمنطق الشبكات الذي يتضمن التعددية وبالتالي لامركزية الارتباطات يوحي بأن الحجم المطلوب لإدارة تلك الكيانات أصغر إلى حد كبير من حجم المنشآت الكبيرة الخاصة بالعصر الصناعي.
وفي المجال الذي لا يزال يُسمى المجال السياسي، ستترتب على ذلك التحول نتائج حاسمة. فلم يَعُد الأمر يتطلب المزيد من تركيز السلطة في كيانات سياسية أكبر فأكبر، ولكن تنظيم المحاسبة فقط وإعداد نقاط الالتقاء عن طريق إقرار عمليات وضع القواعد أكثر من بناء سلطات. وقد تبين ما يعنيه ذلك لأوروبا وسنراه بالنسبة لحيز روسيا الفسيح بلا حدود. فهل يستطيع هذا البلد أن ينتقل مباشرة من الإمبراطورية القبل-قومية التي فرضها المركز بالقوة إلى الإمبراطورية البعد-قومية، بشبكة من الاتفاقات التي تنظم المحاسبة بين وحدات منفتحة بدلًا من البناء المصطنع المقام حول العاصمة؟ يدل التدهور السوفييتي وأقصى ضروب العنف التي يمكن أن تترتب عليه، على حدود المنطق المؤسساتي. فكل محاولة لتحديد جغرافيا للسيادات المحصورة في حدود مطلقة ومرسومة بدقة سيكون مآلها انتشار العنف، ومن غير المرجح أن يقدم الهرم الفيدرالي للسلطات المتداخلة في بعضها حلًّا مستقرًّا يعتمد على المؤسسات. والتعايش بين سلطات إقطاعية جديدة قد يكون أقرب إلى الصواب في ظل الحيز السوفييتي الشاسع والمتنافر الذي يهيئ الطريق لولوج العالم الروسي إلى عصر الشبكات. ويتعين من أجل ذلك أن تتجاوز الأمة الروسية مرحلة الدولة القومية وضروب العنف المرتبطة بها، وتنتقل مباشرة، على غرار اليابان، من العصر الإقطاعي إلى الحداثة اللاحقة للسياسة.
وعليه فإن العصر الإمبراطوري الذي يبدأ لن يكون عهد المنظمات الكبيرة إلا في الظاهر. فهذه المنظمات، بتدربها على الهويات المتعددة وعلى التعقيدات، وقبولها بأن تكون حدودها أشبه بالأطراف غير المحددة بدقة على غرار الإمبراطورية الرومانية، ستمهد لقيام عالم مرن للغاية لن يعتمد استقراره على المؤسسات ولكن على منهج لنشر التغيير في خلال القرارات الصغرى التي تحول في آن واحد دون الجمود والتمزقات. وبقدر ما يكون هذا العالم مرنًا بقدر ما سيكون مستقرًّا. إنه عالم يتعين علينا أن نتصوره بالأحرى وفقًا لخطوط علم الأحياء لا الفيزياء. فهو عالم تحكمه القواعد قبل المبادئ.