أغلال غير مرئية
كيف تكون الحرية في عالم تحكمه قواعد؟ وكيف تتحدد السلطة في عالم بلا مبادئ؟
منذ قرنين ونحن نربط فكرة الديموقراطية بفكرة الحرية. غير أن الحرية لها معنيان مختلفان؛ فهي حق مجتمع بشري معين في أن يقرر مصيره بنفسه، وأن يعين بالتالي لنفسه حكومة تعبِّر عن إرادة هذا المجتمع المشتركة، وهي أيضًا حق كل فرد في حماية نفسه من تعسف السلطات وضمان ألا تسحق الأغلبية الأقلية.
ومن الواضح أن المفهوم الأول للحرية يحتضر مع حلول العصر الإمبراطوري وأن هذا العصر يعدنا في أحسن الأحوال بالحد من السلطات. وقد انتهت عملية تركيز السلطة التي بدأت منذ عدة قرون وانتهت معها الجهود الموازية للرقابة على ممارسة السلطة عن طريق التوازن الذي تهيئه المؤسسات. ولقد فقدت فكرة العاهل جاذبيتها ومعها فكرة الكيان السياسي صاحب السيادة. وربما يجب أن يدعو ذلك للاغتباط إلى حدٍّ ما خاصة وأن الحرية المعبرة عن الإرادة العامة كثيرًا ما كانت بمثابة تهديد لحق الأقلية في الحرية. فالذين مارسوا السلطة فعلًا أسرفوا في تجاوزها خاصة بادعائهم أنهم زاولوها باسم الشعب بأسره. ومن وجهة النظر هذه فإن قدوم «دولة القانون» وريثة الديموقراطية التي أتلفها العصر الإمبراطوري القديم كان من شأنه أن يفي بوعده بالحرية إلى حد أكبر من العصر الديموقراطي الذي أضفى فيه حق الانتخاب العام شرعية مخيفة على تركز السلطة السياسية بشكل لم يُعهد من قبل. غير أن هناك قدرًا من الملائكية في التفكير عندما نتصور أن حرية عصر العلاقات وحرية عصر التقيد بالأعراف والفساد (بالمقارنة مع ما سيرِد فيما بعد) ستكون بنفس نوعية الحرية التي كانت تلهم جاليليو أو مونتسكيو. فالحرية كلمة تعود إلى عهد المؤسسات؛ فهل سيكون لهذه الكلمة العصر الإمبراطوري الجديد أيضًا؟
لقد أوضحنا آنفًا كيف دُمر المفهوم الكلاسيكي للديموقراطية البرلمانية تدريجيًّا مع زوال السياسة بوصفها موقع الأفكار العامة والقرارات الكبرى. ومع ذلك فإن أزمة آليات رقابة مؤسسات الدولة لا تعني أنه لم تَعُد هناك رقابة بعد، غير أن ضروب الرقابة في العصر الإمبراطوري تضفي على كلمة الحرية معنًى جديدًا.
ففي عصر القرارات الصغيرة والمجابهة بين المصالح الخاصة، لا يعطي الانطباع الواهم بالحرية سوى حق اختيار الرجال، وبالتالي إمكانية فرض الرقابة. وهكذا أصبحت قضية الأفراد تتغلب من الآن فصاعدًا على قضية المبادئ. وهذا واضح تمامًا في الولايات المتحدة؛ حيث نجد أن اللحظات المهمة في الحياة «السياسية» هي تلك التي تشير فيها الإجراءات نصف البرلمانية ونصف القانونية بإصبع الاتهام إلى شخصية عامة مسئولة. ولكن يا لها من رقابة عجيبة الشأن حقًّا!
وهذا الإخراج المسرحي للشفافية يشكِّل في حد ذاته عقبة في طريق تطور السلطة. ولن ينازع أحد في أن كثرة الإجراءات والنظم تشكِّل رادعًا قويًّا في مواجهة التعسف. غير أن تطور المحكمة العليا الأمريكية يوضح لنا أن تكاثر النظم في الوقت الذي تموت فيه الآن عن الحاجة إلى الطقوس الاجتماعية أكثر من الحرص على حماية «الحرية». أما المحامون «سماسرة الحرية» فهم كهنة تلك الطقوس الاجتماعية؛ فهم ينظمون ويؤكدون الامتثال لما هو قائم أكثر من لجوئهم إلى الحد من السلطة.
ومع التقدم الذي يحرزه العصر الإمبراطوري يتغير دور المحامي؛ فهو يتحول عن معالجة النزاعات ليصبح مهندس العلاقات. وهذا التحول يقلب رأسًا على عقب الفكرة التي نكونها عن الحرية.
كان عصر المؤسسات قد ضاعف من الاختيارات وبالتالي مناسبات اختيار الحرية؛ فهناك اختيار السياسة، وأيضًا الاختيار بين الحياتين الخاصة والعامة. أما العصر الإمبراطوري فيكره الاختيارات، وإذا كان يحدُّ من السلطة فهو لا يحقق ذلك بتنظيم النزاع ولكن بتجزئة القرارات.
والواقع أن العصر الإمبراطوري ملائم إلى حد كبير للغاية لتدارك النزاعات منه لحلها؛ فالنزاع يصبح أمرًا شاذًّا في هذا العصر. ويفترض المجتمع «المترابط» على نحو جيد وتحكمه ضوابط واضحة، يفترض أن هناك عدم توافق غير مفهوم في التصورات. وإذا كان هناك أصحاب نفوذ وضعفاء؛ فكيف يمكن أن يتجاسر الضعيف ويخوض معركة بينما يُحتِّم النظام الاجتماعي هزيمته؟ فإما أن يكون هناك خلل شديد في التدرج الهرمي للمجتمع، وإما ألا يكون التفكير على نفس النمط من قطاع إلى قطاع آخر من المجتمع، وأن التجانس قد تبدد. فسير عمل المجتمع لا يوفر الفرصة لظهور النزاع لأنه يذوب وسط حشد من القرارات والتسويات الصغيرة؛ حيث يختبر الضعفاء مدى سطوة الأقوياء، ويعكس الأقوياء بأسَهم على الفقراء، ويعرف كل شخص مكانه في نهاية المطاف. ونحن هنا بعيدون للغاية عن العصر المعتمد على سلطة المؤسسات والذي يخضع النزاعات لمؤسساته، كبُعدنا عن العصر الأبوي؛ حيث يسفر انتصار الأقوياء عن ابتلاع الضعفاء. وفي العصر الإمبراطوري يكون الأقوياء من القوة بما فيه الكفاية نظرًا لأن الضعفاء عرفوا مكانهم. وهكذا يفرض نفسه نوع من الجغرافيا الاجتماعية.
وهذا الهدوء الوديع في العصر الإمبراطوري ليس هدوء انتصار العقل. فهو يحجب الصدى الخافت لآلاف من المعارك الصغيرة التي مهدت لتجزئة المواجهات الكبرى. وفي هذا المجال يعتبر اليابان أكثر «حداثة» من أمريكا التي تهوى المنازعات.
ففي اليابان، يستغرق اتخاذ القرارات مدة أطول إلى حد كبير بالمقارنة مع أمريكا؛ ولكن تنفيذها يحتاج إلى مدة أقصر. ويرجع التباين هنا إلى اختلاف أسلوب اتخاذ القرار. فالمنشأة اليابانية تحرص، في الفترة السابقة على اتخاذ القرار، على عقد العديد من الاجتماعات وتشجع على الإدلاء بمختلف وجهات النظر. ومما يساعد على التعبير عن الآراء بكل صراحة أنها لا تنال في أي حال من الأحوال من مركز صاحب وجهة النظر في التنظيم الهرمي الذي يتضمن عددًا من المراتب يقل إلى حد كبير بالمقارنة مع المنشأة الأوروبية؛ حيث تتم الترقية في أغلب الأحوال حسب الأقدمية. وعلى عكس المنشأة الأوروبية أو الأمريكية؛ حيث ينعكس على الأشخاص ما يسفر عنه الاجتماع — فالذي ستنتصر وجهة نظره سيحرز في الوقت نفسه تقدمًا في مركزه — فإن المجالين في اليابان مستقلان تمامًا كل منهما عن الآخر. وصرامة التنظيم الهرمي في المنشأة تسمح بأن تتسم المناقشة بالعنف. فالإكثار من الاجتماعات لا يهدف إلى التوصل إلى اتفاق عام مفترض، وتلك أسطورة تستخف بما يقال عن عنف العلاقات بين مختلف المراتب في اليابان. ويتخذ القرار صاحب أعلى منصب في الجهاز، وربما كان ذلك على نقيض وجهات النظر التي أعلنت أثناء المناقشة، ولكن بعد حوار «تم صقله» باحتكاك مختلف الآراء التي عرضت. وستثري المعلومات التي تم تبادلها القرار المتخذ، كالكرة التي تقفز مرة أخرى بعد كل ارتطام بالأرض. وإذا كان إعلان الاستنتاجات المنبثقة عن المناقشة من شأن الرئيس؛ فإن كلمته هي القول الفصل بعد توزيع سلطة إبداء الآراء.
ويأتي القرار النهائي ختامًا لسلسلة من القرارات الصغيرة، وكل الذين كان لهم شرف المشاركة في النقاش يتحملون تبعًا لذلك جزءًا من المسئولية يلتزمون بها. وإذا كانوا قد طرحوا، ربما بعنف، آراء غير مألوفة؛ فإنهم يلاحظون أثرها ويعدلون موقفهم حسب موقعهم في التنظيم الهرمي. وهكذا نشأت عملية تحديد ذاتي. ومجالس المداولة التي تتميز بها الشركة اليابانية تقوم بدور مزدوج؛ فهي تُشرِك في القرار من سيتعين عليهم التنفيذ، وتحاكي المسرح الاجتماعي مما يمكن أصحاب القرار من اختبار حدود سلطتهم عن طريق عمليات التحديد الذاتي المتبادلة. ولا يحدُّ هذه السلطة التزامٌ ما بوضع آراء المرءوسين في عين الاعتبار، ولكن هدفها هو الحرص على عدم إضعاف سلطتها بالتمادي فيه.
وتُعتبر اليابان من وجهة النظر هذه النقيض التام للولايات المتحدة؛ حيث يلزم المنطق الأمريكي كل فرد بأن يستخدم أقصى إمكاناته في معركة يحكمها قانون العقد الاجتماعي، بينما يوصي المنطق الياباني بالتزام جانب الاعتدال والاحتراس. وإذا لم يتواجد قانون ينظم التحكيم في النزاعات، وتفكير مفارق يقول أين الحقيقة، وسلطة بوسعها تحجيم السلطات، فإنه يصبح من الأمور الحيوية أن تحد السلطة حجمها ذاتيا حتى لا يتفكك المجتمع وينغمس في العنف ﻓ «طغيان القرارات الصغيرة» يحل محل تعسف الاختيارات الاستراتيجية المزعومة وفقًا للصيغة التي وضعها جان باديولو، المحلل النابه للمنظمات.
ولا يوجد مركز أو سلطة عليا في عمليات اتخاذ القرارات في مثل تلك الحالات، بل يوجد عدد كبير من المجموعات التي تحاول تنمية قدراتها — من خلال أداء معقد يمتزج فيه التحديد الذاتي والتبعية المتبادلة — دون أن يصل بها الحال إلى النيل من قدرات المجموعات المجاورة. فالكل يبذل جهده ليتحاشى توصُّل زميل إلى مركز مهيمن. والرأسمالية اليابانية بمجموعات منشآتها المسماة جورويو، التي حلت محل الزيباتو المتكاملة بدرجة أكبر في حقبة ما قبل الحرب، تعطي صورة واضحة للمنافسة الشرسة والتسوية المفروضة فرضًا التي يتميز بها عالم الأعمال في اليابان. ﻓ٦٠ إلى ٧٠٪ من أسهم الشركات عبارة عن أنصبة متشابكة تؤمن صلابة المجموعات وتجعلها في مأمن من أي تحرك معادٍ وتفرض التراضي. ويتمثل الوضع الأمثل في اندماج كل مكونات المجتمع في نظم تبعية متبادلة. وعندئذٍ تكون القوة موزعة على أوسع نطاق بدلًا من أن تكون مجزأة.
وقد نزع توزيع السلطات فتيل الشقاقات. ويذيب العصر الإمبراطوري التعارضات ويحولها إلى آلاف الشذرات الدقيقة، مثل كتلة الجرانيت التي تتحول إلى رمال. ويعود ذلك بالفائدة على الاستقرار الاجتماعي، ولكن على حساب المداولات. وهذا الشكل من الحدِّ من السلطة ليس نصرًا للحرية. والتحديد الذاتي الذي يعتمد عليه هذا الاستقرار ليس من إنتاج النظام؛ لأن النظام لا يقدم سوى القواعد ولا يُصدر مبادئ. ولو أن عملية الانتشار هذه لم تحدث لأصبح حل التنازعات مستحيلًا؛ فالطابع الشكلي للإجراءات الذي تتميز به مجتمعاتنا أكثر فأكثر لا يتم تقبله إلا إذا طبق على قرارات ذات أثر محدود. فعندما تحد السلطة من نفوذها ذاتيًّا، لا بمقتضى مبدأ يتجاوزها، ولكن حرصًا على مجموعة من السلوكيات التي لا تزال مترسبة في ذاكرتها، تصبح آلية التحديد الذاتي مهددة. فالطابع الشكلي للضوابط يكشف عن حقيقة هشاشته بمجرد ظهور قضية أساسية أو مبدئية. وشبكة الإجراءات المنظمة التي يقوم عليها العالم الإمبراطوري لا تصمد أمام التوترات اللهم إلا إذا بلغ توزيع السلطة أقصى مداه. فلو ضغطت قوة كبيرة على أي نقطة من هذا النسيج الهش لتمزق فورًا. وهكذا فإما أن تنحصر حريتنا في كثرة من القرارات الصغيرة فتبدو تافهة، وإما أن تجد نفسها في مواجهة قرار كبير تعجز عن البت فيه؛ نظرًا لعدم توفر إطار سياسي قوي بما فيه الكفاية لتسوية النزاعات.
ولا عجب في أن تسهم تلك الحرية، التي لا تجد مجالًا للتعبير فيه عن ذاتها إلا في توافه الأمور، في التحقير من شأن السياسة التي فقدت قدرتها على إصدار قرارات حقيقية بفقدانها استقلالها الذاتي. ولا يخصص العصر الإمبراطوري وضعًا رفيعًا في سلم أولوياته لحاجة المجتمع؛ لأن يكون مؤلفًا من أناس أحرار. فمع أنه لا يستبسل في خنق الحريات على غرار دكتاتوريات عصر المؤسسات، إلا أنه كفَّ عن اعتبارها تطلعه الأساسي. ولكن هل لا يزال الأمر يهم الناس في هذا العصر؟ إنهم مستغرقون في سبات عميق وفي وضع أشبه بوضع جوليفر في مواجهة الأقزام الليليبوتيين. فهم غير مقيدين بأغلال ثقيلة ولكن بآلاف من الخيوط الصغيرة والرفيعة التي تكاد تكون غير مرئية، فلا يشعر بفاعلية وجودها إلا شخصيات نادرة لا تزال تحفظ في ذهنها ذكريات عالم عصر آخر.
ومما يدعو للدهشة حقًّا أن أغلبنا يشعر بالارتياح إليه، إذ يغمرنا الإحساس بأننا لم ننعم أبدًا من قبل بمثل هذه «الحرية» ونرثى لحال أسلافنا الذين تعين عليهم تحمل كل ضروب الإكراه التي لم تَعُد تصيبنا. فلم تَعُد هناك محظورات سواء بالنسبة للأفلام التي نشاهدها أو الملابس التي نرتديها، والأهم من كل ذلك الأحاسيس التي تعتمل في نفوسنا. ولكن لماذا تترك هذه الحرية مذاقًا مرًّا في أفواهنا؟ وما هي الدوافع التي تقيدنا؟