ضرورة الامتثال
يعترف العصر الذي نبرحه، عصر المؤسسات والسياسة، بالتباين، بل وينظم هذا التباين ويحدد إطاره. فهو يميز أصحاب القرارات ويفصل بينهم وبين الذين يطيعون ومن يسنون القوانين ومن يصدرون الأحكام … إلخ. وهو ينظم النزاع ليعلو عليه. أما العصر الإمبراطوري فلا يطيق النزاع ويسميه سوء التفاهم. وهو في حاجة إلى التماثل والتشابه، ويقابل التركيب الهرمي بمزايا العمل في مجموعات. وهو يفضل تداول المعلومات بسرعة متزايدة باستمرار بغية حل النزاع عن طريق العديد من التسويات الوقائية الصغيرة.
ويولد عصر السياسة ضمنيًّا نموذجًا آليًّا في السلوك؛ يتفق مع رؤية محددة للقوة؛ فوفقًا لهذا النموذج يتعين أن تكون هناك قضايا كبرى لإحداث تأثيرات كبرى، وسلطات عليا لاتباع سياسة كبرى. ولا يسعى عصر شبكات الاتصال إلى مثل تلك التطلعات. وهو يدرك من خلال قرن من الزمن شهد حربَين عالميتَين واختُرعت فيه نظرية الكوارث، أن القوة ليست وظيفة للسلطة محددة المعالم، وأن القضايا الصغيرة قد تترتب عليها أحداث كبيرة.
ولو اقتضى الأمر أن نستعير نموذجًا في العلوم «الصحيحة» للجئنا بالأحرى إلى علم الأرصاد الجوية، فهو خاص بعالم عقلاني بحت، وإن كان غير متوقع، إذ قد يؤدي تغيير ضئيل إلى انقلاب أساسي، وهو عالم يتحدى المراقب الجوي والتقدم الذي أحرزته الملاحظة؛ حيث التأكد من حجم أحد عوامل التغيير لا يمُت بصلة إلى مدى تأثيره. وهذا يعنى أن التطلع إلى التحكم في النظام، وأن تشبيه المسئول السياسي بالساعاتي الاجتماعي الكبير الذي يتبوأ المركز بالنسبة للتروس، ويؤثر على الآلة في مجموعها في حدود توازن القوى التي يسيطر عليها، هذا التشبيه لم يَعُد له معنى. فلا يمكن التحكم في المجال السياسي، شأنه في ذلك شأن المناخ وتغيراته. ولذا يتعين أن نتناول قضية تنظيم المجتمعات بقدر أكبر من الحذر والتواضع، وعن طريق الحواف ما دام يوجد مركز للمؤسسات.
ولو واصلنا إشعاراتنا للأرصاد الجوية لكان بوسعنا أن نقول إن العواصف والزوابع والأعاصير تتولد بالذات عن الالتقاء المباغت والدائم التقلب بين كتلتَين من الهواء لهما خواص متباينة. وينطبق ذلك على المجال الاجتماعي؛ حيث يتطلب الأمر أولًا إدارة الاختلافات ومضاعفة التسويات الدقيقة الحجم لتفادي التسويات الكبرى التي تتسبب في وقوع الصدمات. والحالة المثالية في ذلك العالم ليست النزاع الذي يدخل في نطاق المؤسسات، بل الهدوء «المضاد للأعاصير» الذي لن يعكر صفوه أي شيء، أي حالة مستقرة؛ حيث يشكل التجانس القاعدة ويكون الاختلاف حالة شاذة.
وحتى وقت قريب كانت اليابان خير مثل لمحاكاة تلك الحالة المثالية. فنشر المعلومات الملحوظ في هذا البلد فعَّال للغاية، خاصة وأنه يطرأ على كيان متجانس، في محاولة متقدمة لتنفيذ مفهوم القوة المرتبط بالعلاقات. والمعلومات هنا لا تشوهها مفاضلة خطرة بين العناصر الاجتماعية التي تمر بها تلك المعلومات، وتتولى تلك العناصر توصيلها فليست هناك، ولا يجب أن تكون هناك «وجهات نظر» خاصة، بل هناك فقط عدد كبير من التسويات تمثل في حد ذاتها معلومات وتشكل في مجموعها ذلك المفهوم التجريدي أكثر فأكثر، الذي لا يزال يسمى القوة، وإن لم تكن هذه وقفًا على فرد معين؛ ففي هذا العالم لم تَعُد القوة تكمن في أمير يمكنه فرض إدارته على الكيان الاجتماعي، ولكن في داخل هذا الكيان نفسه، وقوة الكيان السياسي لا تتمثل في امتلاك المجتمع لسلطات الأمير — فقد كان ذلك وهم عصر المؤسسات — ولكن في قدرته على أن يتواجد ككيان اجتماعي لا كيان سياسي؛ فالأمر يتعلق بنقل المعلومات إلى كافة الاتجاهات؛ بحيث يكون هذا الكيان آلة (سيبرناطيقا) ضخمة.
ولا يتطلب حسن سير الآلة ملوكًا فلاسفة أو مواطنين مستنيرين، بل يحتاج بالأحرى إلى «أنداد» وعناصر قابلة للتبادل والتوافق بفعالية حسب عدد لا يُحصى من التوافيق والتباديل. ويفرض تنوع العلاقات الممكنة التجانس وتوحيد المعايير على المشاركين في النشاط المجتمع. ويتعين على هؤلاء أن يكونوا قادرين على التواصل في ترتيبات متنوعة للغاية مثل قطع لعبة الليجو القابلة للترابط معًا. وبوسعنا اللجوء إلى صورة أخرى فنشبِّه المجتمع بمخ كبير تتم داخله الترابطات بين الخلايا العصبية بفضل آلاف الملايين من النبضات الكهربائية التي تنتشر بكل يسر، خاصة وأن الخلايا العصبية تسبح في وسط متجانس تمامًا. وفي المجتمع الذي تعتمد قوته على العلاقات تصبح القدرة على «التوصيل الاجتماعي» مسألة جوهرية.
وكانت التقاليد المسيحية قد علمتنا أن كل إنسان يحمل في داخله منبعًا يجعل منه فردًا ويسمح له بالحكم على العالم، وأن لكل إنسان ضمير لا يمكن اختزاله. والمطلوب منا التخلي عنه لا لصالح إرادة اجتماعية عليا، ولكن لكي نُخضع أنفسنا تمامًا لنقاط الالتقاء الخارجية التي تتبادل التأثير فيما بينها. فقد كان بوسع الفرد عند ديكارت أن يعلن: «أنا أفكر، إذَن أنا موجود» وبوسع «القرين» في عصر شبكات الاتصال أن يقول: «أنا أتصل، إذَن أنا موجود». و«القرين» ليس مثيرًا للاهتمام، لا في حد ذاته ولا بإرجاعه إلى كل اجتماعي يتضمن معنًى متميزًا. فليس هناك إذَن معنًى خفي على المجتمع يتعين حل شفرته، بل هناك فقط برمجة للجزئيات الاجتماعية تسمح بأن تتشبث ببعضها وبأن تعمل معًا. ولو كانت تلك المعلومة أكثر من إشارة ورسالة تتطلب حل شفرتها، لوجب على المجتمع اللجوء إلى متخصصين في حل الشفرات، وأن تدخل بالتالي موضوعات أخرى. ويوحي كافكا في وصفه لحائط الصين بأنه لا تزال توجد قوانين، ولكنها قوانين سرية وغير مفهومة في جانب المطالَبين باحترامها. ويبدو رولان بارت أكثر صفاءً بالنسبة لليابان الأسطورة الذي يلهم تفكيره في كتابه إمبراطورية الإشارات ولا يوجد مدلول بدون دال، وهذا شيء جيد حقًّا. وما علينا نحن إلا أن نتدبر أمورنا في أجرومية الإشارات.
وفي المجتمع الذي لا هدف له ولا معنى، تتلخص «الرسالة الاجتماعية» إذَن في فكرة الرباط الذي تزداد فعاليته بقدر ما يكون خاليًا تمامًا من أي معنًى وعُرضة لتفسيرات لانهائية. وشبكة الاتصالات التي يسميها الصينيون جوانكس وتعتبر بالنسبة لهم عنصرًا أساسيًّا في المجال الاجتماعي يتغلب على الفرد.
وهذه الطريقة في معالجة سلوك المجتمع غريبة للغاية عن تقاليدنا، حتى إنه لا تتوفر لدينا سوى اصطلاحات تنمُّ عن الاحتقار، إلى درجة أنها تبدو سوقية بالنسبة للمتخصصين الذين يخشون أن يظهروا شخصيًّا وكأنهم أقل ذكاء لكونهم أقل تبينًا للفروق الدقيقة. فكلمة «الامتثالية» شأنها شأن كلمة الفساد تسير في طريق التحول إلى كلمة عتيقة. غير أن النموذج الياباني يساعد على فهم ذلك التطور، والعصر الإمبراطوري يفرض قدرته الفائقة على التوصيل التي لا تترك المجال للفروق الفردية. ﻓ «الامتثالية» ليست حدثًا طارئًا ولا نقطة ضعف في الشركات الصناعية المتطورة تدعو للأسف، بل إنها شرط ضروري لضمان حسن سير عملها.
وتبدو الامتثالية الحديثة أكثر تسامحًا كما أنه لا يسهل الإمساك بها وهي لا تخشى الحركات المعادية لها؛ لأن هذه الحركات لها فائدتها، بفضل قدرتها على تحريك الآلة الاجتماعية غير أن معاداة الامتثالية لا تعرف كيف تثبت وجودها نظرًا لكونها لا تواجه مقاومة حقيقية. فأي معاداة للامتثالية لا بد وأن تكون بادرة لامتثالية جديدة، وهي تستحق أن تحظى بالاعتبار لهذا السبب. فوجودها نفسه يغير الجغرافيا الاجتماعية ويغير الامتثالية. والحق أن عدم تواجد أقطاب للقوة، من الآن فصاعدًا، يخلق قطبًا للامتثالية وقطبًا لمعادتها. وهناك فقط سباق لا نهاية له حول التشابه لأن تحرك العدائين يقلب الصورة التي يسعون إليها.
وهكذا يمكن تفسير سلوك كل جزء اجتماعي في كل لحظة كما هو الحال في نظام كبير للأرصاد الجوية، ولكن وقوع الاختلالات لا تحدده اعتبارات هامة. ولذا فإن معاداة الامتثالية المحترفة في إثارة القلاقل لها مكانها في حدود النظام، وهي تحافظ على الحركة العامة دون أن تهدد أي شيء. فلم يَعُد هناك في حقيقة الأمر زعماء أصحاب وجهات نظر بل مجرد أفراد متميزين أو منظمات تصبح عادة امتثالية قبل الأوان. ومثال ذلك مصمم الأزياء الإيطالي الذي سيعلم قبل منافسيه — بفضل نظام معلوماتي مواتٍ تمامًا للحصول بسرعة على المعلومات في العديد من مراكز البيع — أن اللون البنفسجي الفاتح سيكون لون الصيف وأن الأكمام المنتفخة ستكون في مبتكرات الموسم. فهو يستخلص من ذلك استنتاجات بالنسبة لمجموعة مبتكراته التي ستتسبب بدورها في انقلابات ستطور الذوق العام في الملبس. ومن الممكن أن تترتب على ابتكار بسيط مبني على ملاحظات تجارية هشة، تأثيرات بالغة على مبتكرات الشتاء. وقد تُضخم هذه الانعكاسات تأثير النجاح الأول وتتجاوز بذلك كل التوقعات. وهكذا ستحدث سلسلة ردود الفعل.
ويُمكن ملاحظة نفس تلك الظواهر في بقايا ما كان يُسمى عالم الأفكار. فهناك صنف معين من الكتب كان من حسن حظ مؤلفيها أن أصبحوا «مقياسًا للمزاج الاجتماعي». فهم يتوصلون إلى التعبير بنجاح عن التطور الذهني في فترة معينة ويُخرجون أفكارًا كما يُخرج الساسة الحوارات الاجتماعية. وتلك وظيفة هامة تسمح للجماعة الاجتماعية بالإبقاء على التواصل بأن تطرح في نفس الوقت نفس القضايا المتعلقة بالمنهج، وبالتساؤل عن كيفية حدوث ذلك مع الحرص على تجنب التساؤل لماذا جرى. ولا يهم أن تكون تلك التساؤلات المتتالية متناقضة، ولا يهم أن تكذبها بسرعة تطورات الواقع الملحوظ، فهي لا تعتمد على مبدأ الحقيقة ولكن على مبدأ الصدى. وعلى غرار الغناء الحادِّ النبرة الذي يستطيع أن يحطم كوبًا من الكريستال حتى وإن كان ضعيفًا للغاية شريطة أن يكون على نفس طول الموجة؛ فإن الكتاب قد يتوافق رنينه مع المجتمع فيحطم تقاليد قديمة كان الاعتقاد السائد بأنها أبدية. وهكذا تسفر الوقائع الصغيرة عن تأثيرات عظيمة.
وعليه فإن العصر الإمبراطوري هو عصر المرايا، فكله انعكاسات للضوء، وهو عالم باهت تتربص به الأحداث العرضية والملل، ويبحر في الأجواء العاصفة أو الهدوء الرتيب، ويحتاج إلى اختلالات لا تهب الرياح بدونها، ولكنه يخشى التحولات غير المتوقعة والمهددة مع كل اختلال في التوازن. ويرجع القلق الحديث في صميمه إلى قابلية هذا العالم للتبخر أو التفجر ذلك أن كافة عناصره المتماسكة قد تتزعزع نتيجة لأبسط البوادر.
ولا يجسر أحد تقريبًا اليوم على أن يعلن أنه «محافظ» لأنه ليس هناك شخص متأكد من مبادئ تستحق الحفاظ عليها. ويقر الجميع بأن التغير هو القاعدة في العصر الإمبراطوري وبأنه المبدأ الذي يحركه. غير أن الكل يدرك أيضًا أن التغيير يفلت من سيطرة الإنسان. وسواء تعلق الأمر بمنشآت أو أمم فإن الكل يتجنب الزعم بأنه يخطط للمستقبل ويكتفى بتطوير «القدرات على التكيف». وقد أصبح التكيف من القيم الأساسية. ويعتمد الحكم على الإداري الحديث من زاوية مرونته وقدرته على الاندماج في وسط جديد وعلى نسيان أساليب التفكير «العتيقة» فكل هذه الاستعدادات تَعِد بنجاحه: ويُطلب منه أولًا أن يكون مقبولًا في الفريق، ويتم تقييم مدى اندماجه في الوسط المهني، وقد تثير أحد جوانبه غير المألوفة القلق لأنها قد تُضعف التنظيم.
فلا غرابة إذَن في أن يكون النجاح المعاصر مثقلًا بالقلق بل والجزع. فهناك الخوف ألا يكون المدير «ديناميكيًّا» و«متفائلًا» وعالي النبرة بما فيه الكفاية. وهناك الجزع من أن يكون شكلًا خاويًا وقالبًا اجتماعيًّا يسهل تشكيله، يعيش من خلال نظرة أقرانه ورؤسائه له. والمسئول في الهيئة لا يمكنه أن يسمح لنفسه بأن يكون صاحب مبادئ، بل يجب أن يكون قادرًا على الاستجابة للانعكاسات. هو إنسان قليل الإيمان، ولكن ليس من اللائق أن يبدو وقحًا، بل المأمول فيه أن يسوس فراغه الداخلي بحيوية ومرح. وهو إنسان قليل المغزى يتعين عليه أن يصبح علامة في عالم العلامات التي لا معنى لها. ومن الجوانب التي ستحظى بالتقدير في شخصه أن يتباهى ببعض الميزات التي يسهل التعرف عليها والتي تربطه بقطيع محدد الهوية تمامًا؛ فهو لاعب بريدج أو من هواة تسلق الجبال أو لاعب جولف، وسيكون لديه رصيد من فتات الهوية من خلال الرياضة التي يزاولها والسيارة التي يملكها والنادي الذي ينتمي إلى عضويته والعقيدة الدينية التي يحرص على إظهارها. وكل هذه المكسرات أشبه بلوحات هشة يجرفها التيار العام ويتشبث بها غرقى هذا العالم لكي يوهموا أنفسهم بأن كل شيء ساكن لا يتحرك. وهنا أيضًا نجد أن اليابان ترشدنا إلى الطريق: إنه تفاخر الإنسان بما لا يتميز به وإبداء الإعجاب بكل ما هو أقوى مما يوجد في أي مكان آخر. ولكن هل يمكن التحدث عن هذه «العجرفة» بينما لا يتوفر لدى أصحابها نموذج يقتدون به سوى أشخاصهم؟ فهذا الحرص لدى اليابانيين على اقتناء مظاهر التميز تبتهج شركات صنع السيارات الألمانية وتجارة المنتجات الفرنسية الباذخة، لما يدره عليها من أرباح. ففي «إمبراطورية العلامات» هذه يصبح المال العلامة النهائية والقاسم المشترك الذي يسمح بربط العلاقات ببعضها وتحاشي التجزئة التي يتعذر إصلاحها. وهذا المال هو له السائل السحري الذي يحمل بقايا هويتنا المفقودة. والجري وراء العلامات ليست له نهاية؛ لأنه لا يعتمد أبدًا على رجاحة العقل. والأشخاص المنمطون في العالم الحديث يشعرون دائمًا بأنهم غير متأكدين من أنهم في حملة العلاقات المثلى خاصة وأن قواعد النحو الاجتماعي لا تكف عن التغير. فكم هي عذبة تلك اللحظات العابرة التي يتمكن فيها الرجل الحديث من الخلود إلى الراحة من تعبه، عن طريق لقاء مهني يحقق له الاعتراف مؤقتًا بالعمل الذي يؤديه!
ومع ذلك يظل التمايز من القيم المبتغاة في هذا العالم الذي يتعين فيه على المرء أن ينتمي إلى فريق من الناس قبل أن ينتمي إلى نفسه، وحيث تتطلب الفاعلية التشبُّه بالآخرين. غير أن تحلل العالم إلى عناصر معيارية يسمح بخلق التمايز بالجملة. فالجمع بين مختلف المعايير يحقق التفرد باعتباره توليفة وحيدة من العناصر القياسية. وهذا الأسلوب الصناعي في خلق الندرة ينقل إلينا التقدم الذي تحققه البيولوجيا والصناعة والتسويق. كلما تقدَّمت معرفتنا بخلايا جسم الإنسان، ازداد إدراكنا بأن كل كائن. حي متفرد في التفاصيل البيولوجية لمختلف أجهزته العضوية. وكلما تحسنت خطوط الإنتاج الصناعي ازداد طابعها النمطي حتى أنه يمكن الحصول على قطعة من نفس النوع في مختلف طرازات السيارات أو الطائرات. ولكن مرونة الصنع التي يتيحها التوجيه المعلوماتي بلغ حدًّا جعل من الممكن أن تكون الطرازات التي يُخرجها نفس خط الإنتاج مختلفة تمامًا. فالتركيبات التي تتيحها الاختيارات المعروضة تزيد باستمرار من النماذج المطروحة في السوق، بينما يشتد في الوقت نفسه توحيد المعايير. وهذه التعديلات المتزايدة الدقة في العمليات الصناعية ليست في الواقع إلا انعكاسًا للتقدم الذي تم إحرازه في مجال التسويق. فقد نضج التعرف على رغبات المستهلك حتى إنه بات من الممكن مضاعفة أنواع المنتجات و«الأهداف» التجارية دون العودة إلى عالم الصناعات الحرفية، عوضًا عن عرض منتج دارج على مجموعة غير متجانسة من المستهلكين. فكل مستهلك يشتري سيارة أو يشارك في برنامج لقضاء إجازته يمكن أن يكون لديه الإحساس الآن بأنه يشتري منتجًا تم تصميمه له خصوصًا، أو منتجًا يتضمن مجموعة نادرة من مختلف المزايا التي تنفرد بها «نخبة» يتباهى بانتمائه إليها.
لقد أصبحنا بعيدين عن الحرفية ولكننا متمسكون بأساطيرها. ولا بد من الاعتماد على التوقيعات للتخلص من ذلك التدفق المتوالي لمرايا التكرار والتشابه. فسواء تعلَّق الأمر بصناعة اللحوم المجهزة أو تفصيل الملابس أو صناعة الحقائب؛ فإن المطلوب هو أن يكون المنتج ممهورًا بخاتم المبتكر؛ لأن المسألة لم تَعُد بيع سجق أو بلوفر من الصوف أو حقيبة. فالهدف هو بيع ما هو فريد ومختلف حتى يمكن المطالبة بسعر أعلى لا تبرره أصلًا مزايا المنتج نظرًا للمنافسة. فالربح يتحقق الآن أكثر فأكثر من خلال الخيال والوهم، وأثمن رصيد لدى شركة ما ليس بالضرورة عملية التصنيع ولكن اسم الشركة الذي نجحت في فرضه على جمهور المستهلكين. ولم يحدث قط من قبل أن جرى التأكيد والتركيز على الإبداع والابتكار إلا في الحقبة الحالية، حقبة رجال الصناعة.
وفي العصر الإمبراطوري هذا؛ حيث لا تتوفر قيمه لأي قطب في حد ذاته، وحيث لا وجود للمرء إلا بالعلاقات التي يقدر على إقامتها والشبكات التي يطورها والتركيبات التي يشارك فيها، يتعين على كل قطب أن يبذل جهوده لخلق الوهم بأنه فريد من نوعه أي أنه لا يمكن الالتفاف حوله لاحتوائه، وبعبارة أخرى أنه متواجد في حد ذاته لا عن طريق علاقاته مع الآخرين.
ولذا يحظى المبدعون باحترام خاص، وهو تقدير موجه إلى منطق اجتماعي في طريقه إلى الزوال. ولا شك في أن أداء الفنان في مجال الاستعراضات الفنية الناجحة لا يمكن تقدير قيمته؛ لأن إنتاجه هذا لا يقتصر على أن يكون مجرد تركيبة من العناصر المعيارية القابلة للنسخ والتكرار. فهو يمثل اختلافًا متميزًا يثري عالم العلاقات بقطب إضافي واستثنائي — حتى لو كان دون المستوى — توَاجد أصلًا قبل العلاقات التي يشارك في تنميتها بما يقدمه. ففي العالم الذي لم يَعُد يغتني إلا بالتجزئة وبتقسيم قطع الليجو الاجتماعي إلى ما لانهاية، يكون الفنان والإبداع الفني آخر الحدود المفتوحة والإمكانية الأخيرة للانطلاق. وهكذا يتعايش معًا في انسجام واقع التعدد والتفاهات، مع تقديس التفرد.
ولكن كيف يتشكل واقع تضاعف الأعداد هذا؟ وكيف ينبني التجانس؟ في عالم رجال الأعمال سيدور الحديث حول «مشروع إقامة منشأة»، وفي عالم الأمم سيكون الموضوع الهوية القومية. وكلما قلَّ دور المجتمع في إصدار الأوامر، تشعبت القوة وازدادت الحاجة إلى أن تفرض نفسها الهوية أو مشروعات المنشأة. ويجب أن يكون مجهود كل مشترك في العمل مجهول الهوية على نفس مستوى المشاركين الآخرين، وأن يشعر بأنه مدفوع بنفس الحماس وأن يعي انتماءه إلى نفس الوسط وأنه «يسبح» في نفس المياه. وهل ينال ذلك من عصر القوة القائم على العلاقات؟ وإذا كان التوجيه يقع على عاتق رئيس المنشأة أو المسئول السياسي، ويتعين على كل منهما إبلاغ رسالته، ألا يعني ذلك الاختيار الاستراتيجي الهابط من القمة أنه عودة إلى قطب مؤسساتي ومركز ومبدأ للتنظيم والإشعاع؟ ولو تسلل عنصر خارجي في التكرار اللانهائي لنفس الصور، ألا يهدد ذلك البناء بأسره؟
هنا يجب أن نعود من جديد إلى المقارنة المتعلقة بالأرصاد الجوية، والاعتراف بأن الآثار العظيمة قد تنجم عن أسباب ضئيلة الحجم. فلا شك في أن الرئيس هو الذي يحدد الاختيارات ويقطع بين مختلف وجهات النظر، إذ إن الاستراتيجية يقع باختصار على عاتقه. ومن الخطأ الزعم بأن تحليل المعطيات يفرض عليه اختيارًا معينًا وأنه لا توجد سوى سياسة واحدة صائبة واستراتيجية واحدة صحيحة. غير أنه من النادر أكثر فأكثر أن تترتب على اختيار معين عواقب حاسمة؛ فالقرارات تتجزأ والاختيارات يصحح بعضها البعض الآخر. ولذا فإن المخاطرة تعود بقدر أكبر إلى غياب اتخاذ القرار لا إلى القرار الخاطئ. فالعالم الإمبراطوري لا يقبل الانقطاعات والتغيير يتم فيه بلمسات خفيفة.
ومثال فرنسا فصيح في هذا المضمار، فهي أمة تمتعت أكثر من العديد من الأمم الأخرى ببناء جميل مستنبط من ذاكرتها. وقد تمثلت موهبة ديجول في ربط نشاطه بذكريات تاريخية عامرة بالسلوكيات الجماعية المجيدة، ابتداءً من جان دارك حتى أبطال المقاومة. وقد كذب الفرنسيون على أنفسهم بفضله ونجحوا في التأثير على العالم، وتخيلوا أنهم قاوموا الألمان في عام ١٩٤٠م وأنهم انتزعوا استقلالهم من براثن أمريكا عندما انسحبوا من القيادة المشتركة لمنظمة حلف شمال الأطلسي في عام ١٩٦٦م. وقد ساعدتهم تلك التخيلات المريحة على مواصلة الحياة وأعادت لهم ثقتهم بنفسهم. ومما لا شك فيه أن طاقة فرنسا في الستينيات ما كان يمكن أن تكون بمثل هذا الاندفاع لولا الديجولية التي تسترت على هزيمة ١٩٤٠م ونجحت في مواصلة تاريخ أرادت له أن يكون مجيدًا. ولكن هل كان الأمر يتعلق بشيء آخر سوى عملية إخراج درامي بارعة؟ والإرادية الديجولية، أليست هي أيضًا استخدامًا ذكيًّا ومؤقتًا لبعض السلوكيات الخاصة بفترة معينة؟ لقد أثبت تمرد مايو ١٩٦٨م لأول مرة حدود هذا المشروع. وكما يقال في رطانة المستشارين في مجال الاتصالات، يجب يتم الفصل أبدًا بين الاتصال الداخلي والاتصال الخارجي. وقد أخطأ ديجول في تجاهل هذا الأمر. فالفارق بين الصورة الخارجية والصورة الداخلية كان من أسباب انفجار مايو ١٩٦٨م. وبعد مرور ربع قرن على تلك الأحداث، وفي ظروف أضحت مختلفة؛ فإننا نواجه مصاعب في تصور فرنسا كما كانت على حقيقتها في عام ١٩٤٠م؛ فهي تعوقنا في نظرتنا لألمانيا كما هي في عام ١٩٩٣م. فالتردي الفرنسي في عام ١٩٤٠م يحول دون أن نرى الضحالة الألمانية في عام ١٩٩٣م. ولذا نجد صعوبة في التغلب على مركب النقص الذي يشوه العلاقة بين البلدَين. فالصدى الذي ساعد فرنسا على التقدم في الستينيات راح يعوقنا في التسعينيات. ويتعين علينا الآن أن نغير امتثالياتنا، غير أن الفرنسيين لا يدرون كيف يمكنهم التصرف في مواجهة ذلك الوضع.
ومشروع المنشأة وهوية الأمة من المعطيات أكثر من كونهما نتاج بناء إرادي. وهما لا يتغيران إلا بالتدريج وبالتصرف على الهوامش. فقوة الفكرة القومية في التعريف الأوروبي كانت بالذات ثمرة أحداث تاريخية وتجسيد الذكريات في مخيلاتنا دون الادعاء بأنها أصبحت حقيقة واقعة.
ومن هنا ينبع الخطر الذي نواجهه في الفترة الراهنة. فلو غابت عناصر الذاكرة، ولو توارى ذلك «الافتراض» الخاص بالكيان الاجتماعي؛ فإن «الامتثالية» التي لا غنى عنها لضمان حسن أداء مجتمعنا قد تصبح جهدًا مطلوبًا باستمرار، يتصلب في انعكاس شمولي بدلًا أن يكون عادة لا يُشتمُّ منها أي إكراه، تمامًا كالملبس الذي تكسبه مرات استخدامه مزيدًا من الليونة. ولو لم تَعُد الذاكرة تحدد حيز الأمة، ولو لم يَعُد مجال الديموقراطية يخضع إلا لتعريف وظيفي — أي مجال تتخذ في حدوده قرارات تخضع لإجراءات ثم قبولها — فإن التعارض بيننا — نحن المتشابهين — يصبح في الواقع الوسيلة الوحيدة الباقية في صورتنا لتعريف فريق اجتماعي مهدد بالتفسخ عن طريق تعدد مستويات السيادة. فلو فقدنا ذكريات تاريخنا القومي ولو أصبحت إدارة أعمالنا موزعة بين عدة دوائر؛ المركز والمنطقة والأمة والقارة والعالم، فكيف سنقيم ارتباطاتنا الآخرين، علمًا بأننا نعرف تمامًا أن تلك الارتباطات هي أساس قوتنا؟