أديان بلا رب
يلتقي أقصى النزوع إلى الحداثة أقصى التمسك بالقديم. فكأنه قد تعيَّن على نشيد العاملين بالمنشأة اليابانية أن يحل محل تراتيل الكاتدرائية، وأن يحل التبشير التليفزيوني محل الدعاة، وأن تأوي الطائفية من لم يَعُد يجتذبها الدير. وفي كل ذلك إشارات إلى أنه لم يَعُد هناك بين الديانة — أو التدين — من جهة، والحداثة من جهة أخرى، ذلك التنافر الذي تصوره أنصار الدعوة العلمانية في القرن التاسع عشر. غير أن الظاهرة المثيرة للانتباه حقًّا ليست مع ذلك «العودة إلى التدين» المزعومة، مما يفترض أن التطلع الديني كان قد زال لفترة من قلوب البشر، بل تلك الأشكال الجديدة والعديدة التي يمكن أن يتخذها ذلك التطلع. وعلى عكس ما تنبأ به مونتسكيو منذ قرنين ونصف قرن، لم تؤدِ الديناميكية التي أطلقها عصر التنوير من عقالها إلى فناء الأديان، بل إلى انبعاثها في أشكال جديدة ذلك بعضها متدنٍ.
لقد لفظت الجمهورية الرومانية أنفاسها في الوقت نفسه الذي نضجت فيه البواعث الدينية التي توَّلدت عنها المسيحية. ونحن نعيش الآن حقبة مماثلة في بعض النواحي. فالمجال السياسي الذي تحرر من أصوله الدينية يموت اليوم من جراء هذا التحرر، وهو يزول وسط ضجة شديدة وكثيرًا ما لا يبقى لدينا في هذا العالم الذي هجرته السياسة بعد أن تركته الآلهة، سوى طقوس وولاءات سحرية نتشبث بها لكي نضفي بعض الأهمية على حياتنا المحفوفة بالمخاطر.
والحق أن التقدم الذي حققه عصر العلوم لا يبعدنا عن الدين بل يقربنا منه. إننا نعيش في عالم عامر بالطقوس؛ حيث الآلات بالنسبة لعالم الأشياء أشبه بالقساوسة بالنسبة لعالم الآلهة، وعلى أي حال تؤدي الآلة أحيانًا وظيفة العرافة وتقدم طالعًا مفصلًا للغاية يفوق إلى حد كبير ما يمكن أن تأتي به أحسن قارئة كف! ففي ظل التجريد المميز للعالم الإمبراطوري يبدو الدين أقرب إلى الواقعية، وتلهفنا عليه يضارع تلهف الأطفال إلى الرجل الوطواط وصائدي الأشباح.
فلا عجب إذَن في أن تنمو الأديان بعد ألفي سنة من بداية العهد المسيحي عن طريق ما يتوفر لديها من قوة سحرية، بينما يريد العلم أن يؤكد انتصاره، ولا غرابة في أن تتغلب الطقوس على الميتافيزيقيات. فما نسعى إليه من خلال الأديان يتمثل بالذات في الوجود بعد العدم؛ ففي العالم الذي يؤدي فيه كل شيء وظيفته وإن كان ليس هناك شيء له معنى؛ فإننا نبجل الغامض اللامحدد بوصفه الملاذ الأخير للمعنى. فأديان العصر الإمبراطوري تتعارض إذَن مع «الديانة الطبيعية» عند فلاسفة التنوير. ويعود ما تحققه في نجاحات أكبر إلى إفلاتها من استنباطات العقل، فهي لا تحاول أن تبدو أقرب إلى «الاحتمال». ومن السمات المشتركة بين الطوائف وكذلك لدى الجماعات الأصولية الجديدة، عدم السعي إلى مسايرة الواقع القائم. فهي لا تدعي أنها حديثة أو شاملة، دون أن يحدَّ ذلك من جاذبيتها بل يزيد منها.
وفي البلاد الفقيرة حيث لم تترسخ بعد أسس الدولة القومية، تطمح الأديان إلى بعث السياسة وإضفاء معنًى جديد عليها. فالأصوليات الإسلامية والهندوكية أيضًا تبث طاقاتها الآسرة في المجتمعات التي ضللتها وأثارت حيرتها بشدة صدمة التحديث الاقتصادي المنفلتة. ومما يثير مخاوفنا التناقض بين سأمنا نحن الدين تبددت آمالنا، والحزم الثوري لدى الإسلاميين، فكأنه بوسع الإسلام أن يقدم مشروعًا سياسيًّا شاملًا بعد احتضار الشيوعية، وهو مشروع خطير الشأن بوجه خاص بعد أن فقدنا إيماننا بالديموقراطية لكل العالم. وكأن السياسة ماتت في المجتمعات الواسعة الثراء، ولكنها تنبعث من جديد بقرارات فتاكة على أجنحة الدين عند الفقراء الذين تركهم على قارعة الطريق ذلك الاندماج الذي يحقق عصر العلاقات.
وفي الوقت نفسه فإن إرادة تأكيد القيم والتمرد على النظام الاجتماعي والرئاسات الدينية القائمة يعيدان إلى الأذهان المصلح الديني الألماني مارتن لوثر. فرفض السياسة بملوثاتها يتضمن دعوة قوية إلى ضمائر الأفراد؛ فالمجتمع العادل لن يتحقق من أعلى بمجيء حاكم عادل، ولكن من أسفل بكسب الضمائر بالتدريج. وهذا الطموح المبني على فشل السياسة وتآلف السياسة مع الدين قد يكون له تأثير على الإسلام لا يقل في عمقه عن الإصلاح البروتستانتي بالنسبة للمسيحية. ولا تزال بصمة هذا الطموح واضحة على التاريخ.
والواقع أن هذا الطموح يتفق مع حاجة ملحة يتطلبها العصر الإمبريالي سواء تعلق الأمر بشركات ذات مفاصل مستقلة نتيجة لديناميكية شبكات الاتصال والاقتصاد الشامل، أو بسبب إذعانات الاقتصاديات المتقدمة للغاية. وفي كل من الحالتين تلاشت بداهة الجماعة التقليدية، تاركة وراءها أناسًا حائرين بلا أي انتماء، أو بانتماء وظيفي فقط عن طريق مهنةٍ أو كفاءةٍ ما. فيا لها من مفارقة غربية بين سلوكياتنا المقيدة أكثر فأكثر بإذعانات لا نملك التحكم فيها، وبين أفكارنا الحرة باطراد خاصة وأن أي نتائج، لا تترتب عليها. ففي هذا العالم الذي يتميز بأن لكل شيء وظيفته دون أن يكون هناك معنًى لأي شيء يصبح «الدين» الإذعان الوحيد المقبول طوعًا بل والمرغوب.
والتعبير عن هذا التطلع «الديني» في البلدان الغنية مختلف، ولكنه يفصح عن نفس خيبة الأمل إزاء المجال السياسي. وانتشار المنظمات الإنسانية مثال لذلك التطلع؛ فالمناضلون الجدد من أجل القيم البشرية الذين تخلوا عن محاولة التوصل إلى حلول لمآسي البشرية عن طريق نظام سياسي، جعلوا من المشاكل الملحة مبدأ نشاطهم. وقد كانوا يأملون بالطبع أن تنوب السياسة عنه، ولكن النشاط الإنساني راح يحل أكثر فأكثر محل السياسة حتى إنه بات المجال الوحيد للنشاط الخارجي للدولة الذي يحظى بتأييد الرأي العام. وهذا وضع غريب حقًّا؛ إذ لا تستعيد الدولة حظوتها إلا بالعدول عن طموحاتها السياسية.
والبراجماتية المميزة للنشاط الإنساني المتمثل في إنقاذ حياة فرد ومعالجة الحالات الطارئة والعدول عن المبادئ العامة لمواجهة حالة خاصة، هذه البراجماتية تتفق مع مقتضيات القيم الأخلاقية الفردية؛ حيث يكون إنقاذ حياة فرد مبررًا كافيًا. ففي منتصف الطريق بين الفكرة التجريدية للمجتمع الإنساني والمصائر الفردية العديدة، لم تَعُد هناك وساطة المؤسسات السياسية التي تعني بالمصائر الجماعية. ويعبِّر النضال الإنساني عن خيبة الأمل هذه في المؤسسات السياسية، وعن الحرص على خلق ضروب تضامن ملموسة في خضم عالم أصبح تجريديًّا للغاية. ويجد المناضلون من أجل الإنسانية في هذه الالتزامات ومخاطر النشاط إحساسًا بالانتماء إلى مجتمع بشري ليس نتاج إذعانات العالم الوظيفي وحده. فالنشاط الإنساني وسيلة للإفلات في تلك المواجهة التي لا تطاق بين الفرد المنعزل والشمول الذي لا يمكنه التحكم فيه وإن لم يَعُد من الممكن تجاهله.
ويتضح لنا في هذا العالم المحدود الموارد أن ثراءنا الفاحش ليس قابلًا للتعميم. فالسعي إلى الشمول لا يضفي معنًى على مصائرنا الفردية ويثير بالتالي خوفنا. وهو يفضح تناقضاتنا وتراجعاتنا. وعندئذٍ يهيئ النشاط الإنساني عند الأغنياء نفس التراجع باللجوء إلى التجربة المعنوية الفردية، وإن كانت موزعة، والتي يقدمها الإسلام للفقراء. لم يَعُد هناك سعي إلى علاج بؤس العالم بشكل تجريدي. فقد استرد الفقر وجهه، ونشأ تضامن مباشر تولد عن الحالات الملحة والآلام. وبما أن وهم التوصل إلى حل سياسي، يضع حدًّا للشقاء، وتحول المصائر البشرية العديدة إلى مصائر الجماعة قد تبدد؛ فإننا نكرس جهودنا لأفراد آخرين بدلًا من تكريسها للجنس البشري.
وهذه التجربة الملموسة للعلاقة مع الآخرين أو بعض الآخرين، هي ما نطلبه اليوم في الدين. فبينما يدفعنا كل شيء نحو الشمولية، يؤكد لنا الدين الفارق، وهو فارق لم يَعُد سياسيًّا بل معنويًّا؛ فعندما تنهار الحدود يولد الدين تمايز الجماعات ويقيم حواجز جديدة؛ حيث كانت الأسوار تسقط بالأمس. فالقضية الميتافيزيقية في عصرنا ليست في الواقع الكشف عن الشمول في ظل تفاوت الظروف الاجتماعية، بل إقامة المفاضلة من خلال التنميط اللامحدود لشبكات الاتصال. فالناس في عصر ما بعد القومية لا يتطلعون إلى تضامن غير محدد المعالم، ولكن إلى تعيين مجال للتضامن مع توصلهم إليه من خلال حياتهم اليومية.
وهكذا يرِث الدين في العصر الإمبراطوري الوظائف التي كان يؤديها في عصر المؤسسات وهو يقسم بدلًا أن من يوحد. وإذا كان ينظم المشاركة الاجتماعية فهو يحقق ذلك في أغلب الأحوال على طريقة الطوائف والانعزال، لا على صعيد الشمول. وفي ظل عالم التماثل والتجانس، يوفر لنا الدين إمكانية الإفلات من التجريد الشمولي لنا باستعادة إحساسنا بالتفرد في جزر العزلة الحديثة.
فبالأمس كان الراعي التائه في عزلة الليل يبحث عن أثر لمبدأ مُوحِد يربطه بالجماعة البشرية من خلال آلاف النجوم المتألقة في السماء، ومما لا شك فيه أن انتشار الديانات الوحدوية الكبرى يرجع إلى حد كبير بالتأكيد، إلى ذلك الإحساس بالحاجة إلى الخروج من ذلك الانغلاق الجغرافي والاجتماعي الذي اتسمت به ظروف الإنسان على مدى طويل. أما مشكلتنا فجد مختلفة. فنحن أيضًا لا نزال نشعر بالوحدة، بَيدَ أنها وحدة الإنسان التائه وسط الجمهور والمتنقل دون أن تكون له روابط. ويرجع فزعنا لا لانفصالنا عن الكل الشامل ولكن لانصهارنا فيه. فالسماوات خاوية وآلاف العلامات تحاصرنا دون أن تحيلنا إلى أي كل توحيدي.
ولا يمكن أن يزعم أي منا أنه ينعم هو نفسه بوحدة داخلية، في عالم متعدد المفاهيم لم يَعُد يحكمه أي نظام سياسي أو فلسفي. وحياتنا تمضي كما لو كانت مسرح ظل؛ تعتمل فيها المشاعر وتخضع للعديد الاندفاعات. ولم يبقَ لنا سوى عبادة عشب أو شعاع ضوء من القمر أو انفعال عابر. كانت الثورة التي أقدم عليها نيكولاي كوبرنيك (عالم الفلك) قد أفقدت الكرة الأرضية مركزها، وإن كانت قد حافظت على الأقل «مع الشمس» على فكرة وجود مركز. وهذه الفكرة الأخيرة تذوي الآن وتموت. فالانتصار نسبي، كما أن هذا الفوز الذي يتحقق على المبدأ، لا يبعدنا عن الديانة ولكنه يغير طبيعة ما ننتظره منها. ومما لا شك فيه أن تعدد العبادات سيكون له مستقبل أكثر من توحدها.
والواقع أن الديانة يجب ألا تعني من الآن فصاعدًا ذلك الإيمان بعقيدةٍ ما أو التسامي، بل هي تعني بكل تواضع مجموع الطقوس والعادات و«عادات القلب»، كما قال المؤرخ الفرنسي توكفيل بخصوص أمريكا التي تشكل سلوكنا.
فليس هناك إذَن عدم توافق بين الطابع التجريبي الشامل للعصر الإمبراطوري وتعدد الديانات منذ القدم. فالظاهرة الثانية هي النتيجة الطبيعية للظاهرة الأولى، ولا تناقض بينهما. فهما لا تتنازعان على نفس الموقع، وربما جاءنا المستقبل بتعايشهما المظفر كما حدث في ظل الإمبراطورية الرومانية. وربما سنشهد ذلك إلى حدٍّ ما وللأسباب نفسها، تعايش دولة القانون مع تأجج المشاعر الدينية:
-
في دولة القانون التي لا تستند إلى أي مرجعية فلسفية للحق الطبيعي، وتتلخص في مجموعة من القواعد لا تعتمد أصلًا إلا على أنها تثبت اليوم بتطبيقها أنها صالحة تمامًا. وهذا القانون لا يعبر عن سيادة أو كيان سياسي، بل ينقل إلى المجتمع نظامًا طبيعيًّا اكتشفه عقل الإنسان، بل طريقة عملية وأنيقة لإدارة عمليات التطور ومفيدة مثل برامج الحاسب الآلي.
-
ديانات تأتي بتمايزها وبالتالي هويتها، وإمكانية الاعتقاد دون أن يكون ذلك أن يكون الاعتقاد مشتقًّا من منطق الشبكات الذي يقبل التعددية وإن كان يعجز عن شموليًّا.
ونحن نشارك من خلال هذا الالتزام الديني في بشرية لم تَعُد تعرف كيف تتبدى وسط حلبة السياسة الخاوية، ونسترد الإحساس بالانتماء مع زوال الكيان السياسي.
هناك إذَن تكامل بين توالد المزيد من القوانين في العصر الإمبراطوري وبين توالد المزيد من الديانات التي لا لزوم لها، ولكن باستقلال تام: والضرورات الثانية ليست أساس الأولى. لقد ادَّعت إمبراطورية روما الثالثة، أي روما موسكو والشيوعية، الربط بين الاثنين وتأسيس ديانة دنيوية بإضفاء معنًى على الضرورات الاجتماعية والتاريخية.
والإمبراطورية التي تنشأ حاليًّا لا تصبو إلى تحقيق مثل هذه التطلعات. فالقانون الذي تقيمه لا يعتمد على دولة أو عقيدة أو أساس. فهي دولة لا دينية، تترك المجال مفتوحًا لقيام ديانات أخرى.
ولا يخفى على أحد تربص أمريكا وإسرائيل بإيران بعد حليفهما الشاه، ولا يخفى أيضًا على أحد سيطرة أمريكا واليهود على وسائل الإعلام وتشويههما لصورة إيران. وبعد كل ذلك، لا يدعي أحد مثالية التجربة الإيرانية، أو خلوها من الأخطاء، ولكنها بكل المقاييس الاقتصادية والاجتماعية أفضل الشاه وسافاكه وموساده الذي غض الإعلام العالمي البصر عنه.