العجل الذهبي
لو لم تكن هناك سوى إجراءات لتوحيد العالم الإمبراطوري الذي تجزؤه الديانات والطوائف، لما تواجدت الإمبراطورية. غير أن القوة الجديدة ليست شيئًا مجردًا فقط فهي تعبر عن نفسها بالمال، الجسر الشامل الذي يربط بين كافة أشكال النفوذ، والموحد الأكبر للعصر الإمبراطوري بجانبيه الخيالي والمبتذل. ومن هذا المنظور يستحق الفساد أن يخضع للتحليل، لا كظاهرة عرضية ولكن كرمز لزمننا، وربما أيضًا بوصفه العقيدة الوحيدة التي أضحت الآن نزعة ذات أبعاد عالمية.
ولكننا لا نتساءل في أي لحظة عما إذا لم يكن الفساد ظاهرة مرضية أو حالة شاذة أم السمات المميزة للمجتمع الصناعي المتقدم.
لقد تبيَّن لنا مدى اعتماد الشكل الجديد للنفوذ على نشر المعلومات لا حجبها؛ فالسلطة لم تَعُد الحد من المعرفة عند الآخرين — الذين سنكون في حاجة إليهم — بل القدرة على تعبئة واستخدام المعرفة المتوفرة لدى الآخرين.
وقد أدى ذلك الوضع الجديد إلى تعدد غير مألوف لمصادر المعلومات، يقلل من العالِم ويرفع من قيمة شبكة المعلومات. وقد تغيرت العلاقات الاجتماعية بعمق ومعها علاقات النفوذ. فبدلًا من الهرم التقليدي الذي تتكون قاعدته من «الأخصائيين» ويعلوهم رؤساء أقل منهم تخصصًا ثم «المدير العام»، أصبحت بنية السلطة تعكس منهج مسيرة القرارات وسط متاهات التنظيم. لم تَعُد هناك إذَن نقطة يتم فيها اتخاذ القرار، بل سلسلة مراحل يُصاغ من خلالها القرار تدريجيًّا. وفي هذا الحقل يمكن أن يتفتح شكل جديد من أشكال الفساد.
والأسلوب التقليدي المزدهر في بعض بلدان العالم الثالث يتفق مع مجتمع ما قبل الدولة. فالقادة الكبار يتخذون قرارات هامة يمكن أن تتأثر بالرشاوى الضخمة. وأصحاب القرار معروفون، والفساد ينتشر لا لاستحالة السيطرة عليه — فدوائر اتخاذ القرارات واضحة — ولكن لأن هناك أصلًا رفض لفرض الرقابة؛ إذ لا وجود للدولة والوضع في البلدان الصناعية ليس على هذه الشاكلة؛ حيث تتوفر إدارة مكافحة الفساد، وإن كانت بنيات اتخاذ القرار تجعل تلك الرقابة أصعب يومًا بعد يوم.
ولما كان متخذو القرار بعيدين؛ فإن الأهداف المحتملة لمن يقدِّمون الرشاوى عديدة هي أيضًا. وبالطبع فإن كل مشارك في اتخاذ القرار لا يتناول إلا جزءًا منه، وهو يرسم على الهامش انعطافة في التطور تتجاوزه. ولكن هل يمكن اعتبار هذه الانعطافة قرارًا؟ إن الموظف الحديث الذي يتعامل مع كم ضخم من المعلومات وفيض من المعطيات ويحاول أن يضع في عين الاعتبار المصالح العامة الضائعة يتضاءل شيئًا فشيئًا، بينما يتحول بالتدريج إلى مهندس اجتماعي مهمته تيسير العملية التي تخضع لقواعده هو.
وفي مثل هذا العالم يؤدي فرط المعلومات إلى قتلها هي نفسها، وتحد عملية اتخاذ القرار المفتتة مجال الاختيار. وكما اتضح لنا من قبل فإن الأمر لا يتعلق أبدًا في كل الحالات تقريبًا باختيار حل من بين حلين متعارضين، بل بالأحرى بتحمل مسئولية من استبعاد حل لن يكون من المؤكد تمامًا أنه كان أقل من الحل المختار. ويُلاحظ نفس التطور عند اختيار الأشخاص سواء لشغل الوظائف أو لإقامة علاقات عمل. ولقد انقضى بالطبع عهد الامتيازات التي كان يتمتع بها النبلاء والتعيينات من باب المجاملة ولكن الأفضلية «الكلاسيكية» تظهر من جديد. فالشهادات الوفيرة تطرد الشهادات، وفي المجتمع القائم على شبكات الاتصال، تستبعد المنافسة ذوي المستويات الدنيا ولا تترك المجال إلا للمتفوقين. ولكن كيف تتم المفاضلة؟ المشكلة واحدة على أي حال سواء تعلق الأمر بالقرارات أو المنشآت أو الأفراد.
إن عصر المعلومات الذي يرهقنا بما يوفره لنا من معرفة يجعل الأمل في الاختيار على أساس تقني بحت مجرد وهم. ففي كل مناسبة تكون عدة اختيارات أو ترشيحات على نفس المستوى. والحل «الكلاسيكي» يكون في هذه الحالة أكثر الحلول تمشيًا مع المنطق؛ إذ يكون اختيار ما نعرفه، والاعتماد على الولاءات في هذا العالم ذي الطابع التجريدي، هو الوسيلة المتاحة للاطمئنان وملء الفراغ الناجم عن غياب الجانب السياسي. وعندما تؤمن نوعية المعلومات، تصبح نوعية الاتصال مسألة أساسية وتتخذ القرارات ويتم كذلك اختيار الأفراد على هذا الأساس. فعند المفاضلة. فعند المفاضلة بين منشأتَين معروفتَين أو شخصَين يحملان نفس المؤهل سيقع الاختيار على من كان «مألوفًا» لدينا أكثر من الآخر.
وفي وضع آخر مختلف، يتعلق بالموظف العام الحائز على المعرفة والموكلة إليه شئون المصلحة العامة، يكون الفصل واضحًا بين السلوك النزيه الذي يستلزم الانعزال وبين الفساد الذي يبدأ مع الاتصال. وفي العالم الذي ينبع فيه النفوذ من الكفاءة في إقامة العلاقات أكثر من المعرفة، وحيث يسعى الصالح العام والخاص إلى الارتباط معًا من أجل المزيد من الفاعلية، يصبح الفساد كلمة فظة، تسيء وصف الانزلاقات التي لا ترى بالعين المجردة، ويتم من خلالها الانتقال من الاتصال إلى التبعية، ومن المعلومات إلى النفوذ.
وفي المجتمع الذي يتصور أن بإمكانه جعل المنفعية مبدأ عمله وأساس العقد الاجتماعي، لا يكون الفساد مضرًّا إلا إذا لم يتم تعميمه لأنه سيعبر في هذه الحالة عن اللامساواة في الحصول على «خدمات» السلطات العامة. ولكن بما أن هذه السلطة العامة تكتفي بتقديم «خدمات»، فمن الطبيعي أن تكون الأخيرة مدفوعة الأجر في ظل اقتصاديات السوق. ومن المؤسف بالطبع أن يستحوذ بعض الموظفين على المكافأة التي كان يتعين توزيعها على الذين ساهموا في تقديم الخدمة. وهذا النقد موجَّه بدرجة أكبر إلى أسلوب التنظيم لا إلى المبدأ ذاته. فبما أن الإدارة أصبحت متنوعة ومتخصصة ولم تَعُد تبدو تعبيرًا عن إرادة جماعية متميزة عن المصالح الخاصة العديدة، بل عملية تقديم خدمات؛ فإن «إشراك» الموظفين في الفائدة المترتبة على ذلك يمكن تصويرها على أنها أحد أشكال تحديث المكافأة في الوظائف العامة، اللهم إلا إذا ثبت أن القرار الذي يقدم مكافأة لمن يحصل عليها أسوأ من القرار الذي لا يمنحها، مما يعني الإقرار بأن الطلب القادر على دفع الثمن أقل شرعية بالضرورة بالمقارنة مع الطلب الذي لا يؤدي مكافأة.
وعندما يكون النفوذ معتمدًا على العلاقة، يستطيع القانون بالطبع أن يفرض الحظر على مكافأة العلاقة. ولكن هذا الاستبعاد من السوق، أيًّا كانت مبرراته من أجل حسن سير عمل المؤسسات السياسية الذي يفترض الفصل القاطع بين المصالح العامة والمصالح الخاصة، يتعارض تمامًا مع روح النظام نفسه، حتى إن القانون لا يؤدي عمومًا في هذه الحالة إلا إلى تأخير لحظة «الرشوة»؛ فالموظف الذي توجد تحت تصرفه شبكة اتصالات جيدة، سيعرضها مقابل مكافأة سخية على الشركة الخاصة التي ستجنده في نهاية المطاف. فهل سيساوره الإحساس بأنه استسلم للفساد؟ ليس بالضرورة ما دام يسهم في جعل «المايونيز» الاجتماعي يتماسك، حسب التعبير الذي يستخدمه زملاؤه اليابانيون والذي يطلقون عليه تسمية الأماكوداري.
وينتقد اليابانيون اليوم بشدة ذلك التواطؤ المتمثل في دفع مكافآت بالتقسيط لكبار الموظفين تمهيدًا لانتقالهم للعمل في الشركة لقاء مرتب سخي، وتقديم الرشوة نقدًا، علمًا بأنها لا تموِّل فقط نفقات الحملات الانتخابية. غير أنه من المحتمل أن يكون لذلك التواطؤ مستقبَلًا خارج اليابان؛ فهو ينقذ ماء وجه الحكومة بمراعاة المظاهر، ويوفر عزاءً سائغًا لرجال السياسة الذين لا يودون أن يُحرموا من السلطة الحقيقية. ولو أخذنا كل شيء في الاعتبار هل تكون تلك التسويات أسوأ من الادعاء الوهمي بوجود رقابة سياسية على الحكومة، وهو وهم يثبط همة الموظفين دون أن تستقيم الديموقراطية حقًّا؟ إنه لبديل مؤسف حقًّا.
والواقع أن رفضنا الغريزي للفساد هو كل ما تبقى من عالم آخر في طريقه إلى الزوال؛ حيث كانت استقلالية المجال السياسي أمرًا مقررًا. ولكن هناك قدرًا من السذاجة عندما يُراد من رجال السياسة أن يحافظوا على ذواتهم بوصفهم الأمناء على عقيدة تبددت. فكيف يمكن أن يتواجد أكليروس إذا لم يكن هناك مؤمنون؟ ولذا لا يجب أن يثير دهشتنا فقدان الوظائف العامة العليا جاذبيتها، حتى في فرنسا؛ حيث ظلت فكرة «الخدمة العامة» صامدة لأمد طويل، مع التأكيد على المصالح العامة التي لا يمكن أن تنال منها المصالح الخاصة، وذلك بالمقارنة مع بلدان صناعية أخرى. فلن تتجاسر أي حكومة على أن تدفع لموظفها مرتبًا يمكن أن يقارن بما يعرض عليه لقاء وظيفة من نفس المستوى في القطاع الخاص. ويلقى هذا الموقف قبولًا لدى الرأي العام المقتنع بأن الخدمات المقدمة ليست متساوية القيمة. أما المكافأة المعنوية من خلال المكانة الاجتماعية؛ فقد تلاشت منذ أمد طويل. ولما كان الموظفون يدركون أن مستوى عمل الحكومة دون المتوسط؛ فقد فقدوا احترامهم لأنفسهم مع فقدانهم في الوقت نفسه احترامهم للجمهور. ولذا فإن استسلامهم للفساد قد يكون بالنسبة لمن تميزوا من بينهم بالوقاحة، طريقة مريحة لإقناع أنفسهم بأنه لا زالت لهم بعض القيمة …
ويقلل البعض من شأن ذلك الانقلاب الذي طرأ على القيم وبات ملحوظًا تمامًا، فيزعمون أن تدهور مكانة الوظيفة العامة، كما هو الحال في فرنسا، يعبر نقل تعديل يخص العلاقة بين المجالين العام والخاص. ﻓ «النموذج الفرنسي» المرائي للإدارة اللاسياسية التي تؤمن بدوام المصلحة العامة، يحل محله «النموذج الأمريكي» للإدارة السياسية بقدر أكبر، والتي يتغير مستواها الأعلى مع كل تغيير يطرأ على الأغلبية. وعما قليل ستظهر بدلًا من النخبة القومية التي تبدأ عملها في الإدارة الحكومية وتنهيه في القطاع الخاص، الصيغة العكسية التي ينقل فيها قادة القطاع الخاص خبرتهم في مجال الأعمال إلى إدارة المصلحة العامة بعد جني الثروة. وهذا التفسير المسكِّن يزدري تطور المستويات الدنيا في الحكومة وكذلك عمليات إصدار القرارات. فقد تعلمت المنشآت الخاصة أنه لا يمكن تعبئة جهود مجموعة من الأفراد بأن يعينوا على رأسهم قادة لم يشاركوهم في حياتهم. وهي تعلم أن القرارات الجيدة هي قرارات تشارك فيها عدة أطراف، ويتم اتخاذها خلال عملية طويلة لا تمُت بصلة إلى النموذج الأمريكي.
والواقع أن الساسة الذين يتصورن أنه بإمكانهم الحلول محل موظفي الأمس، يتسلمون قيادة إدارة وهنت عزيمتها، فضلًا عن أن تلك القيادة نفسها وهمية. وهم يتمسكون في ذلك ﺑ «النموذج الأمريكي» ويتولون إدارة إدراكات ورموز — هي المجال الوحيد الذي يتضمن هامشًا في المناورة — أكثر من اتخاذهم قرارات بالمعنى التقليدي لتلك الكلمة. فاللجوء إلى هذا النجم أو ذاك في عالم الأعمال ليتولى منصبًا وزاريًّا كثيرًا ما تكون نتيجته ألا تنتقل فعالية المنشأة الخاصة المفترضة إلى المصالح العامة، بقدر ما تضفي على الدولة — في نظر الخارج لا في نظر العاملين لديها — هيبة لم تَعُد تتوفر لها وسائل تحقيقها بذاتها.
وعندما يسهم أصحاب المنشآت في السلطة العامة التي فقدت احترامها لنفسها؛ فإنهم لا يُحولون الدولة إلى منشأة ولكنهم يؤكدون أن احترام الدولة نابع من كونها تشبه المنشأة. فكيف يمكن أن يكون الوضع كذلك بينما تتعارض إمكانية إجراء تلك التعيينات والفصل الذي تحدثه بين المستوى المفروض فيه اتخاذ القرارات والمستوى المطلوب منه القيام بالتنفيذ، تتعارض تمامًا مع مبادئ تشغيل المنشأة الحديثة؟
لقد كان الاعتماد على المؤسسات التي تفصل بين أقطاب السلطة نابعًا من مفهوم سياسي بحت يتفق مع عصر يعتبر أن المصلحة العامة تتعارض مع المصلحة الخاصة، ولكن الفاعلية تتطلب اليوم عكس ذلك تمامًا، أي مجتمع متكامل حيث تتيح كثافة العلاقات تدفق المعلومات إلى أقصى حد. وعندئذٍ يصبح الفساد عبارة عتيقة يشير بها بمرارة الذين يحنون إلى زمن انقضى، إلى ارتفاع شأن النفوذ المبنى على العلاقات.
لقد تم تكريس الصفقة بوصفها الحقيقة الوحيدة في عصرنا، وكل طلب قادر على الوفاء بالتزاماته طلب مشروع. فكيف لا يتحول إذَن العجل الذهبي عندنا إلى المعبود الأسمى؟ لقد فقدت الدول القومية الضيقة الأفق والقليلة الحيلة، فقدت سطوتها التي اكتسبتها من قبل بوصفها الأمين على المصلحة العامة، كما تجاوزها تسلط دوائر المال، ونافستها ثروات عناصر جديدة، وتلاعبت بها مصالح كثيرًا ما كانت أقوى منها، فباتت تحوم حولها الشبهات أكثر فأكثر بأن إدانتها للفساد ما هو إلا وسيلة للحفاظ على ما تبقى لها من سلطة.
وعليه فإن انتشار «الفضائح» المالية في الديموقراطيات الكبرى ليس حالة شاذة، بل النتيجة المنطقية لانتصار الشمولية الوحيدة الباقية لدينا، ألا وهي شمولية المال، بوصفها معيار نجاح الفرد، وأيضًا نجاح الشركات، والمقياس المشترك الذي يتيح لنا إمكانية إقامة اتصال مباشر مع «نظرائنا» الذين يتقاسمون معنا تبجيل العجل الذهبي، المعبود الذي غدا محطَّ إعجاب الجميع إن لم يكن سبب احتوائهم له.