العنف الإمبراطوري
يجب أن تتجه أنظارنا إلى صميم عالم شبكات الاتصال في مناطق كوكبنا الأكثر ازدهارًا. وإذا كان اليابان يستطيع أن يظل «غريبًا» إلى هذا الحد؛ فالأمر يستدعي أخذه في الاعتبار في التجانس العام. وهل ستحُول هذه «الديانات» التي ورثناها دون أن نتلاقى في «كاثوليكية» جديدة تشمل في تماثل واحد المجالات التي تخلت عنها السياسة؟
من السابق لأوانه أن نقرر أن فارقًا أساسيًّا لا يمكن التصدي له سيفرض نفسه على الأقطاب الثلاثة، خاصة بين آسيا والقطبين الآخرين (أمريكا وأوروبا) ويستطيع أن يقاوم نشر القوة. وهل سنصبح بدورنا «آسيويين» كما يدفعنا إلى ذلك منطق العالم الإمبراطوري؟ أم هل سنميل إلى المقاومة؟ وهذا النموذج الأوروبي الذي فرضنا فكره المثالي على العالم بأسره تحت مسماه الثنائي: الدولة القومية والديموقراطية، هل سيزول دون أن يتعرض لهزات عنيفة؟ وهل سنتقبل أسلوب تنظيم غير سياسي متوافق تمامًا مع مقتضيات هذا العالم الجديد والغريب جدًّا بالنسبة لما ترسب في ذاكرتنا حول ما كنا من قبل؟ إن ثقافتنا تتعارض مع مثل هذا التجانس، ولذا فمن المحتمل جدًّا ألا تكون للظاهرة العالمية المتمثلة في انتشار السلطة نفس الآثار في أوروبا وآسيا وأمريكا. وقد تقوم عدة إمبراطوريات بدلًا من إمبراطورية واحدة، وستكون تخوم تلك الإمبراطوريات بالضرورة غير محددة بدقة في عالم انتشار شبكات الاتصال وانتشار السلطة؛ لأن الانتماء السياسي لن يكون سوى سمة ثانوية، ويكفي أن نتصور مثلًا الأقاليم الروسية في الشرق الأقصى القريبة للغاية من اليابان والصين وما قد يسبب ذلك من خصومات حول النفوذ.
ولو كان الحال على هذا المنوال؛ فإن عمليات درء النزاعات قد تؤدي، على العكس، إلى جعل حلها مستحيلًا؛ فكل مجال خاضع لديناميكيته الذاتية و«لديانته» سينطلق في حركة يصعب إيقافها خاصة وأنه لن يكون هناك «مركز» يؤثر عليه. وتلك كانت تجربة اليابان في الحقبة الواقعة بين الحربَين العالميتَين. فقد اندفعت في حركتها، لا بإرادة فرد مثل ألمانيا الهتلرية، ولكن نتيجة عجز مجتمع محروم من مركز عن مقاومة الاندفاعة التي تزود بها. لقد غدت الآن هذه التجربة الخاصة باليابان المصير المشترك لكافة مجتمعات العصر الإمبراطوري التي تدفعها أشكال من المنطق لا تسيطر عليها.
وهكذا يتبين لنا الطريق المسدود الذي يمكن أن يفضي بنا إليه هذا التجانس الذي يشهده العالم ولم يكتمل بعد. إنهم أقطاب ثلاثة أصبح التحكم فيهم والتنسيق بينهم مستحيلًا. وأداء الدول الصناعية السبع الكبرى منذ بضع سنوات يدل بوضوح، في المجال الاقتصادي، على ضروب التجمد التي يمكن أن يُدفع إليها عالم موحد ومحروم في الوقت نفسه من مركز. فهل يمكن أن تؤدي تلك المواجهة في يومٍ ما إلى عنف منظم ومرتب وفقًا لنموذج حرب العصر القومي ولكن بوسائل العصر النووي؟
يظل ذلك غير محتمل، لحسن الحظ، بالنظر إلى أن المواجهة النووية خلال السنوات الأربعين الأخيرة كانت الخاتمة المجردة لعنف العصر القومي: لقد تجلت للعيان الدورة الكاملة للعنف وفقًا لمنطق تركيز القوة في عصر الأمم، ابتداءً من تعبئة جيوش الثورة الفرنسية حتى جعل شعوب بأسرها رهينة يهددها السلاح النووي، مرورًا بالجملة في حربَين عالميتَين.
لقد ابتكر العصر القومي فكرة الحرب الشاملة عندما جعل الحرب التعبير النهائي عن إرادة الشعوب، لا مجرد نزعات عند الأمراء. فقد تعيَّن على الأمم منذ ذلك الوقت أن تصل إلى منتهى منطق القوة بالتمادي فيه إلى أقصى حدوده، حتى إن فكرة الحرب المحدودة بدت أمرًا شاذًّا. وهكذا قُتلت أعداد غفيرة بكل جسارة باسم الأمة أكثر مما قُتل الأفراد باسم الملك. وكانت إرادة الحياة الجماعية ونقيضتها المباشرة إرادة القتل إحساسًا أقوى من الشعور بالواجب والشرف عند جنود النظام القديم. ونجحت القومية في أن تجنِّد لصالحها كل الطاقات الكامنة والمبعثرة في حدود أراضيها، عن طريق البناء الهرمي للسلطة. وخلقت القوات الهائلة التي استُدعيت لتتصدى لبعضها في الحربَين العالميتَين ما يشبه الباعث الجماعي المعبِّر عن الأمة، في خضم المعارك الدامية. ولما كان الوضع يتطلب ألا يقتصر الأمر على إنزال الهزيمة الماحقة بالجيوش، بل ويقتضي القضاء على أسس قوة الأمة الأخرى، فقد فقدَ معناه شيئًا فشيئًا التمييز بين مقدمة الجيش ومؤخرته، وبين العسكريين والمدنيين. وقد انتهى هذا التطور الذي بدأ قبل الحرب الأخيرة بمائة وخمسين سنة، في معركة فالمي بين قوات الثورة الفرنسية والبروسيين، انتهى بعمليات القصف المرعبة وتعبئة شعوب بأسرها عن طريق الدعاية لكي تظل متمسكة ﺑ «روحها الدفاعية». وهكذا لم يَعُد السيف امتيازًا خاصًّا واكتسب الموت طابعه الديموقراطي.
وقد تمثلت نهاية هذا التطور في الردع النووي؛ حيث امتدت آثار القوة مع تركز السلطة. فمن جهة لم يَعُد هناك محل للمصائر الفردية وحل التهديد بالقتل بالجملة محل تعبئة القوات بالجملة. ومن جهة أخرى تملى الضرورة السياسية والتقنية أن يتركز الردع النووي في يدي شخص واحد يمتلك سلطة تعريض حياة البشر بأسرهم لخطر. إنها خاتمة غربية للعنف في عصر المؤسسات. فالمنطق الذي يجعل من المواجهة بين الإرادات الفردية أساس التنظيم الديموقراطي يدفع الأمم نحو تصعيد الأمور إلى حد تحطيم أسس العقد الاجتماعي. فتفويض رئيس الدولة وحده للاضطلاع بمسئولية تحمل أقصى الأخطار التي تتهدد الأمة في مجموعها لا يسمح لنا بأن نتشبه بالمتطوعين المسلحين في فالمي، والمساواة بيننا في مواجهة الردع تجعلنا أقرب إلى العبيد لا المواطنين. فالعلاقة التي تقوم بين الكتل التي تلتزم بخوض المعركة والرجل المنعزل الذي يتحمل مسئولية اتخاذ القرار تتناقض تمامًا مع مفهوم الديموقراطية.
وهل نظل مواطنين عندما تتطلب مصداقية الردع أن نتحول إلى رهائن؛ بل وأن نأخذ رهائن؛ فنتخلى بذلك عن شمولية القيم التي كانت أساس الحوار الديموقراطي ولا السكان المدنيين عند العدو مواطني أمة أخرى بل مجرد مكونات مجردة لا تنفصل الأمة التي يجب أن نهدد بتدميرها؟ وهكذا أصبحنا نحن العبيد الخاضعين لقرارات رئيس فوضناه أمر حياتنا وبِتنا مضطرين إلى التخلي عن المبادئ التي قام على أساسها تمسكنا بالديموقراطية لضمان أمننا. فلا عجب إذَن في أن تنتج الديموقراطيات النووية في عصر المؤسسات الآفل، مواطنين خابت آمالهم وخارت عزائمهم. فالردع النووي الذي ينهي عصر المؤسسات عن طريق فرض تركيز السلطة إلى أقصى حد هو إذَن بداية العصر الإمبراطوري الذي ينظم عملية تدمير الكيان السياسي. ويتم تمجيد الأمة على حساب مواطني النظام القائم على المؤسسات.
غير أن التفاوت المتزايد بين تركيز القرار النووي وعملية نشر السلطة التي يتميز بها العصر الإمبراطوري تهدد أسس الردع ذاتها. ونلاحظ ذلك بوضوح في حالتَين تتعارضان في الظاهر؛ ففي الاتحاد السوفييتي السابق يزيد السلاح النووي من مخاطر الانفجار، وفي الجماعة الأوروبية يسهم امتلاك انجلترا وفرنسا للقنبلة الذرية في أمن أوروبا ولكنه يثير تعقيدات، بخصوص قيام كيان دفاعي أوروبي يمارس سلطات حقيقية. لقد صُمم الردع النووي من أجل عالم مكون من دول قومية ذات تخوم واختصاصات محددة بكل وضوح، والطابع المطلق للتهديد والمخاطر التي تتمثل في الردع النووي لا يتلاءم على نحو جيد مع السيادات النسبية والمشتركة في العصر الإمبراطوري الذي يخلط الحدود.
وهكذا، وعلى غرار الشجرة التي يتم نقلها إلى مناخ آخر فتفقد أوراقها، قد يتعرض الردع النووي لأن يبدو ذات يوم كفكرة مجردة منفصلة عن الظروف السياسية التي أشرفت على مولدها. لقد كانت القصور الحصينة صروحًا ضخمة تشهد على عالم زال، وظلت صامدة إلى حين أمام المدفعية التي كانت تثقب جدرانها، ولكنها لم تتمكن من مقاومة تعزيز السلطة الملكية التي قضَت على النظام الإقطاعي. وربما حدث نفس الشيء بالنسبة للردع النووي. فسيتعلل قادة الدول النووية لفترة من الزمن بجسامة المسئولية الواقعة على عاتقهم للاحتفاظ بسلطة استثنائية، ولكن ستأتي لحظة سيبدو فيها هذا التركيز للسلطة المتعارض تمامًا مع منطق نشر القوة، أمرًا لا يطاق وخطيرًا. وبدلًا من أن يكون وضع القادة نابعًا من امتلاك السلاح النووي؛ فإن إرادة جعل ذلك الوضع متمشيًا مع مقتضيات العصر الإمبراطوري ستنال من مسألة ملكية هذا السلاح أو على الأقل من جدوى مبدأ الردع ذاته. وربما دفع خطر انتشار السلاح النووي إلى «استئناسه» واستخدامه بدلًا من التلويح باللجوء إليه. وفي نفس الوقت يفرض نفسه مبدأ اتخاذ القرار بشكل جماعي. فهل سيصمد الردع النووي أمام تلك التطورات؟ إن أزمة الردع لا تنبئ بالضرورة بالعودة إلى الأشكال «الكلاسيكية» للحرب.
ويتعين أن يُلاحظ من يؤسفهم أن يسفر زوال الدول القومية عن موت الديموقراطية أن هذا العصر يتضمن تركيزًا رهيبًا للعنف. ولا شك في أن الحقبة التي نقف على أعتابها لن تشهد بالتأكيد نفس العنف المركز الذي تميزت به الحربان العالميتان الأخيرتان. فلا توجد اليوم أمة قادرة على أن تعبئ قوى ضخمة بهذا القدر حول فكرة. فقد هيأ الخلط بين السلطة المطلقة للدولة القومية وبين «العقيدة» القومية أو الاشتراكية الوطنية أو الشيوعية، الإمكانية لوقوع المذابح الكبرى التي شهدها القرن العشرون. ولكى يظهر من جديد داخل الثالوث العنيف المخطط المنتمي إلى عصر الدول القومية؛ فإن الأمر لا يتطلب فقط أن تتأسس عدة إمبراطوريات بل وأن تكون «عقائد» الغد قادرة على أن تحدد في كل إمبراطورية اتجاهًا استراتيجيًّا واحدًا، في عالم يفتته تعقُّد الشبكات، وتلك مهمة صعبة للغاية، لحسن الحظ.
ومع ذلك لا يعني تطبيق نظم العصر الإمبراطوري على مجال العنف والحرب أن هذا العصر سيكون عصر الهدوء والسلام. فقد رأينا آنفًا أن منطق شبكات الاتصال كشف عن استعداد أكبر لتجنب النزاعات بدلًا من علاجها. وهناك حدود لأسلوب إذابة الاختلافات الصغيرة والعديدة في حامض الامتثالية، ونرى اليوم كافة أنواع التوترات تواصل إحداث اختلالات واضطرابات ونزاعات لا على أطراف عالم العلاقات وحدها بل وفي صميمه.
ولكن ما هو الشكل الذي سيتخذه العنف الذي لن يتمكن العالم الإمبراطوري من حماية نفسه منه؟ هل هو من رواسب منطق مؤسساتي في طريقه إلى الزوال أم هو جزء من خصائص العصر الجديد التي لا غنى عنها مثل الفساد والامتثالية والمشاعر الدينية؟
هناك احتمالات كبيرة بأن ينتشر العنف في عهد شبكات الاتصال وعهد الإمبراطورية، على نطاق أوسع ولكن بشدة أقل. وستتلاشى فروق تقليدية كانت تُعتبر من قبل أساسية. ولن يكون هناك تعارض بين الأمن الداخلي والأمن الخارجي، وسيكون الفارق بين الدول التي «تحتكر العنف الشرعي» على حد تعبير ماكس فيبر، وبقية الدول مسألة غير مؤكدة. فمن جهة ستصبح ممارسة العنف من جانب دولة تحاصرها شبكات العالم الإمبراطوري عملًا غير مشروع بل ومستحيلًا، بينما ستنظم بنيات أخرى صفوفها مثل قوات الشرطة المكلفة بفرض المعايير أكثر من كونها تعبيرًا عن السيادة. ومن جهة أخرى فإن تأثر المجتمعات «العلاقاتية» بأي اضطرابات خارجية سيتواكب مع تطوير الأسلحة التي سيصبح مفعولها أقوى واستخدامها أسهل في نفس الوقت للتشويش على التمييز بين أعمال العنف العامة والخاصة.
وقد تبين لنا آنفًا كيف يمكن أن يتواكب حلول الضعف في المجال الاقتصادي ببعض الدول مع تعاظم شأن أفراد فيها مثل مهربي المخدرات؛ وذلك للتشويش على التعارض بين مجال الدول ومجال المصالح المسماة «خاصة». وينطبق نفس الأمر على العنف الذي «سيتخصخص» هو أيضًا. وسنرى، كما هو الآن في يوغسلافيا السابقة جيوشًا خاصة. وستتخلص الدول من مسئولياتها تارة من باب الحذق التكتيكي وطورًا لعجزها عن ممارسة تلك المسئوليات. وسيتم التواصل بين الجريمة والحرب، اللتين كانتا منفصلتَين في الماضي، وذلك لاستحالة إلصاق تهمة القيام بعمل إرهابي بدولةٍ ما بما لا يدع مجالًا للشك، واللجوء إلى الإجرام السياسي وتسييس الجريمة. وأخيرًا فإن توحيد الوصاية سيدفع بلا شك البلدان الأغنى إلى محاولة تقديم المعونات إلى البلدان الأفقر. ولكن هذه المساعدات التي ستصب في مجتمعات زال منها النظام السياسي ستكون نتيجتها الأولى نقل العنف إلى مستوى أعلى؛ فحيثما يتواجد صراع الجميع ضد الجميع، تتيح الثروة الفرصة للذئاب أولًا لتكون أشرس. وهكذا سيتحقق الموت تحت وابل من رصاص البندقية الآلية بدلًا من الموت نتيجة لسوء التغذية.
كانت التشنجات الحربية المريعة في القرن العشرين تفترض تواجد أمم داخل نطاقات محدودة بقدر كافٍ حتى تكون الحرب انفصامًا تاريخيًّا واضحًا. ومن المفترض أن يؤدي توزيع القوة إلى جعل تلك الانتفاضات أصعب. ومما يدعو للاطمئنان إلى حدٍّ ما أنه لن يأتي بلا شك يوم الأول من أغسطس ١٩١٤م (بداية الحرب العالمية الأولى) والأول من سبتمبر ۱۹۳۹م (بداية الحرب العالمية الثانية). ولن تأتي الحرب العالمية في أعقاب السلام، ولكن لن يكون هناك سلام أبدًا.
فالعصر الإمبراطوري هو عصر العنف الشائع والمتواصل. ولن تكون هناك أراضٍ أو حدود يتعين الذود عنها. وتوفير ذلك الأمن المجرد أصعب بمراحل من أمن عالم كانت الجغرافيا هي التي تحدد فيه التاريخ. فلا الأنهار ولا المحيطات تحمى آليات العصر الإمبراطوري نفسه.
فثروتنا أصبحت في الواقع أقل ارتباطًا بالتدريج بملكية الأراضي، ولذا لا يوجد أمام الغازي ما يمكنه أن يجتاحه. ولكن لا يمكن إقامة أي فاصل دقيق بين الدوائر التي يسيطر عليها منطق الشبكات، وتلك التي لاي زال فيها هذا المنطق ثانويًّا، حتى إنه سيصبح من الصعب تدريجيًّا تجاهل ما يحدث عند أطرافنا. ومع ذلك سندعي التوهم بمحاصرة العنف في أحياء مغلقة خارجية وخلق «مناطق حجر صحي»، ولكن تعميم المبادلات وانتقالات السكان وعدوى التلوث واحتمالات نشر أسلحة الدمار الشامل، كل ذلك سيلحق الهزيمة بمحاولة الانعزال التي تتناقض على أي حال بكل عمق مع منطق العالم الإمبراطوري الذي لا تحدده تخوم أو هوية موحدة. ولذا فإن حروب المستقبل ستكون حروبًا بلا جبهات.
وعليه فإن الإمبراطورية لن تكون إذَن جزيرة صغيرة يحاصرها «برابرة جدد». فالوحدة السياسية لا تتوفر لدى البرابرة المزعومين أكثر مما تتوفر لدى الإمبراطورية. فهؤلاء موجودون داخل الإمبراطورية التي تفرز برابرتها الخاصين بها. والتحسينات المتزايدة التي تطرأ باستمرار على شبكات الاتصال تضاعف في آن واحد من حالات التهميش ونقاط للضعف، ومن أسباب الطرد والتجميد. ومن المأمول بالطبع ألا يكون أي عطل أو تخريب حاسمًا في ظل نظام لم يَعُد يحكمه التدرج الهرمي أو المركزية. فالدوائر والشبكات تتكون من جديد حول المنطقة المصابة بطريقة شبه بيولوجية، كما تلتئم الجروح. ومع أن بنيات الشبكات تُضاعف من إمكانات الاشتقاق إلا أنها تضاعف أيضًا من مواقع الهجوم المحتملة. ويقلل الحرص الدائم على الحدِّ من احتمالات حدوث ما هو غير متوقع أو غير مؤكد، من التسامح إزاء الأعطال والأخطاء. ولا توجد أخطاء لا يمكن إصلاحها، ولكن لكل خطأ عواقب. وفي هذا العالم الذي يفتقد التناسب العلة وأثرها، يتعين مضاعفة شروط الأمان. فلا مجال للتسامح عندما تسقط طائرة ركاب بسبب خطأٍ ما في بنائها. وسيكون ذلك غير مقبول بدرجة أكبر لو أن بضعة كيلوجرامات من البلوتونيوم المسروق من محطة نووية تم تداولها عن طريق عصابة إرهابية. ولذا فإن أساليب «فحص النوعية» في الصناعة الحديثة ستمتد شيئًا فشيئًا لتشمل المجتمع الإمبراطوري في مجموعه. وستتضاعف عمليات الرقابة هذه مع تزايد حالات استخدام العنف أو التخريب. ولكن رجال الإمبراطورية الذين يخوضون حربًا بلا جبهات لن يكونوا جنود الملك أو مواطنين يرفعون السلاح دفاعًا عن الجمهورية، بل سيصبحون رجال شرطة يقظين، متأهبين دائمًا لمطاردة كل ما هو مختلف أو مجهول أو غامض.