السينما العربية الناطقة باللغة الفرنسية
شكَّلت اللغة التي يقدم بها الفنان العربي أعمالَه في المهجر عقبة في التواصل مع المجتمع الذي ينتمي إليه، أو ذلك الوافد تجاهه … فالفنان العربي الذي هاجر إلى أوروبا في ربع القرن الأخير يمكنه أن يتقن لغة واحدة للتعبير، إما لغة البلد الذي هاجر إليه، أو يظل يحتفظ بلغته العربية في أسبقيته عند التعبير.
وقد ظلَّت مشكلة اللغة تطارد الفنان العربي، خاصة القادم من شمال أفريقيا إلى فرنسا، فظلَّ الفنان يقاوم رغبته في أن يقدِّم إبداعه الفني بلغة أجنبية لأن فنَّه موجَّهٌ في المقام الأول من نبع تجربته العربية سواء أكان جمهور هذا الفنان هو العربي أم أي شخص آخر في العالم. لكن هذه المقاومة بدأت تقلُّ بصورة ملحوظة خاصة مع نظام المنح الذي تقدمه وزارة الثقافة الفرنسية للمخرجين السينمائيين الذين يعملون في أفلام تتفق مع الثقافة الفرنسية.
وهنا بدأت المقاومة تجاه استخدام اللغة الفرنسية في التعبير الفني تقلُّ؛ فظهرت في السنوات الأخيرة مجموعة أفلام ناطقة بالفرنسية تتناول أحوال المهاجرين العرب إلى فرنسا وأوروبا من ناحية أو التجرُّد من هذه التيمة التي أصبحت مستهلَكة، والتوغُّل في الحديث عن مشكلات الإنسان الأوروبي المعاصرة.
تطرح الباحثة آني كريجيه كرينكي تساؤلًا في كتابها «المسلمون في فرنسا» المنشور في عام ١٩٨٥م: «هل يمكن لثقافة مهاجرة حقيقية أن تتولَّد فعلًا؟ لقد بدأ المهاجرون في صناعة سينما خاصة بهم تسمَّى بسينما المهاجرين، وبدأ يظهر مسرحٌ جديد به الكثير من أصالة البلاد التي جاءوا منها لكنه يختلف، وحدث نفس الأمر للفن التشكيلي …»
أما المخرجة والروائية آسيا جبار فتقول حسبما نشرت مجلة جون أفريك: «الأهم هو تعريب العقل، وتعريب النفس، وبعد ذلك يأتي تعريب الأعمال الأوروبية …»
وترى آسيا جبار أن السينما هي البديل الرائع للكتابة؛ لأن الشخصية تظهر بمختلف أبعادها، تمامًا كما هو الفرق بين الرسم والنحت.
ويمكن حصر الزوايا التي ارتبطت بها السينما العربية الناطقة باللغة الفرنسية في ثلاثة محاور أساسية هي:
-
المحور الأول: سينما الأقدام السوداء. وهي تعني مجموعة الأفلام
التي أخرجتها مجموعة من المخرجين الفرنسيين الذين عاشوا في الجزائر
والمغرب العربي إبان الاستعمار الفرنسي. وقد عاش هؤلاء الفرنسيون في
الجزائر على أنها موطنهم الأول الذي تربَّوا فيه، ولم يعرفوا وطنًا آخر
بديلًا له. وكانت صدمتهم شديدة حين اضطروا للرحيل عن المغرب العربي إلى
فرنسا فتمزَّقوا بين انتماءين: انتماء إلى الجزائر التي تربَّوا فيها،
وانتماء آخر إلى فرنسا التي يحملون جنسيتها. وأغلب أعمال مخرجي الأقدام
السوداء تدور ضمن هذا المحتوى. وكما قال أحدهم: «لم تكن بلادنا هي
وطننا. كنا نتكلم لغة جاءت من مكانٍ بعيد، من ناحيةٍ أخرى هناك الكثير
منَّا لم يذهب إلى فرنسا. هذا الوطن، وهذه اللغة بمثابة أسطورة، فكلٌّ
منَّا ينطقها على طريقته، حتى اقتربنا من الأصل اللاتيني الذي وضعت في
البداية منه الجملة التي قد تكون أكثر أهمية.»
ويقول نفس الكاتب: «لم يكن وطننا أبدًا بلدًا لنا، ولم تكن جغرافية فرنسا هي تاريخنا أو جغرافيتنا. وكان أقراننا يتمتَّعون بعيون زرقاء وشعر أشقر، مما جعلنا أقل عبثيةً بالنسبة للأطفال هناك. كانت مدننا تنتمي إلينا. وكان وجودنا هناك مؤقَّتًا، لذا فقد كتب أصحاب الأقدام السوداء تاريخهم وجغرافيتهم من أجل تصوير الواقع. وقد ضاع كل هذا الآن، لم تكن ﻟ ١٣٢ عامًا حيةً هنا، إلا أنها تمثل تاريخ البشرية.»
وقد أُطلق تعبير الأقدام السوداء Pieds Noire على هؤلاء الذين عاشوا في الجزائر، وقد ظهر هذا التعبير، كما يقول فردريك موسور، عام ١٩٥٦م في مجلة الإكسبريس في الزمن الذي كانت فيه الجزائر جزءًا من فرنسا، وذلك على غرار زنوج أمريكا، أو ما يسمَّى بفرنسيي الجزائر، وأعتقد أن بعضهم قد تجاوز هذا الإحساس، وقد جاء التعبير من الميثولوجيا اليونانية عندما وطأ هيراقليس بقدميه أرض آسيا فاستعمرها لأن سكانها رأوا قدميه كبيرتين.وأشهر مخرجي الأقدام السوداء هم ألكسندر أركادي وروجيه حنان وروبير حسين ودنيز عمار. ويُعتبر أركادي أكثر هؤلاء تأثرًا بحياته في الجزائر، أخرج للسينما أربعة أفلام حول هذه الظاهرة هي: «ضربة حظ» ١٩٧٩م، «العفو الكبير» ١٩٨١م، «المهرجان العظيم» ١٩٨٣م، و«آخر ليلة في طنجة». وأركادي — كما جاء في مجلة «ستوريا»، أغسطس ١٩٨٧م — مثل العديد من أبناء هذه الثقافة يحمل تمزُّقه في داخله منذ ربع قرن. فهو لا ينسى قطُّ بلد طفولته: «فنحن لا نتخلص بسهولة من الجذور؛ لأنها أشدُّ قوةً من أن نجتثها.» ومع هذا فهو لا يحمل في داخله أي شعور بالمرارة، وهو قادر من خلال السينما أن يصوِّر كلَّ أشباح الماضي، ومن خلال الكاميرا يمكنه أن يكون شاهدًا على هذه اللحظات التاريخية. ويتحدث عن فيلمه الأول أنه أحس بالحاجة لإخراجه، والرغبة في ترجمة مشاعره إلى صور، وقد أصبحت الصور رمزًا للجنون والفن والمعرفة. ولكل ما عرفه أصحاب الأقدام السوداء، فلكل أسرة من الأقدام السوداء عشرات الحكايات التي ترغب في أن تقوم بسردها.
ويقول أركادي إنه يعود دائمًا إلى الجزائر من أجل أسبابٍ مهنية، ويرى أنه «يوجد اختلافٌ كبيرٌ بين جزائر طفولته والجزائر المعاصرة. ففي كلِّ مرة يجد نفس الديكور واللون الأبيض الذي تُطلى به البيوت، والبحر الذي لا يزال يحتفظ بزرقته»، بل إنه يرى نفس مقابر الفرنسيين: «لم تتغيَّر طوال عشرين عامًا، لم تود أمي التي ولدت في الجزائر أن تسمع شيئًا حول العودة للماضي، وقد ألححت عليها منذ عامين، وقررت الحضور إلى الجزائر، ولم تندم على هذا؛ فقد كانت زيارتها رائعة، حيث التقت ببعض صديقاتها، وعادت إلى سنوات طفولتها وشبابها.»
لقد ظل كل شيء في ذاكرتها عن الجزائر محفورًا دون أي ندم، وإذا داعبت حنين الماضي فسوف تتعلم أن تعود لتعيش في الجزائر.
-
المحور الثاني: وهو محور العرب الذين هاجروا إلى فرنسا في أوائل
الستينيات عقب تحرير الجزائر — مثلما تقول آني كريجيه كرينكي — والذين
ارتبطوا بثقافتَين: ثقافة البلاد التي جاءوا منها، وثقافة البلاد التي
هاجروا إليها. ولغة التعبير الأولى عند هؤلاء هي الفرنسية، أما اللغة
العربية فتجيء في الدرجة الثانية خاصة عند التعبير في الفنون كالرواية
والشعر والسينما. وفي حالات الأدب كثيرًا ما يصعب على هؤلاء الكتابة
باللغة العربية بنفس الطلاقة التي تحدث باللغة الفرنسية، مثل حالة
المخرجة والكاتبة المغربية آسيا جبار.
وقد بدأت هذه الظاهرة في جذب الأنظار عندما قام شاب جزائري يُدعى عبد الكريم بهلول بإخراج فيلمه الأول «شاي بالنعناع» عام ١٩٨٣م، وفي نفس العام قام شاب من العمال العرب المهاجرين إلى فرنسا بنشر روايته الأولى تحت عنوان: «الشاي في مخدع آرشي أحمد» في دار نشر ميركور، ولكن الرواية ذابت مثل العشرات من الروايات في أروقة المكتبات الفرنسية إلى أن عرضها مؤلفها مهدي شرف على المنتجة ميشيل راي زوجة المخرج كوستا جافراس التي تحمَّست لإنتاجها — من الجدير بالذكر أن عشرات الروايات العربية المكتوبة بالفرنسية لم تجد طريقها بعد إلى الشاشة العربية سواء الناطقة بالفرنسية أم العربية — وهنا بدأت مرحلة انتقال السينما العربية إلى اللغة الفرنسية، والتمويل في أغلب هذه الأحوال يتم من قِبَل الحكومة الفرنسية. فمثل هذا العمل لم يكن له أن يُنتَج في العالم العربي بدليل أن أحدًا لم يتحمَّس لإنتاج الروايات الأخرى المكتوبة بالفرنسية لأدباء آخرين.
ورغم أن أسماء عديدة انضمَّت أخيرًا إلى قائمة المخرجين العرب المهاجرين إلى فرنسا والذين يعملون بتمويلٍ فرنسي، ولا يعبِّرون قطُّ باللغة العربية، إلا أن مهدي شرف هو أهم هذه الأسماء، فهو منذ أن أخرج فيلمه «الشاي في مخدع أرشميدس» ١٩٨٥م، يقدم فيلمًا جديدًا كل عام، وهو يحظى في السينما العربية الناطقة بالفرنسية بنفس المكانة التي يحظى بها الطاهر بن جلون في الأدب العربي المكتوب بالفرنسية، أمَّا أهم الأسماء الأخرى فهناك رشيد بوشارب صاحب فيلمَي «باتون روج» ١٩٨٧م، و«شاب» ١٩٩٢م.
ولأن رواية مهدي شرف عربية مغتربة داخل اللغة الفرنسية، فلا يمكن إلا أن نعتبرها رواية عربية. وفي طاقم العاملين لفيلمه الأول المأخوذ عن هذه الرواية التي تغيَّر اسمها قليلًا، وهناك العشرات من الأسماء الفرنسية … إلا أن مهدي استعان أيضًا بالكثير من العرب المقيمين في فرنسا، وهكذا حمل الفيلم الهوية العربية رغم أنه تمويل فرنسي.
ومهدي شرف مولود في مدينة ماغينيا الجزائرية في ٢٤ أكتوبر ١٩٥٢م، رحل إلى فرنسا عام ١٩٧٠م، وعمل في العديد من المصانع الباريسية. وحتى عام ١٩٨٣م حيث نشر روايته التي استقاها من تجربته الخاصة حول العرب المهاجرين إلى فرنسا. وهذا الموضوع هو شاغل مهدي شرف في العديد من الروايات والأفلام التي يكتبها، مثلما حدث في السيناريو الذي كتبه للمخرج السويسري آلان تانر، تحت اسم «الأرض الحرام» عام ١٩٨٥م، حول بعض الشباب الذين يهرِّبون المخدرات عند الحدود السويسرية، ومن بينهم فتاة عربية لا ترضى أبدًا لحبيبها الأوروبي أن يفضَّ بكارتها إلا بعد الزواج، ثم أخرج مهدي أفلامًا أخرى هي «الآنسة منى» عام ١٩٨٦م، و«كاموميل» ١٩٨٨م.
تقول ميشيل راي: «لن ننسى أن كوستا جافراس مهاجر، وقد قرر أن يجمع كلَّ المعلومات التي تتعلَّق بالجيل الثاني من المهاجرين، عن الأطفال الذين وصلوا إلى فرنسا في نهاية الستينيات وما بعدها. وكانت المصادفة أن وقعت عيناي على مقالٍ حول كتاب مهدي شرف، وقرَّرتُ أن أنتج هذه الرواية، رغم أن الأمر بدا أشبه بنزوة.»
والجيل الثاني الذي تقصده ميشيل راي هو الذي وصل عقب نجاح الجيل الأول في البقاء، وقد اقترب بناء هذا الجيل الآن من العشرين، ويردِّد أحدهم كما جاء في كتاب «المسلمون في فرنسا»: «نحن نتلقَّى ثلاثة أنماط من التعليم: تعليم آبائنا وآخر من مدرسينا وثالث من الحياة، وتتضارب هذه الأنماط الثلاثة.» ومن أبرز أبناء هذا الجيل الروائية ليلى صبار.
وتتناول رواية مهدي نفس الموضوع الذي يلحُّ على الإنسان العربي في المهجر، فالمخرج عاملٌ بسيطٌ استطاع أن يكافح في حياته، ويعيش بين تضارب الثقافتين اللتين انتمى إليهما. عمل في البناء وعن هذا العالم صاغ أحداث روايته، فالعمل ينتقل حيث توجد مبانٍ جديدة. وفي الرواية يتحدث الراوية أن النطق باسم أرشميدس أمرٌ بالغ الصعوبة فاختار أن ينطقه هكذا أرشي أحمد … لكن ما إن اندمج داخل اللغة الفرنسية حتى ينجح في النطق الصحيح، فكثيرًا ما أزعجته نظرية أرشميدس «لقد كتبت الرواية كي أنشرها، ولم تُبع الرواية لفترة طويلة، فبدأت أفكر في تحويلها إلى سينما» (لوموند ٢ مايو ١٩٨٥م).
والفيلم حول قصة صداقة تربط بين شابين مراهقين: أحدهما عربي والثاني فرنسي، عن حياتهما وانخراطهما في زمرة شباب حيث لا يملكان الكثير من المفردات للتعبير عن رغباتهما، وأيضًا بدافع الحشمة. هناك حيث البطولة سائدة في الأحياء الشعبية، والتهريب والسرقات والعنصرية والتعصب والظلم يحافظ بعضهم على معاني الصداقة والحب والدعاية والضحك. ويقول المخرج: «يخيل للأشخاص الذين لا يسكنون المناطق الشعبية أن العيش فيها جحيم، أردت أن أُظهِر العكس، وأنه يوجد في هذا المحيط المتسع، حنانٌ هائل.»
وعن نفس العالم أيضًا تحدَّث شرف في فيلمه الثاني «الآنسة منى» حيث تدور الأحداث من خلال شخصيتين إحداهما عربية والأخرى فرنسية. العربية هي سمير، شاب ينتمي للعائلات المهاجرة التي تسكن الأحياء الشعبية بباريس، إنه يعيش هناك بلا بطاقة هوية، لهذا فهو عاطل دائمًا، صديق للتِّيه والبرد والداعرات، فيقرر أن يصادق رجلًا مخنَّثًا يُدعى الآنسة منى. وهذا الرجل يريد إخراج سمير من ظروفه، وأن يوفر له المسكن؛ فيحاول، سرًّا، أن يساعده رغم أنه لا يختلف كثيرًا عنه، فهو عاطل مثله، ويسعى إلى جمع مبلغ من المال لإجراء عملية يتحوَّل بعدها إلى امرأة، ووسط البحث عن النقود تحدث جريمة قتل وتتحول الأشياء إلى سوداوية.
أما ثالث أفلام مهدي شريف «كاموميل» فهو يختلف قليلًا، حيث رأى المخرج أن عليه أن يخرج من جعبة الهجرة والمهاجرين، ولكن ليس عليه أن يبتعد كثيرًا، فهناك قصة حب رقيقة بين فتاة وشاب من الأحياء الشعبية، لقد أنقذ الشاب الفتاة من موتٍ محقق، ويحاول أن يساعدها بدوره في الحياة بعيدًا عن المعاناة.
-
المحور الثالث: وهو يدور حول السينمائيين الذين سعَوا للاستفادة من
التمويل الفرنسي للأفلام غير الفرنسية التي يتم إنتاجها من قِبَل فنانين
متأثرين بالثقافة الفرنسية، ويُطلَق عليهم عادة اسم الفرانكفونيين، أو
الناطقين باللغة الفرنسية. وقد سعى أكثر رجال السينما العرب والأفارقة
لإيجاد تمويل فرنسي لأفلامهم قدر الإمكان. البعض نجح، والبعض لا يزال
يحاول. بعض هذه الأفلام ناطق باللغة العربية، وحين يعرض في أوروبا
تتمُّ دبلجته إلى اللغة الفرنسية. أما البعض الآخر فهو يتكلم مباشرةً
باللغة الفرنسية. بل إن بعض المخرجين يستعين في أفلامه بطاقمٍ فرنسي
مثلما فعل محمد الأخضر حامينا في «الصورة الأخيرة» … وقد نجح أربعة
مخرجين مصريين في تدبير التمويل الفرنسي، منهم يوسف شاهين في إنتاج
«الوداع يا بونابرت» و«اليوم السادس» و«المهاجر»، ثم يسري نصر الله في
«سرقات صيفية» و«مرسيدس». أما تجربة «إخناتون» لشادي عبد السلام فلم ترَ
النور لرحيل صاحبها. كما تم تمويل فيلم «شحاذون ونبلاء» لأسماء البكري
عن رواية للكاتب ألبير قصيري من قِبَل القناة السابعة الفرنسية، كما تم
تمويل فيلمها الثاني «كونشرتو في درب سعادة» من نفس القناة.
ومن فلسطين يبرز ميشيل خليفي، كما أن هناك من الجزائر محمود زموري والأخضر حامينا ومرزاق علواش، ورضا الباهي من تونس. ولأنه من الصعب أن نتحدث عن كل هذه النماذج فسوف نختار بعضًا منها. والغريب أن بعض المخرجين يداعب أفكار الغرب ربما أكثر من الأفلام الفرنسية. مثل قصص الحب المصنوعة على طريقة «روميو وجوليت» بين العرب واليهود في «حب في باريس» لمرزاق علواش و«الصورة الأخيرة» لحامينا، و«رياح السد» لنوري بوزيد … وهنا يلعب المخرج العربي المتحدث بالفرنسية لعبة مغازلة الثقافة التي تقوم بتمويله، بالإضافة إلى النقد الذاتي للثقافة والعادات العربية المهاجرة، أو التي تسعى للهجرة، حتى وإن ظلَّت في مكانها. وهكذا فإن المخرج يضمن لفيلمه مغازلة الثقافة التي موَّلت الفيلم. ونعيد القول بأن تجربة مهدي شريف، وحصوله على التوزيع العالمي المضمون من خلال شركات التوزيع الفرنسية دفع وراءه الكثير من المخرجين المقيمين في العالم العربي أن يسيروا في نفس الدرب بعد أن حصل على جائزة «سيزار» عام ١٩٨٥م عن فيلمه الأول.
تقول موسوعة السينمائيين العرب التي أصدرها جان ميشيل كلوني باللغة الفرنسية إن محمد الأخضر حامينا هو صاحب الفضل في إنشاء سينما جزائرية، وقد خصصت له أكبر عدد من الصفحات، أكثر من أي فنان سينمائي عربي آخر. وحسب البيان الفيلمي للمخرج فإن كلَّ أفلامه قد أُنتجت من خلال مؤسسة السينما الجزائرية. فقد بدأ حياته السينمائية عام ١٩٦٤م بفيلم «زمن العودة» وهو فيلم قصير، ثم فاز فيلمه الروائي الأول «رياح الأوراس» ١٩٦٧م بجائزة العمل الأول في مهرجان كان، كما نال جائزة أحسن سيناريو من اتحاد الكُتَّاب السوفييت. ثم تتابعت أفلامه ومنها «وقائع السنوات الجمر» ١٩٧٥م، ونال جائزة السعفة الذهبية في مهرجان كان في نفس العام، ثم كانت آخر أفلامه العربية «ريح الرمل» ١٩٨٢م.
لكن، ما الذي دفع حامينا أن يقدم فيلمًا يختلف على الأقل بالنسبة للغة؟ لقد أسند بطولة فيلمه «الصورة الأخيرة» ١٩٨٦م إلى مجموعة من الممثِّلين الفرنسيين، منهم فيرونيك جانو وميشيل بوجناح — وهو يهودي تونسي لمع في المسرح والسينما الفرنسية — كما استعان بولديه الصغيرين مالك ومروان حادينا.
تدور أحداث الفيلم في قرية أبو سعادة، التي تقع على مسافة ٣٠٠ كم من مدينة الجزائر، ويسمونها بوابة الصحراء، كما صوَّر أجزاءً من الفيلم في قرية ميسر، التي وُلد بها المخرج في عام ١٩٣٤م.
إذن، فالفيلم عربي رغم أن اللغة غير عربية، ويقول المخرج إن القصة التي اختارها لفيلمه قد حدثت في الواقع، في نفس الأماكن التي قام بالتصوير فيها، ويقول إنه شهد أحداث هذه القصة في عام ١٩٣٩م: «أحكي قصة كلير بوبيه من خلال منظور طفلٍ صغيرٍ يُدعى مولود يقوم بدوره ابني الأصغر مروان.» المدرسة هي فرونيك جانو، التي عاشت في الجزائر إبان سنوات الاحتلال، وهي تنتمي إلى الأقدام السوداء.
في هذه القرية، تعيش المدرسة حياة هادئة، لكن هناك بعض «الخصوم» الذين يريدون إيذاءها، أحدهم من الفرنسيين يحب العرب، ولكن لا يميل إلى اليهود منهم؛ ولذا يكره كلير، ويراها عاهرةً. هناك نماذج أخرى يقدِّمها الفيلم مثل بعض سكان القرية وبعض المدرسات وناظر المدرسة. أما الصغير مروان فإنه يحب المدرسة الفرنسية أما سيمون — ميشيل بوجناح — فهو يلعب دور اليهودي الجزائري، الذي يلقى معاملة سيئة من الآخرين، فيطاردونه وينغِّصون عليه وقته، خاصةً فيما يخص علاقته بكلير.
يقول الأخضر حامينا في مجلة بروميير — يناير ١٩٨٦م — إن فرنسا قامت بتمويل فيلمه بمبلغ ١٣ مليون فرنك، ومع ذلك فقد بقي الفيلم جزائريًّا.
بدأ عطاء مرزاق علواش في السينما الروائية عام ١٩٧٦م بفيلم «عصر قتلته الرجولة». ولم يخرِج حتى الآن سوى خمسة أفلام؛ منها «مغامرات بطل» ١٩٧٨م، «رجل ونوافذ» ١٩٨١م. ثم «حب في باريس» ١٩٨٨م، و«باب الواد سيتي» ١٩٩٤م. والأفلام الثلاثة الأولى ناطقة باللغة العربية من إنتاج مؤسسة السينما الجزائرية، أما الفيلم الرابع فهو إنتاج فرنسي وناطق باللغة الفرنسية. ويقول حول هذه التجربة في مجلة اليوم السابع — ٨ فبراير ١٩٨٨م: «كل ما حدث لي مع هذا الفيلم، يختلف اختلافًا جذريًّا عمَّا حدث لي مع أفلامي الأخرى لتأخذ عملية الترويج بالنسبة للأفلام الأخرى، فليست تلك مسألتي، بل هي مسألة الدولة: إنها لا تمتلك، الوقت الكافي لمحاسبة فيلم معين، المسألة بالنسبة لي اليوم شائكة على مستويات حرية محاسبتي … هناك من يقول: لنتركه يصوِّر فيلمًا في فرنسا، فيفشل، الخطورة موجودة على مستوى الإنتاج، ولكنها غير موجودة على مستوى الإبداع. أقول إنه ابتداء من فيلم «حب في باريس» فإني سأخرج أفلامي سواء بمساعدة رسمية أو بدونها.»
ومريم بطلة هذا الفيلم فتاة يهودية جزائرية، ترحل إلى باريس لأول مرة وقد اعتزمت أن تتبوَّأ مركزًا محترمًا في عالم الأزياء، وفي أول الأمر يساعدها بعض الأصدقاء من باريس فتقرر العمل في مهنةٍ أخرى بسيطة؛ حيث تعمل كموظفة خزانة محل سوبر ماركت. وهناك تلتقي بشاب فرنسي ذي أصل جزائري خارج من السجن لتوِّه، يتعرفَّان على بعضهما ثم تقوم بينهما علاقة قوية. وهذا الشاب — علي — يرفض العودة إلى بلاده، ويريد أن يصبح من روَّاد الفضاء، إنه حلم يراوده منذ سنوات الطفولة. حاول إقناع الطرف السوفيتي بتدريبه على تحقيق هذا الحلم فلم ينجح، وعليه أن يقنع الطرف الأمريكي، لذا، فقد قرر السفر إلى قاعدة هيوستن لمقابلة المسئولين هناك. ويعتمل هذا الحلم في داخل علي لدرجة أنه يوافق على معاودة الاتصال بزملاء الشرِّ من أجل تدبير الأموال. وفي المطار الذي سيرحل منه مع فتاته تقف مريم تنتظر، لكنه لن يأتي … فهي لا تعلم أنه قد تم القبض عليه أثناء إحدى العمليات الإجرامية.
ويقول خميس خياطي في تعليق حول هذا الفيلم: «مريم، هذه الفتاة اليهودية الجزائرية تمتلك شيئًا ما يجعلها جزائرية ويهودية، ولو ألغينا أحد هذين العنصرين لأصبحت مريم فرنسية، تحلم بأن تكون عارضة أزياء وينتهي الأمر. كان على مرزاق علواش الذي ألفنا منه العمل المتقن والقوي في الشخصيات، كان عليه أن يعطينا — من خلال هاتين الشخصيتين — نظرته لعالم هؤلاء العاملين في الأرض، بيد أنه استسلم إلى السهولة … وبعض الاستفزاز والكثير من «الغازات» الخاصة بالحي اللاتيني» (اليوم السابع ٨ فبراير ١٩٨٨م).
وفي السنوات الأخيرة تغيَّرت معالم الكثير من السينما العربية الناطقة باللغة الفرنسية؛ فقد أصبح الكثير من المخرجين العرب المهاجرين إلى فرنسا أداة إخراجية بين يدي التمويل الفرنسي … واستطاع هذا المال أن يوجِّه المخرج حسبما يشاء، فإذا كان مهدي شرف، على سبيل المثال، قد بدأ حياته بتقديم أفلام وروايات عن العرب المهاجرين، فإن أفلامه الأخيرة مثل «كاموميل» و«في بلاد جولييت» عن الفرنسيين أنفسهم. حدث هذا أيضًا مع مارون بغدادي الذي كان عليه أن يقدم فيلمًا عن «ماراصاد»، وفيلمًا آخر يتبنى فيه وجهة نظر صحفي فرنسي اتخذته بعض الأطراف اللبنانية رهينة أثناء الحرب الأهلية، يحمل عنوان «خارج الحياة» … وبدت الأعمال الأخيرة لهؤلاء المخرجين وكأنهم قد تفرنسوا، أو كأنهم قد ذابوا داخل المجتمع الفرنسي … وذلك أشبه بالأوروبيين الذين تمَّت أمركتهم في السينما الأمريكية، وقد حدث هذا أيضًا مع أسماء عديدة منها عبد الكريم بهلول وآخرون.
حاولنا في هذا الفصل تناول منظور السينما العربية الناطقة بالفرنسية من خلال علاقة التمويل باللغة، وواضح من اهتمام المموِّل، وأيضًا الساعي إلى تمويل فيلمه (المخرج) أن اللغة هي العامل الأساسي في أحداث التمويل. واللغة عند المموِّل الفرنسي كافية تمامًا لصبغ الفيلم بالفرنسية مهما كان مضمون هذا الفيلم، وذلك كنوعٍ من الفرنسة التي صبغها الاستعمار في بعض الدول التي أقام فيها فترة طويلة وخاصة الجزائر … ومنذ أعوامٍ قليلة أقامت فرنسا مؤتمرًا للدول الناطقة بالفرنسية، أكدت فيه أن لهذه البلاد هوية خاصة، لأنها تتكلم اللغة … ومن يتكلم اللغة فهو ذو ثقافة خاصة … رغم تأكيدنا أن هذه السينما عربية في المقام الأول لحمًا ودمًا وتفكيرًا؛ لأن مبدعيها من العرب، وموضوعاتهم عن أبناء عشيرتهم؛ فإن لغة المال تحكم وتسيطر … وعلى كلٍّ فلهذا النوع الجديد من السينما أكثر من زاوية يمكن من خلالها تحليل ظواهر لم تكن موجودة من قبل.