الأدب الجزائري المكتوب باللغة الفرنسية
ففي بداية القرن، كان الفرنسيون يعملون على أن تنطق شمال أفريقيا باللاتينية، وتحمَّس لهذه الفكرة أدباء فرنسيون، مثل لوي برتران وروبير راندل. ثم مع بداية الثلاثينيات كانت الفكرة هي صناعة أفريقيا على المنوال المتوسطي. وظهر جيل من الأدباء في تلك السنوات عرفوا تحت اسم «شباب البحر المتوسط»، كان أغلبهم من الفرنسيين. وفي الأربعينيات لمع الأديب الشاب ألبير كامي باعتباره فرنسيًّا يعيش ويكتب عن الجزائر. وسمِّي هذا الجيل الذي عاصر الحرب في الجزائر من الفرنسيين بالجيل الاستعماري الثالث، ومن أبرز أبنائه «إيمانويل روبليس» صاحب مسرحية «ثمن الحرية».
وقبل أن تنتهي سنوات الأربعينيات بدأت الأسماء الجزائرية الحقيقية تلمع في الأفق، ولأول مرة يظهر تعبير الأدب العربي المكتوب بالفرنسية في الجزائر، وفي تلك السنوات كان الاستعمار الفرنسي يتعامل مع اللغة العربية الفصحى باعتبارها من التراث، وكان يتم تعليمها في أضيق الحدود في فرنسا. وهكذا وجد الجيل الأول من الأدباء الجزائريين أنفسهم أمام اختيارٍ واحدٍ هو الكتابة باللغة الفرنسية التي يتقنونها، ومن أبناء هذا الجيل هناك جان حمروش، ومولود معمري، ومولود فرعون، ونبيل فارس، وهم جميعًا من البربر، ولغتهم الأصلية هي اللغة البربرية. أما الأدباء الذين لغتهم الأصلية هي العربية فهناك مالك حداد ومحمد ديب وكاتب ياسين.
وقد ساق هذا الكاتب الجزائري أن يستخدم اللغة التي يمتلك ناصيتها أكثر من غيرها، وهي أيضًا في تلك الآونة لغة بني وطنه.
وقد شكَّلت هذه الظاهرة خطورة على الكاتب الذي يحب أن يناهض هذا الاستعمار، فأحسَّ أن عليه أن يهاجر إلى لغته العربية، لكن هذا لم يحدث بسهولة، ولعلَّه لم يحدث لمن كانت جذورهم أشد في اللغة الفرنسية. وقد كتب كاتب ياسين أكثر من مرة أن «موقف الكاتب الجزائري الذي يعبِّر بالفرنسية هو أنه بين خطَّين من النيران يجبرانه أن يبدع، وأن يرتجل.»
كاتب ياسين
تجيء أهمية الكتابة عن كاتب ياسين ضمن الأدباء العرب الذين يكتبون باللغة الفرنسية، ليس فقط من أنه يمثِّل الجيلَين الأول والثاني من هؤلاء الأدباء. ولكن أيضًا لأن علاقته باللغات التي ينتمي إليها قد شكَّلت بالنسبة له بلبلة خاصة، جعلته يدافع في فترة من حياته عن اللهجات المحلية الجزائرية، وينادي بها لغةً للكُتَّاب وخاصة الإبداع الأدبي. فقد تربَّى في مجتمعٍ به العديد من اللهجات واللغات. فبالإضافة إلى اللهجة المحلية الجزائرية، هناك اللغة البربرية والعربية الفصحى والفرنسية. ولذا، سنجد أن مشكلة اللغة تؤرِّقه بشكلٍ ملحوظ، وقد بدا هذا كثيرًا في الأحاديث الصحفية التي أدلى بها في السنوات الأخيرة من حياته.
ولا يمكن الكتابة عن السيرة الذاتية لكاتب ياسين دون الرجوع إلى الأحاديث الصحفية التي أدلى بها للعديد من المجلات العربية. خاصةً التي تصدر من باريس مثل «اليوم السابع» و«الوطن العربي»، فضلًا عما كانت تنشره صحيفة لوموند من وقتٍ لآخر كلما صدر كتاب جديد للأديب، خاصةً في السنوات الثلاث الأخيرة من حياته، ففيما قبل لم يكن يُكتَب عن سيرة الكاتب سوى القليل من السطور، وفي فترة من حياته كان قد توقف عن الإبداع لأكثر من خمسة عشر عامًا، ولذا راح يجتر حياته وشهرته بشكلٍ ما، واستفاض البوح بما يتعلق بذاته للصحافة.
أما أبوه فقد أدخله كُتَّاب القرية ليتعلَّم اللغة العربية، ويحفظ القرآن الكريم، ولكنه ما لبث أن نقله إلى المدرسة الفرنسية التي ظل بها حتى عامه الخامس عشر.
ويُعتبَر عام ١٩٤٥م نقطة تحوُّلٍ ملحوظةٍ في حياة «كاتب»، ففي الثامن من مايو قامت المظاهرات الجزائرية ضد الاحتلال الفرنسي، وتم القبض على كاتب ياسين، وطلبوا منه أن يخون وطنه، إلا أنه رفض، فبقي في السجن فترة من الوقت، وراح يمارس الكتابة والإبداع، «بدأ كل شيء بالنسبة لي بالشعر، ربما أنني كتبت قصائدي الأولى في سن التاسعة والعاشرة؛ في التاسعة قرأت بودلير. هذه العلاقة المبكرة بالشعر إنما أدين بها إلى أبويَّ، كانا يتمتعان بفطرية شعرية عالية، تصور أنهما حتى عندما كانا يتشاجران كانا يتناجيان شعرًا! إلا أن البداية الحقيقية تعود إلى عام ١٩٤٥م، تعرف ولا شك ما حدث في ذلك العام. لقد أطلقت الشرطة الفرنسية النار على الطلبة الجزائريين من المتظاهرين، ولمَّا كنت أنا واحدًا منهم فقد أودعت السجن. كنت يومها طالبًا في المدرسة الثانوية في سطيف، دام حبسي شهورًا عدة، وحالما خرجت بدأت بكتابة مجموعتي الشعرية الأولى. تنقسم المجموعة إلى قسمَين. ذلك أنني لدى خروجي من السجن تعرَّفت على «نجمة» ابنة عم لي ومتزوجة، هِمت في الحال بهذه المرأة، وسأظل كذلك، هكذا ضمَّت المجموعة قسمَين: قصائد في النضال، وأخرى في الحب. منذ البداية كان الشعر بالنسبة لي هو: «الشعب ونجمة».»
«لقد حالفني الحظ بعد فترة. كنت جالسًا في مقهى، وكان يجلس إلى طاولة مجاورة رجلٌ فرنسي أبيض، يشرب نبيذًا أبيض، قام بيننا حديث، سألني عن عملي، فقلت له إنني، مبدئيًّا، طالب، ولكنني أمارس هواية الشعر. فقال لي إنني كنت محظوظًا؛ لأنه هو نفسه ناشر. وطلب إليَّ أن آتيه بمخطوطاتي، وحال قراءته لها قرر أن ينشرها، وهكذا كان. وجدت نفسي في سن السادسة عشرة، ومعي مجموعة مطبوعة. إلا أن المسألة لم تنته عند هذا الحد، كانت هذه هي المناسبة لأن أكتشف أن شعرًا كشعري لا يتمتع في الجزائر المستعمَرة بحق الإقامة في المدينة. نحن في عام ١٩٤٦م، ما إن اطَّلع الفرنسيون على قصائدي حتى حالوا دون توزيعها في المكتبات، فراح أصدقائي والمتضامنون معي من الزملاء يوزعونها جماهيريًّا. تصور (يضحك) أن المجموعة راحت تُباع في الحوانيت وصالونات الحلاقة، أدركت حينها أنني، إذا كنت أريد الاستمرار في الكتابة، فيجب أن أعتمد على هؤلاء البسطاء من أبناء شعبي. أدركت كذلك أن الشِّعر والنضال السياسي سيظلَّان إلى أبد، متلازمين لديَّ، متكافئين.»
في هذا الحادث، اكتشف كاتب ياسين أن الشرطة تُبعِد فقراء المدينة إذا جاء رئيس الدولة لزيارة المدينة، وطالب بإعادة السكان إلى مناطقهم الأصلية كي تتمكَّن الحكومة من مشاهدتهم: «ولمَّا لم يسمعني أحد، قفلت راجعًا، ولقد دفعني شعوري إلى مغادرة البلاد من جديد، وجئت إلى باريس، وبقيت فيها هذه المرة حتى ١٩٧٠م، ولم أعد إلى الجزائر من جديدٍ إلا بعدما سمح لي وزير العمل بإقامة مسرح عمالي. وقد استطعنا — خصوصًا في السنوات الخمس الأولى — أن نقدم أعمالًا جيدة، أغلبها بالعربية المحلية في الجزائر.»
وجاكلين آرنو هي باحثة فرنسية، أو كما يراها كاتب: «امرأة نبيلة، امرأة رائعة فوق العادة، كانت صاحبة قلبٍ كبيرٍ بالرغم من أنها فقدت حظوة الطبيعة وعطفها عليها. كانت مصابة بالقلب، ومريضة بالسرطان وتعب الأعصاب، مع ذلك فقد تابعت رسالتها الثقافية والجامعية، وقامت بما قامت به تجاه الآداب المغربية وأعمالي، إن امرأة مثلها لأمر خيالي.»
ولسنا هنا بصدد التعقيب على رأي الكاتب، لكن، كما رأينا، فهو لم يكن له الخيار حين نقله أبوه من مدرسة تعليم القرآن وهو صغير إلى المدرسة الفرنسية. فإنه عندما أصبح كبيرًا وجد نفسه عاجزًا تمامًا عن إيجاد لغة عربية مناسبة للإبداع، فاختار اللغة العامية الجزائرية في مسرحياته الأخيرة. ولا شك أن موضوع اللغة معقدٌ تمامًا للكاتب، كما كتب عنه كامل زهيري — مجلة الهلال، أكتوبر ١٩٦٥م — «إن أسلوب كاتب ياسين الفرنسي متميز حتى بين الكُتَّاب الفرنسيين، وهذا ما جعله يصيب شهرة بين القرَّاء وتأثيرًا عليهم.»
جاءت أهمية أن نلقي بعض الضوء على السيرة الذاتية لحياة كاتب ياسين من أنها مرتبطة بإبداعه، خاصة روايته «نجمة».
فلا شكَّ أن حبَّه لابنة عمه نجمة قد تأصَّل وجدانيًّا في أعماقه، وجعله يتفرغ تسع سنوات كاملة لكتابتها، كأنه يجتر الحروف، يسترجعها، ويستعيدها، فخرجت الرواية من قطرات دمه، ووجد أنه: «رافقتني نجمة في جميع أسفاري، في الدول الأوروبية التي زرتها، كنت في أواخر الأربعينيات عاملًا مهاجرًا في باريس، وكنت في نفس الوقت مناضلًا في الثورة الجزائرية، عبر رواية «نجمة» كنت أعمل لأعيش، وكنت أكتب نجمة لأحيا انتفاضة ثوار وطني.»
ونجمة هي فتاة جزائرية، يدور من حولها أربعة شبابٍ يحبُّونها، ومنهم كاتب ياسين، يحاول كلٌّ منهم أن يحبَّها بأسلوبه الخاص. وقد اتَّبع الكاتب، مثلما كتب كامل زهيري، إيقاعَين: «إيقاع الجمل القصيرة، وصف بها المدن والشوارع والجدران، والحياة. وجعل هذه الجمل القصيرة محكمة أشد الأحكام، لاذعة الملاحظة، خارقة الذكاء.»
«وإيقاع الجمل الطويلة، يصف بها الشخصيات، حتى إنك تجد الجملة عنده تتخللها جملٌ اعتراضية كثيرة، يكاد طولها يبتلع صفحة كاملة من الكتاب.»
وقد طلَّت نجمة من جديدٍ في أعماله المسرحية الأخرى، مثل ثلاثيَّته التي تتكوَّن من «الأسلاف يتميزون غيظًا» و«مسحوق الذكاء» و«حلقة الثأر». هناك مجموعة من الرجال حول نجمة أيضًا، منهم الأخضر ومصطفى وحسن وزوج أمه ظهار، ونجمة حزينة تنشد حبَّها الضائع وهي تبكي. لقد اختفى حبيبها الأخضر، أما ظهار فهو عجوز يقف إلى جانب الفرنسيين، ويستنكر موقف الأخضر ضدهم. وهناك أم الأخضر التي تنتظر عودة ابنها؛ فتجف يومًا وراء يوم، حتى تصبح عودًا يابسًا لا حياة فيه. تردد نجمة في أسًى: «كل نداءاتي لا أسمع لها جوابًا سوى وقع أقدام الجنود الثقيلة، ولا أرى حولي سوى الجثث والدماء.» وعندما تعثر عليه بعد إحدى الغارات الفرنسية على الفدائيين لا تلبث أن تفقده مرة أخرى.
وتنضم نجمة إلى جيش التحرير مع زميلاتها المجاهدات، ويأخذ الحبُّ مجراه في وسط المعركة، وإن كان هنا قد غيَّر شكله. ووسط المعركة يتطاحن رجلان من أجل الفوز بقلب نجمة، وينتهي الأمر بأن يقتل أحدهما الآخر، وتموت نجمة.
وما دمنا بصدد الحديث أيضًا عن لغة الكاتب، فإننا نورد مرة أخرى من أحاديث الكاتب عن لغته. فمن المعروف — كما سبقت الإشارة — أن كاتب ياسين قد حاول في أواخر حياته — مات عام ١٩٨٩م — أن يكتب باللغة العربية، وتعثَّر كثيرًا في التعامل مع الفصحى، خاصة في مسرحياته: «أرغب بتصحيح فكرة عني حول اللغة العربية، وهي تتعلق بكوني أفضل مدافع عنها، أرغب بخدمتها، لا بقتلها.»
ويتحدث الكاتب في جريدة لوموند أن مسرحية «محمد خذ فاليزتك» قد حققت نجاحًا كبيرًا عند عرضها في فرنسا، حيث شاهدها ٧٠ ألفًا من المهاجرين: «كتبت المشهد الأول باللغة الفرنسية، أما الباقي فقد كتبته بلغة العامة. ثمانية عشر شهرًا من العمل ليل نهار، ثم عُرِضت المسرحية في الجزائر طوال خمس سنوات تحت رعاية وزير العمل. وجدت نفسي مع تسعة ممثِّلين في مسرحيتي، وابتعدنا إلى مسافة ٥٥٠ كم من مدينة الجزائر إلى مدينة سيدي بلعباس، لم تكن معنا سيارة، وفشل مشروعنا. كان الصمت يرين حولنا، فهذه مدن لم تعرف التلفاز، ولم يكن من السهل علينا أن نستمر.»
«عندما تصنع مسرحًا، خاصة باللهجة العامية، فيجب أن تضع أصابعك في المكان الأصح. هناك هجومٌ يُشَن عليك بادعاء أن محمدًا ﷺ كان نبيًّا فقط، ولم يكن عاملًا، لقد منعنا الإخوان المسلمون من التمثيل في الجزائر وهددونا، ومنعونا من التمثيل في عام ١٩٧٧م، ولم نستطع التمثيل.»
وإذا كنا قد ألقينا بعض الضوء على ياسين كروائي ومسرحي، فإننا قبل أن نختتم الحديث عنه يهمُّنا أن نقدِّم بعضًا من شعره الذي كتبه في مطلع حياته. ففي عام ١٩٨٧م نشرت دار سندباد كتابًا أعدَّته الباحثة جاكلين أرنو تحت عنوان «العمل مجزَّأ» تضمَّن مجموعة من أشعاره نقتطف منها قصيدته المشهورة «صباح الخير»:
مولود معمري
وجميع كتابات مولود معمري منشورة باللغة الفرنسية، ومطبوعة في فرنسا، وتدور أغلب حوادث رواياته في القرى والريف بالجزائر، مثل روايته الأولى «التل المنسي» التي تدور أحداثها في إحدى قبائل البربر. وفي هذه القرية عاش قبل سنوات الحرب العالمية الثانية مجموعة من الجزائريين البربر في عزلة عن العالم من حولهم، لا يكادون يعرفون شيئًا عما يحدث في العالم. وهذا النوع من الحياة يجعل أبناءه يمشون على وتيرة واحدة، وإيقاعهم غالبًا ما يكون ساكنًا، ولا جديد فيه؛ لذا، فإن البطالة تنتشر، والناس يتَّسمون بخمولٍ ملحوظٍ.
وعندما تندلع الحرب، تنكسر العزلة، ويجد أبناء القبيلة — مثلما سيحدث بعد ذلك في رواية لرشيد ميموني — أن عليهم أن يغيِّروا من إيقاعهم؛ فالمآسي لا تجيء فرادى، حيث إن الحرب تأتي حاملة معها الكوارث. ونحن نرى هنا جيلَين مختلفين يعيشان في القرية. الجيل الأول عتيق، وتقليدي في أفكاره، اعتاد على العزلة، وهو راضٍ بما قسمته لهم السماء. لذا فهو مؤمن أشد الإيمان بالقضاء والقدر. أما الجيل الجديد فهو الذي ظهر مع الحرب، وكسر العزلة. وهذا الجيل احتكَّ بالوافدين مع الحرب، ويعرف أن هناك نوعًا آخر من الحياة، لذا يتولَّد لديه التمرُّد. ولكلٍّ من أبناء هذا الجيل أفكاره وتطلعاته. فالمعلم «مدور» الذي تخرَّج في مدرسة المعلمين يتطلع نحو مستقبلٍ آخر، ويواجه الأفكار التقليدية لمجتمعه، ويحاول أن يتمرد عليها. وهناك حوارٌ بين شخصَين في الرواية حين يسأل أحدهما الآخر: هل أنت في السجن؟
فيرد الآخر: أنا في الجزائر … فكلا الحالين سواء!
ويقول فاروق يوسف إسكندر: «إن قرية تاسكا التي تجري فيها حوادث الرواية في جبال البربر؛ حجرة صغيرة ضمن السجن الكبير، تبدو فيها الحقيقة الاستعمارية في شكلها السافر ووضعها الأليم، كما تبدو الحقيقة الإنسانية في حالات الكآبة والقلق النفسي والنضال: المال والخضوع لوطأة العادات القبلية والتقاليد. فالقرية مع صِغر حجمها الجغرافي وبُعدها عن حياة المدينة تعجُّ بالحيوية والمفاجآت، وتناحر الشخصيات. وفي طريقة مؤثرة تحمل القارئ على الاستجابة العاطفية السريعة بالمشاركة الوجدانية مع الحوادث، والصداقة العميقة مع أبطال الرواية.»
ولا أحد يعرف أيُّهما أفضل؛ هل العزلة حيث يكون السكون والوتيرة الواحدة، الصفاء الدائم أم الحرب وما تأتي به من عذابٍ ودمارٍ. ففي الحرب تعاني القرية من صنوف الحرمان أضعاف ما كانت تعانيه قبل زمن كسر العزلة. ففي الحرب زادت المجاعات، ويمكن لشخصٍ يحمل بعض الطعام إلى أسرته أن يفاجأ بشخصٍ آخر يرفع عليه بندقيته ويستأذنه أن يقتسم بعض الطعام الذي معه.
وفي رواية «الأفيون والعصا» تدور الأحداث أثناء حرب الاستقلال من خلال إحدى القرى البربرية التي شهدت بعض وقائع هذه الحرب، ونمو الوعي لدى طبيب كان من المصابين باللامبالاة. فالدكتور بشير الأزرق يترك حياة الترف في الجزائر العاصمة متوجهًا نحو الجبل حيث توجد قرية «تالمه» مسقط رأسه التي تعيش في حالة حربٍ. إنها دائمًا نفس القرية التي تحاصرها الجبال، ولكن هذه القرية غير سلبية، فهي تشترك في حرب التحرير لدرجة أنها تُباد تمامًا في هذه الحرب.
وقد تعامل معمري مع الأدب على أنه موجَّهٌ — أساسًا — إلى جمهورٍ مختلفٍ عن الجمهور الذي يعبِّر عنه وموجَّهٌ إليه، وكأن الأدب بمثابة سلاح دعائي لمناهضة الاستعمار، أو منشور كي يعرض على أبناء الوطن الاستعماري ما يرتكبه الأبناء من بشائع في المستعمرات.
ويرى مولود معمري في مقاله عن الأدب الأفريقي باللغة الفرنسية أن أعمال المبدعين من الجيل الأول في الجزائر قد تركزت أساسًا حول حركات التحرر.
محمد ديب
لا يكاد يمرُّ عام، إلا ويفوز أحد الأدباء العرب الذين يكتبون بالفرنسية بجائزة أدبية كبرى في فرنسا. ومنذ عام ١٩٨٦م وحتى الآن أُلقيَت الأضواء حول أدباء عرب ينتمون إلى جيلَين فازوا بجائزة الأكاديمية الفرنسية للناطقين باللغة الفرنسية، أو إلى أدباء شباب تجاوزوا الأربعين بسنواتٍ قليلةٍ مثل الطاهر بن جلون وأمين معلوف.
أما جائزة الأكاديمية فهي بمثابة تقديرٍ لأدباء من طراز كاتب ياسين، وألبير قصيري، ومحمد ديب الذي كان آخر الفائزين بها عام ١٩٩٤م، وهي جائزة عالمية، تبلغ قيمتها نصف القيمة التي تُمنَح للفائز بجائزة نوبل.
ومحمد ديب المولود في ٢١ يوليو عام ١٩٢٠م في مدينة تلمسان، هو روائي، وشاعر، وكاتب مقال، وله مسرحية واحدة، ومجموعة من كتب الأطفال. وقد درس ديب في مدينته، وقرض الشعر وهو في الرابعة عشرة من عمره. ورغم أن أباه كان موسيقيًّا بارعًا، فإن الصغير لم يتلقَّ منه أي تعليم؛ حيث تُوفي الأب في سن مبكرة، وتولَّت أمه مسئولية أبنائها الأربعة. وهذه الأم ستكون الشخصية الرئيسية في ثلاثيَّته الشهيرة التي بدأ نشرها في عام ١٩٥٢م.
وقد حمل ديب المسئولية الأسرية وهو صغير السن؛ فمارس العديدَ من المهن، كعامل نسيج، ومدرس، ثم عمل صحفيًّا بجريدة «الجزائر جمهورية» بين عامي ١٩٤٩م و١٩٥١م، ومارس العمل النقابي، وفي عام ١٩٤٦م بدأ ينشر قصائده، ومقالاته. وقد أثَّرت مهنته كعامل نسيجٍ في إبداعه الشعري والروائي، فهو يتعامل مع الكلمة باعتبارها خيطًا يمكن غزله مع كلماتٍ أخرى ليصنع جملة أدبية، أو عملًا إبداعيًّا متميزًا؛ ولذا فقد راح يعايش شخصيته المتخيَّلة «عمر» قرابة أربعة عشر عامًا، حتى انتهى من تأليف الثلاثية، وربما لسنواتٍ طويلة بعد ذلك.
في عام ١٩٤٨م، زار محمد ديب فرنسا لأول مرة من خلال وفد أدباء جزائريين، وبعد ثلاث سنوات تزوَّج من زوجته الفرنسية، وسافر إلى فرنسا عام ١٩٥٢م كي يحضر صدور روايته الأولى «المنزل الكبير». وأقام هناك حتى عام ١٩٥٤م؛ حيث نشر الجزء الثاني تحت عنوان «الحريق». وفي عام ١٩٥٧م نشر مجموعته القصصية «في المقهى»، ثم نشر الجزء الثالث والأخير من الثلاثية عام ١٩٥٧م تحت عنوان «النول». وفي عام ١٩٥٩م تمَّ طرده من الجزائر لمواقفه المناهضة للاحتلال الفرنسي، فاختار أن يقيم في منطقة جبال الألب، وفي نفس السنة نشر أول كتابٍ للأطفال تحت عنوان «بابا فكران»، وروايته «صيف أفريقي».
وبداية من عقد الستينيات، عرف محمد ديب الرحيل بلا توقُّف؛ فسافر أولًا إلى دول المعسكر الشرقي، ثمَّ استقرَّ في المغرب بضع سنوات. وفي السبعينيات أقام بالولايات المتحدة من أجل إلقاء محاضرات في جامعة كاليفورنيا، وفي عام ١٩٧٥م سافر إلى فنلندا، ثم عاد ثانية إلى الولايات المتحدة، وعاد من جديدٍ إلى فنلندا.
ومع بداية الستينيات أيضًا تحوَّل ديب إلى الشِّعر فنشر ديوانه الأول «الظل الحارس»، أما ديوانه التالي فقد نشره عام ١٩٧٥م تحت عنوان «تشكيلات»، ثم جاء ديوانه الثالث «أومنيروس» عام ١٩٧٥م، و«نيران جميلة» عام ١٩٧٩م، و«أيتها الحياة» ١٩٨٧م. أما رواياته فكان يكتبها بشكلٍ منتظم، ولم يتوقَّف أبدًا عن كتابة الجديد منها. ولم يقف عند نجاح ثلاثيَّته التي ترجمها الدكتور سامي الدروبي إلى اللغة العربية، ونُشرَت في روايات الهلال عام ١٩٧٠م. ففي عام ١٩٦٢م نشر ديب روايته «من يذكر البحر»، وبعد سنتين جاءت روايته «الجري فوق الشاطئ البري»، وفي عام ١٩٦٨م جاءت «رقصة الملك»، وبعد عامين آخرين صدرت روايته «الله عند البربر»، ثم نشر «سيد الصيد» عام ١٩٧٣م، و«هابيل» عام ١٩٧٧م، وفي عام ١٩٨٥م نشر «شرفات أورسول».
ومن أشهر المجموعات القصصية لمحمد ديب «الطلسم» عام ١٩٦٦م، أما مسرحيته الوحيدة، «ألف صرخة لامرأة محاربة» فقد نُشرت عام ١٩٨٠م.
ورغم كل هذا الإبداع الغزير في حياة كاتب لم يتوقف عن الرحيل، فإنه عندما يُذكَر اسم محمد ديب نذكر على التوِّ ثلاثيَّته الشهيرة، ولا يمكن الوقوف عند هذا العمل الإبداعي دون أن نذكر المصادر التي تأثر بها الكاتب، فلا شك أننا أمام سيرة أقرب إلى تجربة الروائي، حياته التي عاشتها أسرته، فهناك الكثير من التشابه بين تجربة الكاتب، وبين عمر، الشخصية الرئيسية في الرواية.
ويقول الكاتب حول تجربة تأليف الجزء الأول من هذه الثلاثية: «رحت أنظر حولي، وبدأت أكتب قصصًا درامية منمنمة، وشيئًا فشيئًا بدأت أستجمع كتابي الأول «المنزل الكبير»، الذي كتبته على الأقل في خمس أو ستِّ سنواتٍ قبل نشره في عام ١٩٥٢م، وقد وضعته جانبًا لأنَّ الأدباء الجزائريين الشباب في تلك الآونة كانوا يرَون استحالة نشر الكتب.»
وهؤلاء الأطفال الذين يمثِّلهم عمر، يبدون مبكِّرين في نموِّهم كما يرى محمد ديب، وإحساسهم بالشقاء يلمع في أعينهم؛ ولذا فإن عمر يشعر بينهم أنه طفلٌ صغير، وهم يسبِّبون له الرعب باندفاعهم العارم الذي يظهر فيهم عند ملاحقة هدفٍ من الأهداف، مثل قتل الطيور، أو قيادة القطعان، أو تحدِّي الفرنسيين.
وعمر لديه من المعلومات ما يفوق هؤلاء الرفاق، فهو يؤكد لهم أن الأرض كروية، وأن الشمس ثابتة، وأنهم هم الأطفال، يدورون حولها مع الأرض. كما أنه يتكلَّم اللغة الفرنسية، ويجيد العمليات الحسابية؛ لذا فإنه يبدو طفلًا غير مألوفٍ أمام الآخرين، حتى الكبار.
ورغم تميُّز عمر، فإنه طفلٌ يتيم، يعرف معنى الجوع الحقيقي، والدَّار بالنسبة له دار جوع، وحاجة إلى الطعام؛ ولذا فإن حجارة هذا البيت أفضل لأنها لا تجوع مثل ساكنيها، وهنا يتساءل عمر: لماذا نحن فقراء؟ هل صحيح أن هذه قسمتنا، وأن لا أحد يعلم؟ لكن هناك أغنياء.
وهو يلتقي هؤلاء الأغنياء ممثَّلين في بعض زملائه بالفصل، ولذا فهو يرفض أن يسرِق، أو يتسوَّل، ووسط هذا الفقر الشديد، والحاجة فإن عمر يحسُّ بالإعجاب الشديد بالمناضل حميد سراج، فهو يردِّد أن على المستعمِر أن ينتهي؛ ولذا فإن عمر يثق به، ولا يتردَّد أن يبوح له بكافة مكنوناته، كما أن هناك شخصًا آخر يثق عمر في كلماته، هو العجوز «بن ساري».
وعندما يكبر عمر في رواية «الحريق» يكتشف الأسباب التي تدفع مجتمعه للشعور بالخزي، وهي الاستعمار والأوروبيون؛ «إنه يعرف الآن أين تبدأ الأشياء وعلى وجه الدقة، يعرف الآن أين يقع ذلك الخط الذي بعده لا يجوع الإنسان، والذي قبله يشعر بحرقة في دمه وبشدَّة لا تفارقه. ذلك الخط إنما ترسمه وتغطيه — في آنٍ واحدٍ — أمواج المزارع، وأوراق الشجر، ونبضات الينابيع، وسمط المراعي.»
وتدور وقائع الثلاثية بين صيف عام ١٩٣٩م، وشهر نوفمبر ١٩٤٢م، وهي فترة ساخنة من حياة الشعب الجزائري، فهي الفترة التي بدأ فيها حزب الشعب الجزائري يمارس أنشطته السياسية، بعد أن تأسَّس عام ١٩٣٧م، كما أنها فترة الحرب العالمية الثانية التي أوقعت بفرنسا تحت الاحتلال النازي. وتبقى الدار الكبيرة شاهدةً على عصره ووصله، إنها دار عتيقة، وكبيرة، إنها تبدو أحيانًا أقرب إلى سجنٍ كبير، ويطلِق عليها الكاتب اسم «دار مسبيطار» أو المستشفى حسب ترجمتها من اللغة البربرية.
«هذه الحياة، هذه الأرض، كان لا يعرفهما عمر إلا قليلًا، وذلك منذ كشف له عنهما ذلك الرجل الذي يُسمَّى كومندار، وإلى هذا الرجل انصرف ذهن الصبي حين وصل هذه المرة، متسائلًا عما حلَّ به، ولولا أن الغسق قد شمل الأرض لهرع إلى حيث يقوم كوخه.»
وأم عمر المسمَّاة «عينى» هي أرملة لنجار، وهي تتولَّى مسئوليات معقَّدة لأسرة، فهي امرأة، وأم، وعاملة، وربَّة أسرة، فهي مضطرَّة إلى العمل كي توفر الخبز لأبنائها الأربعة: عيوشة ومريم، وجيلالي، وعمر، وقد مات جيلالي من المرض مثل أبيه، وبعد عامين من رحيله، يبدو الحمل ثقيلًا عليها، فرغم الآلام، فإن عليها أن ترعى أمها؛ ولذا، فإن الشيخوخة تبدو على ملامحها قبل الأوان، كما أنها تبدو حازمة، بل وقاسية مع أبنائها.
وتعيش «عينى» وسط جوٍّ اجتماعي مشابه، فكم من الجارات أرامل مثلها، مثل «يمنة» و«زينة»، وهناك فتاةٌ على وشك الزواج هي «زهر»، و«عتيقة» التي تصاب بحالاتٍ من الجنون، كما أن هناك العجائز، وبنات العم اللاتي يجئن من وقتٍ لآخر للزيارة.
ويروي ديب في الجزء الثاني من الثلاثية كيف وصل رجال المستعمِر إلى القرية، ووضعوا قوانينهم لانتزاع بعض الأراضي من الفلاحين، وتحويلهم إلى أُجَراء لديهم. ويشتعل في القرية حريقٌ كان وراءه «كارا علي» أحد أتباع السلطة، ويكون هذا الحدث فرصة للاحتجاج من أجل القبض على العناصر النشطة من الفلاحين: «لقد شبَّ حريق، ولن ينطفئ أبدًا، سيظلُّ هذا الحريق يزحف في عماية، خفيًّا مستترًا، ولن ينقطع لهيبُه الدَّامي إلا بعد أن يُغرِق البلاد بلألائه.»
وكان هذا الحادث سببًا في أن يتنبه عمر أن الجزائر أرض غنية بثرواتها، ويجد نفسه يسرق لأول مرة من أصحاب الثروة، وتتغيَّر الحياة بعد أن تفشل الأم في اجتياز الحدود نحو المغرب، وذلك بسبب الحرب؛ ويتمُّ القبض على الفلاحين المناضلين.
ويدور الجزء الثالث من الرواية في يناير عام ١٩٤٢م. فقد أصاب القرية كسادٌ اقتصادي بسبب الحرب، مما يدفع بعمر أن يعمل في ورشة نسيج. إنها ورشة ترجع إلى القرون الوسطى، والناس فيها يمارسون أعمالًا قديمة منذ سنوات، وصاحب العمل ماحي بوعنان يحتقر عمَّاله، وهو يعرف أنهم لا يحبُّونه. ويعيش عمر في حالة من الملل، ويسمع زميله عباس يردِّد، في حالة جنون استبدَّت به: «وجودنا ضيقٌ في هذا العالم» بما يثير الصخب من حول الأثرياء. فيردُّ شخص: هؤلاء الناس ليسوا حشرات، إنما الحشرات من صيَّروهم إلى هذه الحال، وهم يعيشون على أجسامنا.
وفي «النول» نرى عددًا أكبر من الشخصيات الجديدة التي لم يسبق لعمر أن قابل مثلها في حياته الضيقة في داره الكبيرة. فهناك سكالي، ولامين، وشول، وحمرا، وعكاشة، وحمروش، ولكلٍّ منهم حكايته، وعالمه، ويسعون لكسب أرزاقهم.
وتنتهي الرواية نهاية مفتوحة، كأنما أراد الكاتب أن يقدم جزءًا رابعًا لها، فها هو عمر يشاهد أحد الجنود الفرنسيين في الظلام، عندما كان يستحمُّ في النهر الصغير، فيحيِّيه، ويتناول منه قطعة شوكولاتة «كانت نظراته تنتقل من شيءٍ إلى شيءٍ آخر، وكان في وجهه تعبيرٌ عن جديدٍ يوشك أن يكون قاسيًا عنيفًا.» وبالفعل فقد كان في ذهن الكاتب أن يفعل ذلك لكنه آثر أن يبدأ ثلاثية جديدة بدأت مع روايته «الله عند البربر» … واستكملها في «سيد الصيد»، لكنه لم يستطع استكمال هذه الثلاثية، ففي عام ١٩٧٧م، كتب رواية جديدة هي «هابيل» حول موضوع الهجرة؛ فهابيل رجل يجرُّ عربة في مدينة غريبة، يعيش حالة من التوهان.
وفي هذه المدينة يكتشف بطل الرواية الخبائث، فقد طرده أخوه من بلاده، وكان عليه أن يبحث لنفسه عن اسم، وأن يفكر فيما فعله قابيل مع أخيه. وطوال سبعة أيام كان على هابيل أن ينتظر الموت، وينتظر سيارة كي تدهسه، أو شخصًا كي يقتله. حتى يتعرف على سابين، وهي ابنة كاتب مشهور يُلقَّب باسم «العجوز»، لكن انتحار الفتاة المفاجئ يثير دهشته، ويحاول أن ينساها بأن يتعرَّف على فتاة مخبولة تُدعى ليلى، فقرَّر أن يتبعها إلى المصحة العقلية.
والاسم الحقيقي لهابيل في هذه الرواية هو إسماعيل. ويقول الكاتب جان ديجو في كتابه عن «الأدب المغاربي الناطق بالفرنسية» إن محمد ديب قد كتب رواية سياسية، وهو يعطي لأسماء أبطاله معنًى. فبطله مهاجر مثل بطل رواية «الغريب» لكامي، ولقد هاجر هابيل بسبب أخيه «ذلك الأخ الذي يحكم بلاده، إنه أخٌ حقيقي ما لبث أن أصبح شقيقًا روحانيًّا، إنه أشبه بأية حكومة في أيِّ مكان.»
أما آخر رواية نشرها محمد ديب فتحمل عنوان «شرفات أورسول»، وذلك في عام ١٩٨٥م. وهناك تشابه ما بين بطل الرواية عيد وبين هابيل، فهو محكوم عليه أن يغادر بلاده في مهمَّة رسمية إلى بلدٍ في الشمال، أطلق عليه اسم أورسول. وعاصمة هذه الدولة هي ياربر. إنها بلاد الشمس التي تسطع في منتصف الليل، ومن الواضح أن محمد ديب قد حاول أن يكتب رواية عن فنلندا التي عاش فيها سنواتٍ طويلةً. ويقوم البطل بإرسال تقارير إلى حكومته، ولكن أحدًا لا يقرأ تلك التقارير، وكثيرًا ما يتجاهل الدبلوماسيون إنجازاته. وذات يوم، وبينما هو يقوم بنزهة عند الشاطئ، يكتشف حفرة مليئة بمخلوقات خيالية تُطلِق صرخاتٍ حادَّة، ولا يعرف ماذا حدث بالضبط له منذ تلك اللحظة، فهو مدفوع نحو الشمال أكثر فأكثر، يخترق الجزر، والليل المليء ببياض الثلوج، ويتعرَّف على امرأةٍ تُدعى آبل، ولكنه ما يلبث أن يفقدها، ومع ذلك لا يتوقَّف عن الرحيل.
ويقول الكاتب جان ديجو إن هذه الرواية الجميلة، تبدو غريبة، ومزعجة في أضواء الكاتب المريرة، وفي أجوائه المعبَّقة بالموت والجنون، وتعطي الإحساس أن محمد ديب قد وصل إلى نقطة من المنفى الأبدي، أكثر من أقرانه من الكُتَّاب المغاربة. ويبدو ذلك في الطريقة التي ينطق بها بطل الرواية لفظ «الجلالة» … فالكاتب يعطي البلد اسمًا خياليًّا يعني الشمس باللغة الفنلندية، وهناك علاقةٌ خاصة بين الرواية وبين بلاده، إنها علاقة روحية تعكس عالم ديب.
والتشابه واضحٌ بين عيد وبين هابيل، فكلاهما في حالة هجرة، والنساء اللاتي تقابل كلًّا منهما مصيرهنَّ الموت في حوادث غامضة، ﻓ «آبل» تموت بعد أن تصدمها درَّاجة بخارية، وتترك حبيبها بعد تعارفٍ قصيرٍ في حالة من الحزن، والتساؤل: لماذا؟
كان آخر كتاب نشره محمد ديب هو ديوان شعر في عام ١٩٨٧م … يحمل عنوان «أيتها الحياة» وقد ضمَّنه مجموعة من قصائده الجديدة، وقد توقَّف الكاتب بعد ذلك عن الكتابة دون سببٍ واضحٍ … ومن المهم أن نشير إلى أن لغة الكاتب الشعرية قد تغيَّرت، فبعد قصائده الطويلة، فإن قصائده الجديدة قصيرة للغاية، ومن هذه الأمثلة:
ويتكلم محمد ديب عن تجربة قصائده المنشورة في ديوان «تكوينات» أنه أحسَّ بأن كتابة النثر قد سدَّت عليه الطريق، فأصابه الإرهاق، ولم يحسَّ بأية قوة كي يعاود الكتابة مرة أخرى … لذا، كان الشعر هو ملجأه ومرفأه الذي يرسو عنده. وقد جاء هذا الديوان مزيجًا بين الشِّعر المنثور والنثر، وحاول فيه محمد ديب أن يتخلَّى عن كل قيود الكتابة.
وتنتمي قصيدته «صيف» المنشورة في ديوانه «الظلال الحارسة» إلى هذا النوع من الإبداع الذي سعى فيه الكاتب للتخلُّص من كافَّة القيود التي تقيِّده كشاعرٍ. وقد اخترنا هذه القصيدة كنموذجٍ واضحٍ من إبداع محمد ديب الشِّعري حيث يقول:
أما قصيدته «أوجه الليل» المنشورة في نفس الديوان، فهي تنتمي أيضًا إلى نفس اللون من الشعر الذي يكتبه محمد ديب، وفيها يقول:
***
***
***
***
***
هذه القصيدة «أوجه الليل» كتبها الشاعر محمد ديب في أوائل الستينيات، ثمَّ نشرها في ديوانه الأول «الظلال الحارسة» عام ١٩٦١م، وهو نفس الديوان الذي أعاد نشره مضافًا إليه قصائد جديدة في عام ١٩٨٤م. وفي هذه القصائد بدا الشاعر على علاقة توحُّدٍ كاملٍ مع الطبيعة … خاصَّة فصولها، وأيامها، ولياليها، فعناوين قصائده هي عن الربيع، والشتاء، والليل، والظلام، والضياء، والظلال؛ ولذا، فليس من الغريب أن نرى هذه المفردات تتكرَّر داخل القصيدة الواحدة في أي من هذه القصائد، وبذلك فإن للشاعر مفرداته اللغوية الخاصة به، وهو لا يجدِّدها، بل يكرِّرها. والشاعر موجود في هذه القصائد يتجوَّل في الشوارع، ويرقب أضواء النيون، ويمشي إلى جوار السيارات، وهو وحيد، يتحدَّث إلى نفسه، يقرض الجديد من الشعر، ويحسُّ بتوحُّدٍ خاص، رغم شعور الغربة الواضح، مع كل ما حوله من بشر، وأشياء، بل إن هذه الأشياء تبدو أكثر التصاقًا به في قصائده من البشر.
وفي قصيدة «صيف» يمكن أن نلحظ عالم محمد ديب الشعري؛ فهي تعدُّ نموذجًا واضحًا لكافة إبداعاته الشعرية، إن لم نقل إن أغلب هذه القصائد تكاد تكون نسخًا كربونية، أو سلسلة متكررة من نفس المشاعر، الإحساس بالغربة، والعزلة، ولعل كثرة ترحال الشاعر، «وسفرياته» التي لا تنتهي كانت سببًا أساسيًّا لإحساسه بهذا العالم.
وإذا بدأنا بمفردات الشاعر فسوف نرى أن محمد ديب ينظر إلى المدينة من الخارج باعتباره ضيفًا عليها، رغم أنه لم يشِر هنا — بشكلٍ واضحٍ — إلى المدينة وأبعادها، وهويَّتها، فإن مفرداته هنا تؤكِّد على غربته. فالآخرون بالنسبة له مجرد «وجوه ضامرة»، يعود أصحابها إلى أشكالهم البدائية التي كانت عليها في بداية التاريخ، وهي أيضًا وجوهٌ لا تظهر للرائي إلا من خلال ما تعكسه أضواء القطارات التي تندفع في أروقتها.
وما يؤكد من مفردات الشاعر أنه غريب عن هذه المدينة حديثه عنها من خلال «فنادق الحب» و«أبواب المدينة». ثمَّ تلك الأشياء الموجودة في كل المدن الأخرى، ولا تميز واحدة منها عن الأخرى مثل الرصفان، ومفترقات الطرق، والدروب، وأعمدة النور، والجدران التي لطَّختها الإعلانات والأشجار السامقة، والحدائق التي تحلِّق فوقها أضواء النيون الخضراء.
هذه الأشياء كلها تساعد الشاعر على زيادة الإحساس بالضياع؛ لذا فإن محمد ديب يكرِّر استخدام نفس المفردات، ليس بين القصائد وبعضها البعض، بل أيضًا في داخل نفس القصيدة، مثل كلمة «الليل»، و«الظل»، و«الدروب»، و«الأضواء» … بل وكلمة المدينة نفسها، كأنما الشاعر يؤكد أنه سجينٌ لها.
والمدينة كما يصفها الشاعر هنا نائمةٌ ينبض قلبها بهدوءٍ شديد، وهي تخلو من حركة إلا من قطارات عابرة، ورجلٍ يمشي وحده بين دروبها يحفر داخل المرايا العاكسة، فلا يكاد يرى وجهه، والحركة الأولى في هذه المدينة هي حركة هذا الشاعر السهران حتى لحظات الفجر، فهو الساهر الوحيد بينما «المدينة نائمة».
ولم يتوقف عند أصحاب الوجوه الضامرة الذين يظهرون في مثل هذه الساعات من الليل، وهو يصفهم في مكان آخر بأنهم مغلقو الأعين، ولكنه ينبِّهنا إلى أن الأشياء من حوله متيقظة، مفتوحة العيون، مثل المرايا العاكسة. فهي تبدو شاهدة على مروره بين أروقة المدينة، ومثل القطارات التي تسقط أشعتها على وجوه المارة فتضيئها، ومثل السيارات والظل الهارب، وأضواء النيون. بل إن الأشياء الجامدة تتحرك في عالم محمد ديب، فالرُّصفان، ومفترقات الطرق والدروب، وأعمدة الإضاءة، بل والجدران الملطخة بالإعلانات، والأشجار السامقة؛ كل هذه الأشياء ليست ثابتة مثلما في أي مكان، بل هي «تتتابع» وراء بعضها البعض، فتتحرك بينما المدينة نائمة.
ولعلَّ الصوت البشري الوحيد الذي يسمعه الشاعر في هذه القصيدة، هو صوت نداءات باعة الصحف، وعلى كلٍّ فهو نداء غير حميمي، أشبه بالعيون المغلقة، والوجوه الضامرة، يكاد يكون «ديكورًا» لنفس المدينة، فكأن الليل في مثل هذه المدن لا تكتمل صفتُه، إلا إذا كان به باعة صحف. وبالفعل فإن الشاعر يرى أن السيارات، وأيضًا نداءات باعة الصحف، تقوم بإعادة ضبط هذا العالم غير المألوف، وتجعله مصابًا بالندم.
والقصيدة هي لحظة معايشة قصيرة، وإذا قارنَّاها برؤى محمد ديب، فسوف نرى أنها مجرد نبضٍ عابرٍ من الذي يحياه أبطال رواياته، فنحن أمام رجل تائه يعيش لحظة تيه، أو فلنقُل إن حياته كلها هي هذه اللحظة، هي لحظة من السَّكرة الخاصة، والدوران عن المألوف. ورغم أننا لا نستطيع أن نحدِّد زمن الدراما في القصيدة، بين بداية القصيدة ونهايتها، فإن هناك لحظتين مؤكَّدتين، الأولى أن هناك ليلًا، ثم هناك بعد ذلك انقشاع الفجر، وبين هاتين اللحظتين قام الشاعر بالتِّجوال فوق الأرصفة، ورأى آلاف الأشياء، ابتداءً من الجموع التي تعود إلى شكلها البدائي، والمقصود به هنا هو الموت، أو النوم، باعتبار أن النوم حالة من الموت، مرورًا بتضاريس الشوارع، إلى أن ينقشع الليل ويأتي الفجر.
وليس هناك توحُّد بين الشاعر، وبين تلك الأشياء التي يراها؛ لذا فإنها تجعله يشعر بالمزيد من الغربة، ولم يحدث أي تآلفٍ بين الشاعر وبين هذه الأشياء. فرغم أن المدينة تبدو حانية للشاعر، تفتح له ذراعيها وأبوابها، كي تقوده إلى دروبها، فإن هذا ليس كافيًا كي يتآلف معها، فالقصيدة تنتهي، وقد أصاب الدوران الشاعر. ورغم أن سكينةً ما قد حلَّت به حين نبض قلبه بهدوء، فإن ما رآه محمد ديب في هذه المدينة أشبه بما يراه كلُّ غريب في أية مدينة بها نفس المعالم، وفي نفس اللحظات.
والشاعر حبيسٌ للمدينة، ولليلها المظلم، فجدرانها ترتطم عند أعتاب الموت، وفي دروبها تهرب الظلال. ولذا، فإن التعبير الموجز والصحيح الذي وصفه الكاتب عن نفسه هو أنه «ضائع، ولكنه ضياع غريب، فكأنه في عالمٍ خالٍ تمامًا من أية معاناة، لذا فهو يحسُّ بالسكينة.»
وفي هذه السكينة يصبح الضوء أخضر، تمتلئ الميادين بالأضواء المبهرة، ثم تنثال نافورة المدينة في أعماق الميدان المظلم فتجعله مضيئًا.
والغريب أن الشاعر في منتصف قصيدته قد أعلن أن المدينة التي سار بها، وتجوَّل بين أروقتها، غير موجودة، ولم يكشف عن عدم وجودها بالنسبة له، فهل هي مدينة أحلام، أم أن لحظة التِّجوال كانت لحظة رؤيةٍ خاصة له، أم أن كل ما رآه كان بمثابة حلم يقظة؟
وهكذا، فإن الكاتب يحاول أن يقتل مدينته، أو أن يعتبرها غير موجودة ما دامت خالية من الحميميَّة، رغم أنه لم يُشِر قطُّ إلى رغبته الشديدة في أن يتواصل مع آخرين، وفي المقطع الثاني من القصيدة، فإن الشاعر يضع الموت في مقابل الحب.
رشيدة بوجدرة
وبوجدرة روائي في المقام الأول، فهو معروف كمبدعٍ في مجال الرواية، وحول تعليمه اللغة العربية تحدَّث إلى خميس خياطي، قائلًا: «البلد الوحيد الذي استعمرته فرنسا، ومنعت فيه تعليم لغته الأمِّ هو الجزائر. كانت اللغة العربية ممنوعة، وكان ذلك سببًا في مجيئي إلى تونس (معهد الصادقية). كان قانون «بيلا وان» يمنع تعليم وتدريس اللغة العربية في الجزائر ما عدا اللغة المحلية. كان «بيلا وان» يعتبر أن اللغة العربية لغة ميتة، واللغة المحكية تفتقد القوانين. فنجد الجزائري يتعلَّم في المدرسة اللغة التي يتكلَّمها في المنزل والشارع … وهذا الشيء هو السبب في شروعي في الكتابة باللغة الفرنسية، وبعد ذلك عدُّت إلى لغتي العربية.»
وقد آثرنا أن نستعين بهذه الفقرة الطويلة من حديث بوجدرة كي نرى كيفية تغيُّر المفاهيم الخاصة باللغة في الجيل الذي ينتمي إليه بوجدرة، وهو الذي ظهر مع نهاية الستينيات، ولمع في سنوات السبعينيات. فالكاتب هنا مزدوج اللغة الإبداعية، وهو يكرِّس اللغة التي يريدها حسب الظروف التي تحكمه، أو حسب الجمهور الذي يوجِّه إليه كتابته.
وحتى في لغته العربية، فإن الكاتب يستخدم الفقرات الطويلة على طريقة ويليام فوكنر وكلود سيمون. وفي روايته «الإرث»، على سبيل المثال، نرى علاقة حبٍّ تربط بين رجلٍ مسلمٍ وفتاة يهودية. وهناك وسط هذه العلاقة عودة دائمة إلى الوراء؛ فالراوية هنا يعود إلى ماضيه بلا توقُّف، إنه يروي قصة هذا الماضي وهو مقيمٌ في نفس المكان الذي عاش فيه سنوات المراهقة، وهو يسترجع بطاقات البريد والصور القديمة، ويتصفَّح مجلَّاتٍ قديمة، ويكتب بلا توقُّفٍ قصص أفراد أسرته عن أبيه الذي مات في حجرة مجاورة، وعن سفره إلى أماكن بعيدة. لقد أرسل إلى أسرته الكثير من البطاقات البريدية من كل بلدٍ زاره. ها هي هذه البطاقات تصلح خامةً جيدةً لروايته الغارقة في الماضي؛ ففي كلٍّ منها مدوَّن تاريخ إرسالها، وعليها بعض العبارات. وها هو ابنه يسأله عن بعض التفصيلات، كما أن المرأة التي يحبها لا تكفُّ عن ملاحقته، إنها مثله مشغوفة بماضي حبيبها، وهو يحكي لها دومًا عن هذا الماضي، ويبدو الأمر الآن وكأن كلَّ شيء قد أصبح إرثًا.
وتدور الأحداث في قرية معاصرة تُسمَّى المنامة، تقع في أطراف الصحراء، ولكن بعض الأحداث التي تعيشها فيها قد دارت يومًا ما في الماضي. ويقول الكاتب إنه في هذه المدينة الخيالية عاش ذات يوم العلَّامة ابن خلدون. ثم هناك رجل اسمه الكاتب محمد بلا اسم، يعيش في وحدته وحنينه للماضي، وهذا الرجل يعيش في أسرة لديها أكثر من ثمانية عشر زوجًا من الأطفال التوءم، وهو الآن أكبر أبناء هذه الأسرة، وهو الوحيد الذي ليس له توءم.
لقد رُزقت الأسرة ثمانية عشر من التوائم … لذا، فإن بطل هذه الرواية يُعتبَر شخصًا معجزة، لأنه وُلِد فريدًا بين إخوته، وهو قادر أن ينتقل بين الماضي والحاضر، بسهولة شديدة.
اختار رشيد بوجدرة أن يصنع في هذه الرواية عالمًا فنتازيًّا عربيًّا، مليئًا بالخيال والسحر، ومليئًا بكل ما يمكن أن تمنعه السلطات في البلاد العربية. وخاصة العبارات المكشوفة التي اشتُهر بها الكثير من الأدباء المغاربة، وأيضًا الناطقون بالفرنسية في الوطن العربي، ولكنه بشكلٍ عامٍّ لا يصل إلى أية درجة من درجات الإباحية.
آسيا جبار
تنتمي الكاتبة الجزائرية آسيا جبار إلى مرحلة وسط بين كاتب ياسين ورشيد بوجدرة، وقد اخترناها لأنها تمثِّل حالةً خاصة وفريدة في مسألة الإبداع، ليس فقط لأنها امرأة، كنموذجٍ للمرأة الكاتبة التي تبدع باللغة الفرنسية، بل، أيضًا لأنها جرَّبت أسلوبًا مختلفًا. فإذا كان ياسين قد حاول أن يكتب للمسرح بلغة عامية جزائرية بعد أن عجز عن فعل ذلك باللغة الفصحى؛ فإن آسيا جبار قد جرَّبت السينما، حيث تختلف لغة التعبير هنا كثيرًا … فيمكن للفيلم أن يتكلم بلغة الصورة.
وقد جرَّبت آسيا جبار الكتابة باللغة العربية في مرحلةٍ ما من حياتها، إلا أنها عجزت تمامًا عن التعبير عما يجيش به صدرها، فالإبداع غالبًا له لغة واحدة. وعاشت الكاتبة في حيرة، فلا رواياتها قُرئت في الجزائر بنفس الكيفية التي تريدها … ولا هي صنعت أفلامًا كما تشاء؛ فعادت مرةً أخرى إلى الأدب بعد طول انقطاعٍ.
أما صدمتها مع السينما الجزائرية فقد كانت — حسبما يقول مراد بوربون — من أن السينما القومية قد بدت لها بالغة الأكاديمية. وعندما عهد إليها التلفاز الفرنسي أن تُخرج فيلمًا في عام ١٩٧٧م ركبت سيارةً مع كاميرا، وذهبت لتصوِّر البسطاء من الناس، وجاء فيلمها «نوبة النساء بجبل شنودة» تعبيرًا عن دور المرأة الريفية في حرب التحرير. وقد حصل هذا الفيلم على جائزة مهرجان فينيسيا عام ١٩٧٩م، ثم فيما بعد أخرجت فيلمها الثاني «زردة».
في عام ١٩٨٥م حاولت أن تستفيد من تجربتها السينمائية فقامت بتحويل فيلمها الأول إلى رواية تحمل عنوان «الحب والفنتازيا». ومثلما فعلت في الفيلم فعلت في الرواية، فكلمة «نوبة» — في الفيلم — تعني مجموعة من العازفين يعزفون الواحد تلو الآخر، أو هي تناوب لقطعٍ موسيقية من خمسة فصول؛ وجاءت الرواية كأنها هذه النوبة، مقسمة إلى خمسة أقسام لها تأثير الألحان المتعاقبة. وفي الرواية تعطي آسيا جبار الكلمة للنساء، وتجعلهن يتكلمن الواحدة بعد الأخرى، فيصفن الأضرار التي تركتها حرب التحرير الجزائرية على أنفسهن وعلى عائلاتهن.
تدور أحداث الرواية حول مصير مجموعة من النساء والفتيات المرتبطات بحضارتهن ارتباطًا قويًّا، واللواتي يصرن في مرحلة من حيواتهن حائرات في أمورهن؛ فهن تارة خاضعات للرجل، وفي تارةٍ أخرى ثائراتٌ على التقاليد والعائلة.
تفتتح الكاتبة روايتها بسير امرأة جزائرية، بدأت تتحرَّر من القيود التقليدية وقد تأثَّرت في صباها كثيرًا بالحرب الجزائرية الأولى التي استمرت بين عامي ١٨٣٠م و١٨٧١م. ترى هذه المرأة في أبيها المعلم الصادق في عمله، الذي يسعى إلى رفع الجهل والتخلُّف عن الناس بالوسائل التربوية المتاحة في تلك السنوات. ورغم أنه كان يتقبَّل الكثير من المفاهيم الغربية التي أتى بها المستعمر إلى الجزائر، فإنه كان يتصرف أحيانًا طبقًا لأساليب التربية التقليدية كما كانت في الريف الجزائري. وعلى هذا النحو كانت علاقته بابنته، مع أنه أتاح لها أن تتعلم، ومكَّنها من أن تتصرف بحرية حتى تُزال عنها كآبة العيش في الأوساط المغلقة.
هؤلاء النساء خرجن من بيوتهن أو مارسن نشاطًا غير النشاط المنزلي، لكن بناتهن قد ساهمن مساهمة واسعة في حروب التحرير الطويلة. قدَّمن للمجاهدين شتَّى أنواع الدعم والمساندة إلى أن حصلت البلاد على استقلالها. وقد دفعت هؤلاء النسوة الكثيرَ من دمائهن، فقد كان الجنود الفرنسيون يبطشون بهن أبشع البطش، وصفت الكاتبة بعضًا منه وصفًا دقيقًا مؤثرًا، مثل المذبحة التي حدثت في قرية «القنطرة» القريبة من وهران، أو في مذبحة جبل نقمارية في يوليو ١٨٤٥م، أو تعذيب المجاهدين من نساء ورجال في قرى أخرى؛ حيث حوَّل الفرنسيون خزانات المياه الرومانية إلى سجون حشروا فيها المناضلين والمجاهدين.
وتقول آسيا في نفس الحديث عن علاقتها باللغة: «درست اللغة الفرنسية، وأصبح جسدي منسَّقًا على النمط الغربي.» وعندما كان الآخرون يسألون الأب عن السبب في أن بناته لا يرتدين الحجاب يرد: لأنهن يذاكرن. وبفضل المدرسة الفرنسية استطاعت البنات الهروب من المحبس كي يعبِّرن عن طموحهن. وتعلمت الكاتبة الفرنسية كلغة كتابة، وليس سوى ذلك، وهي تقول إنها تعلمت الفرنسية كي تسرق شيئًا من عدو الأمس.
وحجيلة ودَّت، ذات مرة، أن تتمرد على هذا الزوج الطاغية فخرجت من الدار، مثلما فعلت نورا بطلة إبسن في بيت الدمية «دون إذنه، ودون حجاب. فتشعر لأول مرة وكأنها فقدت جسدها وكيانها وحريتها، فتصبح مجرد عيون تُرى ولا تَرى، تنمو لديها رغبة الرؤية خلسة.»
ومحاولة لتقليل قيمة الرجل، فإن الكاتبة تتحدث عنه بضمير الغائب، فهو شخص بلا اسم محدد، شبح كبير يأتي ويذهب. وعندما يعرف الرجل أن امرأته خرجت من الدار بدون إذن ينهال عليها ضربًا أمام ابنها.
وقد تحدَّثت آسيا جبار في نفس العدد من «اليوم السابع» قائلة: «تمثل «الحب والفنتازيا» علاقتي بأبي، أما «ظل السلطانة» فهي تصور علاقتي بأمي. القسم الثاني من الرواية الأولى هو تعبير عن علاقة فتاة بأبيها وبالتالي باللغة، فعوض أن تكون اللغة الفرنسية لغة الغير ولغة المستعمِر، كانت بالنسبة لي لغة الأب. وهذه اللغة فتحت لي أبواب العالم، وأصبحت علاوة عن كونها لغة الآخر، لغة الحرية.
رشيد ميموني
برزت مجموعة من الأسماء المهمَّة في الأدب الجزائري المكتوب بالفرنسية في الثمانينيات، مثل طاهر جاعوت وعز الدين بونمور الذي مات برصاص المتشددين في مايو ١٩٩٣م. إلا أن أبرز هذه الأسماء وأكثرها نشاطًا وشهرة وتواجدًا هو رشيد ميموني، المولود في مدينة بودو القريبة من الجزائر العاصمة عام ١٩٤٥م، والذي درس الاقتصاد في بداية حياته. وقد نشر رشيد روايته الأولى «لن يكون الربيع أكثر جمالًا»، في الجزائر في عام ١٩٧٨م، وما لبث أن توجَّه إلى فرنسا مع أوائل الثمانينيات لينشر فيها أعماله التالية. ففي عام ١٩٨٢م نشر روايته «النهر المحول» التي تدور حول مناضلٍ من الجيش الجزائري الوطني في معركة التحرير، تصوَّر البعض أنه قد مات، فيفاجَئون بعودته إلى القرية، ولم يكن عليهم سوى أن ينكروه لأن البطل دائمًا يجب أن يكون ميتًا.
وفي عام ١٩٨٩م نشر ميموني روايته الفرنسية الثالثة، والتي لفتت إليه الأنظار، وهي تحت عنوان «شرف القبيلة». وقد أكدت هذه الرواية أننا أمام كاتب يسير على نهج كافكا، ويصنع لنفسه ولأبطاله أجواء خاصة. فإلى جانب المكان الذي يبدو سعيدًا في رواياته، وهو غالبًا قرية صغيرة، فهناك مجموعة من الأشخاص مرتبطون بهذا المكان يحاولون الدفاع عنه، والالتصاق بأديمه.
وتبدأ أحداث الرواية حين يستلم موظف البريد رسالةً تفيد بأن رجال المستعمِر قد أعلنوا أن «الزيتونة» أصبحت برتبة «قائم مقام»، ولا شكَّ أن مثل هذا التركيز المفاجئ على المدينة سيجعلها في دائرة الضوء، ويرى البعض أن الوضع الاقتصادي سوف يتحسَّن.
والرواية تدور على لسان راوية يسمع من أحد شيوخ القرية ما حدث للقرية. فقد جاء أبناء القرية إلى هنا بعد فترة قصيرة من الغزو الفرنسي للبلاد، جاءوا كي يبتعدوا عن هذه النكبة التي أصابت الجزائر. وكان عليهم أن يصنعوا مجتمعًا معزولًا، ليس فقط عن فرنسا، بل وأيضًا عن الجزائر.
لقد جاء على القرية ذات يوم حاكمٌ عيَّنه رئيس الحكومة الثورية الجديدة. هذا الرجل معروف لدى البعض من القرويين، فهو ابن لأحد الرجال الذين لهم نشاط في القرية. وهذا الرجل لا يعرف ما هي مهمَّته بالضبط؛ لذا فليس من الغريب أن يسخر من البعض، أو يمزح من الآخرين، ثم لا يلبث أن يتحوَّل إلى طاغية. وهنا تتغيَّر إيقاعات الحياة في القرية التي لم تعرف الطغاة من قبل، فعلى شيوخ القرية أن يقاوموا هذا الطاغية.
ومن الواضح أن الكاتب يُعطي إشارة باللون الأحمر حول ما يمكن أن يأتي به أية طاغية للبلاد، ولا شك أن هذا الرأي سيكون همَّ الكاتب في أعماله القادمة، وفي أحاديثه الصحفية، بل وفي مواقفه من المتشددين الإسلاميين في الجزائر.
هذا هو بعض من عالم رشيد ميموني، آخر الأجيال الأدبية الشابَّة في الجزائر … والذي وضعته جبهة الإنقاذ قبل وفاته في يناير ١٩٩٥م، مع أدباء آخرين ضمن المطلوب اغتيالهم وإسكاتهم … وقد كتب ميموني العديدَ من المقالات في الصحف والمجلات الفرنسية في الآونة الأخيرة، هاجم فيها الجبهة. وليس موضوعنا بالطبع التركيز على مواقف الكاتب السياسية في حياته، قدر اهتمامنا بمسألة لجوء هذا الكاتب إلى الإبداع باللغة الفرنسية. فلا شك أنه بعد الرواية الأولى وجد ميموني فرصته لدى دور النشر الباريسية، ومثل هذه الفرص لا تتاح لكل من يكتب بالفرنسية. وقد دفع هذا الكاتب إلى أن يقدم خمس روايات في عشر سنوات تقريبًا مؤكدًا أنه أبرز الأسماء الجزائرية التي تكتب بالفرنسية بعد رحيل كاتب ياسين، الذي توقَّف بدوره طويلًا، ووسط حالة من الجفاف الإبداعي عند كُتَّاب آخرين موهوبين.
الطاهر جاعوت
وأصبح على الأدباء أن يموتوا من أجل إبداعهم، من أجل كلمات جميلة كتبوها يومًا ما، فكان لزامًا عليهم أن يخرج عليهم قومٌ ملثَّمون بغتة، في ساعات النهار، ويطلقوا النيران، فتتناثر دماء فنان، حاول أن ينثر من حوله الزهور، وأن يجسِّد من حوله المشاعر الجميلة، والنبيلة.
كان هذا هو حال الشاعر والروائي الجزائري الطاهر جاعوت الذي لقي مصرعه في مايو عام ١٩٩٤م في مدينة الجزائر. وجاعوت شاعر لم يفعل شيئًا سوى أن قرض القصيدة، وحاول أن يزرع أملًا بكلماته.
يمثِّل الطاهر جاعوت واحدًا من أبناء الجيل الثالث من الأدباء الجزائريين الذين يكتبون مباشرة باللغة الفرنسية، فحين وُلِد في عام ١٩٥٤م، كانت الجزائر كلها تستعدُّ للثورة، وكان الثوار يقرءون روايات كاتب ياسين، ومولود معمري، ومولود فرعون. وحين كان في الثامنة، حصلت بلاده على استقلالها، فالطاهر من مواليد ١١ يناير عام ١٩٥٤م بمدينة أصفهان الجزائرية، وقد درس في هذه المدينة حتى المرحلة الثانوية، حيث اتجه إلى العاصمة، وهناك حصل على الليسانس في علوم الرياضة، ثم درس العلوم والصحافة.
وقد تولَّدت موهبة الطاهر الشعرية في سنٍّ مبكرة، أي وهو في الحادية عشرة من العمر. ورغم لغته الفرنسية، فإنه قد اهتمَّ في شعره بالواقع الجزائري المعاصر. وفي عام ١٩٧٥م نشر ديوانه الأول «المدار الشائك»، ثم جاء ديوانه الثاني عام ١٩٧٨م، تحت عنوان «القوس حامل الماء»، وفي عام ١٩٨٠م صدر ديوانه الثالث «قاطن الجزيرة وشركاه»، أما آخر دواوينه فهو «العصفور المعدني».
ويمكن تقسيم إبداع الطاهر جاعوت إلى مرحلتين منفصلتين تمامًا.
كان في الأولى شاعرًا مليئًا بالغموض، ويهتم باللغة، وتراكيبها المعقَّدة، انتهت هذه المرحلة تمامًا عند بداية الثمانينيات، فتوقَّف عن القرض، واتَّجه إلى الرواية، حيث نشر أولى رواياته عام ١٩٨١م، تحت عنوان «امرأة منزوعة الملكية». وفي عام ١٩٨٤م نشر روايته الثانوية «الباحثون عن العظام»، ومجموعة قصصية باسم «فخاخ الطيور». وفي عام ١٩٨٧م نشر رواية «اختراع الصحراء»، أما روايته «العسس» فقد فازت عقب صدورها عام ١٩٩١م بجائزة البحر المتوسط.
وقد تباينت دور النشر التي أصدرت هذه المؤلفات بين دار نشر في باريس، وبين دار نشر جزائرية. وفي عام ١٩٨٤م كلَّفته إحدى دور النشر الجزائرية بإعداد مجموعة من مختارات الشعر المعاصر المكتوب باللغة الفرنسية، بالتعاون مع إحدى الصحفيات تحت عنوان «الكلمات المهاجرة».
وطوال الفترة بين عام ١٩٧٥م، وحتى اغتياله في الثاني من يونيو ١٩٩٣م عمل مشرفًا على الصفحة الثقافية في مجلة «الجزائر الأحداث» التي تصدر باللغة الفرنسية في الجزائر، كما كان يراسل مجلة «أحداث الهجرة» التي تصدر في باريس. وفي بداية عام ١٩٩٣م شارك في تأسيس مجلة «القطيعة» الأسبوعية وعمل مديرًا لتحريرها، والتي كان هدفها الأساسي عمل قطيعة مع كل فكر ظلامي وضد شد الجزائر نحو الأمس؛ حيث اهتمَّ بتحديث اللغة والفكر، وقد شارك معه في تحرير المجلة أدباء من طراز «رشيد بوجدرة ورشيد ميموني» الذي قرر الهجرة إلى المملكة المغربية عقب اغتيال جاعوت، بعد أن أصبحت حياته في خطر.
وإبداع الطاهر جاعوت يميل إلى الغموض، وليس من السهل قراءته؛ حيث يدور النص، كما جاء في موسوعة الأدباء الجزائريين، حول مفاهيم خاصة، مثل اللغة والهوية والمنفى. ومن بين قصائده المنشورة في ديوان «القوس حامل الماء»، يقول (كما ترجمه إلى العربية الشاعر أحمد عبد المعطي حجازي) تحت عنوان «أمل»:
***
***
***
في حديثٍ للكاتب الطاهر جاعوت إلى مجلة «شئون عربية» التي تصدر باللغة الفرنسية (عدد نوفمبر ١٩٩٢م) يقول عن مرحلة تحوُّله في بداية الثمانينيات من قرض الشعر إلى الرواية: «الأنواع الأدبية التي مارستها قريبة جدًّا من بعضها البعض، وخاصةً في هذه الأيام؛ حيث لدينا كتابة متفجرة. فمنذ عام ١٩٨١م، ورغم أنني نشرت روايات فقط فإنني استمررت في كتابة القصائد، فما زلت أكنُّ للشعر وقارًا كبيرًا. والشعر بالنسبة لي هو الشكل الأكثر قبولًا، والأكثر سعةً حتى من الرواية نفسها التي لا يمكنها أن تسبح فوق سلم مليء بالمرونة. ولهذا فإنني لم أعتبر نفسي روائيًّا، وأعتقد أنني كاتب أكثر مني روائيًّا. وأهم شيء في أي كتاب هو أننا نمارس فيه الكتابة، والعمل على مستوى اللغة التحوُّل؛ فالحكايات لا تهمُّني كثيرًا، وأنا لا أجيد قصَّ الحكايات سوى تلك القصص الخرافية التي رويتها في «الباحثين عن العظام».
والغريب أنه رغم هذا الرأي الذي ذكره الطاهر جاعوت فإنه لم ينشر أية قصائد منذ اتجه إلى كتابة الرواية، وبدت هذه الكلمات أشبه برجلٍ يشعر بأنه خان حبيبته السابقة، فراح يعدِّد في مآثرها دون أن يعود إليها أو أن يترك حبيبته الجديدة، لأنه بكل بساطة غير قادرٍ على اتخاذ القرار، أو لم تعد لديه القدرة على ذلك، خاصةً أن تلك الحبيبة لديها من وسائل الجاذبية ما يجعله سابحًا في نهرها المتدفِّق.
فإذا كان الشِّعر قد عبَّر فيه الطاهر جاعوت عن لحظة آنية، مليئة بالغموض، اهتم فيها بتجريبٍ حادٍّ مع اللغة، فإنه في رواياته قد عاد إلى طفولته، إلى تلك السن المليئة بحكاياتٍ جذابة ساحرة؛ فالكاتب هنا لا يستهويه ما يحدث على الساحة الاجتماعية والسياسية في بلاده؛ لذا فإنه يهرب إلى زمن الطفولة، حيث تتملَّك المرء شهوة الحياة في مجتمعٍ مثالي، والرغبة في الرحيل إلى الفضاء الرحب. وفي نفس الحديث المشار إليه عبَّر الطاهر جاعوت عن هذه الحالة التي انتابته قائلًا: «أعتقد أن الطفولة تلعب دورًا بالغ الأهمية فيما أكتبه، فروايتي الأخيرة «اختراع الصحراء»، تنتهي بالطفولة. إنها نوعٌ من السيرة الذاتية للعديد من الشخصيات، تبدأ بسن البلوغ، وتنتهي بالطفولة، مظلَّلةً بكل المشاعر التي يحسُّون بها، وهذا هو حال كل أبطال الرواية.»
«بالنسبة لي فإن الشيء الوحيد الحقيقي هو الطفولة، ولا شك أن تعلُّقي ببلاد، هي في المقام الأول وطني، وكان سببه ما تلقَّيته في طفولتي، وجعلني أنتمي إلى هذا البلد. ولهذا فإن رواياتي الأربع لا تحتفي بالنزعة القومية بنفس الشكل الموجود في الأدب الجزائري بشكلٍ عام.»
«علاقتي بالتاريخ الوطني والقومي هي علاقة انتقادية، قائمة على أساس تناقض التاريخ القومي، وعلى الذاكرة التجميعية والتاريخ الشخصي، وأنا أحسُّ دومًا أن هذا التاريخ الشخصي يساهم في خنق المشاعر القومية الحقيقية، ويضع ذلك كله في إطارٍ ضيِّق وبالغ الحدَّة، أما أنا فإنني أنتمي لتاريخٍ آخر، يتمثَّل في حقِّ كل شخص في تاريخه، وفي ذاته المتسعة.»
وكما أثار الطاهر جاعوت نقَّاده في فهم عالمه الصعب والغامض، وكما أثار قاتليه الذين اغتالوه لمجرد أنه كتبَ، دون متابعة أعماله، فإن الطاهر جاعوت قد نفى عن نفسه أنه كاتبٌ ملتزم، حيث قال في حديثه إلى مجلة «شئون عربية» السابق الإشارة إليها: «لم أكن أبدًا كاتبًا ملتزمًا، فذلك نوعٌ من الفخاخ، كان يمكنني أن أسقط فيه عندما بدأت في الكتابة، ففي تلك المرحلة من الشباب المبكر كان المناخ العام في الجزائر ثوريًّا للغاية، ومع ذلك لم أسقط في ذلك الفخ؛ لأنني فهمت الثورة الجزائرية بمفهومي الخاص.»
ويكمل الطاهر جاعوت في حديثه إلى الكاتب عبد القادر زغلول قائلًا: «أنا كاتب يدافع عن القيم الأخرى … فلديها معانٍ أخرى في بلدٍ مثل بلادنا، وأنا أحاول أن أعبِّر عن مواقفي في الصحافة، وليس هناك موقف نضالي في كتاباتي، ليس هنا موقف نضالي قوي. وقد رفضت دومًا أن أضع نفسي في أطر أيديولوجية، ومرجعي في ذلك هو عاطفتي الخاصة. وإذا كنت أومن كثيرًا بالأدب؛ فإني أومن بشكلٍ أقلَّ في بعض المفاهيم والقيم السياسية، فالكتابة بالنسبة لي مسألة خاصة، محاولة لتجديد العالم من حولنا.»
قائمة بأهم الأدباء الجزائريين الذين يكتبون بالفرنسية
آبا، نور الدين (١٩٢١م)
وُلِد في مدينة سطيف، درس القانون في الجزائر، ثم سافر إلى فرنسا وإيطاليا. عمل صحفيًّا، وناضل من أجل القضية الفلسطينية. ثم عاد بعد طول اغترابٍ إلى الجزائر عام ١٩٧٧م. شاعر، من أهم دواوينه: «فجر الحب» عام ١٩٤١م، و«وراء الطلال» عام ١٩٤٢م، و«أبواب الغروب» ١٩٤٣م، و«أغنية ضائعة لبلادٍ عائدة» ١٩٧٨م. ومن مسرحياته «آخر يوم للنازي» عام ١٩٨٢م.
حمروش، تاوس (١٩١٣–١٩٧٦م)
وُلدت في تونس، شقيقة جان حمروش، تنقَّلت بين باريس وتونس. بدأت نشاطها بكتابة الأغنية. تزوَّجت من فنان تشكيلي، وعملت في الراديو التونسي. روائية وشاعرة من أهم أعمالها: «البذرة السحرية» ١٩٦٦م، ورواية «العاشق الخيالي» عام ١٩٧٥م، ومجموعة كبيرة من الأغنيات.
حمروش، جان (١٩٠٦–١٩٦٢م)
اسمه الحقيقي جان المحب. وُلِد في قبيلة صغيرة، وهاجر مع أسرته إلى تونس، ودرس هناك، عمل مدرسًا، ثم سافر إلى أوروبا. وعندما عاد إلى الجزائر عمل في الإذاعة الفرنسية كما عمل في الإذاعة الجزائرية. مارس السياسة، تُوفِّي في باريس. شاعر، من أهم دواوينه المنشورة في تونس «رماد» ١٩٣٤م، و«النجمة المقدسة» ١٩٣٧م. كما نشر مجموعة من اللقاءات مع بول كلوديل، وأندريه جيد وفرانسوا مورياك.
بلغانم، وبير (١٩٢٥م)
وُلِد في باريس، عمل بنَّاء، وأقام في الجزائر، ثم رحل إلى باريس. شاعر، من أعماله «نزهة مع ظلِّك» عام ١٩٥٤م، «ليلة أتالي» ١٩٢٥م، و«القفزة المستعادة» عام ١٩٧٤م، ومسرحية عن «سبارتاكوس» عام ١٩٧٠م.
بوجدرة، رشيد (١٩٤١م)
(انظر الفصل الخامس).
الحمراوي، علي (١٩٠٢–١٩٥٠م)
وُلِد في أسرة من عين الحمام، سافرت أسرته إلى مكة، ثم استقرَّت في الإسكندرية عام ١٩٢٢م. سافر إلى بلادٍ عديدة، واستقر في القاهرة، مات في حادث عام ١٩٥٠م. روائي، نشرت روايته «إدريس» عام ١٩٤٨م، ثم أعيدت طباعتها باللغة العربية عدة مراتٍ.
جبار، آسيا (١٩٣٦م)
(انظر الفصل الخامس).
حاجي، بشير علي (١٩٢٠م)
وُلد في أسرة بسيطة، ودرس في المدرسة القرآنية، ثم في مدرسة فرنسية. عمل في مجال النشر، دخل السجن عام ١٩٥٤م. أقام في باريس والجزائر. شاعر، وكاتب مقال. من أهم رواياته «أغنية من أجل ١١ ديسمبر» ١٩٦١م، و«لتستمر البهجة» ١٩٧٠م.
جاعوت، الطاهر (١٩٥٤–١٩٩٤م)
(انظر الفصل الخامس).
محمد ديب (١٩٢٠م)
(انظر الفصل الخامس).
عمراني، جمال (١٩٣٥م)
وُلِد في سور الغزلان، ودخل السجن عقب اشتراكه في مظاهرات، هاجر إلى سويسرا، واشترك في إصدار العديد من الصحف الجزائرية، مثل جريدة «الشعب»، وعمل في الإذاعة. شاعر، من أهم دواوينه: «أغنية للأول من نوفمبر» ١٩٦٤م، «شمس ليلنا» ١٩٦٤م، و«أيام بلون الشمس» ١٩٧٩م. له مجموعات قصصية، منها «الغروب الأخير» ١٩٧٨م، ومن مسرحياته «بين الأسنان» و«الذاكرة» ١٩٧٩م.
فارس، نبيل (١٩٤٠م)
وُلِد في القبيلة الصغيرة، التحق بالجيش، درس الفلسفة. رحل إلى أماكن عديدة في العالم. روائي وشاعر، من رواياته: «يحيى قليل الحظ» ١٩٧٠م، و«عابر الغرب» ١٩٧١م، و«حقل الزيتون» ١٩٧٢م، و«ذكريات الغائب» ١٩٧٤م، و«موت صلاح بيه» عام ١٩٨٠م. أما دواوينه فمنها «أغنية عقالي» ١٩٧١م.
فرعون، مولود (١٩١٣–١٩٦٣م)
وُلد في القبيلة الكبيرة، ابن أسرة ريفية، عمل في الزراعة، ثم ذهب إلى المدرسة، ثم عمل في التدريس. اغتيل في عام ١٩٦٢م. روائي وشاعر، من أعماله الروائية: «ابن الفقير» ١٩٥٠م، و«الأرض والدم» ١٩٥٣م، و«أيام القبيلة» ١٩٥٤م، و«طرق صاعدة» ١٩٥٧م. ومن أعماله الأخرى: «أشعار سي مهند» ١٩٦٠م، ويوميات ١٩٦٢م، و«نصوص جزائرية» ١٩٦٢م.
معمري، مولود (١٩١٧م)
(انظر الفصل الخامس).
ميموني، رشيد (١٩٤٥–١٩٩٥م)
(انظر الفصل الخامس).
ياسين، كاتب (١٩٢٨–١٩٨٩م)
(انظر الفصل الخامس).