الأدب المغربي المكتوب باللغة الفرنسية
وقد عرفت المغرب أدباءها الذين يكتبون بالفرنسية، كما عرفت الذين يكتبون بالعربية، ولا شكَّ أن الحركة الأدبية المغربية قد أفرزت عددًا أقل من الأسماء البارزة من مثيلتها في الجزائر، ليس فقط من حيث العدد بل أيضًا من حيث الأهمية. ومن أبرز هذه الأسماء التي ظهرت في نهاية الخمسينيات محمد خير الدين، وعبد الكبير الخطيبي، ومصطفى نيسابوري، وأيضًا عبد اللطيف لعبي.
والغريب أن أول مجلة أدبية ظهرت في المغرب كانت، كما جاء في الكتاب المذكور، تحمل اسم «أنفاس» وقد صدرت عام ١٩٦٦م، وفي العدد الأول من المجلة بدت الشكوك حول الأدب العربي المكتوب باللغة الفرنسية، وتساءلت المجلة: «هل يجب أن نصرح أن هذا الأدب لا يخصُّنا أكثر من أنه جزء بسيط منا؟ ليست لدينا إجابة حول حاجتنا لأدبٍ يحمل ثِقَل واقعنا الحالي، في مواجهة ثورة متوحشة تلطمنا.»
أما الجيل التالي الذي جاء بعد شرايبي وسفريوي، فهناك محمد عزيز الحبابي الذي عُرِف كفيلسوفٍ وأستاذٍ جامعي، وهو يكتب باللغة العربية، كما كتب أيضًا بالفرنسية، ثم هناك فيلسوف آخر يُدعى عمانويل منير.
ويُعتبَر عبد اللطيف لعبي واحدًا من الأدباء المرموقين في جيل الستينيات، حيث أصدر مجلة «أنفاس» باللغتين العربية والفرنسية، ولكن نشاطه الغالب هو قرض الشعر باللغة الفرنسية. أما مصطفى نيسابوري فهو شاعر آخر جمع قصائده المكتوبة بالفرنسية في ديوانَين الأول في عام ١٩٦٨م تحت عنوان «ذاكرة عالية جدًّا»، ثم «ألف ليلة وليلتَين» عام ١٩٧٥م. وبينما ازدهرت الرواية المكتوبة بالفرنسية في الجزائر، فإن الشعر المكتوب بالفرنسية قد ازدهر في المغرب، على أيدي محمد خير الدين وزغلول مرسي.
لذا، فليس من الغريب أن يبدأ الطاهر بن جلون، عند ظهوره في أوائل السبعينيات، إبداعَه كشاعر، وقد التصق بالشعر فترة قبل أن يتجه كلية إلى الرواية. ونتيجة لأهمية بن جلون كأديبٍ يكتب باللغة الفرنسية، ويعتبر الآن واجهة هذا النوع من الأدب المغربي، فإننا سوف نخصص الجزء الغالب من حديثنا عن إبداعه … خاصةً أن هذا الإبداع قد تُوِّج في عام ١٩٨٧م، حين فازت روايته «ليلة القدر» بجائزة جونكور، وهو بذلك أول عربي يحصل على مثل هذه الجائزة المهمة.
والطاهر مولود في مدينة فاس في عام ١٩٤٤م، وقد كان الوليد الوحيد في أسرة لم تنجب سوى البنات. وسوف نرى أن هذه التجربة قد أرَّقت الكاتب كثيرًا، وعبَّر عنها في روايتَيه «ابن الرمل» و«ليلة القدر». وقد هاجرت الأسرة بينما الطاهر في العاشرة من عمره إلى مدينة طنجة، وظلَّت هناك ثماني سنوات. وعندما بلغ الثامنة عشرة سافر إلى مدينة الرباط لدراسة الفلسفة في الجامعة، ثم توجَّه إلى مدينة تطوان عقب تخرجه في عام ١٩٦٨م من أجل العمل كمدرسٍ للفلسفة، وانتقل بعد ذلك إلى الدار البيضاء. نشر أولى قصائده في عام ١٩٦٥م، ثم قرر أن يدرس علم النفس في باريس، والتي اختارها للإقامة منذ عام ١٩٧١م؛ حيث وجد وظيفة مناسبة في جريدة لوموند التي لا يزال يعمل بها حتى الآن.
ورغم أن الكاتب يعيش في باريس وينشر باللغة الفرنسية، إلا أن كل أعماله تدور أحداثها في المغرب … بين مدنها وفوق أديمها، وأبطال هذه الروايات هم مغاربة وعرب في المقام الأول، ولعل هذا هو سرُّ مذاق الكاتب. وكما جاء في جريدة الوطن الكويتية أنه «كلما كنا قريبين من مسقط رءوسنا امتلكنا أكثر الفرصة في أن نخاطب العالم كله، وفي أن نكون مفهومين من الجميع. وإذا كتب أحدنا رواية عن الإنسان عمومًا فإنه لا يؤثر في أي قارئ بشكلٍ خاصٍّ.»
ويقول بن جلون في نفس الحديث إنه «لا مشكلة هوية لديَّ، أقول إن لغتي هي الأدب، ولا أشك في عروبة ما أكتب. ومن البدهي أن يكون هذا الأدب الذي أكتبه عربيًّا في الجوهر والروح، وليس في الكتابة.»
«لم نعُد كُتَّابًا هامشيين؛ فثمة جمهور كبير يتابعنا الآن، وهو الذي يمنحنا الشرعية والاعتبار، وليست الأوساط الأدبية الفرنسية.»
ولو نظرنا إلى إبداع بن جلون، فسنراه مرتبطًا في المقام الأول بالمكان العربي، قضاياه، ومشاكله، ومعاناته. وقد بدا هذا بشكلٍ واضحٍ في كتابه «ماتت أشجار اللوز متأثرة بجراحها»، فهو، على سبيل المثال، يدافع عن القضية الفلسطينية والفلسطينيين، ويقول في خطابٍ له وجَّهه إلى ابنه: «لقد توقَّف اليوم داخل تجعيداتي منذ أن مرَّت آلاتهم الدامية فوق منزلنا، كم هي مرعبة تلك السيارة الضخمة التي تنتهش الشيء القليل الذي بقي لنا: قطعة من الأرض، سقف وثلاث أشجار. إنها آلة تصنع الضوضاء، تلمع الشمس وتنفجر في الضحك المتواصل عندما تخرج من الزهور البرية الصغيرة الهشَّة التي تسعى إلى النمو. رأيت أسنانه المصفرة من دماء الأرض التي تحطمت فوق حفنة رمال، رياح خفيفة تحزُّ جذور الشجرة. تهبط الشمس وتجمعها. أعتقد أنها تسكن سحابة صغيرة جامدة لا تتركنا منذ أن كنا بلا سقف، بلا مأوًى. أخوك الصغير يجري كي يقفز، كُتب المدرسة يعلوها التراب، لقد خفنا، وحاولت الآلة أن تلتهمها.»
وفي مقالٍ آخر بعنوان «العربية … العربية» حول زيارته للمسجد النبوي الشريف بالمدينة المنورة، ومدى شعوره بالرهبة والخشوع الذي أحسَّ به كتب: «ليست الصحراء قصيدة، ولكنها أيضًا أفكار مسبقة، وصورة ملونة، مرسومة بالنيون أعلى العمارة التي لا تنتهي في أركان الشوارع التي لا سقف لها. إنها ذكرى شاحبة، تنتقل فوق جبين السحب التي تبدو في وجه السماء حيث تكمن النجوم.»
وما يكتبه الشاعر هنا في صورة مقالات ليس سوى نوع من التعبير الشعري المنثور عن أشياء يحسُّها. ولذلك فإن هذه الانطباعات قد بدت مجسَّمة كثيرًا في هذا الكتاب عن القصائد. لكن موضوع الوحدة الذي يعاني منه الكاتب يطارده في قصائده وانطباعاته … فهو يكتب عن «طبوغرافية» الوحدة، وهناك مجموعة قصائد قصيرة متناثرة جمعها تحت عنوان «أصيلة … فصل الزبدة» وهي قصائد لا تزيد كلٌّ منها بأية حال على خمسة أو ستة أبيات، قليلة الكلمات مثل:
وفي آخر مجموعة من هذه القصائد هناك قصيدة رائعة يقدمها قائلًا: «أنا في الحكمة والحقيقة، أمتلك مفاتيح المدينة، سيد البحار والصيادين. أنا اليوم مقبرة في الأرض الرطبة، أجمل المقابر التي أصابها الجنون؛ حيث ينام فيها المجانين ومرضى الحب … المرضى الحقيقيون.»
أما القصيدة فيقول فيها:
أما كتابه «ندوب الشمس» فهو يضم كذلك مجموعة من القصائد الطويلة استوحاها من جوِّ المغرب، وأطلق عليها اسم «مراكش»، كما يضم قصصًا قصيرةً بلا عنوان، ثم ثلاث قصص أقرب إلى الانطباعات منها إلى فنِّ القص، حيث مزج الشعر بالسرد لدرجة يمكن تصورها قصائد قصصية قصيرة. مثل «الجمال» و«الشجرة»، وهي كلها تعبِّر عن الحياة في شمال أفريقيا: «من وقتٍ لآخر تمدُّ الشجرة نبضاتها، وتتمدَّدُ جذورها. سرعان ما يستفيد منها الأطفال كي يخرجوا، ويلفُّوا في الغابة العارية وهم سعداء. تدور الشمس بين أصابعهم، ويفتحون أذرع السماء، ويهرب الصباح بين أشواكها كي يشهد على إبحار المهاجرين.»
ويضمُّ ديوان «أحاديث الجمل» مجموعة من القصائد المغربية المجنونة التي تعكس شعور الكاتب بفراغ الوحدة والحنين إلى الألفة. وبين بعض فقرات وقصائد الديوان، يقدم الطاهر بن جلون — كالعادة — مقتطفات نثرية اختارها هنا من كتاب «هكذا تكلم زرادشت» لنيتشه، وقد أهدى إحدى هذه القصائد إلى الشاعر محمود الهمشري التي يقول فيها:
ويقول في نفس الكتاب إن الأديب في العالم الثالث في حاجة أن يتعرف إلى كُتَّاب آخرين، وأنه قد تعرَّف على جان جينيه الذي علَّمه حياء الأدباء. أما صديقه الناشر ماسبيرو فقد ساعده على نشر كتبه في داره الخاصة التي طبعت أغلب دواوينه الشعرية.
هذا هو العالَم الشعري للطاهر بن جلون … ولكن ماذا عن رواياته؟
لا شك أن هناك أشياء عديدة من ذاكرة الكاتب قد تجسَّدت في هذه الروايات، مثلما تجسَّدت في أشعاره. والذاكرة خِصبة بالأماكن والأشخاص الذين يعيشون عليها. وفي أغلب روايات بن جلون هناك جزء من سيرته الذاتية، هذه السيرة متناثرة في هذه الروايات بشكلٍ يمكن الإمساك بها بسهولة، وأيضًا يمكن أن تفلت منك بسهولة. فالكاتب يصوغ هذه السِّيرة ببراعته الفنية التي لا تجعله يقع في شراك السيرة الذاتية التي قد تنحِّي بالكاتب عن القص الروائي … وقد تؤثر كثيرًا في فنية العمل. وفي رواياته يبدو المكان، والأسرة، عماد كل أعماله الفنية. ولا شك أن الطرفَين قد تفاعلا معًا فصنعا مزيجًا خاصًّا لكل منهما الآخر … فلا يمكن أن تذكر الأب والأم دون أن تذكر البيت الذي عاشا فيه مع أبنائهما، ولا المدينة التي انتقلا إليها. والمدينة هنا، كما عاش بن جلون هي فاس، أو طنجة. إنهما دائمًا نفس المدينتين، كأن العالم لم يتحرك خارج حدودهما … ورغم العالم الرحب الواسع الذي ذهب إليه بن جلون فيما بعد، فإنه آثر أن يحبس نفسه في هذه المدينة، كما أن الكاتب يذكر مدنًا أخرى مغربية مثل الدار البيضاء التي يراها في رواية «حرودة» مدينة المستقبل. أما طنجة فإنه يداعبها في نفس الرواية، ويطلق عليها اسم «الخيانة» وهذه المدن بالنسبة للكاتب هي مدن الطفولة، وفي هذه المدن تتباين أشكال الناس خاصة النساء؛ فهناك المرأة الفاضلة الطيبة، وهي غالبًا أمه، كما أن هناك بنات الهوى.
ويمكن أن نجد كل هذا العالم والسمات في روايته الأولى «حرودة»، والذي تكرر بعد ذلك في كل رواياته، فهو يهدي الرواية إلى أمه، تلك المرأة التي عليها أن تتعامل مع الأب كأنه البطريرك، أو «الإله» — مثلما حدث في رواية شرايبي الأولى — والمرأة هي التي تصنع تمثال هذا الرجل الذي هو أبوه.»
وفي رواية «حرودة» لا ينسى بن جلون أنه شاعر، فيتغنَّى لها ويصفها شعرًا قائلًا:
وقد بدت نفس ملامح الأشخاص والأشياء في روايته الرابعة «صلاة الغائب» التي يروي فيها أيضًا جزءًا آخر من سيرته الذاتية. ومع ذلك فإن كل شيء يبدو أشبه بالخيال، عدا تلك الأسئلة التي تتعلق بالهوية والجذور والكتابة، فهي أشبه بيومياتٍ خاصة لشخصٍ يبحث عن هوية، ويريد أن يعطي لجذوره معنًى، فكل شخص يقدِّمه الكاتب يكافح في مجاله. و«يمنى» المرأة التي سوف تقود الآخرين، وهي تعبر الغرب، ليست صورة حقيقية من امرأة كانت تحمل نفس الاسم، عملت في الهوى وعاشت في مدينة فاس. إنها بالطبع صورة متكررة من حرودة، ولعلها نفس المرأة. أما سندباد فهو رجل فقدَ الذاكرة بعد أن صُدِم في علاقة عاطفية، وكأنه يتخلَّى بالمجتمع من حوله عن هوية ارتبط بها كي يعيش في عالمٍ جديدٍ. إنه يعيش في المقابر قريبًا من شخص أكثر منه فقرًا، والفقر هنا هو فقر الروح. إنه يحمل اسم كلبه «يوبي». وهناك الطفل الذي عليه أن يذهب مع الثلاثة إلى مقبرة الشيخ «أبو العينين»، لقد وُلِد في المقبرة تحت شجرة زيتون، ليس له اسم، وهو — كما يصوِّره الكاتب — إنسان بكر يبدو واضح الوجه.
تتحرَّك هذه المجموعة بقيادة «يمنى» من الشمال نحو الجنوب، في داخل البلاد، يرَون مغرب الأمس واليوم، ينتقلون بين المدن والقرى، من أماكن حقيقية إلى أخرى يتخيَّلونها. إنهم يتمتعون حين ينسون أن الزمن يدور من حولهم، ويروح واحد منهم يتذكر زمن المقاومة ضد الاستعمار، التي كان يقودها الشيخ أبو العينين.
وإذا كانت هذه الروايات قد بدا فيها المكان بطلًا من خلال المدينة والأشخاص الذين يعيشون فيها؛ فإن الأسرة هي البطل الأساسي في روايتَيه، أو فلنقل ثنائيتَيه؛ «ابن الرمل» و«ليلة القدر»، فنحن هنا أمام بن جلون بشكلٍ آخر. ذلك الصبي الذي وجد نفسه في أسرة أنجبت عددًا كبيرًا من الإناث ولم تنجب سواه … فاستحق كل الرعاية والاهتمام باعتباره الذكر الوحيد في المنزل. وقد قام الكاتب بتغيير هويته ليتخيل أحمد الطفل الذي جاء في أسرة لم تنجب سوى البنات. وأحمد هذا ليس سوى بنت، لكن رب الأسرة أقسم على امرأته ذات يومٍ أن تلد ولدًا، حتى لو كان بنتًا … فسوف يكون ولدًا … لذا فعندما ولدت الأم أنثى، كان على الأب أن يعلن على الملأ أنه رُزِق «أخيرًا بمولود ذكر، بعد أن أعطاه الله سبع بنات.»
والثنائية الروائية تدور أحداثها على لسان هذه الأنثى-الذكر، أو الأنثى التي عليها أن تتصرف كأنها ولد. فهي عندما كبرت صارت رجلًا يحمل في جسده صدر امرأة. والأب هنا مثل الأب في كل الروايات التي كتبها بن جلون، فهو بين «سيد» و«رب» المنزل، ويحس أن رجولته مفقودة ما دامت امرأته لم تنجب له صبيًّا واحدًا. يصرخ: «بطنك يا امرأة، تعجز عن حمل صبي.» صرخ الحاج: «لذلك قررت أن تكون الولادة الثامنة عيدًا، احتفالًا عظيمًا يستمر سبعة أيام وسبع ليالٍ. ستصبحين أمًّا حقيقية، ستصبحين أميرة لأنك ستكونين قد أنجبت صبيًّا … الطفل الذي ستضعينه سيكون ذكرًا، سيكون رجلًا، سيُدعى أحمد حتى ولو كان أنثى! لقد أعددتُ العدة لكل شيء، وهيأتُ لكل شيء. سنأتي بالقابلة العجوز، لالا راضية، فهي لن تعيش بعد ذلك أكثر من عام أو عامين، وسأعطيها بالتالي ما يلزمها من نقود، كي تحتفظ بالسر …»
يعود المكان واضحًا من جديدٍ في رواية «يوم من الصمت في طنجة» المنشورة عام ١٩٨٩م، والتي يتحدث فيها عن رجل عجوز مريض قابع في حجرة. وذات ليلة باردة، وبينما هو في وحدته، والجدران تسرِّب الصقيع؛ تنتاب الرجل رغبة أن يخابر أصدقاءه، ولكنه يكتشف أن كل الأصدقاء قد ماتوا، فتنتابه الرغبة في المرأة، ويكتشف أن الخادمة ليست سوى امرأة دميمة. تنتابه الرغبة في أن يقصَّ الأنسجة والأقمشة مثلما كان يفعل في شبابه في محلِّه، ولكنه عندما يحاول أن يفعل هذا يكتشف أن أصابعه ترتعد، ورغم هذا فهو يصرُّ أن يفعل ذلك، حتى لو ألقى بكل الأدوية من النافذة.
ورجل مثل هذا ليس له حاضر، لا بد أن يعيش في الماضي، وأن يسترجع في ذاكرته كلَّ ما حدث وما لم يحدث في السنوات الخوالي. وعليه أن يعيد تجسيد الوجوه والأصوات مرة أخرى، وأن يرى، من جديد، كيف كان الجيران القدامى، كأنه بهذا يصنع حياة داخلية من الصعب الإمساك بها إلا في الذاكرة في يوم مليء بالصمت. لا يجيء أحدٌ كي يتحدث إليه، وعليه الآن أن يقبل فكرة أنه رجل عجوز، بل وأن يموت وقد اتسع صدره لنهايته الهادئة.
وفي روايته المنشورة عام ١٩٩١م تحت عنوان «غض البصر» ينتقل بن جلون إلى إحدى المدن البربرية في جنوب المغرب ويجعل الرواية، مثلما حدث في ثنائيته، تدور على لسان راوية تواجه عمَّتها القوية الشكيمة. وتحلم بأبيها الذي رحل إلى فرنسا من أجل العمل، والذي يمثِّل بالنسبة لها شيئًا مهمًّا. تتصور الفتاة أن أسلافها القدامى قد تركوا لها كنزًا في مكان بجبال طنجة، وأنها الوحيدة التي تعرف اسم المكان الذي به الكنز. وذات يومٍ يعود الأب من سفره، بعد أن يموت أخوها القزم كي ينتزع كلَّ أبناء أسرته من جذورهم، ويذهب بهم إلى باريس؛ حيث سيقيم الجميع في حي «جوت دور» — نقطة الذهب — الذي يُعتبَر تجمعًا للعرب المهاجرين من شمال أفريقيا.
وما إن تصل الراوية إلى باريس حتى تكتشف عالمًا آخر لم تكن تتصور قطُّ أنه موجود؛ فهي ترى السيارات الفخمة لأول مرة، وتطالع الكتب، وتصطدم بالعنصرية الأنانية والحب، وتحسُّ كأنها وُلدَت من جديد، ولكن هل تنخلع من جذورها القديمة؟
والفتاة في هذه الرواية تتسم أن لها عينين جميلتين وواسعتين وجبهة عالية مليئة بالغموض. وفي الكتب التي تبدأ في قراءتها، وهي القروية البريئة، تبدأ في التعلُّم أن هناك أشياء جميلة جمال الخيال الذي كانت تتمتع به وهي في القرية؛ ولذا فإنها تصنع لنفسها ما يسمَّى بالبُعد الثالث، أنه يمزج بين حلمها وخيالاتها وبين ما تراه من واقعٍ.
هذا هو عالم أشهر كاتب الآن من المغاربة الذين يبدعون باللغة الفرنسية، وقد اخترنا أن نلقي عليه أضواء عريضة لأنه بالفعل النموذج الأكثر وضوحًا في هذا الأدب، الأكثر إخلاصًا لبيئته العربية. وصحيح أن هناك أسماء أخرى مثل التي ذكرناها في بداية حديثنا … لكنها ليست بنفس الخصوبة والجودة … ويبقى بن جلون الاسم الأكثر معاناة في الأدب المغربي المكتوب بالفرنسية.
إدريس شرايبي
وإدريس شرايبي يقيم في باريس بصفة دائمة منذ عام ١٩٦٥م، ومثل كل أقرانه، لم يشأ أن يخرج عن جلده؛ فهو يكتب عن البيئة العربية التي عاش فيها، ولكن في أعماله الأخيرة امتزجت بشخصياتٍ عربية وأخرى فرنسية. فعلى سبيل المثال فإن روايته «الذاكرة الموشومة» تدور أحداثها في قرية بشمال أفريقيا في ليلة الاستقلال، فهناك شاب يُدعى «بول ريفير»، إنه ابن الاستعمار، يرفض فكرة أن ينفصل عن الأرض التي وُلِد فيها، وكي يهرب من هذا الواقع المرير الذي عليه أن يواجهه، فإنه يفكر في إنشاء تمثال تذكاري على هيئة ساعة.
وفي أحد البارات بمدينة طنجة يلتقي بامرأة بريطانية تُدعى بيتي، وهي امرأة نفعية، تحاول أن تتعرَّف عليه وتغويه فيقع في هواها. وتتلاحق الأحداث بسرعة، ويصبح على «بول» أن يرحل، ولكن هناك شيئًا يمزقه. تمر عدة سنوات، رحلت زوجته مريم إلى المدينة على أمل أن تحصل على عمل، وذهب معها زيجو صديقه الحميم. والرواية مزدحمة بالشخصيات، فهناك ولدا العم عثمان، وونيس الذين يعملون في إصلاح السيارات. أما زيجو فيصبح حارسًا على مقبرة للسيارات، بينما ونيس الشغوف بالميكانيكا يروح يبحث عن شبح «بيتي» في كل سيارة تمرُّ أمامه، ويحسُّ كأنه يتشمَّم عطرها. ويفاجأ ذات يومٍ أن زيجو قد اشترى له سيارة قديمة أشبه بالتي كانت تقودها بيتي. ويذهب ونيس ذات ليلة إلى أحد البارات، ويكتشف أن المرأة التي تغني كل ليلة، وتصنع المتعة للزبائن ليست سوى «بيتي».
ترى «بيتي» حبيبها القديم في صورة ونيس فتحتفي به، ويعرف أنها كانت تحب أباه بول ريفيير الذي يشبهه كثيرًا. وينتبه ونيس إلى خطيئته التي سيرتكبها فيشترك في سباق السيارات، ويحسُّ أن السيارة وهي تنطلق لتكسب السباق كأنها تخلِّصه من آلامه الجسدية.
والعرب في رواية شرايبي قومٌ مليئون بالحيوية والنشاط، استطاعوا أن يجتازوا الزمن فوق دوابهم. ويتحدث الكاتب عن شخصية قادرة على صنع المعجزات. ونحاول أن نعثر على عصر جديد أفضل مما يحدث الآن. وهناك أيضًا شخصية عزاوايت الذي جاء من أعماق التاريخ كي يولد من جديد، ويحمل كلَّ شيء على يديه. وتقول الناقدة آن براجانس: «يجب أن نقول إن شرايبي يقدم هنا أحد أجمل مَشاهده الطفولية التي يمكن قراءتها، فعند لحظة الموت نعرف أن أباه هناك.»
أما روايته «المفتش علي» فتدور على لسان الراوية إبراهيم عرورق الذي أصبح مشهورًا على المستوى العالمي بكتابة الروايات البوليسية التي بطلها شخص يُدعى المفتش علي. والكتب التي تحكي عن هذا المفتش تحقق كسبًا عالميًّا، كما أنها تحصل على جوائز أدبية. لقد قضى إبراهيم سنواتٍ عديدة في فرنسا، وها هو يعود إلى بلاده المغرب مع زوجته فيونا، وهي امرأة اسكتلندية جميلة أشبه بعرائس البحر. الآن على فيونا أن تنتظر قدوم ابنها الثالث، كما أنها تنتظر قدوم والديها من أدنبرة، ولا شك أن مثل هذه الزيارة ستكون ساحة خصبة للصراع والمواجهة بين مجتمعَين مختلفين تمامًا. فالزوجان — والدا فيونا — يقومان بجولة في المدينة، ويعلق أحدهما قائلًا: «إننا في بلادٍ لا تمشي فيها الأشياء، فالناس هنا في بطالة.»
أما الكاتب على لسان الزوج المؤلف فهو يرى أن أوروبا ليست سوى قصص مرسومة، أو سلاسل من الحكايات الساذجة. ورغم أن شهرته جاءت من كتاباته التي يؤلفها لهم، وأن الناس يسمونه «ملك أكشاك بيع الكتب»؛ إلا أنه لم يلتحم تمامًا مع هذه الحضارة.
قائمة بأهمِّ أدباء المغرب الذين يكتبون بالفرنسية
بارودي، عبد الله
سياسي وشاعر وجامعي، عاش في المنفى في فرنسا لسنواتٍ عديدة، من أعماله النثرية «المغرب تبحث عن ثورة» عام ١٩٧٢م، ومن أشعاره دواوين «المغرب أو ذاكرة المنفى» عام ١٩٧٩م، و«أشعار فوق الأرواح الميتة» عام ١٩٨٢م.
بلزميني علوي، محمد (١٩٥١م)
بلهاشي، أحمد (١٩٢٧م)
ولد في الدار البيضاء، درس الأدب في جامعة باريس، ثم درس في كمبردج، ثم عمل بعد الاستقلال ملحقًا في مجلس الوزراء للسلطان محمد الخامس. قام بتدريس الإنجليزية في بريطانيا وفرنسا. عمل مديرًا للمركز السينمائي بالرباط. له مسرحيتان «الآذان ذات الوشاح» عام ١٩٥٦م، و«حصن الرمل» عام ١٩٦٢م.
بلهاشي، عبد القادر (١٩٢٧م)
وُلِد في الدار البيضاء، ودرس في جامعة كمبردج. عمل مديرًا المركز الثقافي المغربي بين عامي ١٩٥٨م و١٩٥٩م. قام بتدريس اللغة الفرنسية في بريطانيا، وعمل سكرتيرًا لسفارة المغرب في واشنطن. نشر مسرحيته الأولى «المتبرجة» ١٩٥٢م، ورواية «ثريا» أو «الرواية التي لم تنتهِ» عام ١٩٦٠م.
بن جلون، الطاهر (١٩٤٤م)
(انظر الفصل السادس).
بن حمزة، عبد الرحمن (١٩٥٢م)
وُلِد في مراكش، يعمل مدرسًا للغة الفرنسية وناقدًا. شاعر، من أعماله «المسافر» عام ١٩٧٥م، و«أضواء هشَّة وصحراء شاسعة» ١٩٧٧م، ثم كتاب نثري بعنوان «من يومٍ لآخر» عام ١٩٨٠م.
خطيبي، عبد الكبير (١٩٣٨م)
وُلِد في الجديدة، درس علم الاجتماع في السوربون، ثم حصل على الدكتوراه عام ١٩٦٥م. يعمل مدرسًا في كلية الآداب بالرباط. روائي وشاعر وباحث وناقد، من رواياته «الذاكرة الموشومة» عام ١٩٧١م، و«كتاب الدم» ١٩٧٩م. ومن مسرحياته «النبي المحجب» عام ١٩٧٩م، ومن أهم دراساته «فن النسخ العربي» عام ١٩٧٦م.
خير الدين، محمد (١٩٤١م)
وُلِد في تفروت من أبوين نجارين، اكتشف الشاعر «رامبو» وأحبَّه. ويكتب بالعربية والفرنسية، صادق شعراء فرنسيين، وتزوج بفرنسية. أسَّس مجلة «أنفاس» عام ١٩٦٦م مع عبد اللطيف لعبي، ثم مجلة «المياه الحية»، ثم رحل إلى فرنسا عام ١٩٦٧م. شاعر من أهم دواوينه «غثيان آشور» ١٩٦٤م، و«شمس العناكب» عام ١٩٦٩م، و«هذه مراكش» ١٩٧٥م، و«بعث الزهور البرية» عام ١٩٨١م. ومن رواياته «أجسام سلبية» ١٩٦٨م، و«الخارج من الأرض» ١٩٧٣م، و«حياة وحلم وشعب» عام ١٩٧٨م.
سفريوي، أحمد (١٩١٥م)
وَلد في فارس في أسرة بربرية، درس في مدرسة قرآنية، ثم مدرسة فرنسية، ومارس العديد من المهن. ثم بدأ في نشر أعماله عام ١٩٤٣م في الصحف، ثم عمل في وزارة الثقافة. يقيم في المغرب. روائي، من أهم أعماله: «كنيسة عنبر» ١٩٦٤م، و«علبة العجائب» ١٩٥٤م، و«مراكش» عام ١٩٥٦م، و«الحلم بمراكش» ١٩٧٠م، و«منزل العبودية» ١٩٧٣م.
سليم، جاي (١٩٥١م)
وُلد مع أخيه فريد لأب مغربي وأم رومانية، رحلت الأسرة إلى باريس عام ١٩٧٣م. شارك في العمل في مجلات نقدية أدبية. روائي، وناقد. من رواياته «الأسبوع ١٠ ومدام سيمون في سن المائة» عام ١٩٧٩م، ثم «مجنون القراءة» أو «الأربعين رواية» عام ١٩٨١م، ثم «ستكون طاغية يا بني» عام ١٩٨٢م.
شرايبي، إدريس (١٩٢٦م)
(انظر الفصل السادس).
لحبابي، محمد عزيز (١٩٢٧–١٩٩٣م)
وُلِد في فاس، ودرس في باريس، ثم حصل على الدكتوراه في الفلسفة. عمل مدرس فلسفة في كلية الآداب بالرباط، ثم عميدًا للكلية عام ١٩٦١م. أسس اتحاد الكُتَّاب في المغرب، وسافر إلى بلادٍ عديدة. صار عضوًا في مجمع اللغة العربية. يقيم في مراكش. كاتب مقال، وشاعر. من أعماله الشعرية «أغنيات الأمل» ١٩٥٢م، «بؤس وضياء»، «أغنيات الأمل الجديد» ١٩٥٨م، و«صوتي يبحث عن طريق» عام ١٩٦٨م.
لعبي، عبد اللطيف (١٩٤٢م)
وُلِد في فاس، ودرس في الرباط، ثم قام بتدريس الفرنسية، إلى أن تم القبض عليه عام ١٩٧٢م. كتب أولى قصائده عام ١٩٦٢م. تزوج من فرنسية عام ١٩٦٤م، التقى مع ٣ شعراء مغاربة: خير الدين، نيسابوري، وقرروا إنشاء مجلة «أنفاس» عام ١٩٦٦م. في عام ١٩٧٢م تم القبض عليه مرتين بتهمة قيامه بأعمالٍ ضدَّ أمن الدولة، وحُكِم عليه بالسجن عشر سنوات، وتم الإفراج عنه عام ١٩٧٥م، فسافر إلى باريس، ثم عاد للإقامة في المغرب، وخرج منها مرةً أخرى عام ١٩٨٢م. شاعر، من أهم دواوينه «شجرة الحديد المزهرة» عام ١٩٧٤م، و«تحت الكتمان»، وهي أشعار مكتوبة في السجن، ومنشورة عام ١٩٨١م. أما دراساته فهناك «الشعر الفلسطيني في المعركة» عام ١٩٧٥م.
المالح، إدمون (١٩١٧م)
(انظر الفصل الثامن).
هاشمي، بن سالم (١٩٤٧م)
عمل مدرسًا في كلية الآداب بالرباط، شاعر وناثر، من أشعاره «إذا لم نستعرض التغييرات الكبرى» عام ١٩٨٠م، وكتاب عن الإنسان تحت عنوان «من الشكل الأيديولوجي للإسلام» عام ١٩٨٠م، والذي كتب له المقدمة مكسيم رودنسون.
نيسابوري، مصطفى (١٩٤٣م)
وُلِد في الدار البيضاء. التقى بمحمد خير الدين واشترك معه في تأسيس مجلة «أنفاس»، شاعر، من دواوينه «ذكريات عالية جدًّا» ١٩٦٨م، و«الليلة الثانية بعد الألف» عام ١٩٧٥م.