حنين الأرواح
تاريخ السلم الموسيقي
(محاورة بين يوبال بن قابيل بن آدم عليه السلام مخترع الآلات الْوَتَرِيَّةِ والسلّم
الموسيقي (قبل الطوفان) وبين الحكيم اليُوناني مخترع السُّلم الموسيقي (بعد الطوفان)
—
هذه القطعة التاريخية خيالية، وهي خاتمة رواية (حنين الأَرواح) التي وضعها
المُؤَلِّف.)
أوبرا
تُحَضِّرُ رُوحَ يُوبَال أَنْغَامٌ موسيقية مشجيةٌ من آلات وتريَّة صُنِعَتْ بعدَ
الطوفان. فتدخل الرُّوح مستفسرةً عن صانع تلك الآلات وعن واضع السُّلَّم الموسيقي
لاعتقادها أن الطوفان محا آثارَ هذا الفنِّ واندثرتْ آلاتُهُ.
يوبال
:
هَلْ يَقِينٌ ليتَ شِعْرِي
مَا أَرَاهُ أَمْ خَيَالْ؟
مُنْذُ كانَ الْفُلْكُ يَجْرِي
بَيْنَ مَوْجٍ كالجِبَالْ
لم أَعُدْ يَا قَوْمُ أَدْرِي
أَنَّ للدُّنْيَا اتِّصَالْ
•••
كانَ جِسْمِي في أَمَانْ
تَحْتَ أَبْرَاجِ العُلَا
لَمْ يُغَيِّرْهُ الزَّمَانْ
لا وَلا كَفُّ الْبِلَى
•••
إنَّ تَارِيخِي المَجِيدْ
كانَ مِرْآةَ الْعَجَبْ
كنتُ من عهدٍ بعيدْ
عاشقًا فنَّ الطَّرَبْ
العودُ وَالقَانُونْ
وَالنَّايُ الحَنُونْ
تلك آلاتُ النَّغَمْ
بَاعِثَاتٌ للشَّجَنْ
مُذْهِبَاتٌ للحَزَنْ
كَمْ أَضَاعَتْ من أَلَمْ
إِنَّهَا صُنْعُ يَدِي
مُنْذُ آلفِ السِّنِينْ
•••
يَا قَوْم قَدْ أَبْعَدَ الطُّوفَانُ مَا اخْتَرَعَتْ
مَوَاهِبِي ثُم أَفْنَى مَا يَدِي صَنَعَتْ
فكيفَ جاءتْ إِليكُمْ بعدَ مَا بَلِيَتْ
آثَارُهَا في بُطُونِ الأرْضِ وَانْدَثَرَتْ
من ذَا الذي أَخْرَجَ العِلْم العَجِيبَ لَكُمْ
وَمَنْ يَدَاهُ أُصُولَ الفَنِّ قد وَضَعَتْ؟
(يدخل الحكيم مبتكر السلّم الموسيقي)
الحكيم
:
أَنَا الذي وَضَعَ النَّغَمْ
وَأَعَادَهُ بَعْدَ العَدَمْ
كوَّنْتُهُ مِنْ سُلَّمٍ
بأَدَقِّ تَنْسِيقٍ رُسِمْ
•••
يوبال
:
كيف ابتكَرْتَ أَسَاسَهُ
وَنَشَرْتَهُ بَيْنَ الأمَمْ؟
•••
الحكيم
:
لَقَدْ رَأَيْتُ خَيَالًا
قد جَاءَنِي في مَنَامِي
يَقُولُ هَيَّا فَبَادِرْ
إلى اسْتِماعِ كَلَامِي
في شاطئِ البحرِ كنْزٌ
من المَوَاهبِ سَامِي
إذا حصلت عليه
بلغتَ أَقْصَى المُرَامِ
•••
الحكيم
:
ساقَتْ إِلَيَّ الْهَوَادِي
مِنَ الفَضَاءِ رَنِينَا
قد كان طَرْقًا ولكنْ
مُلِئْتُ مِنْهُ حَنِينَا
مشى الْهُوَيْنَا لِسَمْعِي
وكان سَمْعِي أَمِينَا
دَقَّاتُهُ قد أَسرَّتْ
إِلَيَّ سرًّا دَفِينَا
أودعته في فؤادي
وكان كنزًا ثمينا
يوبال
:
ماذا سمعت أجبني
ملأت رأسي ظنونا؟
•••
الحكيم
:
سمعت تِنْ تِنْ أربعًا
صوتًا به قلبي افتتن
دقَّاتُ مِطرقة وسِندا
ن تَسَاوَتْ في الزَّمن
قد مِلْتُ منها طَرَبًا
وضاعفت عندي الفِطَن
فساوَرَتْنِي فِكرة
والحظ بالوقت ارتَهَنْ
•••
يوبال
:
قد زِدْتَنِي شَوْقًا إلى
ما نِلْتَ من ذِكْرٍ حَسَن
•••
الحكيم
:
لما انصرفت إلى الطَّرَب
وَسَمَوْتُ في جَوِّ الأدب
وجهت ثَاقِبَ فِكْرَتي
والنصر يرفع مَنْ غَلَب
فصنعت أعجبَ آلةٍ
مِقْيَاس صوتٍ للطَّرَب
ثبتُّ سَبْعَ صفائح
في قطعتين من الخشب
رتَّبتها في وضعها
ليكون محفوظ النِّسَب
أطوالها المتباينة
لنجاحها كانت سَبَب
ضبطت مقاييس النَّغَم
وبذاك تَمَّ لي الأرب
•••
يوبال
:
قد جئت حقًا بالعَجَب
وخدمت عُشَّاقَ الطَّرَب
الحكيم
:
نور الهداية قد أنار طريقي
والحظ والتوفيق كان رفيقي
إني ابْتكَرت من المعادن آلة
سَمَّيتُها بالسلم الموسيقي!
•••
يوبال
:
إني ليسعدني النجاح وحسبها
أن تُوِّجَتْ بالفوز والتوفيقِ
•••
الحكيم
:
تَمَشَّت إليها قلوب الشعوب
وما ذاك إلا بفضل العَجَم
لقد أبدع الفُرْس تصويرها
فحازت رضاء جميع الأُمَم
وهَذَّبَها العرب من بعدهم
بدر المعاني ونور الحكم
•••
يوبال
:
حديثُك أنْعَشَ مني الفؤاد
فَزِدْني سرورًا بتلك الهِمَم
الحكيم
:
سَمَتْ وارتقت وعلا نجمها
وثغر التهاني لها قد بسم
بما نالها من يد الفاتحين
كبار النفوس كِرَام الشِّيَم
تجلَّت على التُّرْك روح الأغاني
فأوحت إليها بسرِّ النغم
وكانت تفيض هبات الملوك
على النابغين جزيل النِّعَم
وقد أعجز الفنُّ في وصفه
فصيح اللسانِ، وأَعيا القلم