الفصل الخامس
(غرفة فاخرة بقصر ٱستار منستر، لإقامة حفلة شائقة)
(ولفرد خادم لورد داين ارمتايدج يرتب البهو)
ولفرد
:
ما أعجب حوادث هذا الدهر! (يبتسم) لقد أصبح مولاي اللورد مغرمًا، أيها اللورد! يالسعادة من
بها كلفت! غريب! من كان يظن أن داين ارمتايدج رب أستار منستر العظيم تستبيه
وصيفة؟ أيسمح شرفه العظيم أن يفصم عرى الخطبة التي ارتبط بها مع ليدى تيودوسيا
هاينلت الشريفة الغنية؟ وكيف يكون مركز مولاي الإيرل، لو تم ذلك؟ (بعجب). لقد بات القصر، ولا حديث فيه غير غرام
اللورد. وما أظن هذا بخاف عن مولاى الإيرل، ولا عن الليدى نفسها. أصدق أصدقائه،
لورد سانت أوبن يعزز له هذا الحب، ويساعده على إشهاره. من يجسر أن يحول قلب
العاشق إلى غير من يهوى؟
بول
(يدخل)
:
هل بلغك خبر الحفلة، يا ولفرد؟
ولفرد
:
أي حفلة تعني؟
بول
:
الحفلة الشائقة التي ستقام هذا المساء في القصر. ولقد أوفد
اللورد رسولا إلى ليدى تيودوسيا أميرة كاسل تروز ومسز ليزلي ومس ليرا تشستر
ليحضروا هذه الحفلة. وسيكون لوجود مس ليرا شأن عظيم في هذا الإجتماع.
ولفرد
:
أي شأن ياترى؟
بول
:
ربما أصبحت مس ليرا تشستر ليدى داين ارمتايدج؟
ولفرد
:
ويحك! كيف تجرؤ على هذا التصريح، ومن أفضى إليك بذلك؟ أواثق أنت
مما تقول؟
بول
:
إنه اتفق لي أن سمعت محاورة بين مولاي اللورد، وبين لورد أوبن،
علمت منها ما تنبأت به الآن.
ولفرد
(بدهاء)
:
لا تنطق بكلمة واحدة مما سمعت لأي إنسان في القصر، وإلا اعتبرت
خائنًا.
بول
:
آليت على نفسي ألا أنطق بحرف مما سمعت.
ولفرد
(بخداع)
:
اجتهد أن تنسى كل حرف فاه به مولاك. أفهمت؟
بول
:
نعم. لك مني ذلك.
ولفرد
:
ومن يؤيد لي ذلك؟
بول
:
يمكنني أن أسر لك ماسمعت. وإذاك يكون السر بيني وبينك. فإذا
أذيع هذا السر، كنت أنت الواشي.
ولفرد
(بانتصار)
:
حسنًا إني أوافق على هذا الرأى. اجلس. (يجلسان).
بول
:
كان مولاى بغرفة المكتب على موعد مع صديقه لورد سانت أوبن. وما
أن دخل الصديق، حتى أسرع مولاي فأوصد الباب. وكنت إذ ذاك في الغرفة المجاورة
أرتبها، فسمعت مولاي يتأوه، فاستفزني الفضول أن أنصت عساى أعلم شيئًا من سبب
آلامه فأفتديه بمهجتي إذا لزم الحال، وبينما كانت تساورني تلك الشواغل، إذ سمعت
مولاى، بعد أن، تنهد، يقول: صديقي الأعز! سألتك أن أراك في خلوة كي أشرح لك ما
صادفني في رحلتي الأخيرة. فأجاب اللورد: إني مصغ لك، يا عزيزي، وستجدني أجود
بدمي راضيًا في سبيل هنائك! فأجاب مولاى: هذا أملي فيك أيها الصديق! واستطرد:
لقد اتفق لي أن رأيت غادة يتلاعب بها قارب صغير في مياه التو أمام كنيسة القديس
مرقس القديمة. وخيل إلىَّ أن الفتاة تحاول إنقاذ نفسها من الغرق، فألقيت بنفسي
في الماء، وكدت أغرق لو لم تسعفني بقاربها. وسرعان ما انتشلتني من الماء. وهنا
توقف مولاى قليلا وتنهد من أعماق قلبه، ثم أردف: وصل بنا القارب إلى الشاطئ،
فساعدتني حتى عشها الجميل، وهو كوخ صغير آية في الإبداع، وقدمتني إلى أبيها،
وهو شيخ جليل عليه سيما الوقار. فاستضافني حتى جفت ثيابي، ولسوء حظي كانت المدة
الوجيزة التي لا تبرح ذاكرتي كافية لولوعي بتلك الحسناء. نعم إنها جديرة بحبي،
إنها فتاة عفيفة حوت وحدها نصف جمال العالم، تعيش بين شيخين أحنى ظهرهما الكبر:
أب وخادم أمين. وهنا اشتد تأوه مولاى، فخاطبه اللورد قائلا: وهل تبادلتما نظرات
الحب؟ فأجاب مولاي بتأوه: نعم ولكن واأسفاه! وعدتها أن أعلمها صيد السمك في
صبيحة اليوم التالي، وما بزغت شمس ذلك اليوم حتى أسرعت إليها وفاء لوعدي. ثم
أردف: ليت شمس ذلك اليوم ما طلعت! فلقد كانت سبب بلائي، إذ دفعني طيش الشباب
إلى اختلاس قبلة، يا لهول ذكراها! فانتصبت جامدة كأنها تمثال، وأرسلت إلىَّ
نظرة ٱنخلع لهولها قلبي، ثم فرت شاردة كالظبي دون أن تعير توسلاتي أقل التفات،
فطار صوابي، ووقفت جامدًا كالصنم أشيعها بنظرة الندم حتى توارت عن عيني
الدامعتين. وهنا أفاض العبرات، وأردف قائلا: فرجعت وأنا أعض بنان الندم في يأس
وأسف. وهنا سمعت مولاى الإيرل يستأذنهما في الدخول، فانقطع الحديث ولم أعد أسمع
شيئًا. إنني أسمع وقع أقدام. (يجري إلى الباب) يقف ولفرد.
داين
(يدخل داين وبجانبه لورد سانت أوبن إلى ولفردوبول)
:
ستشرف القصر بعد قليل ليدى تيودوسيا، فيجب أن يكون قصري على
تمام الإستعداد. انصرفا. (يخرجان بعد أداء التحية إلى
سانت أوبن) أجلس يا عزيزي. (يجلسان) عدت إلى كاستل تروز فعلمت عزم حضرة الإيرل على زورة
القصر في ذلك اليوم، فرأيت وجوب انتظاره. (يتنهد) وما حضر حتى خلق لي عملا شغلني. ولما سئمته خرجت إلى
ردهة الإستقبال، وما توسطتها حتى جمد الدم في عروقي، ذلك لأنني فوجئت
برؤيتها.
سانت أوبن
(بدهشة)
:
ومن جاء بها إلى كاسل تروز؟
داين
(يتنهد)
:
إنها دخلت في خدمة ليدى تيودوسيا على إثر حادث مؤلم أفقدها
أباها، وأقصاها عنوة عن عشها الهاديء الجميل.
سانت أوبن
:
حديث مؤلم. وماذا حدث حين وقعت العين على العين؟
داين
:
شعرت أن الأرض تموج تحت أقدامي، وكأن سماء البهو تهبط فوق رأسي،
وما لبثت أن سقطت لا أعي شيئًا وتصادف أن غشيها ما غشيني، فأسرعوا بنقلها إلى
مخدعها. ولقد دخل الشك قلب الليدى، بيد أن الطبيب أزال هذا الريب. ولما افقت
بادرت إلى غرفتها واعتنيت بها بنفسي (يتنهد).
سانت أوبن
:
ذلك الذي ولد الشك ثانية في قلب الليدى، وأكثر اللغط بين
الخدم.
داين
:
أجل، ولكن تم ذلك على رغم إرادتي، ولم أحفل بكل ما أذيع عنا في
القصر. بل ظللت بجانبها حتى أفاقت تمامًا. ويظهر أن الليدي تباحثت في الأمر مع
حضرة الإيرل، فبرح القصر دون أن يراني، فساءني ذلك جدًا، وعرفت أني لن أدخل
أستار منستر ما حييت. غير أن حضرة الإيرل لاحظ خطأهُ، فبادرني برسالة سألني
فيها سرعة الوصول لأمر جلل، فلم أر بدًأ من الطاعة. حاولت أن أخلو بالفتاة
لأشرح لها الأمر، فلم أفلح بادئ ذي بدء، إذ رفضت بتاتًا أمر اجتماعنا. خلوت بها
فترة قصيرة بعد جهد جهيد، فوجدت منها نفورًا جعلني أرتاب فيها. كانت تمسح دمعها
المتناثر فوق خديها كأنها تكتم سرًا غامضًا تندلع نيرانه في فؤادها، فٱنبريت
إلى التوسل، فلم يجد نفعًا. (يتأوه) لم
أتمالك أن فاتحتها في أمر الزواج. فنظرت إلى نظرة ملؤها الرعب ووثبت من مكانها
كالمأخوذة. كانت دموعها أكبر شفيع لها عندي، فأصبحت كالمصعوق تكاد رأسي تحترق.
سألتها عن سبب ذلك الإعراض وقد وضعت تحت أقدامها ثروتي ولقبي وحياتي، فأجابتني
وهي ترتجف وقلبها يكاد يفارق صدرها من هول ما هي فيه من الإضطراب: إليك عني،
فلم أعد لك. وتولت حياء بعد أن سترت وجهها بيديها ثم وقفت وأرسلت إلىَّ نظرة لن
تبرح مخيلتي إلى الأبد. ثم صاحت: وداعًا يا لورد إنك لن تراني بعد الان. ولا
أمل في خلوتك بي بعد ذلك. ثم غمغمت بصوت خافت: قائلة ليتك علمت، وياليتني رأيتك
في حين الحاجة إليك، ثم اختفت وهي تقول: مات الأمل. (يتأوه) ماذا تراه يا صديقي في كل ذلك؟
أوبن
:
يلوح لي أن ما أشقى الفتاة أنها كملت قلبًا وقالبًا، فيا لسعادة
من كانت له!
داين
:
هذا كل ما أشقى من أجله. ولقد قضيت ليلة الأمس حتي انبلج الصبح
وأنا أقنع والدي الإيرل بوجوب زواجي منها، فهاله الأمر، وشق عليه احتماله. فأخذ
يعنفني، ولكنه كان يضرب في حديد بارد. ولما آنس في نفسه اليأس، لجأ إلى إرهابي
والغضب متمكن منه.
أوبن
:
وبعد؟
داين
:
لم يثن ذلك من عزمي وصممت على فصم عرى الخطبة التي بيني وبين
تيودوسيا، وأن أعود فأتوسل إلى ليرا.
أوبن
:
وهل أطلعت حضرة الإيرل على ذلك التصميم؟
داين
:
نعم بعد عناء طويل.
أوبن
:
وهل وافقك أخيرًا؟
داين
:
وافقني مضطرًا، ووعدني مكرهًا، ولم يقبل إلا بعد أن تولاه
اليأس.
سانت أوبن
:
وعلى ماذا عولت، حين تحضر الليدى هنا؟
داين
:
أترك كل شيء لوالدى، فقد أخذ على عاتقه ذلك.
سانت أوبن
:
ومن تظنه يتقدم ليطلب يد الليدى تيودوسيا هاينلت؟
داين
:
لقد قضت السنين الطويلة في صحبة رجل تقول إنه مثال التقوى، رجل
خلق ليكون لها، كما انها لم تخلق إلا له، انقطعت إليه بكليتها، فهو لا يفارقها
لحظة واحدة بدعوى أنه مساعدها في عمل الخير.
سانت أوبن
:
ومن هو؟
داين
:
مارتن فانشو.
سانت أوبن
(بدهشة)
:
القس؟
داين
:
هو بعينه!
أوبن
:
إذا صحَّ ذلك تَمَّ ما أرادت.
ولفرد
(يدخل. وينحني)
:
سيدي الإيرل.
الإيرل
(يدخل إلى سانت أوبن)
:
هل أنت هنا. يا أعز الأصدقاء؟ (يخرج
ولفرد).
أوبن
(يقف وداين)
:
نعم منذ ساعة، يا سيدي الإيرل.
الإيرل
:
هل صرح لك داين بآلامه ونواياه؟
أوبن
:
نعم.
الإيرل
:
وما رأيك الخاص في موضوعه الهام؟
أوبن
:
إن صديقي محق في كل ما صمم عليه.
الإيرل
:
حتى وفي رفض يد الليدى تيودوسيا؟
أوبن
:
أجل يا سيدي الإيرل، فإنه إن لم يرفض يدها اليوم، وسترفض هي يده
غدًا.
الإيرل
(بغرابة)
:
ومن أين أوحيت لك تلك النبوءة المستحيلة؟
أوبن
:
لم أتنبأ، بل هي الحقيقة. إن ليدى تيودوسيا هانيلت على وفاق تام
مع حضرة القس مارتن فانشو. لا تعجب يا سيدى الإيرل، هذا هو الواقع، وهي التي
تفكر في إيجاد الطريقة التي تسوغ لها قطع علائق تلك الخطبة التي تربطها
باللورد. لقد آن لك يا سيدى الإيرل أن تعرف كل شيء، فإن كان صديقي (مشيرًا إلى داين) يفكر في إيجاد طريقة يقطع بها
تلك الخطبة، فهذا نفس ما تفكر فيه الليدي الآن.
الإيرل
:
إنك اليوم غيرك بالأمس، يا عزيزي أوبن. فلم التحامل على
الليدي؟
أوبن
:
حاشاي أن أتحامل على من أقدس احترامها. إنها أشرف أميرات هذا
العصر.
الإيرل
(يألم)
:
إني كنت أدخرها لولدي.
أوبن
:
أيقوى سيدي على معاندة القدر؟ إنها أصبحت والهة بحب فانشو،
وكذلك هو.
الإيرل
:
إني لم أكن أنتظر ذلك.
أوبن
:
أما وقد علمتم كل شيء، فقد وجبت عليكم مساعدة صديقي (مشيرًا إلى داين).
الإيرل
:
إن استطعت ما تأخرت.
أوبن
:
وكيف لا يستطيع سيدي الإيرل، إذا كان يريد؟
الإيرل
:
ذلك معناه أني كنت لا أود..
سانت أوبن
(باستفهام)
:
زواج الأنسة ليرا تشستر من صديقي اللورد؟ (مشيرًا إلى داين).
الإيرل
:
أجل.
أوبن
:
لأنها فقيرة، أم لكونها فقدت والديها؟
الإيرل
:
لا هذا ولا ذاك. بل لأنني لا أعلم شيئًا عن سر مولدها، ولا عن
أسرتها.
أوبن
:
كيف لم تمر بذاكرة سيدي الإيرل أسرة تشستر في لوكشير، وهو يعلم
كل شيء عن جميع الأسر الكبيرة؟
الإيرل
(يفكر)
:
أسرة تشستر في لوكشير؟ نعم إني أعلم أشياء كثيرة عن هذه الأسرة،
إن أملاكها تتاخم أملاكنا في لوكشير. إنها أسرة كبيرة فهل مس ليرا منها؟
أوبن
:
نعم. وهي ابنة أكرم رجل في تلك الأسرة.
الإيرل
:
نعم الفتاة. إني قبلتها عروسًا لداين.
داين
(بفرح شديد)
:
لا عدمتك، ياوالدي الأعز.
الإيرل
:
إني أسعى وراء سعادتك ياداين، وأنت تعلم علم اليقين أني واسع
الثروة وأنها ستؤول من بعدي إليك، فما دمت تحب ليرا تشستر، فها هي ثروتي بين
يديك، وهي تضمن لك ولزوجك السعادة عن سعة. طب نفسًا واجتهد في أن تزف ليرا
تشستر إليك.
ولفرد
(يدخل وينحني)
:
لقد وصلت مولاتي الليدى يا مولاي.
الإيرل
(إلى داين)
:
أسرع في استقبال الليدى يا داين؛ (لسانت أوبن) وأنت إذا سمحت يا لورد (يخرجان وولفرد).
الإيرل
(لنفسه)
:
إنه يهواها، وليس لى أن أسيطر على القلوب. تيودوسيا، إنه لم
يخنك، ولكنك انشغلت عنه، وأهملت الإتصال به، فليست لك عليه من حجة (يسمع ضوضاء) هاهي الليدى!
ولفرد
(يدخل وينحني)
:
مولاتي الليدى!
الليدى
(تدخل وبجانبها سانت أوبن ومن ورائها داين وليرا ومن خلفهما
القس فانشو ومسز ليزلي)
:
تحيتي إلى سيدى الإيرل المحترم.
الإيرل
(يقف)
:
أهلا بك يا ابنتي العزيزة. (يصافحها) لقد شرفت استار منستر يا أميرة كاسل تروز. (يصافح ليرا ومسز ليزلى) إني سعيد جدًا بتشريفكن
قصري.
الليدى
:
إني بلسانهما أقدم إلى السيد الإيرل شكرًا عظيمًا على هذه
العواطف السمحاء. (مشيرة إلى فانشو) وأقدم
لكم حضرة القس مارتن فانشو المحترم.
الإيرل
(يصافح فانشو)
:
أهلا برجل التقوى. لقد حملت إلى قصرى بزورتك هذه ملائكة الرحمة
وآيات الغفران.
فانشو
(ينحني)
:
أعز الله سيدى الإيرل.
داين
(لتيودوسيا بفرح)
:
إني أرى كل شيء يبتسم.
تيودوسيا
(بسرور)
:
إني سعيدة جدًا برؤيتك، ياٱبن العم.
الإيرل
(يجلس)
:
تفضلوا بالجلوس (يجلسون، إلى
ليرا) لقد آنست استار منستر يا سليلة أسرة تشستر العظيم!
داين
(يفرك يديه من شدة الفرح ويهمس إلى داين)
:
إنه رفع مقامها في عين الليدى.
ليرا
(تبتسم بفرح)
:
إني بالإنابة عن مولاتي الليدى اشكر عواطفكم السامية يا
مولاى.
الليدى
:
هل تعرف أسرة مسز ليرا، ياحضرة الإيرل؟
الإيرل
:
نعم، وهي من أمجد الأسر القديمة، ولا تزال أملاكها تتاخم
أملاكنا في لوكشير.
الليدى
(بعجب)
:
في لوكشير؟
الإيرل
:
نعم، ولا غرابة في ذلك فأنا أعرف رؤوس هذه الأسرة الكبيرة،
وكأنه يلوح لي منذ عشرين سنة إني سمعت عن كبير تلك الأسرة الشريفة إنه رحل إلى
أمريكا، هاجرًا بعض أفراد أسرته، فأثرى هناك وأصبح من كبار الماليين.
ليرا
(باهتمام)
:
أتذكر يا مولاى اسم هذا الشريف؟
الإيرل
(يتذكر)
:
أظنني لا أستطيع ذلك الآن لأن مشاغلى العظيمة أبعدت عن ذاكرتي
مثل تلك الروايات. (يصمت قليلا). ها قد
فطنت، إنه بلا ريب السيد آدون نشستر.
ليرا
(تبكي)
:
هو والدى، يا مولاى.
الجميع
(باندهاش)
:
أبوها!
الإيرل
(بسكون)
:
أبوك، أنت، ياٱبنتي؟
داين
(بفرح واهتمام)
:
نعم يا والدي، وقد سبق لي أن تعرفت به في سياحتي إلى برنستايل،
وتناولت الشاى في بيته، وهناك رأيت المس ليرا تشستر لأول مرة.
الإيرل
(باهتمام)
:
ولم لم تخبرني عن هذه المصادفة الغريبة، يا ولدى؟
داين
:
لم أكن أعرف شيئًا عن ذلك ياسيدى الوالد.
الإيرل
(إلى ليرا)
:
وما السبب في عودتكم من أمريكا، يا ابنتى العزيزة؟
ليرا
:
لا أعرف السر في ذلك، وربما عرفه خادمي الأمين، جرفث.
الإيرل
:
وأين جرفث؟
ليرا
:
يسكن كوخنا، لا يزال في برنستابل.
الإيرل
:
وهل هو مسن؟
ليرا
:
نعم، إنه أكبر من والدي سنًا. (تتأوه) لقد كان ساهرًا على حراستي وهو طيب القلب.
الإيرل
(يتذكر)
:
نعم، إني رأيته مع أبيك غير مرة في المزرعة. ولقد أعادت هذه
الذكرى إلى ذاكرتي أشياء كثيرة عن هذه الأسرة التي ربما تكونين أنت وريثتها
الوحيدة.
ليرا
(بفرح واهتمام)
:
أفي يقظة أنا أم في منام؟
الإيرل
(بسرور، يضحك)
:
في اليقظة يا عزيزتي، وسأرد لك ما سلبك الدهر، وأزف بيدى هذه
إليك الهناء والسعادة.
ليرا
(بفرح عظيم)
:
كم أنت كريم يا مولاى!
ولفرد
(يدخل وينحني)
:
المائدة على استعداد.
الإيرل
(يقف)
:
هلموا إلى المائدة (إلى
الليدى) تفضلى يا ليدى.
الليدى
(باندهاش)
:
تفضل ياسيدى الإيرل (تقف).
داين
(إلى الجميع)
:
إن قصر استار منستر يتلألأ نورًا بضيوفه هذا المساء (يتأبط ذراع الليدى يخرجون).
بول
(يدخل ليرتب البهو)
:
حقًا لقد أحسن رئيسي ولفرد في اقتراحه عدم التدخل في شئون
الأمراء. نعم إني لست سوى خادم ضعيف يمكن استبداله من أجل هفوة، فكيف أجحد هذه
النعم، ولا أشكر الله عليها؟
الإيرل
(يدخل متوكئًا على ذراع ليرا)
:
رغبة في الخلوة بك، دعوت الليدى إلى قصري هذا المساء، وسألتها
بإلحاح أن تصحبك بمعيتها. (يجلس) اجلسى إلى
جانبي يا ليرا، وأعيريني كل التفاتك.
ليرا
(تجلس)
:
ها أنا ذي خاضعة لأمرك يا مولاي.
الإيرل
:
أتعلمين إني عظيم الثروة، وليس لي وريث شرعي غير وحيدى اللورد
داين، وهل تعلمين أيضًا كم أحبه؟
ليرا
(تتنهد)
:
نعم أعلم ذلك.
الإيرل
:
وكنت قد تعاهدت وأخي لورد هاينلت أن تزف تيودوسيا إلى داين متى
عرفا معنى الحياة. وكانا إذ ذاك في المهد. ولما ترعرعا شرحت لهما إرادتنا
فوافقا عليها. غير أن الدهر أبى أن تتحقق تلك الأماني، ووقع داين في حب غادة
شريفة سواها.
ليرا
(باهتمام)
:
ومن هي هذه الغادة التي كلف بها اللورد؟
الإيرل
:
أظنك لا تنسين صيد السمك على ضفة نهر التو.
ليرا
(تخفي وجهها بين يديها)
:
أبلغ مولاى السر؟
الإيرل
:
نعم، أعلم كل شيء. (يمسح شعرها
بيمينه) كوني مطمئنة فلم يخرج السر من لسان الولد إلا إلى صدر
الوالد.
ليرا
:
يامولاي!
الإيرل
:
اطمئني فقد اخترتك عروسًا لولدي ولم يبق إلا كلمة القبول من
فمك.
ليرا
(بانزعاج)
:
أنا؟
الإيرل
:
وهل في ذلك شك؟
ليرا
:
ولكن … (في تفكير
عميق).
الإيرل
:
ولكنك فقيرة، أليس كذلك؟ أتظنين، يا ٱبنتي، أن الفقر
عار؟
ليرا
:
لا، يا مولاي (بدهشة) ولكن …
الإيرل
:
ولكن ماذا يا عزيزتي؟ أراك مرتبكة فهل يؤلمك سر اعتراك في حياتك
الأولى؟
ليرا
(ترتجف)
:
آه، يا مولاي! (تبكي).
الإيرل
:
تبكين أيضًا؟ أرافضة أنت طلبي، يا ليرا؟
ليرا
:
إن المضطر يركب الصعب يامولاى.
الإيرل
:
وهل يضطرك شيء إلى رفض طلبي؟
ليرا
(بخجل)
:
ربما كان ذلك، ياسيدي، وأراني مرغمة.
الإيرل
:
أتبخلين عليَّ بشرح ما يؤلمك؟
ليرا
(بألم)
:
لا يجسر لساني على النطق، يا مولاي.
الإيرل
(يمسح شعرها بيمينه)
:
أنظري مليًا في المسألة، وأعلمي أني أريد لك الخير.
ليرا
:
كان يسعدني ذلك، لو استطعت.
الإيرل
:
إنه ليدهشني رفضك يد اللورد، مع أنها تسعد أغنى شريفة في
لندن.
ليرا
:
هذا صحيح، يا مولاي.
الإيرل
:
إذًا، كيف ترفضينها؟ وفوق ذلك فهي يد من يهواك لدرجة
العبادة.
ليرا
:
يا إلهي! (بحزن) إن رفضي يد
اللورد يقذف بي إلى هاوية الهلاك أيامًا قليلة، ثم يبعث بي إلى عالم الأبدية،
حيث أرقد هادئة بعيدة عن تلك الآلام التي يصعب عليَّ احتمالها.
الإيرل
:
لا بد أن هناك سرً تدفنينه على صدرك الكتوم. ولكن مهما كان هذا
السر فلا أظن أنه يحول دون قبولك الإقتران باللورد.
ليرا
(تبكي)
:
مولاي، أستحلفك بكل عزيز أن تغير موضوع هذا الحديث!
الإيرل
:
تطلبين محالا ياٱبنتي؛ لأنك بهذا العمل تزعجين حياة شاب أوقفها
لحبك. وأقسم بشرف أسرته ألا يتزوج سواك.
ليرا
(ترتجف)
:
مولاي، رحمتك! واذكر أني فتاة ضعيفة.
الإيرل
(باستغراب)
:
من منا يطلب الرحمة؟ واذكري أيضًا أني إيرل ٱستار منستر أطرح
تحت أقدامك ثروتي وسعادة ولدي، وأنت ترفضينها! فيالك من قاسية!
ليرا
(تنتحب بشدة وتنظر إلى السماء)
:
إلهي، رحمتك أسألك، المعونة!
الإيرل
(يحنو)
:
ليرا، اذكري أنني شيخ يلعب بي الفناء، فلا تكدري عليَّ صفو
لحظاتي الأخيرة.
ليرا
(تمسح جبينها إثر دوران شديد)
:
ارحمني، يا مولاي، فإني أكاد أختنق. واسمح لي بالإنصراف لأنشق
الهواء، وأمامنا متسع كبير من الوقت نعاود فيه الحديث، (تقف ببطء فتخونها رجلاها، فتسقط) أنقذني، يا
سيدي، وأسعفني بالهواء … الهواء!
الإيرل
(يسرع إلى النافذة فيفتحها)
:
لا بأس عليك يا عزيزتي. (باهتمام) كيف أنت الآن؟
ليرا
(بكلام متقطع)
:
أحمد الله … إن الهواء أنعشني … فشكرًا لك يا سيدي
الإيرل.
الإيرل
:
سأتركك قليلا، يا عزيزتي، لمفاوضة الليدى في فصم عرى الخطبة، كي
أزف إليكما السعادة. (يخرج).
ليرا
(لنفسها)
:
إلهي! أمي! أبي! أين أنتم؟ لماذا لم تسرعوا لنجدتي من هول ما
أنا فيه؟ داين! حبيبي! إني أحبك لدرجة العبادة. ولكن ما حيلتي وقد رماني الدهر
بنكبة لا مخرج لي منها، وقيدني بأغلال لافكاك لها؟ (تقف) دى جوفرى بارل! ليت شمس اليوم الذى عرفتك فيه ما طلعت، بل
ليتني مت قبيل أن أضع يميني البريئة في يدك الخائنة آونة ذلك اليوم المشؤم.
إلهي! كيف سمحت لهذا الوحش المفترس أن يرتبط إلى الأبد بفتاة يتيمة بائسة! مات
أبي الذي كان يرعاني، ورحلت أمي التي كانت ترحم دموعي، وفارقت خادمي الأمين
الذي أوقف حياته لحراستي. ويلاه! أتلفت حوالي فلا أرى منهم أحدًا. (تنظر إلى السماء) لم يبق لي سواك ياخالق
الرحمة. النجدة، يا إله السماء.
(في هذه الحالة يسمع صوت ينادي: مولاتي! فتلتفت لتجد ولفرد منحنيًا وفي يده طبق فيه كتاب)
ولفرد
(يدخل وفي يده طبق فيه كتاب)
:
مولاتي! (ينحني).
ليرا
(بانزعاج)
:
ما وراؤك؟ (لنفسها) إنه سمع
كل شيء.
ولفرد
:
كتاب برسم مولاتي المس ليرا تشستر بقصر كاسل تروز.
ليرا
(تتناول الكتاب بيد مرتجفة)
:
برسمي أنا؟ تنظر العنوان برنستابل (بفرح) لاشك أنه من جرفث. (تقبله).
ولفرد
:
هل من خدمة يا مولاتي؟
ليرا
:
هل وقع نظر مولاتي الليدى على هذا الكتاب؟
ولفرد
:
نعم، وهي التي سلمتني إياه وأمرتني بتسليمه إليك متى وجدتك في
خلوة.
ليرا
(بدهشة)
:
في خلوة؟ ولم ذلك؟
ولفرد
:
هكذا أمرت، ولم أعلم السبب.
ليرا
:
حسنًا. أنا لا أحتاج إلى شيء. (ينحني
ويخرج. تفتح الكتاب باهتمام) إنه وصل متأخرًا. (تنظر في التوقيع) جرفث. (تقبل الإسم) ما أطيب قلبك الطاهر! (تجلس وتقرأ) «سيدتي وابنتي الوحيدة، رعاك الله
في غربتك. لقد انقطعت عني أخبارك منذ سفرك. إنه ليزعجني ذلك لأني لا أعلم
السبب. هل أنت سعيدة كما أتمنى، فأشكر إلهي لقبوله توسلاتي أم تتألمين فأعد
ذراعي إلى ضمك إذا أحببت العودة؟ أو أطير على أجنحة الرياح إليك إذا فضلت
البقاء؟ ابنتي، لقد شاهدت حادثًا أمس يهمك الاطلاع عليه …». (لنفسها) يهمني الاطلاع عليه! ماذا عساه يكون؟
(تعيد القراءة). «بينما كنت أتصيد بجانب
المغارة، أبصرت جماعة على ضفة النهر يهرجون، فعبرت النهر إليهم، فإذا هم
مجتمعون حول جثة رجل حملها الماء إلى الشاطئ، ولكنها مشوهة جدًا وممزقة الثياب.
فلم يتمكن أحد منا من معرفة صاحبها، فساعدتهم على حملها إلى المغارة ولقد حانت
مني إلتفاتة، فألفيت على القطعة الباقية من معطف الغريق زرًا من الأزرار
اللامعة المصنوعة على شكل كوكب والتى كنا نراها على معطف دى جوفرى بارل …»..
(لنفسها) يالله، أيمكن أن يكون هو
الغريق؟ (تواصل)«… ولما خلعنا المعطف عن
الجثة، وجدنا في جيب الصدار الداخلي دفترًا تذكرت أني رأيت مثله معه ولما
فتحناه لم نتمكن من قراءة شيء، بل عثرنا بين طياته على أوراق مالية قيمتها
خمسمائة جنيه …» (لنفسها) خمسمائة جنيه! هذا
سر لا يعلمه أحد غيرى أنا وحدى. (تواصل) «…
أخذني الفضول فبحثت الوجه جيدًا، فرأيت فيه علامات دلتني على أن الغريق إنما هو
دى جوفرى بارل بعينه …» (لنفسها) وافرحتاه!
(تقبل الكتاب تقرأ) «… لقد مات من كنت
تخشينه، يا عزيزتي. فكوني هادئة، وٱطمئني. وإني أهنئك على خلاصك من التصورات
المؤلمة التي سببها لك هذا الوحش القاسي. أنا لا أعلم السر في رعبك منه للدرجة
التي شاهدتها …» (لنفسها) نعم، إنه لا يعلم.
(تقرأ) «… صحتي جيدة. ليس لي شاغل سواك.
سأحضر متي حانت الفرصة. مني إليك قبلتي الأبوية. المربي جرفث» (تطوي الكتاب وتضعه في صدرها) الآن أشرق نجم
سعادتي، فشكرًا لك يا إلهي..
ولفرد
(يدخل وينحني)
:
مولاي الإيرل.
الإيرل
(يدخل)
:
لعلك أحسن حالا الآن يا ابنتي.
ليرا
(تنحني)
:
شكرًا لعواطفكم الرحيمة، يا مولاي.
الإيرل
:
لقد تم كل شيء، وقبلت الليدي عن طيب خاطر، وستجهز لك بيدها
ملابس العرس. إنها طيبة القلب، ولم يبق لي الآن إلا أن أسمع كلمة القبول
منك.
ليرا
(بفوز)
:
إني مطيعة يا مولاي.
الإيرل
:
بارك الله فيك، يا ٱبنتي، إذا كنت راضية.
ليرا
(بخجل)
:
نعم رضيت. وإني رهينة أمر مولاي.
ولفرد
(يدخل وينحني)
:
سيدي اللورد وصديقه لورد سانت أوبن.
الإيرل
:
ليدخلا. (يدخل داين وسانت
أوبن).
سانت أوبن
:
نرجو ألا نكون قد أزعجنا سيدي الإيرل ومس ليرا.
الإيرل
(يضحك)
:
إنه يسرني حضوركما، لأنه جاء في الوقت المناسب. (ينظر إلى داين) إني أهنك يا ولدي العزيز بعروسك
(مشيرًا إلى ليرا).
سانت أوبن
:
وأنا أيضًا أقدم تهنئتي القلبية لصديقي الأعز.
داين
(بفوز)
:
أحمد الله، وأشكر لسيدي الوالد هذا العطف الكبير.
الإيرل
:
اجلسا يا ولديَّ. (يجلسان).
سانت أوبن
:
إن ليدي تيودوسيا قابلت هذا النبأ بكل سرور.
الإيرل
:
يسرني أن تكون سعيدة، لأن لها في قلبي مكانة الإبنة.
ليرا
:
إنك أثقلت كاهل الجميع بحسناتك المتواليات، يا سيدي
الإيرل.
الإيرل
:
لم أفعل غير الواجب عليَّ كما لو كنت ابنتي. هيا بنا يا عزيزتي
إلى مكتبي الخاص. (تقف فيقف الجميع ويتأبط ذراع
ليرا) أيسمح لنا ولدي؟ (ينحني داين
وسانت أوبن).
ولفرد
(يدخل وينحني)
:
مولاتي الليدي أأمرت بإعداد المركبة.
داين
:
إلى كاسل تروز؟
ولفرد
:
نعم.
داين
(إلى سانت أوبن)
:
يجب أن تشيعها، يا لورد.
سانت أوبن
:
حسنًا هيَّا بنا. (يخرجان).
ولفرد
(يرتب الأثاث)
:
لاشك أن هذه العذراء الجميلة تقربت إلى الله بثوب العفاف
والطاعة حتى أن الله زف إليها هذه السعادة التي كانت تتمناها أجمل وأثرى
النبيلات.
بول
(يدخل)
:
هل من خدمة يا حضرة الرئيس؟
ولفرد
:
هل تحمل أخبارًا عن عراك القلوب الذي يدور اليوم في قصرنا الذي
ظل هادئًا السنين الطويلة؟
بول
:
لقد لاحظت أن سيدتي الليدي قد سرها فصم عرى الخطبة التي تربطها
بسيدي اللورد ويظهر أنها ستستعيض عنه بحضرة القس المحترم، لأنها — على ما سمعت
— تميل إليه كل الميل، وأنا لا أنكر أني قرأت في وجهه علائم البشر والإرتياح،
إذ سمعته يقول لها وهو يكاد يطير فرحًا: إنه بدأ يشعر منذ اليوم بالأمل
والسعادة الدائمين.
ولفرد
:
حسنًا، وسيدي اللورد، علام عول إذًا؟
بول
:
إنه بلا شك سيتزوج الحسناء صاحبة القصة التي عنفتني على
سماعها.
ولفرد
:
إنك بعيد النظر، شديد الذكاء، يا بول. إني أسمع جلبة، فمن
القادم يا ترى؟
بول
:
لا تشغل بالك، فحركة القصر اليوم غير عادية. (يدخل داين وفانشو وسانت أوبن).
داين
(إلى ولفرد)
:
هل لا يزال مولاك الإيرل في مكتبه مع مس ليرا؟
ولفرد
:
أجل، يا مولاي.
داين
:
ليطمئن في خلوته (إلى ولفرد)
انصرف. (يخرج ولفرد وبول.. إلى صديقيه)
تفضلا بالجلوس (يجلسون. لفانشوا) لم رفضت
الليدي أن نصحبها إلى كاسل تروز؟
فانشو
:
لم تكن وجهتها كاسل تروز. إنها أسرعت لترأس اجتماعًا خيريًا
هامًا.
داين
:
ولم لم تستصحب حضرة المحترم، كما هي عادتها؟
فانشو
:
لقد أنابتني في رئاسة اجتماع آخر لم يحن وقته بعد، فآثرت البقاء
معكم ريثما يأتي الوقت المناسب. (بدهشة) وهل
يسوؤكم وجودي؟
داين
:
استغفر الله. إن وجودكم بيننا يضاعف سرورنا.
فانشو
:
أشكركم.
ولفرد
(يدخل حاملا بطاقة صغيرة ويقدمها إلى فانشو)
:
حامل هذه يلتمس مقابلة سيدي شخصيًا.
فانشو
(يتناول البطاقة وينظر فيها. بدهشة)
:
مُرْهُ بالدخول (ينحني
ويخرج).
ولفرد
(يدخل)
:
أرجوكم المعذرة ياسادة (إلى
فانشوا) عندنا رجل يحتضر، وقد ألح كثيرًا في طلبكم شخصيًا
للإعتراف. ومن غرائب ما شاهدت منه أنه يغمغم بين آن وآخر بكلمة ارمتايدج ولم
نعلم لذلك من سبب.
داين
(باهتمام)
:
أرمتايدج؟ إن هذا عجيب. من هو يا ترى هذا المحتضر؟ أعلمت ما
اسمه؟
ولفرد
:
نعم، لقد قال أن اسمه روبرت رودن. ويظهر أنه كان من رجال
الكنيسة، لاحظت ذلك من ترتيله في صحوته أناشيد الهياكل الكهنوتية وبعض
المقدسات.
داين
(يجهد ذاكرته)
:
روبرت رودن؟ إني لا أعرف عن هذا الإسم شيئًا، ولكن من يدري،
فربما كانت له علاقة بذلك الأحمق تشاندس؟
فانشو
(إلى ولفرد)
:
ها أنذا ألبي نداء الواجب المقدس. (إلى داين وسانت أوبن) أتسمحان لي بالانصراف لتأدية هذه الخدمة
الدينية (يقف اللورد وسانت أوبن).
داين
:
أيمكن أن نصحبكم؟ وهل يجوز ذلك؟ أراني مدفوعًا بعامل حب الإطلاع
إلى سماع اعتراف هذا المحتضر.
فانشو
:
هذا شأن يتعلق به وحده، فإن شاء كان، وإن رفض استحال.
داين
:
ما دام يذكر ارمتايدج، فهو لا شك يرتاح لوجودي.
فانشو
:
هلموا بنا، وسننظر في ذلك متى وصلنا..
داين
(إلى ولفرد)
:
هيئوا لنا العربة. (يخرج ولفرد.
خرجون، تدخل ليرا في ثوب أبيض).
ليرا
:
ما أطيب قلب ذلك الشيخ! إنه يذكرني بوالدي. (تجلس) إن حنانه
ضاعف في قلبي من حب داين، ليته يعيش طويلا كي أنسي بقربه فقدان أبي. (تصمت قليلا ثم تمسح جبينها) رباه، بماذا أشعر!
إن دقات قلبي تنذرني بحدوث أمر، فما هو ياترى؟
ولفرد
(يدخل وينحني)
:
مولاتي، وصل إلى القصر شيخ طاعن في السن، فسأل عنك. ولما علم
بوجودك هنا، طلب مقابلتك في خلوة، فدهشت من ذلك الطلب، ولما رآني مترددًا، قال:
لا بأس عليك، اذهب إلى مس ليرا، واذكر كلمة جرفث.
ليرا
(تصرخ بإندهاش)
:
جرفث! جرفث! هل حضر؟ أحقًا ما تقول؟ إني لا أكاد أصدق. ليدخل!
(بدهشة) وافرحتاه … لا تعجب.. إنه أبي.
ما أشد سروري! (يخرج ولفرد).
جرفث
(يدخل ممتلئًا سرورًا)
:
حملني الشوق إليك، يا ابنتي.
ليرا
(تجري إلى الباب وتطوقه بذراعيها وتقبله)
:
جرفث؟ جرفث! هذا أنت؟ أهلا بك. أفي يقظة أنا أم في منام!
جرفث
:
هأنذا، يا ابنتي العزيزة! أأنت سعيدة؟
ليرا
:
تمت سعادتي بوجودك الآن.
جرفث
(بانشراح)
:
ضاعف الله سرورك. (يجلس وتجلس ليرا
بجانبه) كنت أعرف أنك تسكنين كاسل تروز مع ليدي تيودوسيا هاينلت.
ولما وصلت إلى القصر علمت أنك انتقلت إلى ستار منستر فما سبب هذا
الإنتقال؟
ليرا
:
نعم (تتأوه) إن الحوادث التي
مرت بي والمصائب التي تقلبت في أحضانها، تذوب لهولها صم الصخور.
جرفث
(بدهشة)
:
أتتكلمين عن شخصك المحبوب.
ليرا
(بتوجع)
:
نعم، عن نفسي أنا.
جرفث
:
أما كفي ماجرى حتى تضاعفي أحزاني بحر شكايتك؟ إبنتي، بالله عليك
ما سبب هذه الآلام؟
ليرا
:
فارقتك بعد المصاب الفادح إلى كاسل تروز، مصحوبة بمسز ليزلي
التي أرضعتني لبان نصائحها، وبالغت في مواساتي. (تتنهد) وعندما دخلت القصر قابلتني ربة الإحسان وسيدة كاسل تروز،
ليدي تيودوسيا، بكل حفاوة وترحيب ورفعت مكانتي بين حاشية القصر، حتي أصبحت
مكانتي لا تقل احترامًا عنها. وقد مزقت بأيديها البارة الكريمة تلك الحجب
الكثيفة التي كانت تخيم حول سعادتي؛ وأقصت عن قلبي المتوجع جميع الهموم
والأحزان. (تتأوه) ما أطيب قلبها يا
جرفث!
جرفث
(باهتمام)
:
وبعد؟
ليرا
:
كنا نحتفل باللورد الأكبر إيرل ستار منستر. وقد أخذ القصر
زينته. وكنت موضع إعجاب الجميع، وما هي إلا لحظة (تتنهد) حتى رأيته يدخل فجأة (ترتعش) ويلاه! (تسكت).
جرفث
(بغرابة)
:
من هو؟
ليرا
(تتنهد)
:
بربك، كفى! لا تضطرني إلى …
جرفث
(بشغف)
:
إلى، إلى ماذا؟ أتخفين عني ما يؤلمك؟
ليرا
(بحزن)
:
كلا. (بخجل) ولكن …
جرفث
:
أنا أبوك.
ليرا
:
نعم. أنت وحدك الذي يهمك شأني (تبكي) لورد داين أرمتايدج.
جرفث
(يبتسم)
:
فهمت، الذي علمك صيد السمك، أليس كذلك؟
ليرا
:
نعم هو بعينه. (تتنهد، فيرتفع
صدرها).
جرفث
:
لا شك أنك تحبينه. أَقرأ في عينيك.
ليرا
:
نعم، أحببته منذ ذلك الحين.
جرفث
:
وماذا حدث عند دخوله؟
ليرا
:
لما وقعت العين على العين انتابني إغماء شديد، فسقطت على الأرض
فاقدة كل حس. ولم أعلم ماذا جرى بعد ذلك. (تتنهد
متوجعة) ولما أفقت وجدتني في سريري وبعض الخدم يعتنون بي، وعلمت
في صحوتي أن داين أصابه ما أصابني في نفس الوقت ونقل إلى سرير الليدى، وظل الكل
حوله حتي أفاق.
جرفث
(بدهشة)
:
اتفاق غريب. (يدنو من
ليرا).
ليرا
(بخجل)
:
شاع على الألسنة منذ ذلك اللحظة أن حبنا متبادل وقديم. نعم،
(بحنان) إني وهبته كل قلبي منذ أول
نظرة. وثق أنه خيل إلي أن الليدي أخذتها الغيرة، إذ أن الجميع كانوا يعتقدون أن
ليدي تيودوسيا ولورد داين قد خلق كل منهما للآخر. وبهذا كانت تتم رغبة الإيرل
وأخيه لورد هاينلت.
جرفث
(باهتمام عظيم)
:
هل نالك من غيرتها أذى؟
ليرا
(بحنو وعطف)
:
حاش لله أن تمد ليدي تيودوسيا يدها بإساءة إلى مخلوق، مهما نقمت
عليه، إنها مثال العفو والإحسان.
جرفث
(بانشراح)
:
إذًا، كيف تخيلت أن الغيرة تسربت إليها؟
ليرا
:
تجسم لي ذلك من اهتمامها واستدعائها الطبيب، وسؤاله عن سبب
الإغماء، وكيف أتفق أن يقع في وقت واحد ولأول مقابلة. (تتنهد).
جرفث
:
حسنًا، وماذا تم بعد ذلك؟
ليرا
(تتنهد)
:
لم يقو اللورد على إخفاء ما يخالج نفسه نحوي، فكاشفني بحبه،
ورجاني أن أقبل يده فأكون عروسًا له، فلم أقبل.
جرفث
(بغرابة)
:
عروسًا له؟ ولم لم تقبلي؟
ليرا
:
ولما يئس من قبولي لجأ إلى حضرة الإيرل والده، فقضينا الساعات
الطويلة وهو يرجوني بإلحاح، وأنا مصممة على الرفض.
جرفث
(بدهشة وحزن)
:
إني لا أجد سببًا لامتناعك. فهل لذلك من سبب؟
ليرا
(تتأوه بألم شديد)
:
ويلاه! (تفرك على يديها) إنك
لا تعلم …
جرفث
:
لا أعلم؟ (باستغراب) أحدث لك
هنا شيء مؤلم؟
ليرا
(تبكي بحزن)
:
هنا؟ (تنتفض) أما هنا،
فلا؟
جرفث
(بفزع وغضب)
:
إذًا هناك، قبل أن تبرحي العش.
ليرا
(بوجل ورعب)
:
نعم هناك. (تصمت قليلاً)
يالها من ذكرى مؤلمة …
جرفث
:
إنك قد صوبت سهمًا إلى صميم قلبي. نعم لقد تحققت هواجسي. إني
كنت ألاحظ عليك يوم سفرك أنك تكتمين عني آلامًا كانت ترتسم على محياك، وتوسلت
إليك أن تصارحيني، فالتزمت الصمت. (بتململ
وأسف) ولكن ما علاقة كوخ المطحنة بقصر ستار منستر؟
ليرا
(تمسح دموعها)
:
مسكين أنت، يا جرفث. إنك لا تعلم شيئًا. نعم، أخفيت عنك كل
شيء.
جرفث
(باهتمام)
:
كيف سولت نفسك هذا؟
ليرا
(بتوسل)
:
رحماك، يا إلهي! (تتنهد).
ولفرد
(يدخل وينحني)
:
مولاي الإيرل في حاجة إلى رؤية مولاتي حالا.
ليرا
(تقف مذعورة)
:
الإيرل؟ (إلى جرفث) هلم معي
لأقدمك إلى سيد القصر، ولنؤجل ما نحن بصدده حتي نعود. (يقف جرفث ويخرجان).
ولفرد
(يرتب المقاعد)
:
إنها ملاك، فليهنأ بها مولاي اللورد. يلوح لي أن هذا الشيخ الذي
يتجسم الشباب في سواعده، ويتجلي الإخلاص. تحت جبينه المتجعد، وتسطع الشهامة حول
شعره الأبيض، قد أفرغ كل ما وهبه الله من حكمة في تربية هذه الزهرة حتي
أينعت.
داين
(يدخل ومعه فانشو وسانت أوبن. إلى ولفرد)
:
هل لا تزال مس ليرا تتشرف بصحبة الإيرل؟
ولفرد
(ينحني)
:
ذهبت الآن مع جرفث، بناء على طلب مولاي الإيرل.
داين
:
من هو جرفث؟
ولفرد
:
خادمها الشيخ. لقد حضر اليوم من برنستابل.
داين
(باهتمام)
:
حسنًا، إذهب وهيء الغرفة المجاورة لهذا البهو. إني أريد أن أسمع
بأذني كل كلمة تدور بين هذا الشيخ ومس ليرا. أفهمت؟ (ينحني ولفرد ويخرج).
داين
(إلى فانشو وسانت أوبن)
:
ما رأيكما في اعتراف روبرت رودن؟ (يجلسون).
فانشو
:
إنه غاية في الغرابة.
سانت أوبن
:
إني لا أكاد أصدق ما سمعت.
داين
:
إن ما يدهشني قبولها يدي، وهي تعلم ما بينها وبين تشاندس من
العلاقات.
فانشو
:
هذا الموضوع غريب في بابه، فلا بد أن يكون قد وصلها عن تشاندس
أخبار تأكدت منها أنه لن يعود، وبعد ذلك قبلت يد اللورد، ومع هذا فهي بريئة،
ألقت بنفسها بين مخالب ذلك الوحش تحت تأثير حادث مؤلم سوف نعرف حقيقته.
داين
:
أحب أن أسمع كلمات روبرت رودن الأخيرة، فأين الورقة؟
فانشو
(يخرج الورقة)
:
هاهي (يقرأ) «.. جاءني يومًا
صديق لي عرفته في المدرسة، وسألني أن أساعده في تمثيل رواية، وكان يعلم ماضيَّ
وأني كنت من خدمة الكنيسة، فعرض عليَّ أن أمثل دور قس. وكنت حين ذاك في أشد
حالات الضيق لتراكم الديون عليَّ، وكنت سكيرًا، فسقاني وشرب معي حتى نزع عني
البقية الباقية لي من الضمير، ثم أخرج المال، فألجأني الفقر إلى موافقته. إن
هذا الرجل كان شيطانًا، فزين لى المستقبل، وكان غرضه أن أمثل عقد قران نظير
إعطائي مبلغًا كبيرًا من المال. فاتفقنا على أن يحضر هو والفتاة إلى كنيسة
خربة، فأعقد له عليها …»
سانت أوبن
:
لا شك أنه زواج باطل.
فانشو
(مستأنفًا)
:
«.. في اليوم المعين ذهبت إلى الكنيسة المهدمة، وآسفاه! ويلاه،
إني أشعر الان برهبة ذلك المكان الموحش! وبعد قليل أقبل هو والفتاة، وكنت أتوقع
أن أرى فتاة عادية، فإذا بي أرى غادة خلابة المحاسن لها سذاجة الأطفال، تغلب
عليها معاني الطهارة والشرف …».
داين
:
ويل لذلك النذل، إن انتقامي سيكون شديدًا.
فانشو
(مستمرًا)
:
«… ومع أن ذلك الرجل الشيطاني كان يؤكد لي أنها جاءت مسوقة
بإرادتها فإنه لم يظهر عليها ما ينم عن ذلك، كان يلوح لي أن حزنًا عميقًا، أو
مصيبة عظيمة دفعتها إلى ذلك المكروه …».
سانت أوبن
(لداين)
:
أرأيت يا عزيزي أنها كانت مسوقة رغم إرادتها؟
داين
:
سننظر في ذلك يا لورد.
فانشو
(يواصل)
:
فلم أقو على ضبط نفسي، ولكن الشيطان كان يبسط إلىَّ كفيه، فأرى
الذهب يلمع، فيصل بريقه إلى أعين الفاقة التي كانت تحيط بي من كل مكان، فسولت
لي نفسي الطامعة أن أقرأ كلمات الإكليل. رحماك يا إلهي! وبعد أن تم ذلك أخذت
المال وسافرت إلى أستراليا، إلا أن خيال تلك المسكينة المنكودة الحظ كان
يطاردني أينما ىذهبت، ففررت إلى الهند، ثم جبت بلادًا كثيرة أملا في أن يختفي
عن عينيَّ شبح تلك الفتاة الطاهرة. ولكن عبثًا كنت أحاول. ولقد داهمتني الأمراض
حتي رمتني الأقدار بين أيديكم. إني أحتضر الآن.. وهذا يريحني؛ إذ به أتخلص من
رؤية ذلك الشبح المخيف. اسمي روبرت رودن واسم الفتاة ليرا، والإسم الحقيقي
للرجل تشاندس ارمتايدج، واسمه عند الفتاة دجوفري بارل. واسم الكنيسة القديس
مرقس، ببرنستابل قرب النهر. إذا كانت لكم معرفة بالفتاة أو أمكن أن تعثروا
عليها، فاسألاها الصفح والمغفرة.
داين
(بألم)
:
إن حواسي تضطرب. فما الرأي؟
ولفرد
(يدخل وتنحني)
:
مس ليرا وخادمها الشيخ قاصدان البهو.
داين
(يقف وسانت أوبن وفانشو)
:
هلموا بنا إلى الغرفة التي هيأها لنا ولفرد. (يخرجون من باب داخلي).
ليرا
(تدخل وجرفث يتوكأ على ساعدها)
:
إنه يحبني، كما لو كان أبي حيًا. أرأيت كيف أكرمك وطلب إليك ألا
تفارقنا أبدًا؟
جرفث
:
إن لساني ليعجز عن وصفه.
ليرا
(بألم)
:
إني وعدته، فكيف العمل؟
جرفث
(بدهشة)
:
ما معنى هذا؟
ليرا
:
أنصت إلىَّ سأطلعك على الحقيقة، وكنت أتكتمها حتى الآن، ولم أبح
بحرف منها لمخلوق.
جرفث
(باهتمام)
:
ماهي هذه الحقيقة؟ اشرحيها حتي أسدي إليك نصيحتي فيستريح
ضميري.
ليرا
:
ارجع قليلا إلى الكوخ، وفكر، في حياتنا الأولى. لقد حضر معي شاب
كاد يغرق وانتشلته من الغرق. وفي اليوم الثاني حضر ليعلمني صيد السمك. هذا هو
اللورد داين ارمتايدج ابن الإيرل. وهو المخلوق الوحيد الذي أحببته منذ أول
نظرة. (تبكي).
جرفث
:
ولم البكاء، وقد أصبح قرانكما مؤكدًا.
ليرا
:
إسمع. بعد أن سافر داين (تتنهد) حضر إلى كوخنا ذلك الشيطان دجوفري بارل، الذي استضفناه
مدة طويلة.
جرفث
:
إطمئني، فأنا ما حضرت إلى هنا إلا بسببه.
ليرا
:
لقد أفهمني أن أبي مدين في خمسمائة ذهبًا، وأن صاحب الدين هددنا
بطردنا من الكوخ واستيلائه عليه وعلى مزرعتنا الصغيرة. وجسم لي مصيرنا ونحن
نتسول في الشوارع، وبرهن لي على ذلك حتى أقنعني أن هذا صحيح. وفعلا كنت أقرأ
على وجه أبي علامات الضجر والخوف كلما قرب أجل الدفع. ولما زادت العلة على أبي
تمكن مني الشيطان، وأكد لي أن نجاته في دفع الدين. وتوسلت إليه وأنا في حالة
اليأس، أن يدفع هذا الخطب عنا، إذا كان ذلك في مقدوره. فأخبرني أن المال موجود،
ولكن هناك شرط يجب أن أقبله، فسألته مطمئنة، فقال إنه يدفع الدين، إذا قبلت أن
أتزوجه (تتأوه بألم).
جرفث
:
ياللشيطان! وبعد؟
ليرا
:
حاولت تارة بتوسلاتي وطورًا بدمعي أن أثنيه عن غرامه، فلم أفلح.
وكنت كلما أبصرت أبي يتوجع، طار قلبي شعاعًا وانفطر هلعًا. فجثوت على أقدامه
متوسلة أن يدفع المال وينقذ شرف والدي، فأبى إلا بالقبول. ولما رأيت أن أبي
هالك، وتحققت ألا نجاة إلا بقبولي. (متنهدة)
قبلت …
جرفث
(باهتمام عظيم)
:
ليرا، ما هذا الذي أسمع؟
ليرا
:
عندها أخبرني أنه ذاهب حالا إلى بترال ليصرف المبلغ ويحضره معه،
وطلب مني أن أكون في صباح اليوم التالي في كنيسة القديس مرقص القديمة على ضفة
النهر حيث يكون في انتظاري مع القس (تتنهد)
أدهشتني هذه السرعة، فسألته عن سببها فأجاب بأنه سيسافر في أقرب فرصة للحاق
بعمته المريضة. ولما سألته عن سبب تكتم هذا الزواج. قال: إن عمته لم علمت
بزواجه حرمته من الوصية. (تتأوه) مضت تلك
الليلة.
جرفث
:
ياللمصيبة! ليتني علمت منك هذا في حينه.
ليرا
:
ذهبت إلى الكنيسة (بتوجع)
فألفيته والقس روبرت رودن في انتظاري والإضطراب باد عليهما، إذ كنت أقرأ في
عيني القس علامات الخوف والتردد كأنه كان يخشى أن يفاجأ، أو كأنه كان مسوقًا
رغم أنفه إلى عمل يأباه ضميره. وبعد تردد تلا كلمات الإكليل وهو يرتجف ولسانه
يتلعثم. ومد دجوفري بارل يده إلى القس بقبضة من الذهب. فتناولها القس وخرج
يعدو. وكأنه لص يتوارى عن أعين لاحقيه. (تبكي).
جرفث
:
يا للخيانة! إنه عقد باطل، لأن هذا القس لم يكن سوى لص مأجور،
لتتوهمي أن هذا صحيح. كفكفي الدمع يا ابنتي، وكفى فقد انتقم الله لك من
عدوك.
ليرا
:
حاول أن يظفر مني ولو بابتسامة، فشردت عنه ولم أمكن يده الدنسة
أن تمس حتى طرف ثوبي. رجعت ودموعي تتدفق على فقد حبيبي، وما وصلت الكوخ حتى
وجدت أبي جثة هامدة. (تبكي بحرقة) فوقفت
جامدة أمام جسده الطاهر أندب سوء حظي. ولما رأيته بجانبي طلبت منه المال لأدفعه
عن أبي محافظة على وعده وشرفه، فرفض بدعوى أن الدين أصبح حقًا لي بعد موت أبي.
فطار صوابي وصرخت، عندما رأيتك، وكان ما كان من هروبه. ولم أسمع عنه شيئًا حتى
الآن غير ما جاء بكتابك من أنه مات غريقًا.
جرفث
:
أبشري يا ابنتي، فإن هذا العقد باطل، والرجل الذي يخيفك قد
هلك.
ليرا
(بفرح)
:
بالله، زدني إيضاحًا.
جرفث
:
إسمعي يا ابنتي: حدث بعد أن بعثت إليك بكتابي أن دجوفري بارل،
ذلك الشيطان، حضر يتنسم أخبارك، ظنًا منه أنك لا تزالين في عشك القديم.
ليرا
(باستغراب)
:
عجيب! إلى الكوخ؟ (باندهاش)
وبعد؟
جرفث
:
أخذ يحوم حول المزرعة، فأبصرني، ففزع لرؤيتي.
ليرا
:
وبعد؟
جرفث
:
تناولت معولا من حديد وهممت أعدو وراءه فأخذ طريقه إلى النهر،
فانطلقت أثب خلفه كالنمر يطلب فريسته.
ليرا
(بتلهف)
:
وبعد؟ وبعد؟
جرفث
:
قفز إلى قارب المزرعة، واتجه إلى الشاطئ الثاني، فصممت على
اللحاق به سابحًا. وما كاد يصل إلى الشاطئ حتى ألقيت بنفسى في الماء، وما توسط
النهر حتى أخذته رعدة وأقسم أنه ما أراد بك سوءًا، وأن زواجه منك ما كان إلا
مهزلة أو ألعوبة، وأنه غير شرعي، لأن القس لم يكن سوى رجل بائس فقير كان يمثل
دورًا مأجورًا عليه.
ليرا
:
هذا مدهش. (بسرور)، إنك
أحييت ميت آمالي، وأعدت لي الحياة المطمئنة التي كنت قد يئست من الحصول
عليها.
جرفث
:
لم تؤثر في تلك الكلمات، بل استشاطتني غضبًا، لأني كنت خالي
الذهن من كل هذا، فألقيت بنفسي في الماء، وقد أخذتني رعدة هائلة، فلما أبصرني
قذف بنفسه إلى الماء طلبًا للفرار سابحًا إلى الشاطئ الثاني. ولما كان لا يحسن
السباحة ساعده حسن الحظ بأن رآه أحد الصيادين وهو يستغيث فأغاثه بقاربه.
ليرا
(باهتمام عظيم)
:
يا إلهي! وبعد؟
جرفث
:
بينما كان يعصر ثيابه على الشاطئ الثاني وكنت أنا في قارب
المزرعة، أعالج تحويله عن كومة الرمل لا تزال به، قرعت أذني صرخة مفزعة، فسرحت
نظري ناحية الصوت، فرأيت جمعًا محتشدًا تتقدمه إمرأة عارية الرأس مبعثرة الشعر،
وهي تصيح: هو هو بعينه!
ليرا
(بخوف)
:
ويلاه! إني أرتعد.
جرفث
:
وما كدت أصل إلى الشاطئ، حتى كانت المرأة قد انقضت عليه،
واندفعت به إلى الماء مطوقة إياه بذراعيها، وما هي إلا لحظة حتى غاصا معًا تحت
الماء في النهر. حاول الكثير من الحضور إنقاذهما فلم يفلحوا.. كانت المرأة
قابضة على عنقه فاستحال عليها الخلاص، وهلكا تحت الماء …
ليرا
(بذهول)
:
إذًا لقد مات دجوفري بارل؟ وافرحتاه!
داين
(يدخل وسانت أوبن وفانشو)
:
شكرًا لله، لقد هلك الخائن.
ليرا
(تقف وجرفث. تنظر إلى الأرض بخجل. بارتجاف)
:
داين؟
داين
(بانشراح)
:
نعم، إنه أنا (ينظر إلى
جرفث) لقد شرفت قصرنا، وأدخلت علينا السرور، وجلبت لنا الهناء
بتشريفك ستار منستر اليوم.
جرفث
(ينحني)
:
شكرًا لك، يا مولاي.
ليرا
(مشيرة إلى جرفث)
:
إنه مربي الذي أرضعني لبان الفضيلة.
داين
:
نعم الرجل. لقد عرفت كل شيء. (ينظر
جرفث إلى ليرا اختلاسًا) لا تنظر إليها، فإني أرى قلبها يرقص
فرحًا. (يبتسم) لا تعجبا من هذا فإني سمعت
كل كلمة دارت بينكما، ووعيت الحديث من أوله إلى آخره.
ليرا
(بخجل)
:
أسمعت كل شيء؟ (تتنهد).
داين
:
وأعلم عنك أكبر مما تعلمين. (يلتفت
إلى فانشو وسانت أوبن) أقدم إليك صديقنا فانشو مارتن، الأب
المحترم، ولورد سانت أوبن.
ليرا
(تنحني)
:
لي عظيم الشرف.
داين
(إلى صديقه)
:
إني أتشرف بأن أقدم لصديقيَّ المخلصين ليدي ليرا
ارمتايدج.
سانت أوبن
(بسرور)
:
إنى أهنئكما من كل قلبي بهذا الإتصال الدائم.
جرفث
:
وأنا الآن لا يسعني شيء من الفرح الذي هز قلبي من أعماقه، ذلك
القلب الذي لم يدخله السرور منذ عهد الشباب إلا هذه اللحظة فقط. (يمسح عينه) هذه دموع الفرح تجلل شعري الأبيض،
فليبارككما الله يا ولدي.
داين
:
اسمعي يا عزيزتي، فسأزيدك ثقة بأني ملم بالموضوع أكثر من إلمامك
به. لقد حضرنا، أنا وصديقي، اليوم اعتراف محتضر. ولم يكن هذا المحتضر سوى اللص
روبرت رودن الذي كان يرافق ابن عمي تشاندس ارمتايدج، الذي تعرفينه باسم دجوفري
بارل.
ليرا
(بأسف ورعدة)
:
ابن عمك؟ هذا عجيب.
جرفث
(بصوت خافت)
:
ابن عمه؟ ياللداهية!
داين
:
لا تأسف، فإني غير آسف، لأن سلوكه كان مشينً، وستعلمان عنه
أشياء كثيرة. لقد شرح روبرت كل ما حصل في كنيسة القديس مرقص القديمة. وها هو ذا
اعترافه مع صديقي المحترم (مشيرًا إلى
فانشو). سأطلعكما عليه فيما بعد، إن روبرت لم يكن راضيًا عن ذلك
وقال إنه كان دورًا هزليًا وأن هذا العقد لا شك باطل. واعترف بأنه عطف عليك
لأنك كنت ملاك الطهارة، وكنت غير راضية عنه، مسوقة إليه بدافع قوي لا يعلمه،
وختم كلامه بطلب العفو منك فأسألك الصفح عنه.
جرفث
:
حقيقة إن مولاي يعرف أكثر مما تعرف والآن، وقد وضح كل شيء، لا
يسعنا إلا أن نشكر الله على هذه النتيجة.
داين
:
وأثر من هذا أن أنباء غرق تشاندس وصلت إلينا على لسان البرق وفي
صحف لندن ولم يعلم والدي الإيرل بذلك بعد.
فانشو
:
إنا نقابل هذا الخبر بمزيد الأسف.
سانت أوبن
:
وأنا أشارك صديقنا فانشو في هذا الأسف.
داين
:
بارك الله فيكما، هذا مصير كل حي. والآن أسألكما ألا تطلعا
والدي الإيرل على شيء من هذا الحادث، لأنه سريع التأثر، وصحته تهمني. ألا
توافقان على ذلك؟
سانت أوبن
:
أصبت. وإني سأتناسى منذ هذه اللحظة كل ما علمته عنه.
فانشو
:
الحق معك، يا عزيزي داين، وأنا أشارك اللورد (مشيرًا إلى سانت أوبن) في عواطفه
السامية.
داين
:
أشكركما على هذا الإخلاص. (إلى
ليرا) بقي علي أن أسمع من فمك الطاهر الحلو الجميل كلمة القبول،
فهل أنت راضية؟
ليرا
(بابتهاج)
:
نعم راضية؟، ومن كل قلبي.
سانت أوبن
(بسرور)
:
أهنئك، ياعزيزي، بهذه الدرة اليتيمة. (يصافحه).
فانشو
:
إن ملائكة الرحمة تحرس هذا الهيكل الشريف (مشيرًا إلى ليرا)، وإني أتمنى لك عمرًا طويلا،
وحياة طيبة سعيدة.
جرفث
:
أما الآن فلا يسعني، أنا الشيخ الذي لعب به الدهر زمنًا طويلا
إلا أن أتقدم بقدم ثابتة وحنان قوي إلى آنسة ليس لي في الدنيا غيرها (يأتي من الخلف فيمسك يد داين بيمينه ويد ليرا بشماله
ويضعهما معًا. ينظر إلى داين) هذه هديتي إليك، وأمانتي عندك،
فاحتفظ بها إنها كنز ثمين. (ثم يضع يديه على رأسيهما
وينظر إلى السماء) اللهم باركهما، وهب لهما العمر والهناء!