رحلة
يا مَنْ نَفَى عَنِّي لَذِيذَ مَنَامِي
مِنِّي إِلَيْكَ تَحِيَّتِي وسلامي
يا مَنْ لِأَوَّلِ نَظْرَةٍ قَدْ خِلْتُهُ
ملكًا تَرَبَّعَ فوق عرشِ غرامي
فَوَهَبْتُهُ قلبي وكلَّ سَعَادَتي
وَحَسِبْتُ أَنِّي قد بَلَغْتُ مَرَامي
عامانِ قد مَضَيَا لِعَهْدِ غرامِنَا
أَمْسَى بها جِسْمِي أَلِيفَ سَقَامِ
إِني سأشرحُ قِصَّتِي لَكِنَّما
أَخْشَى دُخُولَ الْوَجْدِ طَيَّ كلامي
•••
قَدمَ الربيعُ فَفَاضَ بالإِنعامِ
ودرجتُ أرسمُ للرُّبَى أحلامي
أعدو على النيلِ الحبيبِ هنيهةً
وهنيهةً أَرْتَادُ أرضَ سلامِ
حتى نزلت بروضةٍ فَوَّاحةٍ
هي مسرحُ الْغُزْلَانِ والآرامِ
حَوَت العجائبَ من فَصِيلَاتِ الْفَلَا
وبَدَتْ جمالًا في أَتَمِّ نِظَامِ
فَوَلَجْتُهَا والقلبُ يَرْقُصُ غِبْطَةً
وسمعت فيها صَيْحَةَ الضِّرْغامِ!
مَاسَتْ غُصُونُ الْبَانِ طَوْعَ نَسِيمِهَا
فانجاب من فَرْطِ الهناءِ ظلامي
يا نِعْمَهَا من روضةٍ في مصرَ قد
جَمَعَتْ جميلَ الطَّيْرِ والأنعامِ
تَتَسَرَّبُ الْحُورُ الْحِسَانُ لِدُورِهَا
من فاتِكَاتِ اللَّحْظِ وَالْهِنْدَامِ!
أَلْفَيْتُ في وَسْطِ ﭐلحديقةِ جَوْقَةً
صَدَحَتْ تُوَقِّعُ أَطيبَ الأَنْغَامِ
فَرَغِبْتُ أَن أَبْقَى لأُطْرِبَ مِسْمَعِي
وكأَنْ سَرَى بٱلزَّائرينَ مَرَامِي
فتسابَقَتْ نحوَ ﭐلمكانِ ﭐلكَاعِبَا
تُ ﭐلغِيدُ يَجْذِبُهُنَّ صَدْحُ حَمَامِ
وَتَزَاحَمَتْ حَوْلَ ﭐلكواعبِ فِتْيَةٌ
كُلٌّ له شَغَفٌ بكأْسِ مُدَامِي
بَيْنَا السِّهَامُ من العُيُونِ تَبَادَلَتْ
نحو القُلُوبِ عَلَى أَتَمِّ وئَام
كنتُ ﭐلوحيدَ بِمَعْزِلٍ عن جَمْعِهِمْ
وتكادُ تُسْعِدُ وحْدَتِي أَحْلَامي
سَرْعَانَ ما ﭐنْقَطَعَ ﭐلْخَيَالُ لأَنني
حالًا شُغِلْتُ بما ﭐستحقَّ هُيَامي
ظَبْيٌ تَنَازَلَ من سماءِ نعيمهِ
لا بَلْ مَلَاكٌ فاقَ بَدْرَ تَمَامِ
حُلْوُ الشَّمائلِ أَهْيَفٌ مُتَرَبِّبٌ
جَذَبَ القُلُوبَ بِثَغْرِهِ البَسَّامِ
يُزْرِي بِغُصْنِ البَانِ في حَرَكَاتِهِ
وَيَفُوقُهُ حُسْنًا بِلِينِ قَوَامِ
وَيُمَاثِلُ الطَّاوُوسَ في خُطُوَاتِهِ
متفاخرًا بجمالِهِ النَّمَّامِ
بَهِجُ الرِّداءِ إِذا تبسَّمَ ضاحكًا
صَرَعَ القلوبَ وصادَهَا بِسهامِ
رَشَأٌ تَسَرْبَلَ بالجَمَالِ فَوَجْهُهُ
قد صِيغَ من نُوِر الغرام السَّامي
فإِذا رنا للشَّمْسِ أوقف سَيْرَهَا
رَمَتِ القِنَاعَ وأردفتْ بِسَلَامِ
والبدرُ يَخْجَلُ من ضياءِ جبينِهِ
ويخافُ أن يَبْدُو بغيرِ لِثَامِ
أَهْدَتْهُ مُبْدِعَةُ الدَّلَالِ لِحَاظَهَا
فكأَنَّهَا طَيْرٌ وكان الرَّامي
بَاهِي المُحَيَّا زانَ حُمْرَةَ خدِّهِ
وَرْدُ الصِّبَى وتوقُّدُ الأَحْلَامِ
•••
مَرَّ النَّسِيمُ بها فَحَيَّا باسمًا
وَجَرَىَ يُوَجِّجُ بالأَريجِ ضِرَامِي
ومضت ثوانِ خِلْتُ فيها أَنَّني
زُرْتُ الجِنَانَ وَحُقِّقَتْ أَحْلَامي
•••
بَيْنَا أنا في بحرِ وَجْدِي سابحٌ
أَشْتَاقُ أن لا تَنْقضي أَوْهَامِي
إِذ قَدْ تَحَوَّلَ نَحْوَ وَجْهِي وَجْهُهُ
فَتَسَعَّرَتْ في مُهْجَتي آلَامي
وتحركت قَدَمَايَ لا أَدْرِي إِلَى
أَيِّ الجهاتِ تحرَّكَتْ أَقْدَامِي!
ومشيتُ من خَمْرِ الهَوَى مُتَمَايِلًا
ثَمِلًا ولكنِّي بغير مُدَامِ
دَخَلَ الهَوَى قلبًا خليًّا لَمْ يَكُنْ
يَدْرِي الهَوَى حتى اكتوى بغَرَامِ
وطفِقْتُ لا أَدْرِي أَحُلْمًا ما أَرَى
أَم يَقْظَةً أم فترةَ الأَوْهَامِ
وتَحَرَكَتْ قَدَمَاهُ نَحْوِي فٱغْتَدَى
قَلْبِي يَدُقُّ وخَانَنِي إِقدامي!
يا نِعْمَهَا من ساعةٍ فيها جرى
ماءُ الحديثِ فجاء طِبْقَ مرامي
وتحركتْ شَفَتَاهُ نحوي وَانحنى
بعوائدِ التركيِّ عندَ سَلَامِ
وَرَنَا وقالَ: الوقتَ أَرْجُو سيدي
إِيضاحَهُ إِذ حان أَخْذُ تِرَامِي!
فأَجَبْتُهُ ويدي تُلَاعِبُ ساعتي
والقَلْبُ يرقصُ من لَذِيذِ مَنَامي:
قد مَرَّ بعد الستِّ عشرُ دقائقٍ
وَأَرى الغزالة أَعلنَتْ بسلامِ
فتلفَّتَ الظبيُ الجَمِيلُ كأَنَّهُ
يَخْشَى هجومَ الباطش الضِّرْغَامِ!
وتلفظت شفتاه: هَيَّا ساعتي
إني أرى قد حان وقتُ طعامي
وتحركت يُمْنَاهُ نَحْوِي وانْثَنَى
يَنْوِي الرَّحِيلَ مضاعِفًا آلامي
فرأيْتُ نجمَ سَعَادَتِي قد أظلمتْ
أَنْوارُهُ وغرِقْتُ في أَوْهَامي
وجمعتُ كلَّ قُوَاي بل وبَسَالتي
وأَفقتُ حالًا من لذيذِ مَنَامِي
وتَحَرَكَتْ شَفَتَاي رَغْم إِرَادَتِي
كيما أُقاوم عِلَّةَ الإِبكامِ
وسألتُهُ: ما الإِسم؟ قالَ ولحظُهُ
كالسيف يلعَبُ في يد الصَّمْصَامِ
إِن شئتَ أَسْقِطْ ستَّةً من مائةٍ
هذا الحسابُ بِجُمَّلِ الأرقامِ
فصبرتُ حينًا لم أَذُقْ طَعْمَ الهُدَى
وكأنني قد صُدِّعَتْ أَقْلَامي
ومَضَتْ ثَوَانٍ والسكونُ مخيِّمٌ
من حَوْلِنَا والفِكْرُ في آلامِ
حتى عثرتُ بِمَطْلَبِي فغدوتُ من
طرب المسَرَّةِ راقصَ الأقدامِ
ناديتُهُ فاهتزَّ تِيهًا جيدُهُ
وكأَنْ تَهَلَّلَ وجهُهُ بكلامي
وأَجاب والإِعْجَابُ صَيَّرَ خدَّهُ
ما بين لون الوَرْدِ والأعْنَامِ:
كيفَ اهتديْتَ إِلى أُصُولِ حروفهِ
كيف اتَّصلت بفائهِ والَّلامِ؟
من أَيْنَ تَدْرِي أَنَّهُ مِنْ أَرْبعٍ
قد صِيغَ والتكرار بالإِلْزَامِ
فَأَجبْتُهُ: هذا الحساب صناعتي
إِنِّي أُعَلِّمُ صِيغَةَ الأرْقامِ
فَرَنَا وقالَ: سأَلْتُمُوا فأَجَبْتُكُمْ
وَعَلَيَّ حقُّ سُؤَالِ الإستفهامِ!
لَكَ ما تشاءُ فَمَايَتَانِ وعَشْرَةٌ
وَأَضِفْ إليها اثنين يا ابنَ كِرَامِ
وحروفُهُ سَبْعٌ أقولُ بِوَصْفِهَا
إِسمًا بِهِ قَدْ عِيلَ صَبْرُ غَرَامي
وبِهِ وقد إن أُخرجت فاستُبْدِلَتْ
بالياء بعد الراءِ تم مرامي
فتنبَّهَ الظبيُ الجميلُ وتَمْتَمَتْ
شفتاهُ: صُنْ يا ابن الخليلِ زِمَامي
فكأَنَّنِي يعقوبُ أَبْصَرَ بعدمَا
قَضَّى زمانًا في بكًا وظَلَامِ
وكأنَّ دُرَّ حديثِهِ قد جاءَني
كقميصِ يُوسُفَ فانجلت أَيَّامي
والروضُ هبَّ به النسيمُ مباركًا
والطير أَشْدَتْ مُنْعِشَ الأنْعَامِ
وَبَلَابِلُ البُسْتَانِ طارتْ حولَنَا
وكأَنَّهَا تدعُو لَنَا بِدَوَامِ
والنَّرْجِسُ الغضُّ الجميلُ تَمَايَلَتْ
أَعْطَافُهُ بالورْدِ والأكمامِ
وتراقصتْ أغصانُهُ وَتَبَسَّمَتْ
أزهارُهُ وَعَلَا هَدِيلُ حَمَامِ
فوقفتُ من طَرَبِ المَسَرَّةِ حائرًا
أَشْتَاقُ حكم النقض والإبرامِ
هَدَأَ النسيمُ وكلُّ حَيٍّ حَوْلَنَا
قد صار يُشْبِهُ صورةَ الأصنامِ
هَبَّ النسيمُ فشاغلتْ حركاتُهُ
عيني وقلبي ثم نَارَ غرامي
وَتَدَفَّقَتْ عَنِّي حُنُوًّا نحوه
وكأنَّ وَجْدِي قد أَذَابَ عِظَامي
وتحركتْ يُمْنَايَ تَلْمَسُ زَنْدَهُ
فاهتزَّ جسمي وَﭐرْتَخَتْ أقدامي
واشتدَّ في خَفَقَانِهِ قلبي وقد
أَمْسَى بجسمي كلُّ عضوٍ دامي
وَحَسِبْتُ أَنِّي عندما صَاحَبْتُهُ
قد صِرْتُ حارِسَ راية الإِسلامِ!
وكأنَّ مُوسِيقَى الحديقةِ خَلْفَنَا
عزفتْ لِصُحْبَتِنا بحُسْنِ خِتَامِ
والشمس عند مَغِيبِهَا قد قَبَّلَتْ
وَجَنَاتِهِ فَتَلَهَّبَتْ بِضِرامِ
والطيرَ عند فراقِهِ قد أَبْدَلَتْ
أنغامها بالْوَجْدِ والآلامِ
وَحَنَا عليه الْبَانُ يمنعُ مَشْيَهُ
حتى الغصونُ تَعَلَّقَتْ بالْهَامِ
عَشِقَتْهُ كلُّ الكائناتِ فحسْنُهُ
قد جاء يجمعُ غايةَ الإِحْكَامِ
خَطَّتْ يَدُ التكوينِ فوق جبينه
(هذا مَلَاكُ الطَّوْلِ والإنعامِ)
وَعَشِقْتُهُ لا للجمالِ وإنما
لجميلِ أخلاقٍ وَحُسْنِ نِظَامِ
ما زال يُطْرِبُنِي بِعَذْبِ حديثهِ
حتى تركنا منزِلَ الضِّرْغَامِ
•••
خَرَجَ الأمينُ عليه يستدعي لنا
سَيَّارَةً من شارعِ الأهرامِ!
وخرجت وَالْيُسْرَى تُطَوِّقُ خَصْرَهُ
فكأنه بَدْرٌ بَدَا
شَخَصَتْ له كلُّ العيونِ وَلَيْتَنِي
ثوبٌ عليه لكي أُرِيحَ غرامي
ساعَدْتُهُ حتى جلست جِوَارَهُ
إيوانُ كِسْرَى كان دون مقامي!
وعدت هنالك صافناتُ جِيَادِنا
مدت مفاتنها كَفَرْخِ نَعَامِ
والجوُّ رَقَّ نَسِيمُهُ من حولنا
والبدر أجلى مُزْعِجَ الأحلامِ
وتجلَّت الهيفاءُ تلعبُ بالنُّهَى
لَعِبًا تضيقُ لِوَصْفَهِ أفهامي
وكواكبُ الْعَلْيَاءِ زاد وَمِيضُهَا
واصطفت الْحُورُ الْحِسَانُ أمامي
ما زال سائِقُنَا يسوقُ جِيَادَهُ
حتى وصلنا مَلْعَبَ الأقدامِ
فسألْتُهُ إن كان يَسْمَحُ وَقْتُهُ
كيما أقومَ بواجبِ الإكرامِ
فَرَنَا بلحظِ جُفُونِهِ وأَجابني
شكرًا ولكن حانَ وقتُ مَنَامي
•••
فرأَيْتُ أَنْ وَجَبَ الوصولُ لِدَارِهِ
حتى أَفُوزَ بِصُحْبَةٍ وَتَدَانِي
قَصْرٌ بمصرَ على الولاء مُشَيَّدٌ
بيت الكرام لِقَاصِهَا والداني
تلتفُّ حول فنائِهِ فيحاءُ قد
عبقت بسرِّ الوَرْدِ والرَّيْحَانِ
غناءُ تبسم والزهورُ تَزِينُهَا
كقلائد الياقوتِ والمَرْجَانِ
والطير كان صغيرُهُ يدعو إلى
تحريكِ أَعطافٍ لِغُصْنِ البَانِ
وَخَريِرُ أَفْوَاه الجداول شاركت
أنغامَ طَيْرِ الرَّوْضِ في الألحانِ
•••
وَلَجَ العزيزُ عَرِينَهُ من بَعْدِ أن
أَهْدَى سلامًا ضاع فيه بياني
والبدرُ أسفر والزهورُ تَبَسَّمَتْ
واستقبلته شقائقُ النُّعْمانِ
نطق اللسان مُتَرْجِمًا عن مُهْجَتِي
: سِرْ في سلامٍ دائمٍ وأمانِ!
يا أَيُّها البدرُ الذي عَنِّي نَأَى
ترعاك عَيْنُ عنايةِ الرحمنِ
إِنْ كُنْتَ قَدْ أَظْلَمْتَ جَوَّ مَسَرَّتي
فكذاك شَأْنُ البدرِ في الدَّوَرَانِ
صبرًا فؤادي كلُّ بُعْدٍ ينقضي
والدهرُ ضدَّ رغائبِ الْوَلْهانِ
•••
غادَرْتُ ذاك القصرَ أَحْسُدُهُ عَلَى
سِحْرٍ به يُزْرِي بِسِحْر بياني
وقفلتُ مكتئبًا أَحِنُّ إلى الذي
مَلَكَ الفؤادَ بِلَحْظِهِ الْفَتَّانِ
سُبْحَانَ مَنْ زَرَعَ الورودَ بِخَدِّهِ
وَجَلَتْ سَنَاهَا زهرةُ الرُّمَّانِ
مَنْ لِي بِدَمْعِي كي أُرَوِّيهَا بِهِ
حتى تضاعف حُسْنَهَا نِيرَاني
سيانِ في حُلْمٍ أَرَى أم يقظةٍ
داعٍ إلى خدِّ الحبيبِ دعاني
وقضيت داجي لَيْلَتِي مُتَقَلِّبًا
حَيْرَانَ لا يَهْوَى الكرى أجفاني
يهفو النُّعَاسُ بِمُقْلَتِي فيرُدُّهُ
طَيْفٌ يُجَدِّدُ ذِكْرُهُ أشجاني
حتى إذا ذهب الظلامُ وأشرقتْ
شمسُ الضُّحَى تزهو على الأفنانِ
بادرتُ حالًا بارْتِدَاءِ ملابسي
وخرجتُ أقصدُ مَسْرَحَ الْغُزْلانِ
والشمسُ قد نَشَرَتْ ذوائبَ شَعْرِها
تكسو الرُّبَى حُلَلًا من الألوانِ
فَعَرَجْتُ نَحْوَ القصرِ أَذْكُرُ ما مضى
وَأُعَلِّلُ الآمالَ بالْوِجْدَانِ
وَأُرَاقِبُ الظَّبْيَ الغريرَ لَعَلَّهُ
يَنْسَابُ بين مَعَاقِلِ الْوِدْيانِ
ومضى طويلُ الوقتِ حتى خِلْتُنِي
في مِرْجَلٍ والجوُّ أحمرُ قانِ
بينا أنا والجوُّ حولي مُعْتِمٌ
عَصَفَتْ رِياحُ صَبَا الحبيبِ الجاني
فَتَحَوَّلَتْ عَنِّي الكآبةُ وَﭐعْتَلَتْ
وجهي المَسَرَّةُ وَانْجَلَتْ أحزاني
ورأيتُ أَحْسَنَ منظرٍ يدعو إلى
نَظْمِ القَرِيضِ يَحَارُ فيه الباني
غُصْنَيْنِ بينهما مَهَاة قد بَدَتْ
فَتَنَتْ قلوبَ الْحُورِ وَالْوِلْدَانِ
كَسَفَتْ جمالَ الشمسِ وَجْنَتُهَا وما
للبدرِ ضَوْءُ جَبِينِهَا الفَتَّانِ
فاقَتْ غزالَ الأمسِ عَشْرَ مراحلٍ
وَعَلَتْ تُشَاهِدُ دارةَ المِيزانِ
وَالثَّوْبُ لم يَحْجُبْ خفايا جسمها
غُصْنًا تَرَبَّعَ فوقه نَهْدَانِ
باح القميصُ بِسِرِّ مكنونِ الهوَى
فَجَلَا سَنَا فجرٍ أَضَاءَ عَيَاني
يا ليتني كنتُ القميصَ وَلَيْتَهُ
كان المُعَذَّبُ في الغرامِ مكاني!
حُورِيَّةٌ ضَمَّ الْوِشَاحُ قَوَامَهَا
فكأنها وَوِشَاحَهَا قَمَرَانِ
سَلَّتْ صَوَارِمَ لَحْظِهَا من غِمْدِهَا
فَسَطَتْ على الآسادِ والغُزْلانِ
وَتَبَسَّمَتْ عن لُؤْلُؤٍ مُتَمَنِّعٍ
(مَرَجَ النُّهَى بَحْرَيْنِ يَلْتَقِيَانِ)
تركته لِلْعُشاقِ يَنْسِبُ خَدَّهَا
وَاصَبْوَتي منه بأحمرَ قانِ
خَدٌّ يُرِيكَ نَعِيمَهُ في نَارِهِ
يا مَنْ يَرَى الْفِرْدَوْسَ في النِّيرَانِ!
تَرْنُو لَوَاحِظُهَا إِلَى عُشَّاقِها
فَتَصُولُ في أحشائهم كَيْمَاني
صَاغَ الجمالُ جَبِينَهَا مُتَعَبِّدًا
(فأتى كَبِسْمِ الله في العُنْوَانِ)
شَخَصَتْ إلى الزَّرْقاءِ منها مُقْلَةٌ
وترفَّعَتْ عن رُؤْيَةِ الثَّقَلَانِ
وَعَلَتْ إلى الْجَنَّاتِ تطلبُ أن ترى
هل في السماءِ لها شبيهٌ ثَانِ
•••
فحسبتُ أني عُدْتُ أحقابًا إلى
عهد الخرافةِ أعصر اليونانِ
وعجبتُ حين رَأَيْتُهَا قَدْ شَابَهَتْ
تمثالَ (أُورانيا) عظيمَ الشَّانِ
وجرى بها نِبْتُونُ يَسْبَحُ في الفضا
وغَدَتْ لها الأفلاكُ طَوْعَ بَنَانِ
وكأن (كاليبو) تَغَارُ لأنها
مَلَكُ الجمالِ إلٓهةُ الأغصانِ
لكنما (جُوبِتِيرُ) تَخْشَى بَطْشَهُ
فهو المُنَظِّمُ خُطَّةَ الأكوانِ
صَدَرَتْ أوامرُهُ إلى الأُلى بأن
تَبْقَى تُرَاقِبُ دِقَّةَ الدَّوَرَانِ
وأشار للأُخْرَى إلى الأرضِ اهْبِطِي
كي تُظْهِرِينَ مَحَاسِنَ الإِنْسَانِ
وَعَلَا وكلُّ الكائناتِ مُطِيعَةٌ
رغم الْأُنُوفِ إطاعةَ الْعِبْدَانِ
•••
هَبَّ النسيمُ فأَقْشَعَتْ حركاتُهُ
سِنَةَ الخيالِ وعُدْتُ لِلْوِجْدَانِ
فَوَجَدْتُنِي ما زِلْتُ أَقْتَحِمُ اللَّظَى
والشمسُ هَزَّ لَهِيبُهَا أركاني
والرئم يُظْهِرُ أنها قد لَاحَظَتْ
أني أُصِبْتُ بِسَهْمِهَا الْخَوَّانِ
فَكَسَا الْحَيَاءُ وُرُودَ خَدَّيْهَا دمًا
ومَشَتْ وَذَيْلُ قميصِهَا يرعاني
وتمَايَلَتْ كالْغُصْنِ حَرَّكَهُ الصَّبَا
وَتَسَتَّرَتْ عن نَاظِرِي وَعَيَاني
ناحتْ لها الورقاءُ عند فِرَاقِهَا
وأحاط جَيْشُ الليلِ بالْبُسْتَانِ
وبقيتُ كالتمثالِ ليس بِجَوْفِهِ
قلبٌ يَدُقُّ بِفُرْقَةٍ وتداني!
لم أستطعْ تحريكَ أعضائي ولم
يَجْسُرْ عَلَى نُطْقِ الكلامِ لساني
لو أنها عَرَضَتْ لأقيالٍ لما
هَامَ الملوكُ بِبَهْجَةِ التِّيجَانِ
ولو أنها عرضت لأشْمَطَ عابِدٍ
أَلِفَ السُّجودَ مَحَبَّةَ الْغُفْرَانِ
لرَنَا لِطَلْعَتِهَا وألهاه الهوى
عن ذِكْرِ آي الواحد الدَّيَّانِ
أنا لَمْ أَكُنْ مِنْ هؤلاءِ وَلَيْسَ لي
أَمَلٌ بأن أغدو وحيدَ زماني
لكنما ما حِيلَتِي وَالسَّهْمُ قد
راش الفؤادَ وبات طَيَّ جناني
هذا جزاءُ فَتًى تلاعبَ بالهوى
فاعتاض حلو الْعَيْشِ بالأحزانِ
•••
وَظَلِلْتُ أنتظرُ الْغَزَالَ وإِنما
نَارُ الغزالةِ أحرقتْ أبداني
وسألتُ نفسي هل تكونُ شقيقةً
للبدرِ أم هذا مَلَاكٌ ثَانِ
ظَهَرَ الغزالُ وَثُغْرُهُ مُتَبَسِّمٌ
سَرْعانَ ما بِيَمينِهِ حَيَّاني
(هَجَمَ السرورُ عَلَيَّ حتى أنه
من فَرْطِ ما قد سَرَّني أبكاني)
لله ما أبهَى جميلَ رِدَائِهِ
ثَوْبٌ يُغَازِلُ حُلَّةَ السُّلْطَانِ
لو أَنَّ كِسْرَى كان في أيَّامِهِ
لٱخْتَارَهُ لخلافةِ الإيوَانِ
مَدَّ الْيَمِينَ مُصَافِحًا وَمُصَبِّحًا
خِلْتُ الثُّرَيَّا عُلِّقَتْ بِبَنَاني
صافحتُهُ وضغطت بالْيُسْرَى على
قلبي أُخَفِّفُ وَطْأَةَ الْخَفَقَانِ!
وسألْتُهُ ماءً لِأُطْفيءَ ما بَدَا
في القلبِ من ظَمَإٍ ومن نِيرَانِ
فأشار نحو القصرِ ثم تَلَهَّبَتْ
وَجَنَاتُهُ كعشيقِ بِنْتِ الْحَانِ
وَافَرْحَتِي لو تَسْمَحَنْ بزيارتي
فأُقابِلَ الإحسانَ بالشُّكرانِ
نقضي قصيرَ الوقتِ حتى ينقضي
وَقْتُ الْهَجِيرِ براحةٍ وأمانِ
فتحركت قَدَمايَ تَتْبَعُ سَيْرَهُ
وَالْفَرْحُ عاقَ عن الثناءِ لساني
وَوَلَجْتُ دارًا بالجمالِ تَسَرْبَلَتْ
ما حازها قِدْمًا أَنُو شِرْوَانِ
ما أَمَّهَا لَيْلٌ ولم تَدْرِ الدُّجَى
وتكادُ تَجْحَدُ دورةَ المَلَوَانِ
وجلستُ أَرْشُفُ كَأْسَ حُبٍ طاهرٍ
ضنَّ ﭐلزَّمَانُ بها على ﭐلتِّيجَانِ
وخلوتُ بٱلظَّبْي ﭐلْجَميلِ وَبَيْنَنَا
غَزَلٌ كعَذْبِ ﭐلماءِ لِلظَّمْآنِ
طورًا نُكَلِّمُ بالشِّفاهِ وتارةً
يكفي ﭐلعُيُونَ الهمْسُ بالْأَجْفَانِ
ما كان أَشْهَى خَلْوَتي بِمُسَامِرِي
لو كانَ يسمحُ أَنْ يَدُومَ زَمَانِي!
•••
غاب ﭐلعواذِلُ وﭐلوُشَاةُ ولم يكُنْ
بالسرِّ يَعْلَمُ غَيْرُ غُصْنِ ﭐلبَانِ
ولو ﭐعتقدت بأَنه واشٍ بما
قُلْنَا لَصُنْتُ ﭐلسرَّ بالكِتْمَانِ
وَلَئنْ وَشَى للزهر ما من زهرةً
إِلَّا بِعَيْنِ صَبَابَتِي تَرْعَاني
خَفَتَ ﭐلنسيمُ يُذِيعُ أَسْرَارَ ﭐلهوى
ويبوحُ بالمكنونِ من أَشْجَانِي
فسأَلْتُهُ كِتْمَانَ ما قد لَاحَظَتْ
خَطَرَاتُهُ وﭐلسَّمْعُ وﭐلعَيْنَانِ
فأَجابني خَفِّضْ عَلَيْكَ وَلَيْتَنِي
كَهْفٌ أَعُوقُكَ طَارِيءَ ﭐلحَدَثَانِ
وَجَرَى يُقَبّلُ وَجْنَتَيْهِ وَيَنْثَنِي
يُهدي إِليَّ قلائدَ العِقْيَانِ
فتبودِلَتْ بَيْنِي وبين مُغَازِلي
قُبَلٌ يُقَطِّعُهَا غَرَامٌ هَانِي
يهفو الفؤادُ لوقعِهَا فيرُّدُه
باللُّطْفِ صوتُ الطُّهْرِ وﭐلإِيمانِ
ما أَسعد ﭐلوَلْهَانَ حينَ يَضُمُّهُ
بَيْتُ ﭐلمُحِبِّ بخلوةٍ وأَمانِ
يا ليتَهَا كانتْ تدومُ وَلَيْتَنِي
قَبْلَ ﭐنْقِضَاهَا كنتُ في الأَكْفَانِ
سَرْعَانَ ما تَجْرِي أُوَيْقَاتُ الهَنَا
ومن المُحَالِ يدومُ وَقتُ تَدَاني
نوديتُ وَالظَّبْيَ ﭐلْجَمِيلَ: تَفَضَّلَا
يدعوكما الطَّاهي إِلَى الْأَلْوَانِ!
بِئْسَ النداءُ فقد حُرِمْنَا خَلْوَةً
كانَتْ دَوَاءً للفؤَادِ العَاني
مَا كان أَقْصَرَ مُدَّةً أَنِسَتْ بِهَا
منهُ العُيُونُ فكان وَصْلَ غَوَاني
كرَّتْ ولكن لم تَطُلْ فكأنها
طَيْفُ ﭐلْخَيَالِ يَلَذُّ لِلوَسْنَانِ
•••
لو أَنَّ أَيَّامي تَفِي ثَمَنًا لَهَا
لَبَدَلْتُ أَيَّامي لها بثَواني
أو أَنَّ عمرَ المرءِ طوعُ بَنَانه
لجعلتُهَا عمُرْي وَقُلْتُ كَفَانِي