صَاحِبُ الثِّيَابِ الرَّثَّةِ
غَرَبَتِ الشَّمْسُ، وَتَوَقَّفَ ضَجِيجُ الْحَشَرَاتِ بَعْضَ الْوَقْتِ، وَوَسْطَ هَذَا السُّكُونِ، انْطَلَقَتْ فَجْأَةً أَصْوَاتٌ كَثِيرَةٌ مُتَدَاخِلَةٌ. تَوَقَّفَ هنري وَأَرْهَفَ السَّمْعَ. أَتَى صَوْتُ صِيَاحٍ مِنْ بَعِيدٍ، وَسَمِعَ هنري الصَّوْتَ الْمُدَوِّيَ لِإِطْلَاقِ النَّارِ وَانْطِلَاقِ الْمَدَافِعِ.
تَشَتَّتَ ذِهْنُ هنري فِي كُلِّ الِاتِّجَاهَاتِ. تَخَيَّلَ أَنَّ الْجَيْشَيْنِ لَا يَزَالَانِ يُحَارِبُ أَحَدُهُمَا الْآخَرَ. وَبَعْدَ أَنْ أرهف السَّمْعَ وَقْتًا طَوِيلًا، بَدَأَ يَجْرِي فِي اتِّجَاهِ مَيْدَانِ الْمَعْرَكَةِ. عَلِمَ هنري أَنَّهُ مِنَ الْغَرِيبِ أَنْ يَرْكُضَ بِاتِّجَاهِ الْمَعْرَكَةِ وَهُوَ الَّذِي بَذَلَ جُهْدًا بَالِغًا لِيَبْتَعِدَ عَنْهَا، لَكِنَّهُ أَخْبَرَ نَفْسَهُ أَنَّهُ إِذَا كَانَتِ الْأَرْضُ وَالْقَمَرُ عَلَى وَشْكِ الِاصْطِدَامِ، فَسَيَصْعَدُ كَثِيرٌ مِنَ النَّاسِ إِلَى أَسْطُحِ مَنَازِلِهْم لِيُشَاهِدُوا حُدُوثَ ذَلِكَ. كَانَ لَدَيْهِ الشُّعُورُ نَفْسُهُ تِجَاهَ الْمَعْرَكَةِ؛ فلَمْ يَشَأْ تَفْوِيتَ حَدَثٍ سَيَتَحَدَّثُ النَّاسُ عَنْهُ لِسَنَوَاتٍ تَالِيَةٍ.
جَالَ بِخَاطِرِ هنري وَهُوَ يَرْكُضُ أَنَّ الْمَعْرَكَةَ الَّتِي شَهِدَهَا لَمْ تَكُنْ سِوَى إِحْمَاءٍ. عِنْدَمَا سَمِعَ أَصْوَاتَ الْمَعْرَكَةِ الَّتِي تَدُورُ الْآنَ، بَدَأَ يَشُكُّ فِي أَنَّهُ قَدْ شَهِدَ قِتَالًا مِنْ قَبْلُ. كَادَ الْأَمْرُيَكُونُ مُضْحِكًا؛ فَقَدْ أَخَذَ هُوَ وَرِفَاقُهُ الْعَدُوَّ عَلَى مَحْمَلِ الْجِدِّ، وَتَخَيَّلُوا أَنَّهُمْ سَيَحْسِمُونَ الْمَعْرَكَةَ. ظَنُّوا جَمِيعًا أَنَّهُمْ سَيُصْبِحُونَ أَبْطَالًا، لَكِنَّ الْحَقِيقَةَ أَنَّ أَحَدًا لَنْ يَذْكُرَهُمْ عَلَى الْإِطْلَاقِ.
أَسْرَعَ هنري إِلَى الْأَمَامِ مُتَخَيِّلًا كُلَّ مَشَاهِدِ الْمَعْرَكَةِ. حَاوَلَتْ أَغْصَانُ الْأَشْجَارِ وَالْكُرُومِ رَدْعَهُ وَإِعَاقَةَ طَرِيقِهِ، لَكِنَّهُ تَجَاوَزَهَا كُلَّهَا، وَسُرْعَانَ مَا رَأَى حَوَاجِزَ الدُّخَانِ الرَّمَادِيَّةَ الْمُرْتَفِعَةَ. فَزِعَ هنري عِنْدَمَا سَمِعَ صَوْتَ الْمَدَافِعِ مِنْ حَوْلِهِ، وَأَخَذَ يُحَدِّقُ النَّظَرَ فِي اتِّجَاهِ الْمَعْرَكَةِ.
وأَخِيرًا، وَاصَلَ هنري طَرِيقَهُ إِلَى الْأَمَامِ، وبَدَتْ أَصْوَاتُ الْمَعْرَكَةِ مِثْلَ صَرِيرِ آلةٍ مُرَوِّعَةٍ. كَانَ سَمَاعُ تِلْكَ الْأَصْوَاتِ رَائِعًا، لَكِنْ عَلَيْهِ أَنْ يَقْتَرِبَ أَكْثَرَ لِيَرَى مَا يَحْدُثُ.
وَصَلَ هنري إِلَى طَرِيقٍ بِهِ حَشْدٌ مِنَ الرِّجَالِ الْمُصَابِينَ يَسِيرُونَ بِبُطْءٍ بَعِيدًا عَنْ أَرْضِ الْمَعْرَكَةِ. كَانُوا يَكِيلُونَ الشَّتَائِمَ، وَيَتَأَوَّهُونَ، وَيَبْكُونَ. كَانَ أَحَدُهُمْ يَحْمِلُ حِذَاءً مَلِيئًا بِالدِّمَاءِ، وَأَخَذَ يَقْفِزُ مِثْلَ تِلْمِيذٍ فِي الْمَدْرَسَةِ وَيَضْحَكُ كَالْمَجْنُونِ، بَيْنَمَا كَانَ آخَرُ يُغَنِّي بِصَوْتٍ عَالٍ مُرْتَعِشٍ. وكَانَ الْكَثِيرُ مِنَ الرِّجَالِ غَاضِبِينَ، بَيْنَمَا سَاعَدَ بَعْضُهُمْ فِي حَمْلِ ضَابِطٍ كَانَ يَصِيحُ بِالْأَوَامِرِ فِي الرِّجَالِ الْقَرِيبِينَ مِنْهُ.
انْضَمَّ هنري إِلَى هَذَا الْحَشْدِ وَسَارَ مَعَهُمْ. سَارَ رَجُلٌ رَثُّ الثِّيَابِ بِهُدُوءٍ إِلَى جِوَارِ هنري. كَانَ مُغَطًّى بِالْغُبَارِ وَالدِّمَاءِ، وَلَدَيْهِ بُقَعُ بَارُودٍ تُغَطِّي شَعْرَهُ إِلَى حِذَائِهِ، وكَانَ يَسْتَمِعُ إِلَى رَقِيبٍ يَتَحَدَّثُ مَعَهُ. وبَعْدَ بُرْهَةٍ اقْتَرَبَ الرَّجُلُ ذُو الثِّيَابِ الرَّثَّةِ مِنْ هنري مُحَاوِلًا التَّحَدُّثَ مَعَهُ. رَأَى هنري أَنَّ الرَّجُلَ مُصَابٌ بِجُرْحَيْنِ؛ وَاحِدٌ فِي ذِرَاعِهِ وَالْآخَرُ فِي رَأْسِهِ ومَرْبُوطٌ بِقِطْعَةِ قُمَاشٍ مُمْتَلِئَةٍ بِالدِّمَاءِ. كَانَ صَوْتُ الرَّجُلِ ذِي الثِّيَابِ الرَّثَّةِ رَقِيقًا، وَبَدَتْ عَيْنَاهُ وَكَأَنَّهُمَا تَتَوَسَّلَانِ شَيْئًا.
سَأَلَ الرَّجُلُ: «كَانَتْ مَعْرَكَةً جَيِّدَةً، أَلَيْسَ كَذَلِكَ؟»
رَفَعَ هنري — الَّذِي كَانَ مُسْتَغْرِقًا فِي التَّفْكِيرِ — بَصَرَهُ إِلَى الْوَجْهِ الْبَائِسِ الْمُغَطَّى بِالدِّمَاءِ، وَقَالَ: «مَاذَا؟»
سَأَلَ الرَّجُلُ: «كَانَتْ مَعْرَكَةً جَيِّدَةً، أَلَيْسَ كَذَلِكَ؟»
قَالَ هنري: «بلى.» وَبَدَأَ يُسْرِعُ فِي السَّيْرِ، لَكِنَّ الرَّجُلَ لَحِقَهُ.
قَالَ الرَّجُلُ: «لَمْ أَرَ رِجَالًا يُقَاتِلُونَ هَكَذَا مِنْ قَبْلُ، يَا لَهَا مِنْ مَعْرَكَةٍ! كُنْتُ أَعْرِفُ أَنَّ فِتْيَانَنَا سَيَتَحَلَّوْنَ بِالْقُوَّةِ مَا إِنْ يَبْدَأُ الْقِتَالُ. كُنْتُ أَعْلَمُ أَنَّ الْأُمُورَ سَتَئُولُ لِمَا آلَتْ إِلَيْهِ. لَا يُمْكِنُ هَزِيمَةُ فِتْيَانِنَا يَا سَيِّدِي. إِنَّهُمْ مُحَارِبُونَ لَا شَكَّ.»
نَظَرَ الرَّجُلُ إِلَى هنري عِدَّةَ مَرَّاتٍ لِيُشَجِّعَهُ عَلَى الْحَدِيثِ، لَكِنَّهُ لَمْ يَرُدَّ عَلَيْهِ، فَوَاصَلَ الرَّجُلُ حَدِيثَهُ.
قال: «كُنْتُ أَتَحَدَّثُ مَعَ فَتًى مِنْ جورجيا فِي جَيْشِ الْعَدُوِّ، قَالَ إِنَّهُ سَيَهْرُبُ مَا إِنْ يَبْدَأُ إِطْلَاقُ النِّيرَانِ، فَقُلْتُ إِنَّنَا لَنْ نَفْعَلَ. قُلْتُ رُبَّمَا يَفِرُّ رِجَالُهُ، فَضَحِكَ. حَسَنًا، لَمْ يَفِرَّ أَحَدٌ الْيَوْمَ، أَلَيْسَ كَذَلِكَ؟ حَارَبَ الْجَمِيعُ بِأَقْصَى مَا يَسْتَطِيعُونَ مِنْ جُهْدٍ.»
وارْتَسَمَتْ عَلَى وَجْهِهِ نَظْرَةُ حُبٍّ لِلْجَيْشِ. سَأَلَ الرَّجُلُ هنري بَعْدَ بُرْهَةٍ: «أَيْنَ أُصِبْتَ يَا فَتى؟»
شَعَرَ هنري بِالذُّعْرِ فَوْرًا عِنْدَ سَمَاعِ السُّؤَالِ.
سَأَلَ هنري: «مَاذَا؟»
فَسَأَلَهُ الرَّجُلُ ثَانِيَةً: «أَيْنَ أُصِبْتَ؟»
رَدَّ هنري: «لِمَاذا؟ … أَنَا … أنَا … إِنَّهُ … لِمَاذَا؟ أَنَا …»
اسْتَدَارَ هنري فَجْأَةً، وَأَخَذَ يَرْكُضُ وَسْطَ الْحَشْدِ. اكْتَسَى وَجْهُهُ بِاللَّوْنِ الْأَحْمَرِ، وَالْتَقَطَتْ أَصَابِعُهُ فِي تَوَتُّرٍ أَحَدَ أَزْرَارِهِ. ظَلَّ مُنَكَّسَ الرَّأْسِ َيُحَدِّقُ فِي الزِّرِّ كَأَنَّ بِهِ خَطْبًا مَا.