جيم كونكلن
تَرَاجَعَ هنري حَتَّى مُؤَخِّرَةِ الْحَشْدِ، وَظَلَّ مُتَوَارِيًا عَنِ الْأَنْظَارِ حَتَّى اخْتَفَى الْجُنْدِيُّ رَثُّ الثِّيَابِ، ثُمَّ بَدَأَ يَسِيرُ مَعَ الْآخَرِينَ. لَكِنَّهُ كَانَ مُحَاطًا بِالْجَرْحَى. السُّؤَالُ الَّذِي طَرَحَهُ عَلَيْهِ الْجُنْدِيُّ رَثُّ الثِّيَابِ جَعَلَهُ يَشْعُرُ أَنَّ عَارَهُ سَيَكُونُ مَلْحُوظًا لِلْجَمِيعِ. كَانَ هنري يَنْظُرُ أَحْيَانًا إِلَى الرِّجَالِ الْآخَرِينَ بِعَيْنٍ مِلْؤُهَا الْحَسَدُ. كَانَ يَتَمَنَّى لَوْ كَانَ لَدَيْهِ جُرْحٌ هُوَ الْآخَرُ؛ شَارَةٌ حَمْرَاءُ تَدُلُّ عَلَى شَجَاعَتِهِ.
كَانَ هُنَاكَ رَجُلٌ مُصَابٌ عَلَى جَانِبِ الطَّرِيقِ. حَاوَلَ الرِّجَالُ الْآخَرُونَ مُسَاعَدَتَهُ، لَكِنَّهُ أَبْعَدَهُمْ وَطَلَبَ مِنْهُمْ أَنْ يَتْرُكُوهُ وَشَأْنَهُ. كَانَ وَجْهُهُ رَمَادِيًّا، وَشَفَتَاهُ مُغْلَقَتَيْنِ بِإِحْكَامٍ. تَحَرَّكَ الرَّجُلُ بِصُعُوبَةٍ وَكَأَنَّهُ يُحَاوِلُ أَنْ يَحْمِيَ جُرُوحَهُ. بَدَا أَنَّهُ يَبْحَثُ أَثْنَاءَ سَيْرِهِ عَنْ مَكَانٍ يَتَوَقَّفُ فِيهِ. بَدَا وَكَأَنَّهُ شَخْصٌ يَبْحَثُ عَنْ مَقْبَرَةٍ.
شَيْءٌ مَا فِي الطَّرِيقَةِ الَّتِي لَوَّحَ بِهَا الرَّجُلُ إِلَى الْجُنُودِ الْآخَرِينَ لِيَبْتَعِدُوا عَنْهُ أَدْهَشَ هنري، فَصَاحَ فِي فَزَعٍ، ثم َوَضَعَ يَدَهُ عَلَى ذِرَاعِ الرَّجُلِ، وَعِنْدَمَا التَفَتَ إِلَيْهِ، صَاحَ هنري: «جيم كونكلن!»
ارْتَسَمَتْ عَلَى وَجْهِ جيم ابْتِسَامَةٌ صَغِيرَةٌ، وَقَالَ: «مَرْحَبًا يَا هنري.»
قَالَ هنري: «آهٍ يَا جيم! آهٍ يَا جيم! آهٍ يَا جيم!»
سَأَلَهُ جيم: «أَيْنَ كُنْتَ يَا هنري؟» وَمَدَّ يَدَيْهِ: «كُنْتُ قَلِقًا عَلَيْكَ.»
لَمْ يَسْتَطِعْ هنري أَنْ يَقُولَ شَيْئًا سِوَى: «آهٍ يَا جيم!»
قَالَ جيم: «أَتَعْلَمُ؟ لَقَدْ كُنْتُ هُنَاكَ، يَا لَهُ مِنْ سيركٍ. لَقَدْ أُصِبْتُ، لَقَدْ أُصِبْتُ. الْوَضْعُ سَيِّئٌ لِلْغَايَةِ.»
وَبَيْنَمَا وَاصَلُ الصَّدِيقَانِ سَيْرَهُمَا، بَدَا أَنَّ الْخَوْفَ قَدْ غَلَبَ جيم فَجْأَةً، فَأَمْسَكَ بِذِرَاعِ هنري وَبَدَأَ يَتَحَدَّثُ بِصَوْتٍ هَامِسٍ مُرْتَجِفٍ. رَأَى هنري أَنَّ صَدِيقَهُ وَاهِنٌ لِلْغَايَةِ.
قال جيم: «سَأُخْبِرُكَ عَمَّا يُقْلِقُنِي يَا هنري، أَخَافُ أَنْ أَسْقُطَ أَرْضًا، فَإِمَّا يَتْرُكُونَنِي هُنَا، وَإِمَّا تَدْهَسُنِي عَرَبَاتُ الْمِدْفَعِيَّةِ.»
صَاحَ هنري: «سَأَعْتَنِي بِكَ يَا جيم! أُقْسِمُ أَنِّي سَأَفْعَلُ.»
تَشَبَّثَ جيم بِذِرَاعِ هنري.
سَأَلَ جيم: «لَطَالَمَا كُنْتُ صَدِيقًا مُخْلِصًا لَكَ يَا هنري، أَلَيْسَ كَذَلِكَ؟ لَطَالَمَا كُنْتُ شَخْصًا جَيِّدًا، أَلَيْسَ كَذَلِكَ؟ لَسْتُ أَطْلُبُ الْكَثِيرَ، أَلَيْسَ كَذَلِكَ؟ فَقَطِ اسْحَبْنِي بَعِيدًا عَنِ الطَّرِيقِ، سَأَرُدُّهَا لَكَ يَا هنري.»
لَمْ يَسْتَطِعْ هنري أَنْ يَقُولَ شَيْئًا، وَسَارَ جيم مُبْتَعِدًا عَنْهُ.
تَبِعَ هنري صَدِيقَهُ، وَبَعْدَ قَلِيلٍ سَمِعَ صَوْتًا يَأْتِي مِنْ وَرَاءِ كَتِفِهِ، وَعِنْدَمَا اسْتَدَارَ، إِذَا بِهِ يَجِدُ الْجُنْدِيَّ رَثَّ الثِّيَابِ.
قَالَ الْجُنْدِيُّ: «يَنْبَغِي أَنْ تُبْعِدَهُ عَنِ الطَّرِيقِ أَيُّهَا الرَّفِيقُ؛ فَهُنَاكَ عَرَبَةٌ قَادِمَةٌ، وَسَوْفَ تَدْهَسُهُ.»
هُرِعَ هنري إِلَى صَدِيقِهِ، وَحَاوَلَ سَحْبَهُ مِنَ الطَّرِيقِ. حَاوَلَ جيم أَنْ يَبْتَعِدَ لَحْظَةً، ثُمَّ قَالَ: «أإِلَى الْحُقُولِ؟»
بَدَأَ جيم يَرْكُضُ وَسْطَ الْحَشَائِشِ، وَهنري يَرْكُضُ وَرَاءَهُ. صَاحَ هنري عَلَيْهِ كَيْ يَتَوَقَّفَ، لَكِنَّهُ وَاصَلَ الرَّكْضَ. شَعَرَ هنري بِالدَّهْشَةِ لِأَنَّ صَدِيقَهُ لَا يَزَالُ يَمْتَلِكُ كُلَّ هَذِهِ الْقُوَّةِ.
سَأَلَهُ هنري بِصَوْتٍ مُرْتَعِدٍ: «إِلَى أَيْنَ أَنْتَ ذَاهِبٌ يَا جيم؟ فِيمَ تُفَكِّرُ؟ مَاذَا تَفْعَلُ؟»
اسْتَدَارَ جيم، وَقَالَ: «اتْرُكْنِي وَشَأْنِي، أَلَا تَسْتَطِيعُ ذَلِكَ؟»
سَأَلَهُ هنري فِي ذُهُولٍ: «لِمَاذَا يَا جيم؟ مَا خَطْبُكَ؟»
اسْتَدَارَ جيم، وَرَكَضَ إِلَى الْأَمَامِ، فَتَبِعَهُ هنري وَالْجُنْدِيُّ رَثُّ الثِّيَابِ تَنْتَابُهُمَا مَشَاعِرُ الدَّهْشَةِ وَالْخَوْفِ. بَدَا الْأَمْرُ وَكَأَنَّهُ جُزْءٌ مِنْ طَقْسٍ دِينِيٍّ، وَأَخِيرًا رَأَيَا جيم يَتَوَقَّفُ فِي مَكَانِهِ. بَدَا وَكَأَنَّهُ يَنْتَظِرُ بِأَنَاةٍ شَيْئًا جَاءَ لِيَلْتَقِيَهُ.
خَيَّمَ الصَّمْتُ عَلَى الجَمِيعِ.
وَأَخِيرًا، أَخَذَ صَدْرُ جيم يَنْتَفِضُ، وَسَقَطَ أَرْضًا.
اتَّجَهَ هنري بِغَضَبٍ مُفَاجِئٍ نَحْوَ أَرْضِ الْمَعْرَكَةِ. لَوَّحَ بِقَبْضَةِ يَدِهِ، وَبَدَا عَلَى وَشْكِ الصُّرَاخِ.
فَوْقَهُ، كَانَ قُرْصُ الشَّمْسِ الْأَحْمَرُ مُلْتَصِقًا فِي السَّمَاءِ كَأَنَّهُ رُقَاقَةٌ مِنَ البَسْكَوِيتِ.