سُؤَالُ الْجُنْدِيِّ رَثِّ الثِّيَابِ
وَقَفَ الرَّجُلُ رَثُّ الثِّيَابِ يُفَكِّرُ.
وَأَخِيرًا، قَالَ بِصَوْتٍ مَمْزُوجٍ بِالدَّهْشَةِ: «يَا لَهُ مِنْ مَشْهَدٍ، أَلَيْسَ كَذَلِكَ؟ أَتَعَجَّبُ مِنْ أَيْنَ جَاءَ بِكُلِّ تِلْكَ الْقُوَّةِ! لَمْ أَرَ مِنْ قَبْلُ رَجُلًا يَجْرِي هَكَذَا بَعْدَ أَنْ أُصِيبَ بِضْعَ مَرَّاتٍ! كَانَ أَمْرًا غَرِيبًا!»
أَرَادَ هنري أَنْ يَصْرُخَ، لَكِنَّهُ لَمْ يَسْتَطِعْ أَنْ يُصْدِرَ أَيَّ صَوْتٍ. وَقَفَ الرَّجُلُ ذُو الثِّيَابِ الرَّثَّةِ وَرَاقَبَهُ.
قَالَ الرَّجُلُ بَعْدَ بُرْهَةٍ: «انْظُرْ يَا رَفِيقِي، لَقَدْ رَحَلَ صَدِيقُكَ، أَلَيْسَ كَذَلِكَ؟ مِنَ الْأَفْضَلِ لَكَ أَنْ تَهْتَمَّ بِنَفْسِكَ، لَنْ يَكْتَرِثَ أَحَدٌ لِإِزْعَاجِ صَدِيقِكَ بَعْدَ الْآنَ، وَعَلَيَّ أَنْ أَقُولَ إِنَّنِي لَا أَتَمَتَّعُ بِصِحَّةٍ جَيِّدَةٍ هَذِهِ الْأَيَّام.»
نَظَرَ هنري إِلَى الرَّجُلِ بِسُرْعَةٍ، وَرَأَى أَنَّهُ كَانَ يَتَرَنَّحُ عَلَى قَدَمَيْهِ، وَأَنَّ وَجْهَهُ تَغَيَّرَ إِلَى لَوْنٍ أَزْرَقَ غَرِيبٍ.
صَاحَ هنري: «لَسْتَ أَنْتَ أَيْضًا، لَنْ ﺗَ…»
لَوَّحَ الرَّجُلُ بِيَدِهِ.
قَالَ الرجل: «لَا، كُلُّ مَا أَحْتَاجُهُ هُوَ حِسَاءُ الْبَازِلَّاءِ، وَفِرَاشٌ وَثِيرٌ.»
بَدَآ يَسِيرَانِ عَائِدَيْنِ إِلَى الطَّرِيقِ. تَحَرَّكَا بِهُدُوءٍ بَعْضَ الْوَقْتِ، وَأَخِيرًا، قَالَ الرَّجُلُ رَثُّ الثِّيَابِ: «أَتَعْلَمُ يَا رَفِيقِي؟ بَدَأْتُ أَشْعُرُ بِتَدَهْوُرٍ شَدِيدٍ.»
تَأَوَّهَ هنري وَتَسَاءَلَ هَلْ سَيَشْهَدُ عَرْضًا مُرَوِّعًا آخَرَ، لَكِنَّ صَدِيقَهُ الْجَدِيدَ طَمْأَنَهُ.
قَالَ الرَّجُلُ: «أُوه، لَمْ يَحِنِ الْوَقْتُ بَعْدُ. لَدَيَّ الْكَثِيرُ لِأَفْعَلَهُ. عَلَيْكَ أَنْ تَرَى كَمْ طِفْلٍ لَدَيَّ!»
لَمَحَ هنري ظِلَّ ابْتِسَامَةٍ عَلَى وَجْهِ الرَّجُلِ الَّذِي كَانَ يَمْزَحُ.
سَارَا مَسَافَةً أَطْوَلَ، وَتَحَدَّثَ الرَّجُلُ ذُو الثِّيَابِ الرَّثَّةِ عَنْ مَسْقَطِ رَأْسِهِ، بَعْدَهَا قَالَ بهُدُوءٍ بَالِغٍ: «لَا أَظُنُّ أَنِّي أَسْتَطِيعُ مُوَاصَلَةَ السَّيْرِ، وأَنْتَ أَيْضًا تَبْدُو مُرْهَقًا جِدًّا، أُرَاهِنُ أَنَّكَ أَسْوَأُ حَالًا مِمَّا تَظُنُّ. عَلَيْكَ الِاعْتِنَاءُ بِجُرْحِكَ؛ لَيْسَ مِنَ الْجَيِّدِ أَنْ تَتْرُكَ هَذِهِ الْجُرُوحَ مِنْ دُونِ عِنَايَةٍ. أَيْنَ جُرْحُكَ؟»
كَانَ هنري يَأْمُلُ أَلَّا يُكَرِّرُ الرَّجُلُ هَذَا السُّؤَالَ ثَانِيَةً. أَطْلَقَ صَرْخَةَ غَضَبٍ، وَأَشَاحَ بِيَدِهِ فِي حَنَقٍ.
قَالَ هنري مُحْتَدًّا: «كُفَّ عَنْ إِزْعَاجِي.» الْخِزْيُ الَّذِي كَانَ يَشْعُرُ بِهِ جَرَّاءَ مَا فَعَلَهُ جَعَلَهُ يَصْرُخُ فِي وَجْهِ صَدِيقِهِ الْوَحِيدِ الآنَ.
قَالَ الرَّجُلُ بِصَوْتٍ يَشُوبُهُ الْحُزْنُ: «يَعْلَمُ اللهُ أَنِّي لَا أُرِيدُ مُضَايَقَةَ أَحَدٍ. يَعْلَمُ اللهُ أَنَّ لَدَيَّ مَا يَكْفِي مِنَ الْقَلَقِ.»
تَحَدَّثَ هنري — الَّذِي كَانَ يُفَكِّرُ وَيَرْمُقُ الرَّجُلَ بِنَظْرَةِ كَرَاهِيَةٍ — بِنَبْرَةٍ حَادَّةٍ.
قَالَ هنري: «إِلَى اللِّقَاءِ.»
نَظَرَ الرَّجُلُ ذُو الثِّيَابِ الرَّثَّةِ إِلَيْهِ فِي ذُهُولٍ.
سَأَلَهُ مُتَرَدِّدًا: «لِمَاذَا؟ … لِمَاذَا يَا صَدِيقِي؟ إِلَى أَيْنَ أَنْتَ ذَاهِبٌ؟» بَدَا رَأْسُهُ غَارِقًا فِي الْأَفْكَارِ. «الْآنَ … الْآنَ … انْظُرْ … هُنَا، أَنْتَ … الْآنَ … لَنْ يَحْدُثَ ذَلِكَ … لَنْ يُجْدِيَ هَذَا نَفْعًا، إِلَى أَيْنَ؟ … إِلَى أَيْنَ أَنْتَ ذَاهِبٌ؟»
أَشَارَ هنري قَائِلًا: «إِلَى هُنَاكَ.»
قَالَ الرَّجُلُ مُتَلَعْثِمًا: «حَسَنًا، انْظُرِ الْآنَ … هُنَا … الْآنَ.» كَانَ رَأْسُهُ يَتَدَلَّى إِلَى الْأَمَامِ، وَقَالَ مُغَمْغِمًا: «لَنْ يَنْجَحَ ذَلِكَ الْآنَ. أَنَا أَعْرِفُكَ، تَوَدُّ أَنْ تَذْهَبَ وَلَدَيْكَ جُرْحٌ غَائِرٌ. هَذَا لَيْسَ جَيِّدًا، عَلَيْكَ أَنْ تَتْرُكَنِي لِأَعْتَنِيَ بِكَ. لَيْسَ جَيِّدًا أَنْ تَذْهَبَ … تَسِيرَ … بِجُرْحٍ بَالِغٍ … لَيْسَ … لَيْسَ جَيِّدًا … لَيْسَ جَيِّدًا.»
تَسَلَّقَ هنري أَحَدَ الأَسْيِجَةِ، وَبَدَأَ يَرْكُضُ بَعِيدًا. سَمِعَ صَوْتَ الرَّجُلِ يُنَادِيهِ، لَكِنَّهُ وَاصَلَ الابْتِعَادَ. وبَعْدَ أَنِ ابْتَعَدَ مَسَافَةً، اسْتَدَارَ فَرَأَى الرَّجُلَ يَهِيمُ وَسْطَ الْحَقْلِ.
تَمَنَّى هنري لَوْ أَنَّهُ أُصِيبَ فِي الْمَعْرَكَةِ. السُّؤَالُ الْبَسِيطُ الَّذِي وَجَّهَهُ الرَّجُلُ إِلَيْهِ كَانَ مِثْلَ الْجُرْحِ. أَدْرَكَ هنري أَنَّهُ لَنْ يَسْتَطِيعَ إِخْفَاءَ سِرِّهِ. سَيَعْلَمُ الْجَمِيعُ أَنَّهُ فَرَّ مِنَ الْمَعْرَكَةِ. لَمْ يَسْتَطِعْ حَتَّى أَنْ يَحْمِيَ نَفْسَهُ مِنَ الْأَسْئِلَةِ الْبَسِيطَةِ.