فُرْصَةٌ ثَانِيَةٌ لِلانْضِمَامِ إِلَى الْمَعْرَكَةِ
انْتَبَهَ هنري فَجْأَةً إِلَى أَنَّ هَدِيرَ الْمَعْرَكَةِ كَانَ يَزْدَادُ شَيْئًا فَشَيْئًا. مَرَّتْ فَوْقَهُ سُحُبٌ بُنِّيَّةٌ كَبِيرَةٌ، وَاقْتَرَبَ الضَّجِيجُ أَكْثَرَ. وعِنْدَمَا وَصَلَ إِلَى قِمَّةِ أَحَدِ التِّلَالِ، رَأَى أَنَّ الطَّرِيقَ قَدِ امْتَلَأَ بِالْعَرَبَاتِ الَّتِي تَجُرُّهَا الْخُيُولُ، وَبِالرِّجَالِ. كَانَ الْخَوْفُ يُحَرِّكُ الْجَمِيعَ.
شَعَرَ هنري بِالرَّاحَةِ عِنْدَمَا رَأَى هَذَا الْمَشْهَدَ. كَانَ الْجَمِيعُ يَفِرُّونَ. رُبَّمَا لَمْ يَكُنْ هو سَيِّئًا إِلَى هَذَا الْحَدِّ عَلَى أَيِّ حَالٍ. جَلَسَ عَلَى الطَّرِيقِ، وَشَاهَدَ الْجَمِيعَ يَمُرُّونَ مِنْهُ. كَانُوا يَفِرُّونَ مِثْلَ حَيَوَانَاتٍ صَغِيرَةٍ مُنْزَعِجَةٍ، وَوَجَدَ هنري بَعْضَ السَّعَادَةِ فِي مُشَاهَدَةِ تِلْكَ الْمَسِيرَةِ الْهَمَجِيَّةِ.
سُرْعَانَ مَا ظَهَرَتْ مَجْمُوعَةٌ مِنَ جُنُودِ الْمُشَاةِ عَلَى الطَّرِيقِ؛ كَانُوا يَتَحَرَّكُونَ بِسُرْعَةٍ وَيَدُورُونَ حَوْلَ كُلِّ مَا يُصَادِفُهُمْ فِي الطَّرِيقِ. كَانَ هَؤُلَاءِ الْجُنُودُ يَتَوَجَّهُونَ نَحْوَ قَلْبِ الْمَعْرَكَةِ، وَكَانُوا عَلَى اسْتِعْدَادٍ لِمُوَاجَهَةِ انْدِفَاعِ الْعَدُوِّ الْمُتَحَمِّسِ. اكْتَسَتْ وُجُوهُهُمْ بِمَلَامِحِ الْجِدِّ، وَلَمَسَ هنري شُعُورَهُمْ بِالْأَهَمِّيَّةِ.
عِنْدَمَا نَظَرَ إِلَيْهِمْ، عَادَ إِلَيْهِ الشُّعُورُ بِالْحُزْنِ؛ شَعَرَ وَكَأَنَّهُ يُشَاهِدُ صَفًّا مِنَ الْجُنُودِ وَقَعَ الِاخْتِيَارُ عَلَيْهِمْ خُصُوصًا لِيَكُونُوا أَبْطَالًا. لَنْ يَكُونَ وَاحِدًا مِنْهُمْ أَبَدًا. كَانَ مِنَ المُمْكِنِ أَنْ يَبْكِيَ فِي تِلْكَ اللَّحْظَةِ.
تَمَنَّى هنري لَوِ اسْتَطَاعَ أَنْ يُصْبِحَ بَطَلًا، وَلِلَحْظَةٍ كَانَ عَلَى وَشْكِ الْقِيَامِ وَالِانْضِمَامِ إِلَيْهِمْ فِي طَرِيقِهِمْ إِلَى الْمَعْرَكَةِ، لَكِنَّ الصُّعُوبَاتِ الْمُحِيطَةَ بِوَضْعِهِ بَدَأَتْ تَثْنِيهِ عَنْ عَزْمِهِ، وَأَصَابَهُ التَّرَدُّدُ.
لَمْ يَكُنْ يَحْمِلُ بُنْدُقِيَّةً، لَكِنَّ هُنَاكَ الْكَثِيرَ مِنَ الْبَنَادِقِ حَوْلَهُ، وَيُمْكِنُهُ الْتِقَاطُ إِحْدَاهَا. فَكَّرَ أَيْضًا أَنَّهُ سَيَكُونُ مِنَ الصَّعْبِ عَلَيْهِ الْعُثُورُ عَلَى كَتِيبَتِهِ مَرَّةً أُخْرَى، لَكِنَّهُ مَعَ ذَلِكَ يَسْتَطِيعُ الْقِتَالَ مَعَ أَيِّ كَتِيبَةٍ أُخْرَىَ. بَدَأَ هنري يَتَحَرَّكُ إِلَى الْأَمَامِ رُوَيْدًا رُوَيْدًا يُقَاوِمُ مَخَاوِفَهُ.
وفِي النِّهَايَةِ تَغَلَّبَتِ اعْتِرَاضَاتُ هنري عَلَى شَجَاعَتِهِ. لَمْ يَكُنْ مُنْزَعِجًا لِلْغَايَةِ مِنْ قَرَارِهِ. فعِنْدَمَا فَكَّرَ فِيهِ رَأَى أَنَّ الْمُشْكِلَاتِ الَّتِي يُوَاجِهُهَا عَوِيصَةٌ حَقًّا؛ وَالْآنَ وَفَوْقَ كُلِّ شَيْءٍ بَدَأَتْ مُشْكِلَاتٌ أُخْرَى تُثِيرُ انْزِعَاجَهُ.
كَانَ يُعَانِي ظَمَأً شَدِيدًا. كَانَ وَجْهُهُ جَافًّا حَتَّى إِنَه شَعَرَ وَكَأَنَّ بَشَرَتَهُ سَتَتَشَقَّقُ. كُلُّ عَظْمَةٍ فِي جَسَدِهِ كَانَتْ تُؤْلِمُهُ، وَقَدَمَاهُ كَانَتَا مُتَقَرِّحَتَيْنِ. آلَمَتْهُ مَعِدَتُهُ مِنْ شِدَّةِ الْجُوعِ، وَأَصْبَحَ لَا يَسْتَطِيعُ الرُّؤْيَةَ بِوُضُوحٍ. أَدْرَكَ هنري أَنَّهُ لَنْ يَكُونَ بَطَلًا أَبَدًا. تَأَوَّهَ مِنْ فَرْطِ الْحُزْنِ وَهَامَ عَلَى وَجْهِهِ بَعِيدًا.
ظَلَّ هنري قَرِيبًا مِنْ مَيْدَانِ الْمَعْرَكَةِ. كَانَتْ لَدَيْهِ رَغْبَةٌ كَبِيرَةٌ فِي رُؤْيَةِ الْقِتَالِ وَاسْتِطْلَاعِ الْأَخْبَارِ. كَانَ يُرِيدُ أَنْ يَعْلَمَ لِمَنْ سَيَكُونُ النَّصْرُ.
فَكَّرَ هنري أَنَّهُ فِي حَالَةِ هَزِيمَةِ جَيْشِهِ، سَيَصُبُّ ذَلِكَ فِي مَصْلَحَتِهِ. لقد ظَنَّ أَنَّ الْعَدِيدَ مِنَ الرِّجَالِ الشُّجْعَانِ سَيَلُوذُونَ بِالْفِرَارِ إِذَا مَا دَحَرَهُمُ الْعَدُوُّ، وَحِينَهَا سَيَكُونُ وَاحِدًا مِنْ هَؤُلَاءِ الرِّجَالِ، ولَنْ يَعْرِفَ أَحَدٌ أَنَّهُ قَدْ لَاذَ بِالْفِرَارِ قَبْلَ ذَلِكَ.
إِذَا خَسِرَ جَيْشُهُ الْحَرْبَ، فَسَيَكُونُ هَذَا دَلِيلًا عَلَى أَنَّهُ قَدْ فَعَلَ الصَّوَابَ بِهَرَبِهِ. سَيُثْبِتُ ذَلِكَ أَنَّهُ كَانَ قَادِرًا عَلَى اسْتِشْرَافِ مَا سَيَحْدُثُ، وَكَأَنَّهُ يَسْتَطِيعُ التَّنَبُّؤَ بِالْمُسْتَقْبَلِ. كَانَ لِهَذَا الدَّلِيلِ أَهَمِّيَّةٌ كُبْرَى لَدَى هنري؛ لأَنَّهُ لَمْ يَكُنْ يَقْبَلُ فِكْرَةَ أَنَّهُ قَدْ فَعَلَ شَيْئًا مُشِينًا.
أَمَّا إِذَا انْتَصَرَ الْجَيْشُ، فَسَيَقَعُ هنري فِي مَأْزِقٍ. كَانَ يُدْرِكُ أَنَّ التَّفْكِيرَ فِي أُمُورٍ كَهَذِهِ أَمْرٌ بَغِيضٌ، وَنَعَتَ نَفْسَهُ بِالْوَغْدِ لِمُجَرَّدِ التَّفْكِيرِ فِي ذَلِكَ.
ثُمَّ جَالَتْ بِخَاطِرِ هنري فِكْرَةٌ أُخْرَى؛ فصَحِيحٌ أَنَّ هَزِيمَةَ جَيْشِهِ سَتُنْقِذُهُ مِنْ فَعْلَتِهِ، لَكِنَّهُ قَرَّرَ أَنَّهُ مِنْ غَيْرِ الْمُجْدِي التَّفْكِيرَ فِي ذَلِكَ الِاحْتِمَالِ. فقد كَانَ يَعْلَمُ أَنَّ جَيْشَهُ لَنْ يُهْزَمَ أَبَدًا.
فَكَّرَ هنري فِي اخْتِلَاقِ قِصَّةٍ جَيِّدَةٍ يَقُصُّهَا عَلَى مَسَامِعِ الْجُنُودِ الْآخَرِينَ فِي كَتِيبَتِهِ. فَكَّرَ فِي أُمُورٍ عَدِيدَةٍ، لَكِنَّهَا جَمِيعًا كَانَتْ ضَعِيفَةً لَا يُمْكِنُ لِأَحَدٍ تَصْدِيقُهَا.
تَخَيَّلَ مَشْهَدَ أَفْرَادِ الْكَتِيبَةِ كُلِّهِمْ وَهُمْ يَسْخَرُونَ مِنْهُ؛ لِأَنَّهُ فَرَّ مِنَ الْمَعْرَكَةِ.
سَيَسْأَلُونَ: «أَيْنَ هنري فليمنج؟ لَقَدْ هَرَبَ، أَلَيْسَ كَذَلِكَ؟ يَا إِلَهِي!»
تَخَيَّلَ هنري الْجَمِيعَ يُحَدِّقُونَ فِيهِ بِنَظَرَاتٍ مِلْؤُهَا الْكَرَاهِيَةُ أَيْنَمَا ذَهَبَ فِي الْمُعَسْكَرِ. سَيَضْحَكُ الْجَمِيعُ مِنْهُ بِأُسْلُوبٍ دَنِيءٍ، وَسَيَكُونُ مَحَطَّ سُخْرِيَةِ الْجَمِيعِ.