الْعَوْدَةُ إِلَى الْمُعَسْكَرِ
اتَّجَهَ هنري بِبُطْءٍ نَحْوَ النَّارِ يُفَكِّرُ خَائِفًا فِي كَيْفِيَّةِ اسْتِقْبَالِ أَصْدِقَائِهِ لَهُ. كَانَ عَلَى يَقِينٍ أَنَّهُمْ سَيَسْخَرُونَ مِنْهُ. فَكَّرَ فِي الِاخْتِبَاءِ فِي الظَّلَامِ، لَكِنَّهُ كَانَ مُنْهَكًا لِلْغَايَةِ وَقَدْ بَلَغَ مِنْهُ الأَلَمُ مَبْلَغَهُ.
اسْتَطَاعَ أَنْ يَرَى رِجَالًا يَنَامُونَ فَوْقَ الْأَرْضِ بِجِوَارِ النَّارِ، وَفَجْأَةً اقْتَرَبَ مِنْهُ شَخْصٌ طَوِيلُ الْقَامَةِ يَحْمِلُ بُنْدُقِيَّةً.
صَاحَ الرَّجُلُ: «تَوَقَّفْ! تَوَقَّفْ!»
ارْتَبَكَ هنري لَحْظَةً، ثُمَّ اعْتَقَدَ أَنَّهُ تَعَرَّفَ عَلَى صَاحِبِ الصَّوْتِ.
قَالَ: «مَرْحَبًا، ويلسون! هَلْ … هَلْ هَذَا أَنْتَ؟»
انْخَفَضَتِ الْبُنْدُقِيَّةُ، وَتَقَدَّمَ ويلسون بِبُطْءٍ، وَنَظَرَ فِي وَجْهِ هنري.
سَأَلَهُ ويلسون: «أَهَذَا أَنْتَ يَا هنري؟ سَعِيدٌ بِرُؤْيَتِكَ يا فَتى، كُنْتُ قَدْ فَقَدْتُ الْأَمَلَ فِي عَوْدَتِكَ.»
لَمْ يَكُنْ هنري يَقْوَى عَلَى الْوُقُوفِ، وَحَاوَلَ سَرْدَ قِصَّتِهِ سَرِيعًا.
قَالَ: «نَعَمْ، نَعَمْ، لَقَدْ مَرَرْتُ بِوَقْتٍ عَصِيبٍ. مَرَرْتُ بِكُلِّ الْأَمَاكِنِ. انْفَصَلْتُ عَنِ الْكَتِيبَةِ، وَأُصِبْتُ هُنَا فِي رَأْسِي؛ لَقَدْ خَدَشَتْنِي الطَّلْقَةُ. لَمْ أَشْهَدْ قِتَالًا كَهَذَا قَطُّ، كَانَ وَضْعًا عَصِيبًا. لَا أَعْلَمُ كَيْفَ انْفَصَلْتُ عَنِ الْكَتِيبَةِ.»
تَحَرَّكَ ويلسون مُسْرِعًا إِلَى الْأَمَامِ، وَقَالَ: «مَاذَا، أُصِبْتَ؟ لِمَاذَا لَمْ تَقُلْ هَذَا عَلَى الْفَوْرِ أَيُّهَا الْفَتَى الْمِسْكِينُ؟»
بَعْدَهَا خَرَجَ عَرِيفٌ مِنْ وَسْطِ الظَّلَامِ، وَقَالَ: «هنري! أَأَنْتَ هُنَا؟ ظَنَنْتُ أَنَّكَ قَدْ رَحَلْتَ مُنْذُ أَرْبَعِ سَاعَاتٍ. يَا إِلَهِي! إِنَّهُمْ يُعَاوِدُونَ الظُّهُورَ كُلَّ بِضْعِ دَقَائِقَ. ظَنَنَّا أَنَّنَا فَقَدْنَا اثْنَيْنِ وَأَرْبَعِينَ رَجُلًا، لَكِنْ هَا هُمْ رِجَالُنَا يَعُودُونَ. بِهَذَا الْمُعَدَّلِ سَيَعُودُ الْجَمِيعُ بِحُلُولِ الصَّبَاحِ. أَيْنَ كُنْتَ؟»
بَدَأَ هنري فِي الْكَلَامِ: «لَقَدِ انْفَصَلْتُ …»
قَاطَعَهُ ويلسون: «نَعَمْ، وَقَدْ أُصِيبَ فِي رَأْسِهِ، يَجِبُ أَنْ نَعْتَنِيَ بِهِ فِي الْحَالِ.»
أَخَذَ ويلسون وَالْعَرِيفُ هنري إِلَى أَحَدِ الْأَغْطِيَةِ بِالْقُرْبِ مِنَ النَّارِ، وَبَدَأَ الْجُنُودُ الْآخَرُونَ يَمُدُّونَ يَدَ الْمُسَاعَدَةِ مَا إِنْ رَأَوْهُ. رَبَطَ الْعَرِيفُ الْجُرْحَ فِي رَأْسِ هنري.
بَيْنَمَا كَانَ هنري يَسْتَرِيحُ، نَظَرَ إِلَى الرِّجَالِ الْآخَرِينَ حَوْلَ النَّارِ. كَانَ بَعْضُهُمْ نَائِمِينَ يَحْمِلُونَ بَنَادِقَهُمْ وَسُيُوفَهُمْ، وكَانَتْ أَجْسَادُهُمْ مُغَطَّاةً بِالطِّينِ وَالْأَوْسَاخِ، وثِيَابُهُمْ مُمَزَّقَةً. بَدَا الْجَمِيعُ مُتْعَبِينَ لِلْغَايَةِ.
جَلَسَ هنري حَزِينًا حَتَّى عَادَ ويلسون يَحْمِلُ قِرْبَتَيْنِ.
قَالَ ويلسون: «حَسَنًا يَا هنري، سَتَكُونُ بِخَيْرٍ بَعْدَ قَلِيلٍ.»
ذَكَّى ويلسون النَّارَ وَحَرَّكَ الْعِصِيَّ فِيهَا، ثُمَّ سَقَى هنري مِنَ القِرْبَةِ الَّتِي كَانَتْ تَحْتَوِي عَلَى قَهْوَةٍ بَارِدَةٍ. شَرِبَ هنري كَثِيرًا، وَلَطَّفَتِ الْقَهْوَةُ حَلْقَهُ. وبَعْدَمَا انْتَهَى، تَنَهَّدَ تَنْهِيدَةَ سَعَادَةٍ وَرَاحَةٍ. بَعْدَهَا رَبَطَ ويلسون رَأْسَ هنري بِمِنْدِيلٍ كَبِيرٍ.
قَالَ ويلسون وَهُوَ يَنْظُرُ إِلَى مَا فَعَلَ: «هَا أَنْتَ ذَا تَبْدُو مِثْلَ الشَّيْطَانِ، لَكِنْ أُرَاهِنُ أَنَّكَ الْآنَ أَفْضَلُ. أَنْتَ قَوِيٌّ يَا هنري؛ حِينَمَا كُنَّا نُنَظِّفُ جُرْحَكَ لَمْ تَصْرُخْ أَوْ تَتَفَوَّهْ بِشَيْءٍ، مَعَ أَنَّ إِصَابَاتِ الرَّأْسِ تَكُونُ خَطِيرَةً. اسْتَلْقِ الْآنَ وَاحْصُلْ عَلَى بَعْضِ الرَّاحَةِ.»
اسْتَلْقَى هنري فِي حَذَرٍ، وَتَمَدَّدَ وَهُوَ يُطْلِقُ هَمْهَمَاتِ ارْتِيَاحٍ. بَدَتِ الْأَرْضُ كَأَنَّهَا أَرِيكَةٌ مُرِيحَةٌ.
لَكِنَّهُ قَامَ فَجْأَةً وَقَالَ: «انْتَظِرْ لَحْظَةً، أَيْنَ سَتَنَامُ؟»
لَوَّحَ إِلَيْهِ صَدِيقَهُ.
قَالَ: «هُنَاكَ بِالْقُرْبِ مِنْكَ.»
– «عَلَى أَيِّ شَيْءٍ سَتَنَامُ؟ فَغِطَاؤُكَ مَعِي.»
دَمْدَمَ ويلسون: «اهْدَأْ وَاخْلُدْ إِلَى النَّوْمِ. لَا تَكُنْ أَحْمَقَ.»
عِنْدَئِذٍ صَمَتَ هنري. تَسَلَّلَ شُعُورٌ بِالنُّعَاسِ فِي جَسَدِهِ كُلِّهِ. وَتَحْتَ الْغِطَاءِ الْمُرِيحِ الدَّافِئِ وَضَعَ رَأْسَهُ عَلَى ذِرَاعِهِ وَأُغْمِضَتْ عَيْنَاهُ سَرِيعًا. وعِنْدَمَا سَمِعَ أَصْوَاتَ إِطْلَاقِ النَّارِ مِنْ بَعِيدٍ، تَسَاءَلَ: هَلْ يَنَامُ هَؤُلَاءِ الرِّجَالُ؟ أَطْلَقَ تَنْهِيدَةً طَوِيلَةً، وَانْكَمَشَ دَاخِلَ الْغِطَاءِ، وَسُرْعَانَ مَا رَاحَ فِي النَّوْمِ مِثْلَ أَصْدِقَائِهِ.