شِجَارٌ دَاخِلَ الْمُعَسْكَرِ
عِنْدَمَا اسْتَيْقَظَ هنري مِنْ نَوْمِهِ، شَعَرَ وَكَأَنَّهُ ظَلَّ نَائِمًا أَلْفَ سَنَةٍ. ارْتَجَفَ وَجْهُهُ عِنْدَمَا سَقَطَتْ عَلَيْهِ قَطْرَةُ نَدًى بَارِدَةٌ، وَحَدَّقَ بُرْهَةً فِي أَوْرَاقِ الشَّجَرِ الْمُتَطَايِرَةِ فَوْقَهُ. وَمِنْ بَعِيدٍ اسْتَطَاعَ سَمَاعَ أَصْوَاتِ الْقِتَالِ.
كَانَ مُحَاطًا بِمَجْمُوعَاتٍ مِنَ الرِّجَالِ النَّائِمِينَ فِي أَوْضَاعٍ غَرِيبَةٍ بِلَا حِرَاكٍ، يَعْلُو الشُّحُوبُ وُجُوهَهُمْ. لِلَحْظَةٍ ظَنَّ هنري أَنَّهُمْ جَمِيعًا مَوْتَى. بَعْدَهَا رَأَى ويلسون يَتَدَفَّأُ بِنَارٍ صَغِيرَةٍ، وَرَأَى بِضْعَةَ رِجَالٍ يَتَحَرَّكُونَ وَسْطَ الضَّبَابِ، وَسَمِعَ صَوْتَ شَخْصٍ يَقْطَعُ الْأَخْشَابَ.
دَقَّتْ طُبُولُ الْحَرْبِ فَجْأَةً، وَسُمِعَ مِنْ بَعِيدٍ صَوْتُ بُوقٍ خَافِتٌ. بَدَأَ الْجُنُودُ حَوْلَ هنري فِي الاسْتِيقَاظِ، وَرَأَى ويلسون أَنَّ هنري كَانَ مُسْتَيْقِظًا، فَسَأَلُه: «كَيْفَ حَالُكَ هَذَا الصَّبَاحَ يَا هنري؟»
تَثَاءَبَ هنري، كَانَ يَشْعُرُ بِثِقْلٍ فِي رَأْسِهِ، وَمَعِدَتُهُ تُؤْلِمُهُ.
قَالَ: «أَنَا مُتْعَبٌ كَثِيرًا.»
ثَبَّتَ ويلسون الْعِصَابَةَ عَلَى رَأْسِ هنري، ثُمَّ أَعَدَّ بَعْضَ الطَّعَامِ لِكِلَيْهِمَا. تَذَكَّرَ هنري كَيْفَ كَانَ صَدِيقُهُ يَتَصَرَّفُ عَلَى نَحْوٍ مُخْتَلِفٍ لِلْغَايَةِ قَبْلَ مَعْرَكَتِهِمُ الْكُبْرَى. لَمْ يَعُدْ ويلسون ذَلِكَ الْجُنْدِيَّ الشَّابَّ عَالِيَ الصَّوْتِ، بل أَصْبَحَ الْآنَ هَادِئًا وَاثِقًا مِنْ نَفْسِهِ، وَلَمْ يَعُدْ يَغْضَبُ مِنَ التَّعْلِيقَاتِ التَّافِهَةِ الَّتِي يَسْمَعُهَا مِنَ الْآخَرِينَ. تَسَاءَلَ هنري مَتَى حَلَّ هَذَا التَّغْيِيرُ بِصَدِيقِهِ.
وَضَعَ ويلسون فِنْجَانَ الْقَهْوَةِ عَلَى رُكْبَتِهِ، وَقَالَ: «كَيْفَ تَنْظُرُ إِلَى فُرْصَتِنَا فِي الْفَوْزِ يَا هنري؟ هَلْ تَعْتَقِدُ أَنَّنَا سَنَهْزِمُهُمْ؟»
فَكَّرَ هنري قَلِيلًا، ثُمَّ قَالَ: «إِذَا عُدْنَا بِالزَّمَنِ إِلَى أَوَّلِ أَمْسِ، كُنْتَ سَتَقُولُ إِنَّكَ قَادِرٌ عَلَى هَزِيمَتِهِمْ بِمُفْرَدِكَ.»
بَدَا ويلسون مُنْدَهِشًا.
سَأَلَ ويلسون: «هَلْ كُنْتُ سَأَقُولُ هَذَا حَقًّا؟ حَسَنًا، رُبَّمَا تَكُونُ مُحِقًّا، أَعْتَقِدُ أَنَّنِي كُنْتُ سَاذَجًا كَبِيرًا فِي السَّابِقِ.»
حَاوَلَ هنري أَنْ يَعْتَذِرَ لِأَنَّهُ أَحْرَجَ صَدِيقَهُ، لَكِنَّ ويلسون لَمْ يَكُنْ يَحْتَاجُ اعْتِذَارًا. بَعْدَ فَتْرَةٍ قَالَ ويلسون إِنَّ الْعَدُوَّ الْآنَ فِي الْمَكَانِ الَّذِي يُرِيدُونَهُ فِيهِ تَمَامًا.
قَالَ هنري: «لَا أَعْرِفُ شَيْئًا عَنْ هَذَا. بَدَا لِي مِنْ مَكَانِي أَمْسِ أَنَّنَا تَلَقَّيْنَا مِنْهُمْ ضَرْبَةً قَاصِمَةً.»
سَأَلَ ويلسون: «أَتَظُنُّ ذَلِكَ؟ أَظُنُّ أَنَّنَا عَامَلْنَاهُمْ بِمُنْتَهَى الْقَسْوَةِ أَمْسِ.»
قَالَ هنري: «عَلَى الْإِطْلَاقِ، أَنْتَ لَمْ تَشْهَدْ شَيْئًا مِنَ الْمَعْرَكَةِ.»
فِي كُلِّ مَكَانٍ حَوْلَهُمَا كَانَ الرِّجَالُ يَلْتَفُّونَ حَوْلَ النِّيرَانِ الصَّغِيرَةِ الْأُخْرَى. وَفَجْأَةً تَصَاعَدَتْ أَصْوَاتٌ حَادَّةٌ. كَانَ هُنَاكَ جُنْدِيَّانِ يَضْحَكَانِ مِنْ رَجُلٍ ضَخْمِ الْجُثَّةِ مُلْتَحٍ حَتَّى ثَارَتْ ثَائِرَتُهُ، وَبَدَا أَنَّ شِجَارًا سَيَقَعُ.
وَقَفَ ويلسون وَفَرَّقَ بَيْنَ الرِّجَالِ الثَّلَاثَةِ.
قَالَ: «مَا جَدْوَى ذَلِكَ يا رِجَالُ؟ سَنُوَاجِهُ الْعَدُوَّ بَعْدَ أَقَلَّ مِنْ سَاعَةٍ، فَلِمَاذَا يُقَاتِلُ بَعْضُنَا بَعْضًا؟»
ذَكَّر أَحَدُ الْجُنُودِ ويلسون بِالشِّجَارِ الَّذِي دَارَ بَيْنَهُ وَبَيْنَ جُنْدِيٍّ آخَرَ مُنْذُ بِضْعَةِ أَيَّامٍ وَأَنَّهُ خَسِرَ.
قَالَ الْجُنْدِيُّ: «أَنْتَ لَا تُحِبُّ الشِّجَارَ مُنْذُ أَنْ خَسِرْتَ تِلْكَ الْمَرَّةَ، ثُمَّ إِنَّ هَذَا لَيْسَ مِنْ شَأْنِكَ.»
أَخِيرًا، هَدَأَ الرِّجَالُ، وَعَادَ ويلسون إِلَى مَكَانِهُ، وَسُرْعَانَ مَا عَادَ الْجُنُودُ يُمَازِحُ بَعْضُهُمُ بَعْضًا كَأَنَّهُمْ أَصْدِقَاءُ قُدَامَى.
قَالَ ويلسون: «أَكْرَهُ رُؤْيَةَ الْجُنُودِ يَتَشَاجَرُونَ فِيمَا بَيْنَهُمْ.»
ضَحِكَ هنري، وَقَالَ: «لَقَدْ تَغَيَّرْتَ كَثِيرًا يَا ويلسون. إِنَّنِي أَتَذَكَّرُكَ عِنْدَمَا كُنْتَ مُسْتَعِدًّا لِلشِّجَارِ حَتَّى مِنْ دُونِ تَفْكِيرٍ.»
قَالَ ويلسون: «أَظُنُّ أَنِّي كُنْتُ كَذَلِكَ.»
بَعْدَ دَقِيقَةٍ قَالَ هنري: «أَعْتَذِرُ لَوْ سَبَّبْتُ لَكَ حَرَجًا.»
قَالَ ويلسون: «لَا تَشْغَلْ بَالَكَ يَا هنري.» ثُمَّ فَكَّرَ قَلِيلًا وَقَالَ: «ظَنَنَّا أَنَّ الْكَتِيبَةَ فَقَدَتْ أَكْثَرَ مِنْ نِصْفِ رِجَالِهَا أَمْسِ. ظَنَنْتُ أَنَّهُمْ جَمِيعًا قُتِلُوا، لَكِنَّهُمْ ظَلُّوا يَعُودُونَ اللَّيْلَةَ الْمَاضِيَةَ حَتَّى بَدَا أَنَّنَا لَمْ نَفْقِدْ سِوَى قَلِيلِينَ. كَانُوا مُنْتَشِرِينَ فِي كُلِّ مَكَانٍ يُقَاتِلُونَ مَعَ الْكَتَائِبِ الْأُخْرَى تَمَامًا مِثْلَمَا فَعَلْتَ أَنْتَ.»
سَأَلَ هنري: «حَقًّا؟!»