الرَّايَةُ
عِنْدَمَا الْتَفَتَ هنري وويلسون وَهُمَا يُمْسِكَانِ الرَّايَةَ معًا، وَجَدَا أَنَّ مُعْظَمَ أَفْرَادِ الْكَتِيبَةِ قَدْ لَقُوا حَتْفَهُمْ. لَيْسَ هَذَا فَحَسْبُ، بَلْ كَانَ النَّاجُونَ يَبْدَءُونَ فِي الِانْسِحَابِ أيضًا. كَانَ الْعَدِيدُ مِنَ الضُّبَّاطِ يُعْطُونَ الْأَوَامِرَ، وَيَصِيحُونَ وَسْطَ ضَجِيجِ الْمَعْرَكَةِ.
صَاحَ الْمُلَازِمُ: «مَاذَا تَفْعَلَانِ؟»
كَانَ هنري وويلسون يَتَشَاجَرَانِ عَلَى الرَّايَةِ، وَكِلَاهُمَا يُرِيدُ حَمْلَهَا. وَأَخِيرًا دَفَعَ هنري ويلسون بَعِيدًا.
عَادَتِ الْكَتِيبَةُ مَرَّةً أُخْرَى إِلَى الأَشْجَارِ، وَعِنْدَمَا وَصَلُوا إِلَى الْمَكَانِ الْمَفْتُوحِ الَّذِي بَدَءُوا مِنْهُ بَدَا أَنَّ مَجْمُوعَاتٍ مِنْ جُنُودِ الْعَدُوِّ تُحِيطُ بِهِمْ مِنْ كُلِّ جَانِبٍ، وَتَمَلَّكَ الذُّهُولُ وَالْيَأْسُ الْكَثِيرِينَ.
وَاصَلَ هنري التَّقَدُّمَ تَعْلُو وَجْهَهُ نَظْرَةٌ غَاضِبَةٌ. كَانَ غَاضِبًا لِأَنَّ الضَّابِطَ قَالَ عَنْهُمْ إِنَّهُمْ رَاكِبُو بِغَالٍ، وَكَانَ أَكْثَرَ غَضَبًا لِأَنَّهُمُ اضْطُرُّوا لِلِانْسِحَابِ. شَعَرَ بِالْكَرَاهِيَةِ تِجَاهَ الضَّابِطِ الَّذِي لَمْ يَكُنْ — حَتَّى — يَعْرِفُهُ، لَكِنَّهُ نَعَتَهُ بِذَلِكَ. أَرَادَ هنري أَنْ تنتصر كَتِيبَتُهُ في ِتِلْكَ الْمَوْقِعَةِ لِيَعُودَ إِلَى ذَلِكَ الضَّابِطِ وَيَقُولَ لَهُ: «نَحْنُ رَاكِبُو بِغَالٍ، أَلَيْسَ كَذَلِكَ؟» لَكِنَّهُ الْآنَ يُدْرِكُ أَنَّ النَّصْرَ لَنْ يَكُونَ حَلِيفَهُمْ، وَأَنَّ عَلَيْهِ التَّخَلِّيَ عَنْ أَحْلَامِهِ بِالثَّأْرِ مِنَ الضَّابِطِ.
انْتَبَهَ هنري إِلَى كِبْرِيَائِهِ وَظَلَّ يَرْفَعُ الرَّايَةَ عَالِيًا. صَرَخَ هُوَ وَالْمُلَازِمُ فِي الْجُنُودِ لِيُوَاصِلُوا الْقِتَالَ، لَكِنَّ الْجُنُودَ كَانُوا أَشْبَهَ بِآلَاتٍ مُعَطَّلَةٍ. عَجَزَ الْكَثِيرُونَ مِنْهُمْ عَنْ مُوَاصَلَةِ الْقِتَالِ بَعْدَ أَنْ رَأَوْا زُمَلَاءَهُمْ يَسْقُطُونَ قَتْلَى وَجَرْحَى.
انْتَشَرَ الدُّخَانُ فِي كُلِّ مَكَانٍ، وَمَعَ حُدُوثِ انْقِسَامٍ مُفَاجِئٍ فِي إِحْدَى السُّحُبِ، رَأَى هنري مَجْمُوعَةً مِنْ جُنُودِ الْعَدُوِّ. كَانُوا يَصِيحُونَ وَيُقَاتِلُونَ بَيْنَمَا كَتِيبَةُ هنري تَتَقَهْقَرُ.
بَدَتِ الْمَعْرَكَةُ وَكَأَنَّهَا سَتَسْتَمِرُّ إِلَى الْأَبَدِ. فَقَدَ الْكَثِيرُ مِنَ الْجُنُودِ صَوَابَهُمْ مِنْ هَوْلِ الْمَوْقِفِ، وَأَصْبَحُوا لَا يُمَيِّزُونَ مَكَانَ الْعَدُوِّ أَوْ مَصْدَرَ الطَّلَقَاتِ. كَانُوا يَفِرُّونَ فِي جَمِيعِ الِاتِّجَاهَاتِ بَحْثًا عَنْ مَكَانٍ لِلْهَرَبِ، وَأَثْنَاءَ هَذَا كُلِّهِ يَتَسَاقَطُ الْقَتْلَى مِنْ حَوْلِهِمْ.
سَارَ هنري بِخُطًى وَاثِقَةٍ وَسْطَ الْجُنُودِ، وَرَفَعَ الرَّايَةَ عَالِيًا. بَدَا وَكَأَنَّهُ تَوَقَّعَ أَنْ يَدْفَعَهُ أَحَدٌ أَرْضًا، فَكَانَ يَسْتَخْدِمُ الرَّايَةَ لِتُسَاعِدَهُ عَلَى الصُّمُودِ. وَمِنْ دُونِ أَنْ يَنْتَبِهَ، كَانَ وَاقِفًا كَالْأَبْطَالِ الَّذِينَ رَآهُمْ وَتَخَيَّلَهُمْ.
اقْتَرَبَ مِنْهُ ويلسون وَقَالَ: «أَعْتَقِدُ أَنَّهَا النِّهَايَةُ يَا هنري.»
رَدَّ هنري دُونَ أَنْ يَنْظُرَ إِلَى صَدِيقِهِ: «اصْمُتْ أَيُّهَا الْأَحْمَقُ!»
حَاوَلَ الضُّبَّاطُ تَوْزِيعَ الْجُنُودِ فِي دَائِرَةٍ حَتَّى يَسْتَطِيعُوا مُوَاجَهَةَ الْعَدُوِّ الَّذِي يَقْتَرِبُ. كَانَتِ الْأَرْضُ غَيْرَ مُسْتَوِيَةٍ وَمُشَقَّقَةً. وتَسَلَّلَ الْجُنُودُ دَاخِلَ الْخَنَادِقِ مُحَاوِلِينَ الِاخْتِبَاءَ خَلْفَ أَيِّ شَيْءٍ قَدْ يَصُدُّ عَنْهُمُ الطَّلَقَاتِ.
رَأَى هنري أَنَّ الْمُلَازِمَ كَانَ وَاقِفًا الْآنَ فِي سُكُونٍ مُتَّكِئًا عَلَى سَيْفِهِ. وسَادَ شُعُورٌ غَرِيبٌ فِي تِلْكَ الْفَتْرَةِ الْقَصِيرَةِ. بَدَا الْمُلَازِمُ كَالطِّفْلِ الَّذِي اسْتَنْزَفَ دُمُوعَهُ وَلَمْ يَعُدْ يَعْرِفُ مَاذَا يَفْعَلُ. كَانَ يُفَكِّرُ وَيُغَمْغِمُ لِنَفْسِهِ بِكَلَامٍ غَيْرِ مَفْهُومٍ.
تَصَاعَدَتْ بَعْضُ الْأَدْخِنَةِ حَوْلَ الْكَتِيبَةِ، بَيْنَمَا انْتَظَرَ الْجُنُودُ الْمُخْتَبِئُونَ مِنَ الطَّلَقَاتِ ارْتِفَاعَ الدُّخَانِ لِيَرَوْا لِآخِرِ مَرَّةٍ مَاذَا سَيَحْدُثُ لَهُمْ.