الْهُجُومُ الثَّانِي
حِينَ بَدَأَتْ قُوَّاتُ الْعَدُوِّ هُجُومَهَا الثَّانِي مِنْ وَسْطِ الْغَابَةِ، كَانَ هنري أَكْثَرَ ثِقَةً بِنَفْسِهِ. كَانَ يَقِفُ شَامِخًا رَابِطَ الْجَأْشِ بَيْنَمَا يَتَوَارَى الْآخَرُونَ. رَاقَبَ هنري الْهُجُومَ الَّذِي بَدَأَ بِمُوَاجَهَةِ فَرِيقٍ مِنْ جَيْشِهِ كَانَ عَلَى جَانِبِ تَلٍّ قَرِيبٍ. وَفِي مَكَانٍ آخَرَ فِي الْحَقْلِ كَانَ هُنَاكَ قِتَالٌ عَنِيفٌ وَسَرِيعٌ بَيْنَ كَتِيبَتَيْنِ بَدَتَا وَكَأَنَّهُمَا تَتَجَاهَلَانِ الْمَعَارِكَ الْأُخْرَى الَّتِي تَدُورُ حَوْلَهُمَا.
وَفِي اتِّجَاهٍ آخَرَ رَأَى هنري مَجْمُوعَةً هَائِلَةً مِنَ الْجُنُودِ تَقْتَحِمُ الْغَابَةَ بِخُيُولِهَا. غَابَتْ هَذِهِ الْمَجْمُوعَةُ عَنِ الْأَنْظَارِ، وَسُرْعَانَ مَا تَعَالَتْ أَصْوَاتُ الْقِتَالِ وَالْقَصْفِ. رَاقَبَ هنري الْمَعَارِكَ الصَّغِيرَةَ الَّتِي اسْتَمَرَّتْ بَعْضَ الْوَقْتِ. تَقَاتَلَ الْجَيْشَانِ قِتَالًا ضَارِيًا، وَرَأَى هنري الرَّايَتَيْنِ تُرَفْرِفَانِ وَسْطَ الدُّخَانِ.
بَعْدَ قَلِيلٍ عَمَّ الْهُدُوءُ الْمَكَانَ مَرَّةً أُخْرَى. هُدُوءٌ جَعَلَ الْمَكَانَ أَشْبَهَ بِالْكَنِيسَةِ. وَفَجْأَةً انْطَلَقَتِ الطَّلَقَاتُ النَّارِيَّةُ مِنْ نَاحِيَةِ مُنْحَدَرٍ قَرِيبٍ، وَبَدَأَ صَوْتُ إِطْلَاقِ النِّيرَانِ دَاخِلَ الْغَابَةِ. زَادَتْ سُرْعَةُ إِطْلَاقِ النِّيرَانِ لِلْغَايَةِ حَتَّى أَصْبَحَ صَوْتُهَا لَا يُتَصَوَّرُ. ولَمْ يَسْتَطِعْ هنري سَمَاعَ شَيْءٍ آخَرَ.
كَانَ الْجُنُودُ يَنْدَفِعُونَ هُنَا وَهُنَاكَ فِي كُلِّ مَكَانٍ يَنْظُرُون فِيهِ. فِي بَعْضِ الْأَحْيَانِ كَانَ رِجَالُ أَحَدِ الْجَيْشَيْنِ يَصْرُخُونَ وَيُهَلِّلُونَ، لَكِنْ بَعْدَ لَحْظَةٍ يُهَلِّلُ جُنُودُ الْجَيْشِ الْآخَرِ بِالْمِثْلِ تَمَامًا. كَانَتِ الصَّرَخَاتُ وَالْهُتَافَاتُ تَمْلَأُ الْأَرْجَاءَ.
تَقَدَّمَتْ كَتِيبَةُ هنري الصَّغِيرَةُ بِنَفْسِ الْحَمَاسِ الَّذِي كَانُوا عَلَيْهِ عِنْدَمَا حَانَ وَقْتُهُمْ. أَطْلَقَ الرِّجَالُ صَرْخَةَ غَضَبٍ وَأَلَمٍ عِنْدَمَا أَطْلَقَ الْعَدُوُّ النَّارَ عَلَيْهِمْ. كَانَ أَمَامَهُمْ حَاجِزٌ مِنَ الدُّخَانِ لَمْ يَرَوْا مِنْ خِلَالِهِ إِلَّا وَمَضَاتِ الْأَعْيِرَةِ النَّارِيَّةِ الْحَمْرَاءَ وَالصَّفْرَاءَ. وَسُرْعَانَ مَا اكْتَسَوا بِالْأَوْسَاخِ وَالسُّخَامِ.
اسْتَمَرَّ الْمُلَازِمُ يَصْرُخُ فِي الْجُنُودِ لِيُوَاصِلُوا الْقِتَالَ، بَيْنَمَا ظَلَّ هنري يَحْمِلُ الرَّايَةَ. حَاوَلَ أَنْ يَرَى كُلَّ مَا يَسْتَطِيعُ. كَانَ أَحْيَانًا يَنْتَفِضُ، وَأَحْيَانًا يُحَدِّثُ نَفْسَهُ، بَلْ إِنَّهُ فِي بَعْضِ الْأَحْيَانِ لَمْ يَكُنْ يَعْرِفُ حَتَّى إِنْ كَانَ يَتَنَفَّسُ أَمْ لَا. كَانَ مُنْشَغِلًا لِلْغَايَةِ بِمُرَاقَبَةِ الْمَعْرَكَةِ.
اقْتَرَبَ صَفٌّ كَبِيرٌ مِنْ صُفُوفِ الْعَدُوِّ مِنْ كَتِيبَةِ هنري؛ فَكَانَ يَسْهُلُ رُؤْيَتُهُمْ. كَانُوا طِوَالَ الْقَامَةِ نَحِيفِي الْأَجْسَامِ مُنْفَعِلِي الْوُجُوهِ يَتَحَرَّكُونَ بِخُطًى وَاسِعَةٍ. وَأَمَامَ هَذَا الْمَشْهَدِ، تَوَقَّفَتْ كَتِيبَةُ هنري لَحْظَةً قَبْلَ أَنْ يَبْدَءُوا إِطْلَاقَ النِّيرَانِ ثَانِيَةً قَبْلَ حَتَّى صُدُورِ الْأَوَامِرِ بِذَلِكَ. بَدَءُوا إِطْلَاقَ النِّيرَانِ مَا إِنِ انْتَبَهُوا إِلَى الْخَطَرِ الْمُحْدِقِ بِهِمْ.
لَكِنْ أَسْرَعَتْ قُوَّاتُ الْعَدُوِّ بِالِاخْتِبَاءِ خَلْفَ أَحَدِ الأَسْيِجَةِ، ثُمَّ بَدَءُوا إِطْلَاقَ النَّارِ مِنْ جَدِيدٍ عَلَى كَتِيبَةِ هنري الَّتِي هَيَّأَتْ نَفْسَهَا لِمُوَاجَهَةٍ ضَارِيَةٍ. لَمَعَتْ أَسْنَانٌ بَيْضَاءُ مِنْ بَيْنِ الْوُجُوهِ الْمُتَّسِخَةِ. وكَثِيرًا مَا صَاحَ جُنُودُ الْعَدُوِّ وَحَاوَلُوا إِهَانَةَ الْكَتِيبَةِ، لَكِنَّهَا ظَلَّتْ صَامِتَةً. رُبَّمَا كَانُوا يَتَذَكَّرُونَ الْإِهَانَةَ الَّتِي وَجَّهَهَا الجِنْرَالُ لَهُمْ وَالَّتِي جَعَلَتْهُمُ أَشَدَّ بَأْسًا.
عَزَمَ هنري عَلَى أَلَّا يَتْرُكَ هَذَا الْمَكَانَ مَهْمَا حَدَثَ. كَانَ يُرِيدُ الثَّأْرَ مِنَ الضَّابِطِ الَّذِي نَعَتَهُمْ بِرَاكِبِي الْبِغَالِ وَبِالْفَاشِلِينَ. وَأَفْضَلُ انْتِقَامٍ فِي رَأْيِهِ أَنْ يَبْقَى فِي هَذَا الْمَكَانِ إِلَى أَنْ يَهْزِمَ الْعَدُوَّ. سَوْفَ يُثْبِتُ لِلْجَمِيعِ كَمْ هُوَ شُجَاعٌ.
أُصِيبَ أَفْرَادُ الْكَتِيبَةِ إِصَابَاتٍ بَالِغَةً، وَسَقَطَ الْكَثِيرُونَ مِنْهُمْ. زَحَفَ بَعْضُ الْجَرْحَى بَعِيدًا عَنْ مَيْدَانِ الْمَعْرَكَةِ، لَكِنْ بَقِيَ الْكَثِيرُونَ بِلَا حَرَاكٍ.
بَحَثَ هنري عَنْ ويلسون، وَوَجَدَهُ لَا يَزَالُ يُحَارِبُ. ولَمْ يُصَبِ الْمُلَازِمُ هُوَ الْآخَرُ بِسُوءٍ. كَانَ يَصِيحُ فِي الْجُنُودِ، لَكِنَّ الْوَضْعَ سَارَ مُخْتَلِفًا الْآنَ. كَانَ مُعَدَّلُ الطَّلَقَاتِ يَتَضَاءَلُ شَيْئًا فَشَيْئًا، وَكَانَ صَوْتُ الْمُلَازِمِ يَزْدَادُ وَهَنًا.