بِدَايَةٌ جَدِيدَةٌ
بَدَأَتِ الْأَصْوَاتُ الصَّاخِبَةُ مِنْ حَوْلِهِمْ فِي الِانْخِفَاضِ، وَأَصْبَحَتْ لَا تُسْمَعُ إِلَّا عَلَى فَتَرَاتٍ مُتَبَاعِدَةٍ. ونَظَرَ هنري وويلسون حَوْلَهُمَا فَجْأَةً بَعْدَ أَنْ أَثَارَ هَذَا الْهُدُوءُ قَلَقَهُمَا، فلَاحَظَا بَعْضَ التَّغْيِيرَاتِ بَيْنَ الْكَتَائِبِ الَّتِي كَانَتْ تَسِيرُ هُنَا وَهُنَاكَ.
وَقَفَ هنري، وَقَالَ: «أَتَسَاءَلُ: مَاذَا يَجْرِي هُنَاكَ؟» بَدَا أَنَّهُ سَيَسْمَعُ ضَجِيجًا جَدِيدًا. وَضَعَ هنري يَدَهُ الْمُتَّسِخَةُ عَلَى عَيْنَيْهِ وَنَظَرَ إِلَى الْحَقْلِ.
وَقَفَ ويلسون هُوَ الْآخَرُ وَحَدَّقَ النَّظَرَ.
قَالَ: «أَنَا مُتَأَكِّدٌ أَنَّنَا سَنُغَادِرُ هَذَا الْمَكَانَ، وَنَعُودُ ثَانِيَةً إِلَى النَّهْرِ.»
انْتَظَرَا وَرَاقَبَا، وَبَعْدَ قَلِيلٍ تَلَقَّتِ الْكَتِيبَةُ الْأَوَامِرَ بِالْعَوْدَةِ مِنْ حَيْثُ جَاءُوا. نَهَضَ الرِّجَالُ مِنْ عَلَى الْأَرْضِ وَبَسَطُوا أَيَادِيَهُمْ فَوْقَ رُءُوسِهِمْ. سَبَّ أَحَدُ الْجُنُودِ وَهُوَ يَفْرُكُ عَيْنَيْهِ، وَتَذَمَّرَ الْجَمِيعُ. كَانَ اعْتِرَاضُهُمْ عَلَى تِلْكَ الْأَوَامِرِ كَاعْتِرَاضِهِمْ عَلَى الدُّخُولِ فِي مَعْرَكَةٍ جَدِيدَةٍ؛ إِذْ كَانُوا يَشْعُرُونَ بِالرَّاحَةِ فِي هَذَا الْمَكَانِ.
سَارَ الرِّجَالُ رُوَيْدًا رُوَيْدًا عَبْرَ الْحَقْلِ فِي طَرِيقِ الْعَوْدَةِ، بَعْدَ أَنْ كَانُوا يَعْدُونَ فِيهِ بِجُنُونٍ قَبْلَ قَلِيلٍ.
اسْتَمَرَّتِ الْكَتِيبَةُ فِي السَّيْرِ حَتَّى انْضَمَّتْ إِلَى بَقِيَّةِ الْجَيْشِ، وَأُعِيدَ تَشْكِيلُ الْكَتَائِبِ فِي صُفُوفٍ، وَوَاصَلُوا مَسِيرَتَهُمْ فِي الْغَابَةِ. شَاهَدُوا فِي طَرِيقِهِمْ بيتًا أَبْيَضَ أَمَامَهُ مَجْمُوعَاتٌ مِنْهُمْ يُطْلِقُونَ النَّارَ عَلَى عَدُوٍّ بَعِيدٍ.
عِنْدَ هَذِهِ النُّقْطَةِ انْعَطَفَ الْجُنُودُ مِنْ طَرِيقِ الْحَقْلِ، وَتَحَرَّكُوا فِي اتِّجَاهِ النَّهْرِ. وعِنْدَمَا انْتَبَهَ هنري إِلَى الْمَكَانِ الَّذِي كَانُوا يَقْصِدُونَهُ، نَظَرَ خَلْفَهُ وَأَخَذَ نَفَسًا عَمِيقًا مَمْزُوجًا بِالرِّضَى، ثُمَّ وَكَزَ صَدِيقَهُ ويلسون، وَقَالَ: «نَحْنُ نُغَادِرُ سَاحَةَ الْقِتَالِ! لَقَدِ انْتَهَتِ الْمَعْرَكَةُ!»
نَظَرَ ويلسون خَلْفَهُ هُوَ الْآخَرُ، وَقَالَ فِي دَهْشَةٍ: «نَعَمْ، لَقَدِ انْتَهَتْ!»
قَضَى هنري بَعْضَ الْوَقْتِ لِيَتَكَيَّفَ مَعَ هَذَا التَّغْيِيرِ. صَفَا ذِهْنُهُ تَدْرِيجِيًّا، وَبَدَأَ يَسْتَوْعِبُ أَيْنَ كَانَ وَمَاذَا يَحْدُثُ. فَهِمَ أَنَّ الْحَرْبَ قَدِ انْتَهَتْ، وَأَنَّهُ كَانَ فِي أَرْضٍ تَمْلَؤُهَا مَعَارِكُ غَرِيبَةٌ، وَأَنَّهُ قَدْ عَادَ. أَدْرَكَ أَنَّهُ كَانَ فِي مَكَانٍ مَلِيءٍ بِالدِّمَاءِ وَمَشْحُونٍ بِمَشَاعِرِ الْغَضَبِ، وَأَنَّهُ نَجَا. أَوَّلُ شَيْءٍ خَطَرَ فِي بَالِهِ هُوَ أَنْ يَحْتَفِلَ.
لَاحِقًا بَدَأَ هنري يَتَمَعَّنُ فِي تَصَرُّفَاتِهِ مِنَ الْإِخْفَاقَاتِ وَالْإِنْجَازَاتِ. شَعَرَ بِالسَّعَادَةِ، وَلَمْ يَنْدَمْ عَلَى شَيْءٍ. لَمْ يُشَاهِدْهُ الْآخَرُونَ إِلَّا فِي الْمَوَاقِفِ النَّبِيلَةِ. كَانَ سَعِيدًا بِتَذَكُّرِ هَذِهِ الْأَشْيَاءِ، وَظَلَّ وَقْتًا طَوِيلًا يَسْتَرْجِعُهَا فِي خَيَالِهِ.
كَانَ يَرَى نَفْسَهُ جُنْدِيًّا كُفْئًا، وَتَذَكَّرَ فِي سَعَادَةٍ تَعْلِيَقاتِ رِفَاقِهِ عَنْ مَدَى شَجَاعَتِهِ.
لَكِنْ عَاوَدَهُ شَبَحُ هُرُوبِهِ مِنَ الْمَعْرَكَةِ الْأُولَى. كَانَ سَاخِطًا إِلَى حَدٍّ مَا بِشَأْنِ مَا حَدَثَ. وَلِلَحْظَةٍ انْتَابَهُ شُعُورٌ بِالْخَجَلِ وَالْخِزْيِ.
ثُمَّ عَاَوَدَتْهُ ذِكْرَى الْجُنْدِيِّ ذِي الثِّيَابِ الرَّثَّةِ الَّذِي فَرَّ مِنْهُ فِي الْحَقْلِ. وَلِلَحْظَةٍ أَخَذَ يَتَصَبَّبُ عَرَقًا عِنْدَمَا فَكَّرَ أَنَّ الْآخَرِينَ قَدْ يَعْرِفُونَ مَا فَعَلَ، فَأَطْلَقَ صَرْخَةَ أَلَمٍ.
الْتَفَتَ إِلَيْهِ ويلسون، وَسَأَلَهُ: «مَاذَا بِكَ يَا هنري؟»
لَمْ يَسْتَطِعْ هنري الرَّدَّ عَلَى صَدِيقِهِ، وَغَمْغَمَ لِنَفْسِهِ بِكَلِمَاتٍ غَيْرِ وَاضِحَةٍ.
وأَثْنَاءَ سَيْرِهِ، سَيْطَرَتِ الطَّرِيقَةُ الَّتِي تَصَرَّفَ بِهَا عَلَى فِكْرِهِ، وَأَفْسَدَتْ عَلَيْهِ ذِكْرَيَاتِهِ الْجَمِيلَةَ. وَمَهْمَا حَاوَلَ أَنْ يُلْهِيَ نَفْسَهُ بِالتَّفْكِيرِ فِي شَيْءٍ آخَرَ، لَاحَقَهُ مَشْهَدُ الْجُنْدِيِّ ذِي الثِّيَابِ الرَّثَّةِ الَّذِي تَرَكَهُ وَحِيدًا فِي الْحَقْلِ. نَظَرَ هنري إِلَى أَصْدِقَائِهِ وَتَيَقَّنَ أَنَّهُمْ إِذَا نَظَرُوا إِلَيْهِ فَسَيَرَوْنَ نَظْرَةَ الذَّنْبِ فِي وَجْهِهِ، لَكِنَّهُمْ كَانُوا يَبْتَعِدُونَ وَيَتَحَدَّثُونَ عَنِ النَّصْرِ الْعَظِيمِ الَّذِي حَقَّقُوهُ فِي الْمَعْرَكَةِ الْأَخِيرَةِ.
لِفَتْرَةٍ، شَغَلَتْهُ هَذِهِ الذِّكْرَى عَنْ كُلِّ مَظَاهِرِ الِاحْتِفَالِ. لَقَدْ أَدْرَكَ خَطَأَهُ، وَخَافَ أَنْ يُرَافِقَهُ الشُّعُورُ بِالذَّنْبِ طِيلَةَ حَيَاتِهِ. تَجَنَّبَ الْحَدِيثَ مَعَ أَصْدِقَائِهِ وَتَفَادَى النَّظَرَ إِلَيْهِمْ.
لَكِنْ، شَيْئًا فَشَيْئًا اسْتَجْمَعَ هنري الْقُوَّةَ لِإِلْقَاءِ ذَلِكَ الْخَطَأِ وَرَاءَ ظَهْرِهِ، وَأَخِيرًا بَدَا أَنَّهُ يُفَكِّرُ بِأُسْلُوبٍ مُخْتَلِفٍ. تَذَكَّرَ أُسْلُوبَهُ وَمُعْتَقَدَاتِهُ قَبْلَ الْمَعْرَكَةِ، وَاكْتَشَفَ أَنَّهُ كَرِهَ هَذَا الْأُسْلُوبَ.
وَمَعَ هَذَا الِاكْتِشَافِ، اسْتَعَادَ ثِقَتَهُ بِنَفْسِهِ. لَقَدْ شَعَرَ أَنَّهُ أَصْبَحَ بِالْفِعْلِ رَجُلًا قَوِيًّا رَابِطَ الْجَأْشِ. عَلِمَ أَنَّهُ لَنْ يَنْسَحِبَ مِنْ أَيِّ مَعَارِكَ قَادِمَةٍ. كَانَ قَرِيبًا مِنَ الْمَوْتِ، وَاكْتَشَفَ فِي النِّهَايَةِ أَنَّهُ مَوْتٌ فَحَسْب.
وَهَكَذا تَغَيَّرَتْ رُوحُهُ أَثْنَاءَ عَوْدَتِهِ مِنْ سَاحَةِ الدِّمَاءِ وَالْغَضَبِ. لَمْ يَعُدْ غَاضِبًا أَوْ خَائِفًا.
أَمْطَرَتِ السَّمَاءُ، وَوَاصَلَ الْجُنُودُ مَسِيرَتَهُمْ وَسْطَ الْأَرْضِ الْمُوحِلَةِ. بَدَا عَلَيْهِمْ الِانْزِعَاجُ وَأَخَذُوا يُغَمْغِمُونَ بِكَلِمَاتٍ غَيْرِ مَفْهُومَةٍ، لَكِنَّ هنري ابْتَسَمَ؛ لِأَنَّهُ رَأَى أَنَّ الْعَالَمَ فِي انْتِظَارِهِ. لَقَدْ تَحَرَّرَ مِنْ مَخَاوِفِ الْحُرُوبِ! لَقَدِ انْتَهَى الْكَابُوسُ! كَانَ مِثْلَ حَيَوَانٍ يَفْزَعُ أَشَدَّ الْفَزَعِ مِنْ أَهْوَالِ الْحُرُوبِ وَأَخْطَارِهَا. نَظَرَ هنري حَوْلَهُ إِلَى السَّمَاءِ الْجَمِيلَةِ، وَالْمَرَاعِي النَّاضِرَةِ، وَالْأَنْهَارِ الْبَارِدَةِ؛ حَيَاةٌ مِنَ السَّلَامِ الدَّائِمِ.
وَفَوْقَ النَّهْرِ، سَقَطَ شُعَاعُ شَمْسٍ ذَهَبِيٌّ مِنْ بَيْنِ السُّحُبِ المَطِيرَةِ.