وَبَدَأَتِ الْمَعْرَكَةُ
تَوَقَّفَ الرِّجَالُ عَلَى حَافَّةِ إِحْدَى الْحَدَائِقِ، حَيْثُ جَثَمُوا عَلَى الْأَرْضِ بَيْنَ الْأَشْجَارِ يُصَوِّبُونَ أَسْلِحَتَهُمْ نَحْوَ الْحُقُولِ، وَيُحَاوِلُونَ النَّظَرَ فِيمَا وَرَاءَ الضَّبَابِ؛ حَيْثُ اسْتَطَاعُوا رُؤْيَةَ رِجَالٍ آخَرِينَ يَرْكُضُونَ وَبَعْضُهُمْ يَصِيحُ وَيُلَوِّحُ. نَظَرَ رِجَالُ وَحْدَةِ هنري وَاسْتَمَعُوا فِي حِرْصٍ، وَظَلُّوا مَشْغُولِينَ بِالْحَدِيثِ عَنِ الشَّائِعَاتِ الَّتِي سَمِعُوهَا.
قَالَ أَحَدُ الرِّجَالِ: «قَابَلْتُ أَحَدَ الْفِتْيَانِ مِنْ وِلَايَةِ «مين»، وَقَالَ إِنَّ فِرْقَتَهُ حَارَبَتْ جَيْشَ الْمُتَمَرِّدِينَ كُلَّهُ لِمُدَّةِ أَرْبَعِ سَاعَاتٍ وَقَتَلَتْ نَحْوَ خَمْسَةِ آلَافٍ مِنْهُمْ. قَالَ إِنَّ مَعْرَكَةً أُخْرَى كَهَذِهِ سَوْفَ تُنْهِي الْحَرْبَ تَمَامًا.»
تَزَايَدَ الصَّخَبُ أَمَامَهُمْ، وَتَجَمَّدَ هنري وَرِفَاقُهُ صَمْتًا فِي أَمَاكِنِهِمْ. بِإِمْكَانِهِمْ رُؤْيَةُ الْعَلَمِ يُرَفْرِفُ غَضَبًا وَسْطَ الدُّخَانِ، وَبِالْقُرْبِ مِنْهُ صُوَرٌ ضَبَابِيَّةٌ لِلْوَحَدَاتِ الْعَسْكَرِيَّةِ. لَاذَتْ مَجْمُوعَةٌ مُرْتَبِكَةٌ مِنَ الرِّجَالِ بِالْفِرَارِ عَبْرَ الْحُقُولِ.
مَرَّتْ قَذِيفَةٌ مُدَوِّيَةٌ مِثْلَ الْعَاصِفَةِ فَوْقَ رُءُوسِ جُنُودِ الِاحْتِيَاطِ، وَهَبَطَتْ فَوْقَ أَرْضِ الْبُسْتَانِ، ثُمَّ انْفَجَرَتْ لِتُبَعْثِرَ التُّرَابَ الْبُنِّيَّ وَأَوْرَاقَ الصَّنَوْبَرِ فِي كُلِّ مَكَانٍ. وبَدَأَ صَفِيرُ الرَّصَاصَاتِ بَيْنَ الْأَغْصَانِ وَانْطِلَاقُها بِسُرْعَةٍ نَحْوَ الْأَشْجَارِ. وتَدَلَّتِ الْأَغْصَانُ وَالْأَوْرَاقُ إِلَى الْأَسْفَلِ، وَكَأَنَّ آلَافَ الْفُئُوسِ الْخَفِيَّةِ تَنْزِلُ عَلَيْهَا؛ فاضْطُرَّ كَثِيرٌ مِنَ الرِّجَالِ إِلَى تَغْطِيَةِ رُءُوسِهِمْ.
أُصِيبَ مُلَازِمُ كَتِيبَةِ هنري بِطَلْقَةٍ فِي يَدِهِ، وأَخَذَ يَكِيلُ اللَّعَنَاتِ حَتَّى سَرَتْ ضَحِكَةٌ مَشُوبَةٌ بِالتَّوَتُّرِ بَيْنَ أَفْرَادِ الْكَتِيبَةِ. ضَغَطَ الْمُلَازِمُ عَلَى جُرْحِهِ كَيْ لَا تَتَسَاقَطَ الدِّمَاءُ فَوْقَ سِرْوَالِهِ، ثُمَّ رَبَطَ قَائِدُ الْفِرْقَةِ مِنْدِيلًا حَوْلَ الْجُرْحِ.
رَفْرَفَتْ رَايَةُ الْمَعْرَكَةِ بَعِيدًا فِي جُنُونٍ، وَكَأَنَّهَا تُكَافِحُ لِتَحْرِيرِ نَفْسِهَا. امْتَلَأَ الدُّخَانُ الدَّائِرُ فِي الْهَوَاءِ بِوَمَضَاتٍ أُفُقِيَّةٍ، وَظَهَرَ عَبْرَهُ رِجَالٌ يَهْرُبُونَ بِسُرْعَةٍ مِنَ الْقِتَالِ، ثم ازْدَادَ عَدَدُهُمْ حَتَّى بَدَا وَكَأَنَّ الْكَتِيبَةَ كُلَّهَا تَلُوذُ بِالْفِرَارِ. وانْخَفَضَ الْعَلَمُ وَكَأَنَّهُ يُحْتَضَرُ، وبَدَتْ حَرَكَتُهُ وَهُوَ يُنَكَّسُ إِشَارَةً لِلْيَأْسِ.
شَعَرَ هنري بِالذُّعْرِ مِنَ النَّظَرَاتِ الَّتِي عَلَتْ وُجُوهَ الْفَارِّينَ، شَعَرَ أَنَّهُ لَا شَيْءَ فِي الْعَالَمِ قَدْ يَمْنَعُهُ مِنَ الْفِرَارِ إِذَا لَاحَتْ لَهُ الْفُرْصَةُ، لَكِنْ كَانَ عَلَى الرِّجَالِ فِي وَحْدَتِهِ التَّشَبُّثُ بِمَوَاقِعِهِمْ. وَقَفُوا جَنْبًا إِلَى جَنْبٍ يَرْتَعِشُونَ وَيَزْدَادُونَ شُحُوبًا.
جَالَتْ بِخَاطِرِ هنري فِكْرَةٌ وَحِيدَةٌ فِي خِضَمِّ تِلْكَ الْفَوْضَى؛ فَالْوَحْشُ الَّذِي تَسَبَّبَ فِي فِرَارِ الْوَحَدَاتِ الْأُخْرَى لَمْ يَظْهَرْ بَعْدُ. وقَرَّرَ هنري أَنْ يَتَرَقَّبَهُ، ظَنَّ أَنَّهُ لَوِ اسْتَطَاعَ فِعْلَ ذَلِكَ، سَيَكُونُ قَادِرًا عَلَى الْفِرَارِ أَسْرَعَ مِنْ أَيِّ شَخْصٍ آخَرَ.