الطَّلْقَةُ الْأُولَى
كَانَتْ هُنَاكَ لَحَظَاتُ انْتِظَارٍ كَثِيرَةٌ، وتَذَكَّرَ هنري الشَّارِعَ فِي مَدِينَتِهِ عِنْدَمَا كَانَ الْجَمِيعُ يَنْتَظِرُونَ قُدُومَ مَوْكِبِ السِّيركِ فِي الرَّبِيعِ.
صَاحَ أَحَدُهُمْ فَجْأَةً: «هَا قَدْ أَتَوْا!»
سَرَتْ غَمْغَمَاتٌ وَهَمْهَمَاتٌ بَيْنَ الرِّجَالِ الَّذِينَ سَحَبُوا صَنَادِيقَ الرَّصَاصِ بِالْقُرْبِ مِنْهُمْ، وَغَيَّرُوا مَوَاقِعَهُمْ فِي حَذَرٍ بَالِغٍ. «هَا قَدْ أَتَوْا! هَا قَدْ أَتَوْا!» وتَحَرَّكَتْ أَزْنُدُ الْبَنَادِقِ.
عَبْرَ الْحَقْلِ الْمُغَطَّى بِالدُّخَانِ ظَهَرَ سِرْبٌ مِنَ الرِّجَالِ فِي زِيِّهِمُ الرَّمَادِيِّ، يَصِيحُونَ بِأَصْوَاتٍ مُرْتَفِعَةٍ صَاخِبَةٍ. عِنْدَمَا رَآهُمْ هنري ارْتَبَكَ فَجْأَةً مِنْ فِكْرَةِ أَنَّ بُنْدُقِيَّتَهُ رُبَّمَا لَا تَكُونُ مَحْشُوَّةً بِالرَّصَاصِ. حَاوَلَ أَنْ يَتَذَكَّرَ مَتَى حَشَاهَا، لَكِنَّهُ كَانَ مُرْتَبِكًا لِلْغَايَةِ.
سَحَبَ جِنْرَالٌ لَا يَرْتَدِي قُبَّعَةً جَوَادَهُ لِيَقِفَ بِجِوَارِ الْعَقِيدِ الَّذِي يَرْأَسُ كَتِيبَةَ هنري، وَلَوَّحَ بِقَبْضَةِ يَدِهِ فِي وَجْهِ الْعَقِيدِ.
صَاحَ اللِّوَاءُ مُحْتَدًّا: «كَانَ عَلَيْكَ رَدْعُهُمْ! كَانَ عَلَيْكَ رَدْعُهُمْ!»
وَسْطَ شُعُورِ الْعَقِيدِ بِالِارْتِبَاكِ، بَدَأَ يَتَحَدَّثُ مُتَلَعْثِمًا.
«حَسَنًا يا جِنْرَالُ! ﺳَ… و… فَ ﻧَ… ﻧَ… نَفْعَلُ … نَفْعَلُ مَا فِي وُسْعِنَا يَا جِنْرَالُ.»
أَوْمَأَ الجِنْرَالُ إِيمَاءَةً مَمْزُوجَةً بِالْغَضَبِ، وَقَادَ الْجَوَادَ مُبْتَعِدًا. غَمْغَمَ أَحَدُ الرِّجَالِ بِالْقُرْبِ مِنْ هنري: «لَقَدْ حَانَ الْوَقْتُ! لَقَدْ حَانَ الْوَقْتُ!»
كَانَ قَائِدُ الْفِرْقَةِ يَذْرَعُ الْمَكَانَ ذَهَابًا وَإِيَابًا خَلْفَ الرِّجَالِ فِي انْفِعَالٍ، وَظَلَّ يُرَدِّدُ: «لَا تُطْلِقُوا النِّيرَانَ أَيُّهَا الْفِتْيَانُ. لَا تُطْلِقُوا النِّيرَانَ إِلَّا عِنْدَمَا أُخْبِرُكُمْ. انْتَظِرُوا حَتَّى يَقْتَرِبُوا كَثِيرًا.»
أَلْقَى هنري نَظْرَةً عَلَى الْعَدُوِّ فِي الْحَقْلِ أَمَامَهُ، وَتَوَقَّفَ عَنِ التَّفْكِيرِ فِيمَا إِذَا كَانَتِ الْبُنْدُقِيَّةُ مَحْشُوَّةً أَمْ لَا. وَقَبْلَ أَنْ يَسْتَعِدَّ، وَقَبْلَ أَنْ يُخْبِرَ نَفْسَهُ أَنَّهُ عَلَى وَشْكِ الْقِتَالِ، صَوَّبَ بُنْدُقِيَّتَهُ، وَأَطْلَقَ أَوَّلَ رَصَاصَةٍ عَشْوَائِيَّةٍ، حَتَّى قَبْلَ أَنْ يَصْدُرَ إِلَيْهِ الْأَمْرُ، ثُمَّ اسْتَمَرَّ فِي تَشْغِيلِ سِلَاحِهِ.
فَقَدَ هنري فَجْأَةً قَلَقَهُ عَلَى نَفْسِهِ؛ إِذْ شَعَرَ وَكَأَنَّهُ جُزْءٌ مِنْ شَيْءٍ أَكْبَرَ، كَانَ الشَّيْءُ الْوَحِيدُ الَّذِي يَعْرِفُهُ أَنَّهُ مَهْمَا يَكُنْ مَا هُوَ فِيهِ الْآنَ، فَهُوَ فِي وَرْطَةٍ، لَنْ يَسْتَطِيعَ بِأَيِّ حَالٍ أَنْ يَتْرُكَ كَتِيبَتَهُ بَعْدَ الْآنَ. كَانَ دَائِمَ الِانْتِبَاهِ لِرِفَاقِهِ الْوَاقِفِينَ بِجِوَارِهِ، وَكَأَنَّ رَابِطَةَ إِخَاءٍ قَدْ وُلِدَتْ مِنْ بَيْنِ الدُّخَانِ وَخَطَرِ الْمَوْتِ.