فِرَارُ الرِّجَالِ
نَظَر هنري حَوْلَهُ تُصِيبُهُ حَالَةٌ مِنَ الدُّوَارِ. الْتَقَطَ قُبَّعَتَهُ مِنَ الْأَرْضِ وَتَحَرَّكَ دَاخِلَ سُتْرَتِهِ حَتَّى يَسْتَوِيَ وَضْعُهَا، ثُمَّ انْحَنَى لِيَعْقِدَ رِبَاطَ حِذَائِهِ.
لَقَدِ انْتَهَتْ أَخِيرًا! مَرَّ الِاخْتِبَارُ، وَانْقَضَتْ صُعُوبَاتُ الْحَرْبِ. كَانَ مُبْتَهِجًا، وَعَلَى يَقِينٍ مِنْ أَنَّهُ قَدْ أَبْلَى بَلَاءً حَسَنًا. شَعَرَ الرِّجَالُ الْآخَرُونَ بِنَفْسِ الْفَخْرِ الَّذِي شَعَرَ بِهِ هنري، فَصَافَحَ بَعْضُهُمُ بَعْضًا وَسَاعَدُوا الْجَرْحَى مِنْهُمْ، لَكِنْ فَجْأَةً انْدَلَعَتْ صَيْحَاتُ الذُّهُولِ بَيْنَ الجُنُودِ.
صَاحَ أَحَدُ الرِّجَالِ: «لَقَدْ أَتَوْا مَرَّةً أُخْرَى!»
رَأَى هنري عَنْ بُعْدٍ أُنَاسًا يَعْدُونَ خَارِجَ الْغَابَاتِ، وَرَأَى أَيْضًا الْعَلَمَ الْمَائِلَ يُسْرِعُ إِلَى الْأَمَامِ.
دَارَتِ الْقَذَائِفُ — الَّتِي لَمْ تُرْبِكِ الْجُنُودَ بَعْضَ الْوَقْتِ — حَوْلَهُمْ مَرَّةً أُخْرَى. كَانَتْ تَنْفَجِرُ وَسْطَ الْحَشَائِشِ وَبَيْنَ الْأَشْجَار. بَدَتْ الِانْفِجَارَاتُ كَأَنَّهَا زُهُورٌ غَرِيبَةٌ تَتَفَتَّحُ فِي حَرَكَةٍ عَنِيفَةٍ.
تَأَوَّهَ الرِّجَالُ، وَتَحَرَّكُوا فِي بُطْءٍ وَصُعُوبَةٍ. ومَا إِنْ رَأَوْا الِاقْتِرَابَ السَّرِيعَ لِلْعَدُوِّ، حَتَّى بَدَءُوا يَتَمَرَّدُونَ عَلَى وَاجِبِهِمْ.
سَأَلَ أَحَدُهُمْ: «لِمَاذَا لَا يُرْسِلُ أَحَدٌ دَعْمًا؟»
وَقَالَ آخَرُ: «لَنْ نَنْجُوَ مِنْ هُجُومٍ ثَانٍ، لَمْ آتِ إِلَى هُنَا لِأُحَارِبَ جَيْشَ الْمُتَمَرِّدِينَ اللَّعِينَ كُلَّهُ وَحْدِي.»
حَدَّقَ هنري فِي ذُهُولٍ. بِالطَّبْعِ لَمْ يَكُنْ يَظُنُّ أَنَّ الْقِتَالَ سَيَكُونُ وَشِيكًا. لَا يُمْكِنُ أَنْ تَكُونَ هُنَاكَ مَعْرَكَةٌ أُخْرَى. ظَلَّ يَنْتَظِرُ وَكَأَنَّ الْجَمِيعَ سَيَتَوَقَّفُونَ وَيَعْتَرِفُونَ أَنَّهُ كَانَ خَطَأً، لَكِنَّ إِطْلَاقَ النِّيرَانِ بَدَأَ ثَانِيَةً، وَتَوَالَى فِي كِلَا الِاتِّجَاهَيْنِ. كَانَتْ رَقَبَةُ هنري تَرْتَعِشُ، وَيَدَاهُ مُتَيَبِّسَتَيْنِ. بَدَأَ يَتَخَيَّلُ أَنَّ جُنُودَ الْعَدُوِّ أَفْضَلُ وَأَقْوَى مِنَ الرِّجَالِ فِي فِرْقَتِهِ. لَا بُدَّ وَأَنَّ جُنُودَ الْعَدُوَّ عِبَارَةٌ عَنْ آلاتٍ مِنْ حَدِيدٍ. لَقَدْ بَدَوْا كَالتَّنَانِينِ وَسْطَ الدُّخَانِ.
فَجْأَةً! تَوَقَّفَ رَجُلٌ كَانَ قَرِيبًا مِنْ هنري وَمُنْشَغِلًا بِحَشْوِ بُنْدُقِيَّتِهِ، وَلَاذَ بِالْفِرَارِ وَهُوَ يُطْلِقُ صَيْحَةً عَالِيَةً. شَاهَدَ رَجُلٌ آخَرُ كَانَتْ تَرْتَسِمُ عَلَى وَجْهِهِ عَلَامَاتُ الشَّجَاعَةِ هَذَا الْمَشْهَدَ، وَتَمَلَّكَهُ الْخَوْفُ، فَأَلْقَى هُوَ الْآخَرُ بِبُنْدُقِيَّتِهِ وَلَاذَ بِالْفِرَارِ. لَمْ يَبْدُ الْخِزْيُ عَلَى وَجْهِهِ، كَانَ يَفِرُّ كَالْأَرْنَبِ.
بَدَأَ رِجَالٌ آخَرُونَ فِي الرَّكْضِ وَسْطَ الدُّخَانِ، وشَاهَدَهُمْ هنري؛ فَصَرَخَ صَرْخَةَ هَلَعٍ وَاسْتَدَارَ وَأَخَذَ يَعْدُو.
لِلَحْظَةٍ فَقَدَ هنري إِحْسَاسَهُ بِالِاتِّجَاهِ الْآمِنِ؛ فَالْمَوْتُ وَالْإِصَابَةُ يُهَدِّدَانِهِ مِنْ كُلِّ صَوْبٍ.
بَدَأَ يَرْكُضُ نَحْوَ مُؤَخِّرَةِ فِرْقَتِهِ، وَفَقَدَ بُنْدُقِيَّتَهُ وَقُبَّعَتَهُ، وَطَارَ مِعْطَفُهُ مَفْتُوحَ الْأَزْرَارِ مَعَ الرِّيَاحِ. كَانَ وَجْهُ هنري مَكْسُوًّا بِالرُّعْبِ الَّذِي نَسَجَهُ فِي خَيَالِهِ. حَاوَلَ الْمُلَازِمُ أَنْ يُمْسِكَ بِهِ، لَكِنَّهُ هَرَبَ، هَرَبَ مِثْلَ رَجُلٍ كَفِيفٍ، اصْطَدَمَ كَتِفُهُ بِإِحْدَى الْأَشْجَارِ بِقُوَّةٍ فسَقَطَ أَرْضًا.
مَا إِنْ أَدَارَ هنري ظَهْرَهُ إِلَى الْعَدُوِّ، حَتَّى تَزَايَدَتْ مَخَاوِفُهُ أَكْثَرَ فَأَكْثَرَ. جَعَلَ خَيَالُهُ كُلَّ شَيْءٍ أَسْوَأَ مِمَّا هُوَ عَلَيْهِ حَقِيقَةً؛ وَبَيْنَمَا كَانَ يَفِرُّ، رَأَى الرِّجَالَ عَلَى يَمِينِهِ وَعَلَى يَسَارِهِ يَفْعَلُونَ الشَّيْءَ نَفْسَهُ، وَسَمِعَ وَقْعَ أَقْدَامٍ عَدِيدَةٍ خَلْفَهُ. تَسَاقَطَتِ الْقَذَائِفُ فَوْقَ رَأْسِهِ تُصَاحِبُهَا صَرَخَاتٌ طَوِيلَةٌ جَامِحَةٌ.
انْتَابَ هنري الذُّهُولُ عِنْدَمَا مَرَّ عَلَى جَمَاعَةٍ أُخْرَى يُشَارِكُ أَفْرَادُهَا فِي الْقِتَالِ، كَانُوا يُقَاتِلُونَ بِحَمَاسٍ بَالِغٍ، ولَا أَحَدَ مِنْهُمْ يَبْدُو عَلَى دِرَايَةٍ بِالْمَوْتِ الْقَادِمِ نَحْوَهُمْ. فَكَّرَ هنري أَنَّهُمْ حَمْقَى وَأَشْفَقَ عَلَيْهِمْ.
وَاصَلَ هنري تَحَرُّكَهُ بَعِيدًا عَنِ الْأَحْدَاثِ، وَأَخِيرًا، رَأَى جِنْرَالًا يَمْتَطِي جَوَادًا. أَحْيَانًا يَكُونُ الجِنْرَالُ مُحَاطًا بِرِجَالٍ آخَرِينَ عَلَى صَهَوَاتِ جِيَادِهِمْ، وَأَحْيَانًا أُخْرَى يَكُونُ بِمُفْرَدِهِ.
مَكَثَ هنري بِجِوَارِ الجِنْرَالِ، وَحَاوَلَ أَنْ يَسْتَرِقَ السَّمْعَ لِمَا كَانَ يَقُولُ. رُبَّمَا يَسْأَلُهُ الجِنْرَالُ عَنْ مَعْلُومَاتٍ فَيُخْبِرُهُ هنري بِكُلِّ الِارْتِبَاكِ الَّذِي يَجْتَاحُ الصُّفُوفَ الْأَمَامِيَّةَ؛ لِأَنَّهُ كَانَ يَعْرِفُ كُلَّ شَيْءٍ. أَرَادَ هنري أَنْ يُخْبِرَ الجِنْرَالَ أَنَّهُ مِنَ الْخَطَأِ أَنْ يَجْلِسَ هُنَا دُونَ أَنْ يَبْذُلَ أَيَّ جُهْدٍ لِإِيقَافِ الْمَوْتِ الَّذِي يَحْصُدُ الْأَرْوَاحَ خَلْفَهُ. أَيُّ أَحْمَقَ سَيَقُولُ إِنَّهُ يَتَعَيَّنُ عَلَى الرِّجَالِ التَّقَهْقُرُ إِلَى الْوَرَاءِ.
هُرِعَ أَحَدُ الضُّبَّاطِ إِلَى الجِنْرَالِ، وَقَالَ: «بِحَقِّ السَّمَاءِ، لَقَدْ فَعَلُوهَا! لَقَدْ أَوْقَفُوهُمْ!»
بَدَأَ الجِنْرَالُ يَصِيحُ فِي جُنُودِهِ: «لَقَدْ نِلْنَا مِنْهُمْ! نِلْنَا مِنْهُمْ بِالتَّأْكِيدِ!»