فاتحة
إن الثورة الفرنسية، وفرنسا الثائرة، وما أشبه مما رأيتَه في عُنوان الكتاب وتراه مردَّدًا في تضاعيفِ سطوره، كلامٌ له — أيها القارئ — معنًى يجب ألا يُخلط بينه وبين غيره من المعاني.
هذه كلمتي الأولى أقولها لك، وأتركك وهذه الفصول الطويَّة والنصوص المختارة من كبارِ أُدبائنا ومُفكِّرينا. وقد كنتُ أحب أن أقول شيئًا في هذه الفاتحة آثرتُ أن أتركه للخاتمة، وما دامت مقدمات الكتب تُوضع آخرَ شيء بعد الفراغ من التأليف، فإنني أرى أن تكون مُقدِّمتي آخرَ صفحات الكتاب لا أوله.
أمَّا إرنست رينان، وما عيَّرنا به من أننا عُدمنا ولو ثائرًا واحدًا، فأرجو ألا يعطيه هذا الكتاب إلا نصف الحق على الأكثر.
بيروت، ٨ أيلول ١٩٤٣
تنبيه
في هذا الكتاب قسمٌ مستقلٌّ أشرنا إليه بعنوان «نصوص مختارة»، وقد جعلنا النصوص التي اخترناها لكل أديبٍ في فصلٍ على حِدَة توَّجناه باسمه.
للحياة وجهان: أحدهما الاغتذاء والهضم، والآخر الإنتاج والخِصب. وبالقدر الذي تأخذه الحياة ينبغي لها أن تعطي؛ هذا قانونها. الحياة كاللهب، ليس يمكن حفظها إلا إذا هي أعطت من مادتها. يصح هذا على العقل كما يصح على البدن، ومن المستحيل على العقل (الذكاء) أن ينحصر في ذاته. إنه كاللهب الذي لا بُد له من إعطاء النور بطبيعة خلقه. وهذه القوة نفسها — قوة التمدُّد — قائمة في أحاسيسنا، فعلينا أن نُقاسم «غيرنا» أفراحنا وأحزاننا. إن من طبيعتنا أن نكون اجتماعيِّين. نحن لا نكفي ذاتنا بذاتنا؛ فلدينا من الدموع أكثر مما نحتاج إليه في أحزاننا، ولدينا من احتياطيِّ السرور أكثر مما تستطيع سعادتنا أن تبرِّر. يجب أن نمضي إلى الآخرين، ونُكثِّر أنفسنا بالاتصال عن طريق الفكر والشعور. الحياة هي الخِصب، وبالعكس، الخصب هو الحياة؛ «الحياة» الأشد امتلاءً. إنه الوجود الصحيح. هناك سخاءٌ وكرم لا ينسلخان عن الوجود، وبدونهما نموت ونجف من الصميم، فيجب أن نُزهر. والأخلاق الطيِّبة والنزاهة تلك هي زهرة الحياة الإنسانية. والمثَل الأعلى ليس على نقيض العالم، ولكنه سابق له. إن المثل الأعلى، في أصله، شبيه بفكرنا الذي ينشقُّ عن «الطبيعة»، ويمشي قدَّامها مستطلعًا، مهيِّئًا الرقي المطَّرد. الواقع والمثل الأعلى متفاهمان في الحياة؛ لأن الحياة، على وجه العموم، كائنة وفي حالة الصيرورة في آنٍ واحدٍ. من يقُلِ الحياة يقُلِ التطوُّر.
ماذا أغنت عنا جميع تدابيرنا؟ إن الإيمان والفكر قد حطَّما قيود الشعب؛ إن الإيمان والفكر قد حرَّرا الأرض. أردنا أن نُفرِّق الناس بعضهم عن بعض، لكنَّ جَوْرنا ألَّف بينهم وألَّبهم علينا. هرقنا دماءهم فوَقعَت على رءوسنا. بذرنا الفساد فتشبَّثَت جذوره بتربتنا وتأكَّلت عظامنا. ولقد حسبنا أننا خنقنا الحرية، لكن أنفاسها لَفحَت جذور سلطتها وأيبستها.
ما معنى أن يُحب الإنسان وطنه؟ ما معنى أن يكون الإنسان وطنيًّا؟ إذا كان الشاعر منصرفًا مدى حياته إلى محاربة التعصُّب وإزالة النظرات الضيقة وإنارة ذهن قومه وتصفية ذوقهم وترقية آرائهم وأفكارهم، فقولوا كيف يمكنه أن يكون وطنيًّا على وجهٍ خيرٍ من هذا الوجه؟
أمَّا بعد، فقد وُلِّيتُ عليكم ولست بخيركم، فإذا استقمتُ فأعينوني، وإذا زغتُ فقوِّموني.
… فئة لا يزالون يؤلمون أسماعنا بما يُكرِّرون من سَفساف القول، من مثل: إنَّا تعوَّدنا احتمال الظلم والحَيْف والعَناء والخدمة والرِّقِّ، فلن يستقلَّ لنا رأيٌّ ولن نهتدي سبيل الحرية. كأنما هم لا يعلمون أن أهل الغرب أجمعِين تعوَّدوا مثل ذلك الحَيْف أعصارًا، أو كانوا في قديم الأيام على ضروبٍ من الرِّقِّ وانخفاض الجناح، وأن العالم بأَسْره كان فريقين: أحرارًا يَظلمون، وعبيدًا يطيعون!
إذا كانت آلامنا من السياسة الفرنسية شديدة … فإننا لا نريد أن نُدخل اليأس على قلوبنا من حياة الأُمَّة الفرنسية ويقظتها ومستقبلها العظيم.
لا تقولوا لي: كم هي شاحبة فرنسا هذه! فقد أَهرقَت دمها من أجلكم … ولمَّا فرغت يدها أعطت رُوحها التي منها تَحيَون.