الفكر وعامله في الثورة
إن الفرد إنما هو صوتٌ واحد ينطق باسم ملايين من الناس الصامتين؛ فالرجل العظيم إنما هو عظيمٌ بشعبه لا بنفسه. هو يستمد معظم قُوَّته مما يُحيط به من الأشياء والظروف والرجال.
أمَّا أن الفكر كانت له يد في إيقاد الثورة الفرنسية، فذلك ما لا يضعه مؤرخٌ موضع الشك والجدال. وقد كان للفكر، ولا يزال، أَثره الكبير في أحداث الانقلابات، من عنيفةٍ سريعة أو سلميةٍ بطيئة.
وقد كان لنا مُعلِّمٌ يستخفُّ بنا كلما عالجنا موضوعًا فبدأنا ببدء العالم وقلنا في فاتحة الإنشاء: خلق الله الدنيا … على أن عملنا، والحق يُقال، لم يكن خِلوًا من الحقيقة؛ لأن كل موضوعٍ يكاد يبدأ تقريبًا ببدء العالم.
فحركة الكشوف الجغرافية، وإن اقترنت بمطامع في الكسب التجاري والنهب وكانت مقدمةً للاستعمار الحديث، فقد صَرفَت نظر الإنسان الأوروبي إلى الأرض ودَفعَته نحو التفكير والبحث العلمي والاختراع. وحركة الإحياء، بما بَعثَت من كنوز القديم اليوناني والروماني، وبما أحيت من المُثُل الكلاسيكية، وبما استقَت من مناهل الحضارة العربية في الأندلس خاصةً، أَيقظَت الإنسان الأوروبي على تذوُّق الجمال الدنيوي، وتلمُّس المعرفة العلمية، وحب الاستقلال في البحث، فكان في أوروبا موسمٌ عظيمٌ من اللوحات الفنية والرسامِين، ونتاجٌ خصبٌ من التأليف الفلسفي والأدبي في أصول الفكر والخُلُق والتعامُل الإنساني. يُضاف إلى ذلك فتوحاتٌ في الدراسات الفلكية والطبية والطبيعية على وجهٍ عام. ولَمعَت في الأُفق الأوروبي أسماء كليوناردو دافنشي وغاليله ورابليه ومونتين وسيرفَنتس وأراسم وكوبرنيك وفيزال الطبيب وجيوردانو برونو؛ أسماء تَلتفِت إلى القديم البعيد أو القريب، وتقترن بأرسطو وأبوقراط وابن رشد وابن سينا، وتفتتح تلك القافلة المجيدة؛ قافلة باكون وكبلر وديكارت وسبينوزا وليبنتز ونيوتن وبَسكال ورهطٍ كبير من الأدباء، وتستمر متسلسلةً في قافلة القرن الثامن عشر؛ قافلة مونتسكيو وروسو وكوندياك وهيوم ولوك ولامتري وآدم سمِث وكسناي وفولتير وهلفيثيوس وديدرو وكوندورسه ودولباخ وغيرهم وغيرهم …
وحسْبنا، وفاءً للغرض من هذا الكتاب، أن نُعيد القول إن حركة الإحياء، مع ما ساوقها أو تبعِها من النهضة الصناعية في أوروبا، ومن حركة الانفصال البروتستَنتي، قد شجَّعَت روح البحث المستقل، ووطَّدَت الثقة بالعقل، ووافقَت نهضةً علمية كبيرة، وأَسفرَت عن تغيُّرٍ عميق في نظَر الإنسان إلى نفسه.
أفاق المفكرون والأدباء الفرنسيون (وهم موضوع الحديث في هذا الفصل) على المجتمع الفرنسي، قبل الثورة في القرنَين السابع عشر والثامن عشر، فوجدوا أن معظم الفرنسيِّين، من حيث وضْعهم في المجتمع والدولة ومسالك السياسة، إنما هم وسائلُ لبعض الفرنسيِّين، وليسوا غايةً أيضًا كما يحق لهم أن يكونوا.
وعَمَدَ المفكِّرون والأدباء الفرنسيون إلى الاحتجاج على الحالة الراهنة، وتلمُّس أسباب الفساد، ووضع الخطَط، ورسمِ هيئة المجتمع الجديد.
وكان من اليقظة العظمى التي ثارت ثورتها مع حركة الإحياء، والنهضة الصناعية، وحركة الإصلاح البروتستنتي، وفورة البحث والاستنباط العلمي، مرجعٌ يستمدُّون منه، ودليلٌ يسترشدون به.
وقد ذكرنا كيف أن هذه الحركات نشَّطَت العلم وصَرفَت إليه الجهود. والعلم صرحٌ يرتكز على دعائم العقل؛ فلا علم بلا عقلٍ يختبر بالاستناد إلى الحواس والأدوات الفنية المساعدة لها، ولا علم بلا عقلٍ يرجع إلى قوانين المحاكمات العقلية لا إلى موجبات النقل والتقليد، ثُم لا علم بلا مباشرة الطبيعة؛ فالطبيعة، بما فيها المخلوق الإنساني، هي ميدانُ العلم ومجالُه الذي فيه يخوض؛ فلولا الطبيعة لبقي العلم بلا موضوع، أو لَما كان علم.
وهكذا اتجه المفكرون والأدباء الفرنسيون إلى العقل يصقُلونه ويتسلَّحون به، وإلى الطبيعة يدرسونها ويتعلمون منها، واستعملوا ذلك كله في بحث الاجتماع والدولة والسياسة، وفتحوا الأنظار على النقص الهائل، واشتقُّوا طُرقًا إلى الإصلاح.
لكننا، إذا رحنا نتأمَّل التيار الثوري الفكري في القرن السابع عشر في فرنسا، لم نجد لافونتين منغمسًا فيه انغماسًا صريحًا، وكان حتمًا علينا أن نُدير النظر شطر طائفةٍ من الأدباء والمفكرين يُمثِّلها لبرويير وفنيلون.
كان لابرويير في ملاحظاته وأحكامه الخُلُقية يرى الناس فريقَين: الشعب والعظماء (بمعنى النفوذ والوجاهة في المجتمع). «أمَّا الشعب فلهم باطن طيِّب (جوهر صالح) وليس لهم مَظهرٌ البتة، وأمَّا العظماء فليس لهم إلا الخارج، إلا المظهر وقشرةٌ بسيطة. أيجب الاختيار؟ إني لا أَتردَّد، أريد أن أكون شعبًا» (أي من الشعب).
إن الشعب نفسه (ينبغي أن أُصرِّح لك بكل شيء)، هذا الشعب الذي أحبَّك كثيرًا، ووثِق بك كثيرًا، أخذ الآن يفقد حبه وثقته واحترامه، حتى احترامه لك … إنه ممتلئ مرارةً ويأسًا، والشقاق يشبُّ شيئًا فشيئًا من كل ناحية. إن الشعب يعتقد أنك لا تُحب غير سلطتك ومجدك؛ فهم يقولون: لو كان للملك قلب الأب على شعبه أمَا كان يُؤْثر أن يبذل مجده في إعطائهم خبزًا وتنفيس كُربتهم بعد هذا الأذى الكثير؟ … فما جواب ذلك، أيها السيد؟ ثم يذكر فنيلون أعمال العصيان التي طفِق الشعب يقوم بها، إلى أن يقول له: «فأنت الآن قد انحطَطتَ إلى هذه النهاية المعيبة المحزنة؛ فإمِّا أن تدَع العصيان وشأنه لا تُعاقِب عليه، وإما أن تزيده وتُقوِّيه بتغاضيك عنه، وإمَّا أن تجزر بقسوةٍ شعبًا طَرحتَهم مطرح اليأس إذ نزعتَ منهم، بالضرائب لهذه الحرب، خبزًا يَسعَون إلى إحرازه بعرق جباههم!»
وفي فنيلون نجد مبدأ اعتبار العقل والرجوع إليه في الأحكام صريحًا واضحًا. يقول الراهب المفكر: «أنا في هذا العالم لا أدري من أين جئتُ ولا كيف وقعتُ هنا، ولا أدري إلى أين أمضي، وبعضهم يُحدِّثني عن أمور كثيرة ويعرضها عليَّ باعتبارها غير قابلة النقاش، ولكني مُصمِّمٌ على الشك فيها، بل على رفضها، ما لم أجد أنها تستحق إيماني بها. ومنفعة العقل الصحيحة — العقل الذي وُهب إليَّ — هي ألا أومن بشيءٍ ما لم أعرف سبب إيماني به.»
وأهم ما أنتجه هذا الأستاذ الواسع العميق من أساتذة الفكر: قاموس تاريخي وانتقادي. ويمكن القول إن كل نشاطه الفكري ينتهي إلى تقرير حق العقل وحق الضمير في البحث الحر والرأي المستقل. وقد لخَّص هذا المبدأ في قوله: «لنا حق لا يُهضم ولا يُثلم، هو: حق إعلان المذاهب التي نعتقدها موافِقةً للحقيقة المجرَّدة»، وفي قوله أيضًا: «أعظم المحاكم التي هي المرجع الأخير — لا استئناف منها إلى غيرها! — محكمة العقل الذي يقول مهتديًا بالبديهيات الصادرة عن نور الطبيعة.»
وتُطالعنا في خلال هذا القرن ستة وجوهٍ رئيسة: مونتسكيو، وديدرو، وفولتير، وروس، وهلفثيوس، ودولباخ.
أمَّا مونتسكيو، صاحب «روح القوانين والرسائل الفارسية»، فهو الذي حاول أن يكتشف في التاريخ عواملَ أساسيةً تجعل من حوادثه ظاهراتٍ مفهومة، لا صُدفًا واتفاقات؛ فهو من هذا القبيل شبيهٌ بابن خلدون في مقدمته. ويتصف مونتسكيو بكثرة الرجوع إلى أَثرِ العامل الجغرافي في التاريخ. على أن توسيع البحث في هذا المضمار يخرج بنا عن القصد، وحسبنا أن هذا المفكر الفرنسي نظر إلى التاريخ نظرةً عقلية، وردَّه إلى عواملَ من البشر ومحيطهم، لا إلى أسبابٍ خارجة، وإلى العقل الإنساني ردَّ الشرائع والقوانين باعتبارها مظهرًا من مظاهر التاريخ، قال: «القانون، بوجه عام، هو العقل البشري، ما دام العقل هو الذي يحكُم شعوب الأرض جميعًا. والقوانين السياسية والمدنية — فيما يتعلَّق بكلِّ أمة — يجب ألا تكون إلا الحالات الخاصة التي يقع فيها تطبيقُ العقل البشري.»
- (١)
تلك التي تُرتِّب نظام الدولة، كعلاقة المواطنِين بالسلطات، وعلاقة السلطات المختلفة بعضها ببعض (وهو ما نُسمِّيه الدستور أو القانون الأساسي).
- (٢)
القوانين المدنية التي تُشرف على علاقةِ المواطنين بعضهم ببعض (وهي ما نُسمِّيه الحقوق المدنية والجنائية).
- أولًا: السلطة التشريعية.
- ثانيًا: السلطة التنفيذية التي تُجري الأمور المتعلقة بحق الناس.
- ثالثًا: السلطة التنفيذية التي تُجري الأمور المتعلقة بالحق المدني.
وواضحٌ ما كان لهذا التقسيمِ من أَثرٍ في التصميم الذي اختطَّه رجال الثورة الكبرى في الدولة الفرنسية، بل واضحٌ ما في هذا التقسيم من أثرٍ بارز إلى اليوم في بناء الدول، ولكن السلطة التنفيذية (رقم ٣) أصبحت في تعبيرنا تُسمَّى السلطة القضائية.
ويشيد مونتسكيو بالمساواة، ولكنه لا يقصد بها انتفاء الحكم؛ «فالمساواة الصحيحة لا تستهدف أن يخلو الإنسان من آمر، بل تستهدف أن يكون آمره مساويًا له»، و«الناس في الحكومة الجمهورية متساوون، وكذلك هم في الحكومة المستبدة؛ ففي الأولى هم متساوون لأنهم كل شيء، وفي الثانية هم متساوون لأنهم ليسوا شيئًا.» ومع هذا لم يكن مونتسكيو جمهوريًّا، بل كان أمْيَل إلى حكم الملكية المقيَّدة (أي الدستورية).
ويُلقي مونتسكيو على عاتق الدولة واجب النظر في تأمينِ راحةِ رعاياها الاقتصادية، فيقول:
«إن بعض الصدقات التي نتكرَّم بها على رجلٍ عارٍ في الشارع لا تُغني عن واجبات الدولة التي يلزمها أن تجعل لكل المواطنِين حياةً مضمونةً؛ غذاءً وكساءً صالحًا، ونوعًا من معيشةٍ لا يُنافي الصحة.» غير أن مونتسكيو كان في هذا سابقًا لعصره ولهدف الثورة الفرنسية.
وله في تعريف الحكومة الاستبدادية كلمةٌ رائعة حيث يقول:
وقد يكون من المُفكِّرين من ينكر على مونتسكيو ثورته وتأثيره الثوري. وصحيحٌ أن الرجل كان كما أسلفنا أمْيَل إلى الملكية المقيَّدة؛ فهو من هذا القبيل معتدل، ثُم هو لا ينظر في السياسة إلى ناحية المبادئ وحسب، بل ينظر أيضًا إلى الذين تُطبَّق عليهم المبادئ، ويحسب الحسابات لجملة اعتباراتٍ أخرى منها الإقليم والمناخ. ثم هو يُعرِّف الحرية بأنها الخضوع للقانون الكامل. وليس في هذا كله ما يُلغي ثوريته وتأثيره الثوري؛ فالاعتقاد بالملكية الدستورية كان مذهبًا انقلابيًّا خطرًا في فرنسا يوم ذاك، وأَوجَه أعلام الثورة الفرنسية في مفتتح شأنها كميرابو وباراناف وسيياس، كانوا ملكيِّين دستوريِّين، بل إن الثورة نفسها في أول عهدها لم تكن تستهدف إعلان الجمهورية وإلغاء الملكية. وتقسيم النظر بين المبادئ والذين تُطبَّق عليهم يزيد في قيمة مونتسكيو العلمية ولا يُعارض ثوريته. أمَّا رأيه في الحرية أنها الخضوع للقانون الكامل فمغزاه يتوقف على المقصود بالقانون الكامل. ومهما يكن من شيء فإن مونتسكيو لم يعنِ به القانون الاستبدادي. أمَّا القانون، أصلًا، والرضوخ له، فأمرٌ لا يشكُّ عاقلٌ في أنه شرطٌ من شروط الحرية ووقايتها.
ومن مونتسكيو ينتقل بنا الحديث إلى فولتير، مَلِك القرن الثامن عشر غير المتوَّج كما لُقِّب، والعاهل الذي ليس له صولجان ولكن له يراعٌ كما قال هو عن نفسه لفردريك الكبير البروسي.
أضحك فولتير فرنسا وأوروبا على الدعوى والسخافة والتعصُّب والتذرُّع بحماية المناصب والمقامات، وأَغضَب فولتير فرنسا وأوروبا على جميع هذه العاهات والآفات.
كان إذا باع وكيل الخرج في بلاط لويس الرابع عشر نصف الخيول من إسطبلات الملك يصيح: كم كان أقرب إلى المعقول لو صرف نصف الحمير الذين يعجُّ بهم البلاط الملكي! فكان الفرنسيون يقهقهون بالطبع، ثُم لا يلبثون أن يتأمَّلوا بذَخ البلاط ويستنكروه ويسخطوا عليه.
ولعل أوَّل سؤالٍ ينبغي لقارئ فولتير أن يسأله: هل الرجل جادٌّ في كلامه أم عابث؟ وسيرى أنه كثيرًا ما يكون صاحب جدٍّ عظيمٍ فينظر إلى الشعب «يسبِّح الله ويرقص حول الجزَّار»، ويستمع إلى الإنسان يصرخ بجاره: «فكِّر كما أفكِّر يا قليل التقوى وإلا قتلتُك»، فيحاول الفيلسوف تعليل ذلك ويقول:
السبب أننا خنقنا صوت الطبيعة.
السبب أننا أضفنا إلى شريعتها المقدَّسة شرائع.
السبب أن الإنسان — وهو محبٌّ لعبوديته البلهاء — قد جعل الله على صورته ومثاله من شدة تعصُّبه!
وفولتير هو صاحب ذلك الابتهال البليغ الذي زفَّه إلى الله في مطلع رسالته في التسامُح، ومنه: «إنك لم تُعطِنا قلبًا لنتباغض، ولم تمنحنا الأيدي ليخنق بعضنا بعضًا.»
أمَّا الوطن «ففي ظل مَلِكٍ صالحٍ يكون للإنسان وطن، ولكنه في ظل ملكٍ شريرٍ لا وطن له.» هكذا يقول فولتير.
وفولتير في الأنظمة كمونتسكيو أمْيَل إلى الملكية الدستورية.
يؤدي بنا الحديث إلى دنيس ديدرو، فإذا نحن أمام الروح المحرِّك لذلك العمل العظيم الذي وُسم بميسم متلألئ جبين القرن الثامن عشر؛ نقصد الإنسيكلوبيديا التي ساهم فيها عدد من أعلام العصر، ولكن لم يبلغ فيها نشاطُ أحد منهم ما بلغه نشاطُ ديدرو وعناده. وكان في فرنسا قانون مطبوعات أُعلن سنة ١٧٥٧، يُهدِّد بالإعدام كلَّ كاتبٍ أو طابع ينشر كتابًا تقضي السلطات أن من شأنه «الإخلال» و«التحريض». على أن هذا الخطر وجميع الصعوبات الأخرى لم تُوهن عزيمة الرجل. ومن يقرأ له صرخته الممزقة احتجاجًا على تشويه المراقبة لعمله في الإنسيكلوبيديا لا يملك إلا أن يرتعش إعجابًا بتلك النفس الكبيرة المعذَّبة.
وكان ديدرو عميق الشعور بطبيعة عصره الانقلابية، لا سيما فيما يتعلق بالعلوم. «نحن على عَتبةِ ثورةٍ عظيمةٍ في العلوم.» ولعل أحدًا في فرنسا لم يُمثِّل، كما مثَّل ديدرو، روح الثورة الصناعية الممتدة من الجزر البريطانية إلى فرنسا عَبْر القناة. وكم كان اهتمامه عظيمًا بالآلات! كان كفرنسيس باكون الإنكليزي يُحس بما سيكون لهذه المستنبطات من أثرٍ يغيِّر طابع الحياة؛ فكان كثيرًا ما يُشاهَد في حوانيت النجارِين، وفي مختلف أماكن العمل، يرسم الآلات بقلمه ويُسجِّل أوصافها وخصائصها ليُدخلها في الإنسيكلوبيديا.
حقًّا إن ديدرو كان في ميدان الفكر طليعةً صريحة للطبقة الصناعية النامية في المجتمع الفرنسي إذ ذاك، وهي الطبقة التي سنرى أنها بدَّلَت فرنسا تبديلًا بثورة سنة ١٧٨٩.
وكانت ثوريته حادَّة في جميع الآفاق التي تناولها بتفكيره. وبينما نجد أحيانًا في قراءة فولتير مجرَّد دعوةٍ إلى الضحك على آفات الأوضاع القائمة، نُحس أبدًا في ديدرو دعوةً إلى العمل.
وإن القارئ ليُصادف عنده أفكارًا وتعابير يُصادفها هي ذاتها في الثورة الكبرى.
يثق هلفثيوس ثقةً قوية بفضيلة الشعب والإنسان، ويعتقد أن شرور الشعب ترجع جذورها إلى القوانين؛ فهناك ينبغي أن يحفر كي يكشف عن شرور الشعب … والشارع الصالح هو الذي ينشئ المواطن الصالح، وبالقوانين الفاضلة وحسب يمكن إنشاء رجالٍ أفاضل.
وهكذا يعلِّق هلفثيوس أهمية كبرى على صلاحية القوانين، ولكن نظرته الشاملة مبنيةٌ أصلًا على قاعدةٍ من التربية الصالحة. يقول: «إذا استطعتُ أن أدُل على أن الإنسان ليس في الواقع إلا نتيجة التربية فأكون بلا شك قد أعلنتُ حقيقةً عظيمة للأمم.» ويتساءل: «من يستطيع أن يشُك شكًّا جازمًا بأن فروق التربية ليست هي التي تُنتج الفروق التي نجدها في العقول؟ من يستطيع أن يتأكد من أن الناس ليسوا كالأشجار التي هي من فصيلةٍ واحدة، بَذرتها البَذرة نفسها، ولكنها لما كانت لا تُزرع في التربة نفسها، ولا تُعرَّض للرياح نفسها، ولا للشمس نفسها، ولا للمطر نفسه، فقد لزِمها في النشأة والنمو أن تتشكل بعددٍ لا نهاية له من الأشكال.»
ولا ريب أن هذا رأيٌ فيه كثيرٌ من المغالاة، ولو فرضنا من الممكن أن يصبح الناس بالتربية نُسَخًا بعضها طبق بعض كما قد يُشير كلام هلفثيوس لكان ذلك شيئًا مُستكرَهًا. على أن هلفثيوس أعلن عقيدةً ثورية بعيدة المرمى إذ قال: «إن استنتاجي العام هو أن العبقرية عامة»، فنسف بذلك رأيًا يقول إن العبقرية وقفٌ على عِرْقٍ من الناس أو فئاتٍ خاصة من المجتمع، وقوَّى الثقة بكفاءات الشعب والإنسان. وجاءت حوادث الثورة مؤيدةً له ومُحيِّرةً أفهامَ الكثيرِين ممن كانوا يزعمون أن الجيش الفرنسي الثوري لا يُجدي فتيلًا ما دام أفضلُ ضباطه وقوَّاده قد هاجروا أو طُردوا أو أُعدموا؛ فلم يلبث هذا الجيش أن أتى بأعمالٍ عسكرية أَدهشَت أوروبا بقيادةِ قادةٍ برزوا من أعماق الشعب كهوش ونابليون نفسه!
أما صيغة هذه القوانين فتُشتقُّ من طبيعة السياسة العامة. والسياسة العامة في نظره يجب أن تكون فنَّ تنظيمِ ميول الإنسان وتوجيهها إلى إنعاش المجتمع، وإلى تيارٍ عامٍّ من السعادة. إنها يجب أن تُنظِّم عواطف الإنسان لتجعلها تنسلك انسلاكًا لطيفًا من أجل نفع الجميع منفعةً عامة.
فينتج من هذا أن القوانين ينبغي لها أن تكون في مصلحة المجموع، لا في مصلحة ذوي المقامات وحدهم.
وهنا يذهب بنا الكلام إلى جان جاك روسو، وهو أشد المُفكِّرِين صلةً بالانقلاب الفرنسي الكبير، وقد يُلقَّب كتابه «العقد الاجتماعي» بإنجيل الثورة. وكان روبسبيير من تلاميذه المُتمسِّكِين به، وكان ماراه الزعيم الشعبي يقرأ منه صفحاتٍ للجماهير في شوارع باريس.
فكيف تقهقر الإنسان إلى الحالة التي شاهده عليها روسو في المجتمع؟ وكيف يمكننا أن نتلافى الشر ونصعد بالمخلوق الآدمي إلى حيث هيَّأته كفاءاته الأصيلة؟
يقول روسو إن الإنسان لمَّا حاد عن طريق «الحالة الطبيعية» أُصيب بالانحطاط. وهذا طبعًا لا يعني أن الفيلسوف الفرنسي قصد فعلًا أن يعود الإنسان إلى حالته في فجر التاريخ. وفولتير لمَّا كتب إلى روسو رسالته الشهيرة يُنبئه فيها أنه شوَّقه إلى «الدبيب على أربع» شأن الحيوانات إنما انساق بدافعِ نكتةٍ موفَّقة. وخُلاصة ما ذهب إليه روسو هو أن الإنسان بَذرةٌ صالحة في الطبيعة، فإذا وافقتها عنايةٌ صالحة وجوٌّ صالح نمت نموًّا أقرب إلى شروط الكمال والفضيلة؛ ولذلك اهتم روسو اهتمامه العظيم بالتربية من جهة، وبنظام الحكم من جهة أخرى، فألَّفَ كتابَيه الخالدَين «إميل» و«العقد الاجتماعي».
في العقد الاجتماعي، وهو الكتاب الذي يمس صميم موضوعنا، يقول روسو: إن الناس، إذ يخرجون، أو يُضطرُّون إلى الخروج، من الحالة الطبيعية بفعل تقدُّم التاريخ، يتعاقدون على أن يتنازل كلٌّ منهم عن امتيازات الحياة التي يتمتع بها في تلك الحالة. لكنهم لا يتنازلون هذا التنازُل إلا لأن هذا التعاقد يضمن لهم في حالة الحياة الجديدة حقوقًا لا غنى لهم عنها ولا قيمة للاجتماع إلا بها، وفي طليعة هذه الحقوق: الحرية. والحرية في نظر روسو ليست الانسياقَ لنزوات العاطفة؛ فتلك هي العبودية، بل ليست الحرية الطاعة للقانون كما يعتقد مونتسكيو، ولكنها الطاعة للقانون الذي تسنُّه الأكثرية.
أمَّا موئل السيادة في نظر روسو فهو الإرادة العامة. وبمقدار ما تمثِّل الحكومة التي تنبثق من إرادة الجميع (أي إرادة الأكثرية) مشيئةَ الإرادة العامة، تكون الحكومة شرعيةً موفَّقة. وللإرادة العامة الحقُّ في استرداد الثقة من كلِّ حكومة لا تمثِّلها كما يجب، وهذا الاسترداد للثقة يجوزُ عند الضرورة أن يتخذ صيغة الثورة.
ويَلحَق بغورناي وكسناي الوزير الشهير ترغو الذي حاول التوفيق بين هذَين المُفكِّرِين الاقتصاديِّين، وأخرج للملك بَرنامجَ إصلاحٍ قبل الثورة لم يوفَّق إلى تنفيذه.
ومن المُفكِّرِين الفرنسيِّين الذين لا بُد لنا من ذكرهم في هذا القرن: موريلِّي، مؤلف كتاب «قانون الطبيعة». وكان بابوف، الثائر الفرنسي الذي اشتقَّ نغمةً اشتراكية جديدة في الثورة أيام حكومة «الإدارة»، يُكثر الرجوع إليه ويستقي من آرائه.
ولعلَّنا، وقد بلغنا هذا المبلغ من بحث الفكر الفرنسي، بتنا نلمس صحةَ ما قُلناه من أن المُفكرِين والأدباء الفرنسيِّين أفاقوا على المجتمع، قبل الثورة، في القرنَين السابع عشر والثامن عشر، فوجدوا أن معظم الفرنسيِّين، من حيث وضعهم في الهيئة والدولة ومسالك السياسة، إنما هم وسائلُ لبعض الفرنسيِّين، وليسوا غايةً كما يحِق لهم أن يكونوا، فعَمَد هؤلاء الأدباء والمفكرون إلى الاحتجاج على الحالة الراهنة، وتلمُّس أسباب الفساد، ووضع الخطط، ورسم هيئة المجتمع الجديد. وكان لهم من «العقل» مصباح، ومن «الطبيعة» دعامةٌ يرتكزون عليها. وكان لنشاطهم وتوجيههم أثرٌ بليغٌ في الثورة ونهضتها. ولقد أدَّى الثوار سنة ١٧٨٩ واجبهم في الاعتراف بفضلهم؛ إذ نقشوا بيان حقوق الإنسان الخالد وجعلوا في أعلاه عينًا مُطلَّةً مضيئةً هي «عين العقل الرفيعة التي طَلعَت تُبدِّد سُحُب الجهالة!»
على أن المفكر، إذ يفكر، قليلًا ما يتخلل تفكيره عامل الوعي والإدراك لمعنى عمله اجتماعيًّا وتاريخيًّا؛ ولذلك كثيرًا ما نجد في المفكر — أديبًا كان أو شاعرًا أو فيلسوفًا — مزيجًا من التفكير «الطوبي» الخيالي حول «ما يجب أن يكون» إطلاقًا، والتفكير حول «ما يمكن أن يكون» نسبةً إلى الوضع التاريخي، بل كثيرًا ما نجد في المفكر الواحد مزيجًا مما يخدم القديم ومما يخدم الجديد؛ لأن المفكر قلَّ أن يسائل نفسه مَنْ يخدم اجتماعيًّا وتاريخيًّا بعمله، بل هو قد يظن نفسه ينهض بشيء فتكون النتيجة غير ما ظنَّ وما نوى. كان لوثر، مثلًا، ينعت العقل بأقبح النعوت: «مومس الشيطان»، «عروس الشيطان»، «أعدى أعداء الله» … إلخ، ومع ذلك فإن الإصلاح الذي كان لوثر رأس دعاته في الكنيسة خدم العقل وحق العقل في المحاكمة والبحث الحر. وعلى هذا يكون للتاريخ منطقٌ غير منطق الأفراد وإرادة الأفراد.
ومن التأثيرات في تكوين المفكر ما تخفى عليه وتعمل فيه عملها صامتةً وهو غيرُ شاعرٍ بها. ومن هنا كان رأي المفكر في نفسه، كرأي كل إنسان، لا يصح الاعتماد عليه في حالات كثيرة.
وقد يتفق أن يكون تفكير المفكر غير صحيح كل الصحة من حيث الحقيقة التاريخية أو العلمية، ثم لا يمنعه ذلك من أن يُؤثِّر أثره إذا استطاع أن يتناول الجماهير ويُحرِّكها؛ فالمُهم في قيمة الفكر — بصفة كونه مُؤثِّرًا تاريخيًّا — هو أن تقبَلَه الجماهير وتعملَ به. ولا شك في أن الفكر كلما ازداد نصيبه من الصحة قبِلَته الجماهير مدًى أطول، وعملت به عملًا أنشط وأثبت؛ وتلك فرضية روسو مثلًا عن «الحالة الطبيعية» Etat de Nature يغلب أنها غير صحيحة من حيث الحقيقة التاريخية. على أن هذه الفرضية وما بنى عليها المفكر الفرنسي من قواعد في الحكم والسياسة وافقَت مطالب الجماهير الفرنسية ووَجدَت سبيلها إلى قلوبهم وعقولهم فتأثَّروا بها في ثورتهم الكبرى. ولمَّا كان مغزى هذه الفرضية ومرماها صحيحَين في ضوء الاتجاه التاريخي وخدمة أغراضه، كان البناء عليها أثبتَ وأرسخَ من البناء على أفكار ونظريات كالتي تدَّعيها النازية مثلًا؛ فمنذ سنوات كان موسوليني وغوبلز يصيحان: إن عام ١٧٨٩ سيُلغى من التاريخ. وعام ١٧٨٩ هو عام «حقوق الإنسان» المرتكزة إلى نظريات روسو وغيره من مماثليه؛ فبعد أن ثبتت هذه الحقوق دورًا تاريخيًّا طويلًا إلى أن قام موسوليني وغوبلز يعلنان «انتهاءها»، أقبلَت هذه الحرب، وقد بدأ التاريخ يقول فيها كلمته، وهي: إن موسوليني وغوبلز نفسَيهما سيُلغيان، وسيظل عام ١٧٨٩ حجرًا ضخمًا أساسيًّا في بناء العالم الجديد.
(هذه ملاحظاتٌ سريعة أحببنا أن يجعلها القارئ نصب ذهنه وهو يطالع هذا الفصل.)
ويُلاحَظ أن معظم المستنبطات التي كانت ضرورةً حيوية لنهضة أوروبا انتقلت إلى الأوروبيِّين على يد العرب من الأندلس وشمالي أفريقيا، أو صقلية، أو سوريا في عهد الصليبيِّين؛ فالبارود مادةٌ قبَس العرب صنعها من الصينيِّين وحسَّنوها لخدمة المقاصد الحربية إذ جعلوها أقوى وأشد انفجارًا. وكذلك البوصلة عرفها العرب من الصينيِّين وانتقلت إلى أوروبا على يدهم. والتأثير الذي تَركَته الأسفار العربية البحرية والروَّاد العرب على المكتشفين الأوروبيِّين كان كبيرًا. ورحلة كولومبوس التي انتهت بكشف القارة الأميركية قد سبقَتها محاولةٌ عربية أندلسية لِشقِّ بحر الظلمات (الأتلنتيك) وارتياد ما وراءه (راجعها في التاريخ الذي كتبه الدكتور فيليب حتِّي عن العرب بالإنكليزية، فصل: ما حقَّقَته الحضارة العربية الأندلسية). أمَّا الورق فقد عرفَه العرب من الصينيِّين أيام عبد الملك بن مروان الخليفة الأُموي الكبير، وبَلغَت في الأندلس صناعةُ القراطيس من القطن والخرق مبلغًا عظيمًا.
وينبغي لنا أيضًا ألا ننسى أَثَر القسطنطينية، قاعدة الإمبراطورية البيزنطية، في بعث حركة الإحياء الأوروبية؛ فلما احتل الأتراك العثمانيون هذه العاصمة سنة ١٤٥٣ تشرَّدت منها طائفةٌ كبيرة من علماء الإغريق والإغريقيات فلجئوا إلى إيطاليا في الغالب، وساعدَت الحروب بين الإمارات والدويلات الإيطالية على تشريدهم في أوروبا، فبثُّوا معارفهم فيها، وأذاعوا ذكرى كثيرٍ من كنوز القديم اليوناني، فكانت حركةَ بعثٍ بلغ من قوتها ومداها أن سمَّاها المؤرخون «حركة الإحياء الصغيرة» توطئةً للحركة الكبيرة.