عبد الله النديم (١٢٦١–١٣١٤ﻫ)
نحن معاشرَ الشرقيِّين في حاجةٍ إلى نقدِ الأفكار وتفتيشِ الآراء حتى فيما يصدر منا في الشئون الأهلية لنبذ الضار والأخذ بالنافع؛ فقد يصدر الرأي من إنسانٍ عن الإخلاص ويكون قد تلوَّت عليه المطالب، فيخرج الرأي فطيرًا يضُرنا الأخذ به، وإن كان صاحبه لم يُقدِّر الضرر. ولا ينبغي الاعتماد على ذوي المظاهر العلمية والإدارية قبل أن نعرض أفكارهم على المبادئ والخواتيم؛ فإن الحائز لثقة الناس به كثيرًا ما تدعوه العجلة للسقوط في وهدة الارتباط فيقول من غير تروٍّ ويعمل بغير تدبيرٍ لعلمه بأنه لا يُعارَض قوله ولا يُقبَّح عمله. وقد دَرسَت الأمم الغربية هذه المُقدِّمات وعلِمَت ما وراء الاقتداء بالنزلاء وأهل الشهرة من الانحطاط، فاعتَمدَت على مجالس شوراها لتستخلص من تضارُب الأفكار واختلاف الأحزاب قواعدَ لا تنقُضها الحوادث وقوانينَ تُلائم التابع والمتبوع وتبقى بها دعائم الدولة قائمةً على أساسٍ متين. ولم تتوصل لهذا المقصد الحسن إلا باعتمادها على من يخوض لجج المنايا في حفظ وطنه من طامعٍ في امتلاكه أو عادٍ على أهله. وبهذا التمحيص نَجحَت أعمالهم وقوِيت شوكتهم ونَفذَت سلطتهم وتخطَّت سطوتهم أوطانَهم إلى غيرها فتحًا واستعمارًا.
وقد توالت الأعوام والجرائد تنقل لنا، معاشر الشرقيِّين، أخبار أولئك الفائزِين وتشرح لنا من أعمالهم التي حيَّرت الأفكار وأَدهشتِ العقول ما ساعدهم عليه تمحيص الرأس وتوحيد الكلمة وتمحيص المُتشاورِين، ونحن قعود على قارعة الكسل والتهاون نكتفي بالتفرُّج على الأمم العاملة ونفرح بما نراه من فوزها ونغضب إذا تأخر فريقٌ منها. وقد انصرفنا عن مصالح أوطانِنا وعَمِينا عن طريق تقدُّمنا وحيلَ بيننا وبين مجاراة هؤلاء العقلاء بسور الأنفة من استشارة الفقراء ومفاوضة الضعفاء وإن كانوا قد امتلئوا علمًا وكسبوا نباهةً، فإذا عوَّلنا على التشاور يومًا جمعنا أرباب الأموال وأهل الوجاهة من غير تخيُّر العقلاء منهم ولا تمييز الأغبياء من الأذكياء، وحشرنا هذا الشتيت في قاعةِ حبسٍ لا يراهم فاضل ولا يسمعهم خبير، فيحيصون حيصةً تنجلي عن نكباتٍ تُجلَب في صُور مضارَّ تُدفع أو منافعَ تُصنع، وليس وراء هذا التقصير غير التدمير. ولئن قيل إن التجارب دلَّتنا على أن الشورى لا تنجح في الشرق، أو أن الشرقيِّين غير عقلاء كما يزعم مُحبو الأثرة والانفراد بالتسلُّط، قلنا: إن اتحاد الشرقي مع الغربي في الخلق يردُّ هذه الدعوى الباطلة، وإنما ثابر الغربيون على العمل بالشورى وأخذوا يُصحِّحون الأغاليط ويُراجعون الخطأ ويتبادلون الجدل عن عزائمَ صادقة حتى تربَّت المَلَكات وتصوَّرت المطالب أمامهم بصُور الواقعيات، وما أوصلهم لهذه الغاية إلا اعتمادهم على الفُضلاء والأذكياء منهم، حتى اضطُر الأغنياء والوُجهاء لدراسة العلوم والفنون السياسية التي بها ترشَّحوا للدخولِ في أندية الشورى. وما زالوا يُزاولون ويبحثون في الأُمم والدول حتى قبضوا على أزِمَّة المُلك بعصبيةٍ قوية ووقفوا أمام ملوكهم حصونًا تقيهم الفتن الداخلية والغوائل الخارجية، فماذا على الشرقيِّين لو جاروهم في هذه الطريق وهي سهلةٌ لا حزن فيها ولا وعورة، ولا يلزم للدخول فيها أكثرُ من انتخاب العُقلاء والفُضلاء وانسلاخ أهل الذاتيات لنخرج من مضيق هذه المصيبة التي أُصيب بها بعض نُبهاء الشرق من خدمة الأجنبي ناقص حملةٍ كاملة من جهة وتغافُل الملوك عنهم من جهةٍ أخرى.
وهم (الملوك) قادرون على تربية أبناء بلادهم على حب الوطن والملَّة والدولة وتدريبهم على الأعمال الإدارية والحربية والصناعية وترقيتهم بقَدْر استحقاقهم، وسدِّ باب الأجنبي أمامهم بإعطائهم الحقوق الوطنية والملكية وتسليمهم الأعمال العالية التي ترشَّحوا لها واستعدُّوا للقيام بأعبائها؛ فإنهم إن فعلوا ذلك ملئوا صدور الأُمم محبةً لهم واستمالوهم إليهم فكانوا أسهل انقيادًا إليهم من رجال انقيادًا إليهم من رجال الاستعباد؛ فإن المستعبَد يُقاد اضطرارًا، وهذا يخدم اختيارًا، وشتَّان بين الحالتَين. وسنعود لهذا الموضوع إن شاء الله تعالى مُعتمدِين على الشواهد القرآنية والأعمال النبوية مؤيِّدِين ذلك بما كان أيام الخلفاء الراشدِين، ليتحقق الشرقيُّ أن السلامةَ والنجاحَ في الشورى وأخذ آراء المحنكِين العارفِين بالأمم وأحوالها.