عبد الرحمن الكواكبي (١٨٤٩–١٩٠٢)
(١) تعريف الاستبداد
الاستبداد لغةً هو اقتصار المرء على رأي نفسه فيما تنبغي الاستشارة فيه، وبعبارةٍ أخرى الاستبداد أن يحكم الحاكم بأمره حسَب هواه وأمياله.
يُراد بالاستبداد عند إطلاقه استبداد الحكومات خاصةً لأنها هي أقوى العوامل التي جعلَت الإنسان أشقى ذوي الحياة ولو أنصفَت لجعلته أسعد الخلائق. وأمَّا تحكُّم رؤساء بعض الأديان وبعض العائلات وبعض الأصناف فيُوصف بالاستبداد مجازًا أو مع الإضافة لأن ضرره يقتصر على البعض دون الكل.
والاستبداد في اصطلاح السياسيِّين هو تصرُّف أفرادٍ أو جمعٍ في حقوق قومٍ بلا خوفِ تبعةٍ أو احترامِ شريعةٍ إلهية أو قانونٍ بشري.
وقد تطرق مزيدات على هذا المعنى فيستعملون في مقام كلمة «استبداد» كلمات: استعباد واعتساف وتسلُّط وتحكُّم. في مقابلتها كلمات: شرع مصون، وحقوق محترمة، وحس مشترك، وحياة طيبة.
ويستعملون في مقام صفة «مستبد» كلمات: حاكم بأمره، وحاكم مطلق، وظالم، وجبَّار. يقابلها: حاكم بالشورى، وحاكم مقيَّد بقوانين، وعادل، ووديع. وفي مقابلة حكومات مستبدة كلمات: عادلة، ومسئولة، ومقيَّدة، ودستورية.
ويستعملون في مقام صفة «مُستبَد عليهم» كلمات: أَسْرى، وأذِلاء، ومُستصغَرِين، ومُستنبَتِين. وفي مقابلتها: محتسبون، وأُباة، وأحرار، وأحياء.
هذا تعريف الاستبداد بأسلوب ذكر المرادفات والمقابلات. وأمَّا تعريفه بالوصف فهو أن الاستبداد صفةٌ للحكومة المطلقة العِنان التي تتصرف في شئون الرعية كما تشاء بلا خشيةِ حسابٍ ولا عقاب مُحققين.
ومنشأ الاستبداد إمَّا هو من كون الحكومة غير مكلَّفة بتطبيق تصرُّفها على شريعة أو على أمثلة أو على إرادة الأمة، وهذه حالة الحكومات المُطلَقة التي تخلَّصَت من قيود القوانين بجهل رعاياها، وإمَّا من كونها مقيَّدةً بنوعٍ من ذلك ولكنها تملك بنفوذها إبطال قوة القيد بما تهوى، وهذه حالة أكثر الحكومات التي تسمي نفسها بالمُقيَّدة. والصحيح أن الإنسان لم يتوفَّق حتى الآن لإيجاد حكومةٍ دستورية تحكم بمشورة الأمة بمعنى الشورى الحقيقي.
وخلاصة ما تقدَّم أن الحكومة من أيِّ نوعٍ كانت لا تخرج عن وصف الاستبداد ما لم تكن تحت المراقبة الشديدة والمحاسبة التي لا تسامُح فيها كما جرى في صَدْر الإسلام فيما نُقم على عثمان بن عفان رضي الله عنه يوم خصَّ بحكمه ذوي قُرباه دون المُسلمِين، وكما جرى في عهد هذه الجمهورية الحاضرة في فرنسا في مسائلِ النياشين وبناما ودريفوس.
ومن الأمور المُقرَّرة أنه ما من حكومةٍ عادلة تأمن المسئولية والمؤاخذة بسببٍ من أسباب غفلة الأمة أو إغفالها لها، إلا وتُسارع إلى التلبُّس بصفة الاستبداد، وبعد أن تتمكن فيه لا تتركه وفي خدمتها شيءٌ من القوتَين الهائلتَين المهولتَين: جهالة الأمة والجنود المنظَّمة.
(٢) الاستبداد والعلم
ما أشبه المستبد في نسبته إلى رعيته بالوصيِّ الخائن القوي على أيتامٍ أغنياء يتصرف في أموالهم وأنفسهم كما يهوى ما داموا قاصرِين؛ فكما أنه ليس من صالح الوصي أن يبلغ الأيتام رُشدَهم، كذلك ليس من غرض المُستبِد أن تتنوَّر الرعية بالعلم.
لا يخفى على المُستبِد أنْ لا استعباد ولا اعتساف ما لم تكن الرعية حمقاء تخبط في ظلامِ جهلٍ وتيهِ عَماء؛ فلو كان المُستبِد طيرًا لكان خفَّاشًا يصطاد هوامَّ العوامِّ في ظلام الجهل، ولو كان وحشًا لكان ابن آوى يتلقَّف دواجنَ الحواضرِ في غِشاءِ الليل.
العلم قبسةٌ من نور الله، وقد خلق الله النور كشَّافًا مبصرًا ولَّادًا للحرارة والقوة، وجعل العلم مثله وضَّاحًا للخير فضَّاحًا للشر يولِّد في النفوس حرارةً وفي الرءوس شهامةً.
المستبد لا يخشى علوم اللغة المقوِّمة للسان إذا لم يكن وراء اللسان حكمةُ حماسةٍ تعقد الألوية أو سحرُ بيانٍ يحل الجيوش؛ لأنه يعرف أن الزمان ضنينٌ بأن تلِد الأمهات كثيرًا من أمثال الكُميت وحسَّان أو مونتسكيو وشيلار.
وكذلك لا يخاف المُستبِد من العلوم الدينية المتعلقة بالمعاد؛ لاعتقاده أنها لا ترفع غباوةً ولا تزيل غشاوةً وإنما يتلهى بها المُتهوِّسون للعلم، فإذا نبغ فيهم البعض ونالوا شهرةً بين العوامِّ لا يُعدم وسيلةً لاستخدامهم في تأييد أمره بنحوِ سدِّ أفواههم بلقيماتٍ من فُتات مائدة الاستبداد.
ترتعِد فرائصُ المستبِد من علوم الحياة مثل الحكمة النظرية والفلسفة العقلية وحقوق الأمم وسياسة المدنية والتاريخ المُفضَّل والخطابة الأدبية وغيرها من العلوم الممزِّقة للغيوم المُنبثقة الشموس المُحرقة الرءوس.
ويُقال بالإجمال: إن المستبد لا يخاف من العلوم كلها، بل من التي تُوسِّع العقول وتُعرِّف الإنسان ما هو الإنسان وما هي حقوقه وهل هو مغبون، وكيف الطلب وكيف النوال وكيف الحفظ. المستبد عاشقٌ للخيانة، والعلماء عواذلُه. المستبد سارقٌ ومخادع، والعلماء مُنبِّهون محذِّرون. وللمستبد أعمالٌ وصوالح لا يُفسِدها عليه إلا العلماء.
المُستبِد كما يُبغِض العلم لنتائجه يُبغِضه لذاته؛ لأن للعلم سلطانًا أقوى من كل سلطان، فلا بد للمُستبِد من أن يحتقر نفسه كلما وقعَت عينه على من هو أرقى منه علمًا؛ ولذلك لا يُحب المستبد أن يرى وجه عالِمٍ ذكيٍّ، فإذا اضُّطرَّ لمثل الطبيب والمهندس يختار المُتصاغِر المتملِّق. وعلى هذه القاعدة بنى ابن خلدون قوله: «فاز المتملِّقون»، بل هذه طبيعةٌ في كلِّ المتكبرِين وعليها مبنى ثنائهم على كلِّ من يكون مسكينًا خاملًا لا يُرجى لخيرٍ ولا لشرٍّ.
وينتج مما تقدَّم أن بين الاستبداد والعلم حربًا دائمةً وطرادًا مستمرًّا؛ يسعى العلماء في نشر العلم ويجتهد المستبد في إطفاء نوره. والطرفان يتجاذبان العوام. ومن هم العوام؟ هم أولئك الذين إذا جهلوا خافوا وإذا خافوا استسلموا، وهم الذين متى علِموا قالوا ومتى قالوا فعلوا.
العوامُّ هم قوتُ المستبد وقوَّته، بهم عليهم يصول وبهم على غيرهم يطول، يأَسِرهم فيتهللون لشوكته، ويغصب أموالهم فيحمدونه على إبقاء الحياة، ويُهينهم فيُثنون على رِفعته، ويُغري بعضهم على بعض فيفتخرون بسياسته، وإذا أسرف بأموالهم يقولون عنه إنه كريم، وإذا قتل ولم يُمثِّل يعتبرونه رحيمًا، ويسوقُهم إلى خطر الموت فيطيعونه حذَر التأديب، وإن نقِم عليه منهم بعضُ الأُباة قاتلوهم كأنهم بغاة.
والحاصلُ أن العوامَّ يذبحون أنفسهم بأيديهم بسبب الخوف الناشئ عن الجهل، فإذا ارتفع الجهلُ زال الخوف وانقلب الوضع؛ أي انقلب المستبد رغم طبعه إلى وكيلٍ أمين يهاب الحساب، ورئيسٍ عادل يخشى الانتقام، وأبٍ حليم يتلذذ بالتحابُب.
وحينئذٍ تنال الأمة حياةً رضية هنية؛ حياةَ رخاءٍ ونماء؛ حياة عز وسعادة. ويكون حظ الرئيس من ذلك رأس الحظوظ بعد أن كان في دور الاستبداد أَشقَى العباد لأنه كان على الدوام محاطًا بالأعداد ملحوظًا بالبغضاء غيرَ أمينٍ على حياته طرفةَ عين.
ولا شك أن خوف المستبد من نقمة رعيته أكثر من خوفهم بأسه؛ لأن خوفه ينشأ عن علم وخوفهم ناشئ عن جهل، وخوفه من انتقامٍ بحقٍّ وخوفهم عن توهُّم التخاذل، وخوفه على فقد حياته وسلطانه وخوفهم على لُقيماتٍ من النبات وعلى وطنٍ لا يألفون غيره في أيام.
وكلما زاد المستبد ظلمًا واعتسافًا زاد خوفه من رعيته ومن حاشيته وحتى من هواجسه وخيالاته. وكثيرًا ما تُختم حياة المستبدِّين الضعيفي القلوب منهم بالجنون.
ومن قواعد المؤرخِين المُدققِين أن أحدهم إذا أراد الموازنة بين مستبدَّين كنيرون وتيمور مثلًا يكتفي أن يوازن درجةَ ما كانا عليه من التحذُّر والتحفُّظ، وإذا أراد المفاضلة بين عادلَين كأنوشروان وصلاح الدين يُوازِن مرتبتَي أمنهما في قومهما.
لمَّا كانت أكثر الديانات القديمة مؤسسةً على مبدأَي الخير والشر، كالنور والظلام، والشمس وزُحل، والعقل والشيطان، رأت بعضُ الأمم الغابرة أن أضرَّ شيء على الإنسان هو الجهل وأَضرَّ آثار الجهل هو الخوف، فعَمِلت هيكلًا مخصصًا للخوف يُعبد اتقاءً لشره.
قال أحد المُحرِّرِين السياسيِّين: إني أرى قصر المستبد في كلِّ زمانٍ هو هيكل الخوف عينه؛ فالملك الجبَّار هو المعبود، وأعوانه هم الكهنة، ومكتبته هي المذبح المقدَّس، والأقلام هي السكاكين، وعبارات التعظيم هي الصلوات، والناس هم الأسرى الذين يقدِّمون القرابين.
ويقول أهل النظر في أحوال البشر: إن خير ما يُستدل به على صفة السياسة في الأمم شنآنُ الملوك وفخامة القصور وعظمة الحفلات ومراسم التشريف.
يقولون إنه كذلك يُستدل على عراقة الأمة في الاستبداد أو الحرية باستنطاق لغتها هل هي كثيرةُ ألفاظِ التعظيم غنيةٌ في عبارات الخضوع كالفارسية مثلًا، أم فقيرة في هذا الباب كالعربية.
والخلاصة أن الاستبداد والعلم ضدان متغالبان؛ فكلُّ إدارةٍ مستبدة تسعى جهدها في إطفاء نور العلم وحصر الرعية في حالك الجهل، وكذلك بعض العلماء الذين ينبتون في مضايقِ صخور الاستبداد يَسعَون جهدهم في تنويرِ أفكار الناس. والغالب أن رجال الاستبداد يُطارِدون رجال العلم ويُنكِّلون بهم، فالسعيد منهم من يتمكَّن من مهاجرة دياره. وهذا سبب أن كلَّ الأنبياء العظام، عليهم الصلاة والسلام، وأكثر العلماء الأعلام والأدباء النبلاء تقلَّبوا في البلاد وماتوا غُرباء.
قال المُدقِّقون: إن أخوف ما يخافه المُستبِدون الغربيون من العلم أن يعرف الناس حقيقةَ أن الحرية أفضلُ من الحياة، وأن يعرفوا النفسَ وعزها والشرفَ وعظمتَه والحقوقَ وكيف تُحفَظ والظلمَ وكيف يُرفَع والإنسانيةَ وما هي وظائفها والرحمةَ وما هي لذَّاتها.
أمَّا المستبدون الشرقيون وخوفهم من العلم فأفئدتهم هواءٌ ترتجف من صولة العلم وكأن أجسامهم من بارود والعلم نار؛ نعم، يخافون من العلم حتى من علم الناس معنى كلمة «لا إله إلا الله» ولماذا كانت أفضلَ الذكر، ولماذا بُنِي عليها الإسلام؟ بُني الإسلام بل وكافة الأديان على: لا إله إلا الله، ومعنى ذلك أنه لا يُعبد حقًّا سواه؛ أي سوى الصانع الأعظم، ومعنى العبادة التذلُّل والخضوع، فيكون معنى لا إله إلا الله: لا يستحق التذلُّلَ والخضوعَ شيءٌ غير الله، فهل والحالةُ هذه يناسب المُستبدِّين أن يعلم عبيدُهم ذلك ويعملوا بمقتضاه؟ كلا، ثُم كلا.
حتى إن هذا العلم لا يناسب صغار المُستبدِّين كخَدَمة الأديان الأقوياء أو الأغبياء والآباء الجهلاء والأزواج الحمقى ورؤساء كلِّ الجمعيات الضعيفة؛ ولهذا ما انتشر نور التوحيد في أُمة قَط إلا وتكسَّرت فيها قيود الأَسْر، ولكن قُتل الإنسان ما أَكفرَه بنِعم مولاه وما أَظلمَه لنفسه وجنسه!
(٣) الاستبداد والأخلاق
تفعل العدالة في أخلاق البشر ما تفعله العناية في إنماء الشجر؛ فالأقوام كالآجام إن تُركَت مهمَلة تزاحمَت أشجارها وسقُم أكثرها وتغلَّب قويُّها على ضعيفها فأهلكه، وهذا مثل القبائل المتوحشة. وإن صادفَت بستانيًّا يهمُّه بقاؤها وزهوها فدبَّرها حسبما تطلبه طباعُها قويَت وأينعَت وحسنَت ثمارها، وهذا مثل الحكومة العادلة. وإذا بُليت بحطَّاب لا يعنيه إلا عاجل الاكتساب أفسدَها وخرَّبها، وهذا مثل الحكومة المستبدة. ومتى كان البستانيُّ أو الحطَّاب غريبًا لم يُخلق من تراب تلك الديار وليس له فيها فخار ولا يلحقه منها عار، إنما همه الحصول على الفائدة العاجلة ولو باقتلاع الأصول، فهناك الطامَّة وهناك البَوار؛ فبناءً على هذا المثال يكون مقام الاستبداد بإزاء الأخلاق مقام ذلك الحطَّاب الذي لا يُرجى منه غير الإفساد.
لا تكون الأخلاق أخلاقًا ما لم تكن مطردة على قانون، وهذا ما يُسمَّى عند الناس بالناموس. ومن أين لأسير الاستبداد أن يكون صاحبَ ناموسٍ وهو كالحيوان المملوك العِنان يُقاد حيث يُراد ويعيش كالريش يهبُّ حيث تهبُّ الريح، لا نظام ولا إرادة. وما هي الإرادة؟ هي أُمُّ ناموس الأخلاق؛ هي ما قيل فيها تعظيمًا لشأنها: لو جازت عبادة غير الله لاختار العقلاء عبادة الإرادة؛ هي تلك الصفة التي تفصل الحيوان عن النبات في تعريفه بأنه متحرك بالإرادة؛ فأسير الاستبدادِ الفاقد الإرادة هو مسلوبٌ حقَّ الحيوانية فضلًا عن الإنسانية لأنه يعمل بأمر غيره لا بإرادته؛ ولهذا قال الفقهاء: لا نية للرقيق في كثير من أحواله إنما هو تابعٌ لنية مولاه.
أسير الاستبداد لا نظام في حياته؛ قد يصبح غنيًّا فيُضحِي شجاعًا كريمًا، ويُمسي فقيرًا فيبيت جبانًا خسيسًا، وهكذا كلُّ شئونه تشبه الفوضى لا ترتيب فيها فهو يتبعها بلا وِجهة؛ فالأسير لا يبغي على الأسير فيُزجر أو لا يُزجر، ويُبغى عليه فيُنصر أو لا يُنصر، ويجوع يومًا فيَضوَى، ويخصب يومًا فيُتخم، يريد أشياء فيُمنع، ويأبى شيئًا فيُرغم. ومَن كانت هذه حاله كيف يكون له خلاق، وإن وُجد ابتداءً فكيف لا يفسد؟
أقلُّ ما يُؤثِّر الاستبداد في أخلاق الناس أنه يُرغم الأخيار منهم على ألفة الرياء والنفاق، وبئس السيئتان، ويُعين الأشرار على إجراء غيِّ نفوسهِم آمنيِن حتى من الانتقاد والفضيحة لأن أكثر أعمالهم تبقى مستورةً يُلقي عليها الاستبداد رداءً خوفَ الناس من تبعة الشهادة وعُقبى ذكر الفاجر بما فيه.
أقوى ضابطٍ للأخلاق النهي عن المنكر بالنصيحة والتوبيخ، وهو في عهد الاستبداد غيرُ مقدورٍ عليه لغير ذوي المنَعة مع الغَيرة، وقليلٌ ما هم، وقليلًا ما يُفيد نهيُهم لأنه لا يمكنهم توجيهه لغير المُستضعَفِين الذين لا يملكون ضرًّا ولا نفعًا، بل ولا يملكون من أنفسهم شيئًا، وينحصر موضوع نهيهم وانتقادهم في الرذائل النفسية الشخصية فقط مما لا يخفى على أحد. أمَّا المُتصدِّرون في عهد الاستبداد للوعظ والإرشاد فيكونون مطلقًا، ولا أقول غالبًا، من المتملقِين المرائِين. وما أبعدَ هؤلاء عن التأثير؛ لأن النصح الذي لا إخلاصَ فيه هو بذرٌ ميتٌ. أمَّا النهي عن المنكرات في الإدارة الحرة فيمكن كلَّ غيورٍ أن يقوم به بأمان وإخلاص ويُوجِّهه إلى الضعفاء والأقوياء سواء، ويُفوِّق سهام قوارصه على ذوي الشوكة والزعماء، ويخوض في مواضيعِ تخفيفِ الظلمِ وتسديد النظام، وهذا هو النصح الذي يُغذِّي ويُجدي.
ولمَّا كان ضبط أخلاق الطبقات العليا من الناس من أهمِّ الأمور، أَطلقَت الأمم الحرة حرية الخطابة والتأليف والمطبوعات مستثنيةً القذف فقط، ورأت أنَّ تحمُّل مضرة الفوضى في ذلك خيرٌ من التحديد؛ لأنه لا ضامن للحكام أن يجعلوا الشعرة من التقييد سلسلةً من حديد يخنقون بها عدوتهم الطبيعية؛ أي الحرية. وقد حمى القرآن قاعدة الإطلاقِ بوضعهِ قاعدة: وَلَا يُضَارَّ كَاتِبٌ وَلَا شَهِيدٌ.
وهذه الأمم المُوفَّقة خصَّصت منها جماعاتٍ باسم مجالس نُوابٍ وظيفتها السيطرة والاحتساب على الإدارة العمومية السياسية. وذلك منطبقٌ تمامًا على ما أمر به القرآن الكريم في آية: وَلْتَكُنْ مِنْكُمْ أُمَّةٌ يَدْعُونَ إِلَى الْخَيْرِ وَيَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ، وفي كمالة هذه الآية وهي: وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ من التبجيل ما يحمل نفوس الأبرار على تحمُّل مضَض القيام بهذه الوظيفة الشريفة في ذاتها، الممقوتة طبعًا عند المُستبِد وأعوانه.