شبلي الشميِّل (١٨٥٣–١٩١٧)
(١) دفاعٌ عن حرية القلم
إن الآلات التي يخترعها الإنسان (ومنها القلم) ليست سوى أعضاءٍ إضافيةٍ متممةٍ لأعضائه الطبيعية، فلا يجوز أن تُعامَل معاملةً استثنائيةً تخالف معاملة الأعضاء الطبيعية نفسها؛ فكما أنه لا يُشترط على الإنسان لاستعمال رِجليه خوفًا من أن يسعى بهما إلى الشر، أو يديه خوفًا من أن يجني بهما، لا يجوز أن يُشترط عليه كذلك لاستعمال أعضائه الإضافية، فإذا جنى بها فالقانون الذي يتكفل بمعاقبة جنايات الأعضاء الطبيعية، وهو القانون العام، يجب أن يتكفل بمعاقبةِ جنايات الأعضاء الإضافية أيضًا.
(٢) المستقبل لسيادة الأمم
ومن يومِ خطَت أوروبا خُطاها في سبيل العلم الحقيقي، وأخذ ظل الأوهام يتقلَّص من العقول، صار الأملُ كبيرًا بسرعة هذا الارتقاء (ارتقاء نواميس الاجتماع). ولا نُريد بهذا القول إنها (أي أوروبا) على وشكِ بلوغ الغاية القصوى فيه، وإنما هي اليوم على فجر النهضة الحقيقية. ولا ريب في أنها ستكون الأُولى في الاستفادة، سيكون شأنها شأن المنارة التي يستضيء العمران بها في العالم أجمع، لسهولة ارتباط بعضه ببعض وسيطرة بعضه على بعض اليوم بفضلِ مكتشفاتِ العلم ومخترعات الصناعة. وأوَّل خطاها في هذا السبيل ستكون تأييد سيادة الأمم سيادةً حقيقيةً وسقوطَ سيادة الملوك.
(٣) نظام الحكم وعامله الأساسي في رقي الأمم وانحطاطها
إن حكومات الشرق هي التي ساعدَت على فساد الأخلاق إلى هذا الحد؛ فقد تقدَّم أن الفرق من عهد أبقراط إلى اليوم بين حكومات المغرب وحكومات المشرق أن تلك تحكُمها شرائعها وهذه تحكمها ملوك، وإن تعدَّلت الأحكام في بعض ممالك الشرق اليوم فما تعديلها إلا صورة لا معنى؛ فإن ملوك الشرق ما زالوا فوق شرائعهم، فأماتت حكوماتهم من الأمة عواطف الشهامة والإقدام بما ثقَّلت على كواهلهم من الإذلال وسائرِ ما يجرُّ إليه الاستبداد، وقوَّت فيه كلَّ الصفات الدنيئة الهادمة لصروح الاجتماع بما أَخمدَت من قوى العقل بإطفائها نورَ العلم.
(٤) الحكومة والأمة
الحكومات مظهرٌ من مظاهر الأمة، وهي تختلف باختلاف الأمم؛ فكلما ارتقت أمةٌ في العمارة ارتقت حكومتها كذلك، وهو معنى قوله: «وكما تكونون يُولَّى عليكم.» فلا يُنتظر أن تكون الحكومة أَصلحَ من الأمة التي نشأَت فيها، بل لا تُلزم الحكومة إذا داست بأخمصِها رقاب الرعية، وهل تُداس رقابٌ تأبى أن تُداس؟ وإن من ينتظر الإصلاح عفوًا من أيةِ حكومةٍ كانت يجهلُ ولا شكَّ تاريخ نشوء الأمم والعمران. وها إنَّ التاريخ أمامنا يُعلِّمنا أن الحكومات في كلِّ زمان ومكان هي آخرُ من يُذعن للإصلاح إذا لم تُقِم العقباتِ في سبيله. وهل بَلغَت أمم أوروبا مبلغها من التمدُّن اليوم بفضل حكوماتها؟ لا لعمري. إنما بلغته ولا تزال مُجدَّة فيه بفضل تألُّبها واتحاد كلمتِها ورفع الرءوس المُطأطَأة وتقويم الظهور المُقوَّسة، والمشي على الأقدام، والزحف على الركب، وربط حكوماتها كما تُربَط القرناء وإتلالها كما تُتَلُّ السائمة وجرِّها وراءها قوةً واقتدارًا. والأُمم التي لم تستطع ذلك لعدمِ توفُّر أسباب القوة فيها عفَّاها الدهر واستَغرقَها التنازُع ولم يُبقِ لها إلا آثارًا، أو لم يُبقِ لها أثرًا وتركها خبرًا مسطورًا.